الآيات 1 - 4
﴿ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى (4)﴾
التّفسير
ممّا يجدر بيانه أنّ السورة السابقة "الطور" ختمت بكلمة "النجوم" وهذه السورة بُدئت بـ "والنجم" - إذ أقسم به الله قائلا: (والنجم إذا هوى)!
وهناك إحتمالات كثيرة في المراد من "النجم" هنا، فكلّ من المفسّرين يختار تفسيراً.
إذ قال بعضهم بأنّ المراد منه هو "القرآن المجيد" لأنّه يتناسب والآيات التي تلي الآية محلّ البحث، وهي في شأن الوحي، والتعبير بالنجم هو لأنّ العرب يستعملون هذا اللفظ في ما يتمّ في مراحل أو فواصل مختلفة ويسمّونها (أي الفواصل) "نجوماً" (وتستعمل كلمة النجوم على أقساط الدين واُمور اُخر من هذا القبيل أيضاً).
وحيث أنّ القرآن نزل خلال 23 سنةً في مراحل ومقاطع مختلفة على النّبي (ص) فقد سمّي نجماً والمراد من "إذا هوى" نزوله على قلب النّبي (ص).
وفسّره آخرون ببعض الكواكب في السماء كالثريا(1) أو الشعرى(2) لأنّ لكلّ منهما أهميّته الخاصّة!.
وقال بعضهم بأنّه الشهاب الثاقب" الذي ترمى به الشياطين لئلاّ تصعد في السماء والعرب يسمّون الشهاب نجماً.
إلاّ أنّه لا دليل مقبول على أيّ من هذه التفاسير الأربعة بل الظاهر من الآية ما يقتضيه إطلاق كلمة "والنجم" القسم بنجوم السماء كافّة التي هي من أدلّة عظمة الله ومن أسرار عالم الوجود الكبرى ومن المخلوقات العظيمة لله تعالى.
وليست هذه هي المرّة الاُولى التي يقسم القرآن فيها بموجودات عظيمة من عالم الخلق والإيجاد، ففي آيات اُخر أيضاً أقسم القرآن بالشمس والقمر وأمثالها!
والتعويل على غروبها واُفولها مع أنّ طلوعها وإشراقها يسترعي النظر أكثر، هو لأنّ غروب النجم دليل على حدوثه كما أنّه دليل على نفي عقيدة عبادة الكواكب كما ورد في قصّة إبراهيم الخليل (ع) (فلمّا جنّ عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربّي فلمّا أفل قال لا اُحبّ الآفلين)(3) وينبغي الإلتفات إلى هذا المعنى، وهو أنّ "الطلوع" في اللغة يعبّر عنه بـ "النجم" لأنّه كما يقول الراغب في مفرداته: أصل النجم هو الكوكب الطالع، ولذلك فإنّهم يعبّرون عن ظهور النبات على الأرض والسنّ في اللثّة ووضوح النظرية في الذهن بـ نَجَمَ!
وهكذا فإنّ الله أقسم بطلوع الكواكب وغروبها أيضاً، لأنّ ذلك دليل على حدوثها وأسارتها في قبضة قوانين الخلق(4).
لكن لنعرف لِمَ أقسم الله بالنجم؟ الآية التالية توضّح ذلك فتقول: (ما ضلّ صاحبكم وما غوى).
فهو يخطو في مسير الحقّ دائماً، وليس في أقواله ولا في أعماله أيّ إنحراف!
والتعبير بـ "الصاحب" أي الصديق أو المحبّ لعلّه إشارة إلى أنّ ما يقوله نابع من الحبّ والشفقة!
والكثير من المفسّرين لم يفرّقوا بين "ضلّ" و "غوى" بل عدّوا كلاًّ منهما مؤكّداً للآخر، إلاّ أنّ بعضهم يعتقد أنّ بينهما فرقاً وتفاوتاً! فالضلال هو أن لا يجد الإنسان طريقاً إلى هدفه، والغواية هي أن لا يخلو طريقه من إشكال أو لا يكون مستقيماً.
فالضلال كالكفر مثلا والغواية كالفسق والذنب .. إلاّ أنّ "الراغب" يقول في الغي: انّه الجهل الممزوج بالإعتقاد الفاسد.
فبناءً على ذلك فالضلالة معناها مطلق الجهل وعدم المعرفة، إلاّ أنّ الغواية جهل ممزوج أو مشوب بالعقيدة الباطلة.
وعلى كلّ حال فإنّ الله سبحانه يريد بهذه العبارة الموجزة أن ينفي كلّ نوع من أنواع الإنحراف والجهل والضلال والخطأ عن نبيّه (ص) وأن يحبط ما وجّهه أعداؤه إليه من التّهم في هذا الصدد.
