الآيات 17 - 21

﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّـت وَنَعِيم (17) فَـكِهِينَ بِمَآ ءَاتَـهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَـهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُر مَّصْفُوفَة وَزَوَّجْنَـهُم بِحُور عِين(20) وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَـن أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَـهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَىْء كُلُّ امْرِىء بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ(21)﴾

التّفسير

مواهب الله للمتّقين:

تعقيباً على المباحث الواردة في الآيات المتقدّمة حول عقاب المجرمين وعذابهم الأليم تذكر الآيات محلّ البحث ما يقابل ذلك من المواهب الكثيرة والثواب العظيم للمؤمنين والمتّقين لتتجلّى بمقايسة واضحة مكانة كلّ من الفريقين.

تقول الآية الاُولى من الآيات محلّ البحث: (إنّ المتّقين في جنّات ونعيم).

والتعبير بـ "المتّقين" بدلا من المؤمنين، لأنّ هذا العنوان يحمل مفهوم الإيمان، كما يحمل مفهوم العمل الصالح أيضاً، خاصّة أنّ "التقوى" تقع مقدّمةً وأساساً للإيمان في بعض المراحل، كما تقول الآية 2 من سورة البقرة (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للمتّقين) لأنّ الإنسان إذا لم يكن ذا تعهّد وإحساس بالمسؤولية وروح تطلب الحقّ وتبحث عنه - وكلّ ذلك مرحلة من مراحل التقوى - فإنّه لا يمضي في التحقيق عن دينه وعقيدته ولا يقبل هداية القرآن أبداً.

والتعبير بـ (في جنّات ونعيم) بصيغة الجمع والتنكير لكلٍّ منهما، إشارة إلى تنوّع الجنّات والنعيم وعظمتهما.

ثمّ يتحدّث القرآن عن تأثير هذه النِعَم الكبرى على روحية أهل الجنّة فيقول في الآية التالية: (فاكهين بما آتاهم ربّهم)(1).

خاصّةً أنّ الله قد طمأنهم وآمنهم من العقاب (ووقاهم ربّهم عذاب الجحيم).

وهذه الجملة قد تكون ذات معنين .. الأوّل بيان النعمة المستقلّة قبال نعم الله الاُخر .. والثاني أن يكون تعقيباً على الكلام السابق، أي أنّ أهل الجنّة مسرورون من شيئين "بما آتاهم الله من النعم في الجنّة"، و "بما وقاهم من عذاب الجحيم".

والتعبير بـ "ربّهم" في الجملتين يشير ضمناً إلى نهاية لطف الله ودوام ربوبيته عليهم في تلك الدار.

ثمّ تشير الآية الاُخرى إشارةً إجمالية إلى نعم المتّقين في الجنّة فتقول: (كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون).

والتعبير بـ "هنيئاً" هو إشارة إلى أنّ أطعمة الجنّة وشرابها السائغة غير المنغّصة، فهي ليست كأطعمة الدنيا وشرابها التي تجرّ الإنسان إلى الوبال عند الإفراط أو التفريط بها .. إلى كلّ ذلك لا يحصل عليها بمشقّة، ولا يخاف من إنتهائها، ولذلك فهي هنيئة!(2).

إضافةً:

ومن المعلوم أنّ أطعمة الجنّة هنيئة بذاتها، ولكنّ قول الملائكة لأهل الجنّة "هنيئاً" هذا القول له لطفه وعذوبته الخاصّة.

والنعمة الاُخرى التي يتمتّع بها أهل الجنّة هي كونهم: (متكّئين على سرر مصفوفة).

فهم يلتذّون بالإستئناس إلى أصحابهم والمؤمنين الآخرين، وهذه لذّة معنوية فوق أيّة لذّة اُخرى!.

و "سرر" جمع سرير، وأصل المادّة هو "السرور" وتطلق السرر على الكراسي المهيأة لمجالس السرور ليُتكّأ عليها.

و "مصفوفة" من مادّة صف، ومعناها أنّ هذه السرر مرتبة واحداً إلى جنب الآخر ويتشكّل منه مجلس عظيم للاُنس.

ونقرأ في آيات متعدّدة من القرآن أنّ أهل الجنّه يجلسون على سرر متقابلين.

الحجر الآية 47 والصافات الآية 44.