ومن أجل التأكيد على هذا الموضوع وإثبات أنّ ما يقوله هو من الله فإنّ القرآن يضيف قائلا: (وما ينطق عن الهوى).
وهذا التعبير مشابه التعبير الإستدلالي الوارد في الآية آنفة الذكر في صدد نفي الضلالة والغواية عن النّبي (ص) لأنّ أساس الضلال غالباً ما يكون من اتّباع الهوى.
ونقرأ في سورة ص الآية (26) منها: (ولا تتبع الهوى فيضلّك عن سبيل الله).
كما ورد في حديث معروف عن النّبي (ص) وعن أمير المؤمنين: "أمّا اتّباع الهوى فيصدّ عن الحقّ"(5).
ويعتقد بعض المفسّرين أنّ جملة (ما ضلّ صاحبكم) ناظره إلى نفي الجنون عن النّبي وجملة (وما غوى) ناظرة إلى نفي الشعر عنه لأنّه ورد في الآية (224) من سورة الشعراء قوله تعالى: (والشعراء يتبعهم الغاوون) (أي الشعراء من أهل الدنيا) وأمّا جملة (وما ينطق عن الهوى) فناظرة إلى نفي الكهانة، لأنّ الكهنة أفراد يعبدون الهوى.
ثمّ تأتي الآية التالية لتصرّح: (إن هو إلاّ وحي يوحى).
فهو لا يقول شيئاً من نفسه، وليس القرآن من نسج فكره! بل كلّ ما يقوله فمن الله، والدليل على هذا الإدّعاء كامن في نفسه.
فالتحقيق في آيات القرآن يكشف بجلاء أنّه لن يستطيع إنسان مهما كان عالماً ومفكّراً - فكيف بالاُمّي الذي لم يقرأ ولم يكتب في محيط مملوء بالخرافات - أن يأتي بكلام غزير المحتوى كالقرآن، إذ ما يزال بعد مضي القرون والعهود ملهماً للأفكار، ويمكنه أن يكون أساساً لبناء مجتمع صالح مؤمن سالم!
وينبغي الإلتفات - ضمناً - إلى أنّ هذا القول ليس خاصّاً بآيات القرآن، بل بقرينة الآيات السابقة يشمل سنّة الرّسول (ص) أيضاً وأنّها وفق الوحي، لأنّ هذه الآية تقول بصراحة "وما ينطق عن الهوى".
والحديث الطريف التالي شاهد آخر على هذا المدّعى.
يقول العلاّمة السيوطي في تفسيره الدرّ المنثور: أمر رسول الله يوماً أن توصد جميع الأبواب المشرفة على المسجد - من بيوت الصحابة - سوى باب علي فكان هذا الأمر عزيزاً على المسلمين حتّى أنّ حمزة عمّ النّبي عتب عليه وقال: كيف أوصدت أبواب عمّك وأبي بكر وعمر والعبّاس؟! وتركت باب علي مفتوحاً "وفضّلته على الآخرين؟!" فلمّا علم النّبي أنّ هذا الأمر صعب عليهم دعا الناس إلى المسجد وخطب خطبة عصماء وحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: "أيّها الناس ما أنا سددتها ولا أنا فتحتها ولا أنا أخرجتكم وأسكنته ثمّ قرأ: (والنجم إذا هوى ما ضلّ صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحي يوحى)"(6).
وهذا الحديث الذي يكشف عن علوّ مقام أمير المؤمنين علي بين جميع الاُمّة الإسلامية بعد الرّسول يدلّ على أنّه ليست أقوال النّبي طبق الوحي فحسب بل حتّى أعماله وأفعاله وتقديره وسيرته أيضاً.
1- وما ورد في بعض الرّوايات من أنّ المراد بالنجم هو شخص النّبي والمراد من هوى هو نزوله من السماء في ليلة المعراج، فهذا التّفسير في الحقيقة يعدّ من بطون الآية لا من ظاهرها!.
2- نهج البلاغة، ومن كلام له(عليه السلام) رقم 42.
3- تفسير الدرّ المنثور، ج6، ص122 من شيء من التلخيص.
4- مقتبس من "روح المعاني" ذيل الآيات محلّ البحث.
5- قالوا: هنا قلب في الكلام، وأصله فكان قابي قوس.
6- هذا التّفسير وهو أنّ المراد من "شديد القوى" "جبرئيل" إختاره جماعة كثيرون منهم الطبرسي في مجمع البيان، والبيضاوي في أنوار التنزيل ، والزمخشري في الكشّاف، والقرطبي في تفسيره روح البيان، والفخر الرازي في تفسيره الكبير، وسيّد قطب في تفسيره في ظلال القرآن، والمراغي في تفسيره وتعبيرات العلاّمة الطباطبائي في ميزانه تميل إلى هذا الرأي أيضاً .