وهذا التعبير لا ينافي ما ورد في هذه الآية محلّ البحث، لأنّ مجالس الاُنس والسرور ترتّب الأسّرة فيها على شكل مستدير ومصفوفة جنباً إلى جنب، فجلاّسها على سرر مصفوفة متقابلون!.

والتعبير بـ "متكئين" إشارة إلى منتهى الهدوء، لأنّ الإنسان عند الهدوء يتكىء عادةً، والذين هم في قلق وحزن لا يرون كذلك!.

ثمّ يضيف القرآن بأنّا زوجناهم من نساء بيض جميلات ذوات أعين واسعة (وزوّجناهم بحور عين)(3).

هذه بعض من نعم أهل الجنّة المادية والمعنوية، إلاّ أنّهم لا يكتفون بهذه النعم فحسب، وإنّما تضاف إليها نعم ومواهب معنوية ومادية اُخر! (والذين آمنوا واتّبعتهم ذريّتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريّتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء)!.

وهذه نعمة بنفسها أيضاً أن يرى الإنسان ذريّته في الجنّة ويلتذّ برؤيتهم دون أن ينقص من عمله شيء أبداً.

ويفهم من تعبير الآية أنّ المراد من الذرية هم الأبناء البالغون الذين يسيرون في خطّ الآباء المؤمنين ويتّبعون منهجهم.

فمثل هؤلاء الأبناء وهذه الذريّة إذا كان في عملهم نقص وتقصير فإنّ الله سبحانه يتجاوز عنهم لأجل آبائهم الصالحين، ويرتفع مقامهم عندئذ فيبلغون درجة آبائهم، وهذه المثوبة موهبة للآباء والأبناء(4)!.

إلاّ أنّ جماعة من المفسّرين يعتقدون أنّ "الذريّة" هنا تشمل الأبناء الكبار والصغار جميعاً ..

غير أنّ هذا التّفسير لا ينسجم مع ظاهر الآية، لأنّ الاتّباع بإيمان دليل على وصولهم مرحلة البلوغ أو مقاربتهم لها.

إلاّ أن يقال أنّ الأطفال يصلون في يوم القيامة مرحلة البلوغ ويمتحنون فمتى نجحوا في الإمتحان التحقوا بالآباء، كما جاء هذا المعنى في الكافي إذ ورد فيه أنّه سئل الإمام عن أطفال المؤمنين فقال (ع): "إذا كان يوم القيامة جمعهم الله ويشعل ناراً فيأمرهم أن يلقوا أنفسهم في النار فمن ألقى نفسه سلم وكان سعيداً وجعل الله النار عليه برداً وسلاماً ومن إمتنع حرم من لطف الله"(5).

إلاّ أنّ هذا الحديث إضافةً إلى ضعف سنده يواجه إشكالات ومؤخذات في المتن أيضاً .. وليس هنا مجال لبيانها وشرحها.

وبالطبع فإنّه لا مانع أن يُلحق الأطفال بالآباء ويكونوا معهم في الجنّة .. إلاّ أنّ الكلام هو هل الآية الآنفة ناظرة إلى هذا المطلب أم لا؟ وقد قلنا إنّ التعبير بـ (اتّبعتهم ذريّتهم بإيمان) ظاهره أنّ المقصود هو الكبار.

وعلى كلّ حال - وحيث أنّ إرتقاء الأبناء إلى درجة الآباء يمكن أن يوجد هذا التوهّم أنّه ينقص من أعمال الآباء ويُعطى للأبناء فإنّ الآية تعقّب بالقول: (وما ألتناهم(1) من عملهم من شيء).

وينقل ابن عبّاس عن النّبي (ص) أنّه قال: "إذا دخل الرجل الجنّة سأل عن أبويه وزوجته وولده فيقال له إنّهم لم يبلغوا درجتَكَ وعملك.

فيقول: ربّ قد عملت لي ولهم فيؤمر بالحاقهم به"(6).

ممّا ينبغي الإلتفات إليه أنّ القرآن يضيف في نهاية الآية: (كلّ امرىء بما كسب رهين).

فلا ينبغي التعجّب من عدم إنقاص أعمال المتّقين، لأنّ هذه الأعمال مع الإنسان حيثما كان، وإذا أراد الله أن يُلحق أبناء المتّقين بهم تفضّلا منه ورحمة، فلا يعني ذلك أنّه سينقص من ثواب أعمالهم أي شيء!

وقال بعض المفسّرين: إنّ كلمة "رهين" هنا معناها مطلق، فكلّ إنسان مرهون بأعماله، سواءً أكانت صالحةً أم طالحة، ولا ينقص من جزاء أعماله شيء.

ولكن مع ملاحظة أنّ هذا التعبير لا يتناسب والأعمال الصالحة، فإنّ بعض المفسّرين قالوا: إنّ "كلّ امرىء" هنا إشارة إلى أصحاب الأعمال السيّئة! وإنّ كلّ إنسان مرهون بأعماله السيّئة فهو حبيسها وأسيرها.

ويستدلّون أحياناً بالآيتين (38) و39) من سورة المدثر .. (كلّ نفس بما كسبت رهينة إلاّ أصحاب اليمين).

غير أنّ هذا التّفسير مع الإلتفات إلى سياق الآيات السابقة واللاحقة - التي تتكلّم في شأن المتّقين وليس فيها كلام على المشركين والمجرمين - يبدو غير مناسب!

وقبال هذين التّفسيرين الذين يبدو كلّ منهما غير مناسب - من بعض الوجوه - هناك تفسير ثالث ينسجم مع صدر الآية والآيات السابقة والآيات اللاحقة، وهو أنّ من معاني "الرهن" في اللغة "الملازمة"، وإن كان معروفاً أنّه الوثيقة في مقابل الدين، إلاّ أنّه يستفاد من كلمات أهل اللغة أنّ الرهن من معاينة الدوام والملازمة(7).

بل هناك من يصرّح بأنّ المعنى الأصلي للرهن هو الدوام والثبوت، ويعدّ الرهن بمعنى الوثيقة من إصطلاحات الفقهاء، لذلك فإنّه حين يقال "نعمة راهنة" فمعناها أنّها ثابتة ومستقرّة(8).

ويقول أمير المؤمنين في شأن الاُمم السالفة: "هاهم رهائن القبور ومضامين اللحود"(9).

فيكون معنى (كلّ امرىء بما كسب رهين) أنّ أعمال كلّ إنسان ملازمة له ولا تنفصل عنه أبداً، سواءً كانت صالحة أو طالحة، ولذلك فإنّ المتّقين في الجنّة رهينو أعمالهم، وإذا كان أبناؤهم وذريّاتهم معهم، فلا يعني ذلك أنّ أعمالهم ينقص منها شيء أبداً.

وأمّا في شأن الآية (39) من سورة المدثر التي تستثني أصحاب اليمين ممّا سبق، فيمكن أن تكون إشارةً إلى أنّهم مشمولون بألطاف لا حدّ لها حتّى كأنّ أعمالهم لا أثر لها بالقياس إلى ألطاف الله(10).

وعلى كلّ حال، فإنّ هذه الجملة تؤكّد هذه الحقيقة وهي أنّ أعمال الإنسان لا تنفصل عنه أبداً، وهي معه في جميع المراحل.


1- نور الثقلين، ج5، ص139 بتصرّف وتلخيص.

2- الفعل ألتناهم مشتق من مادّة ألَتَ على وزن ثَبَتَ: ومعناه الإنقاص.

3- تفسير المراغي، ج27، ص26.

4- لسان العرب، مادّة رهن ..

5- مجمع البحرين، مادّة رهن.

6- نهج البلاغة، من كتاب له 45.

7- هناك تفاسير اُخر في أصحاب اليمين سنتناولها ذيل الآية من سورة المدثر إن شاء الله.

8- قال الراغب في مفرداته: الكأس: الإناء بما فيه من الشراب وقال في مجمع البحرين كذلك فإذا خلا الإناء سمّي "قدحاً".

9- مجمع البيان، الكشّاف، روح البيان، أبو الفتوح الرازي.

10- دار الندوة هي دار "قصي بن كلاب" جدّ العرب المعروف، وكانوا يجتمعون فيها للمشاورة في الاُمور المهمّة، وكانت هذه الدار إلى جوار بيت الله وتفتح بابه نحو جهة الكعبة، وكانت هذه الدار ذات مركزية في زمن قصي بن كلاب نفسه (راجع سيرة ابن هشام، ج2، ص124 وج ص132).