الآيتان 59 - 60

﴿فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَـبِهِمْ فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ(59) فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن يَوْمِهِمُ الَّذِى يُوعَدُونَ (60)﴾

التّفسير

هؤلاء يشاركون أصحابهم في عذاب الله: الآيتان آنفتا الذكر اللتان هما آخر سورة الذاريات، وهما في الحقيقة نوع من الإستنتاج للآيات المختلفة الواردة في السورة ذاتها ولا سيّما الآيات التي تتحدّث عن الاُمم السالفة كقوم فرعون وقوم لوط وثمود وعاد، وكذلك الآيات السابقة التي كانت تتحدّث عن الهدف من الخلق والإيجاد.

فالآية الاُولى تقول أنّه بعد أن أصبح معلوماً أنّ هؤلاء المشركين قد إنحرفوا عن الهدف الحقيقي للخلقة، فليعلموا أنّ لهم قسطاً وافراً من العذاب الإلهي كما كان للأقوام السالفة: (فإنّ للذين ظلموا ذنوباً مثل ذنوب أصحابهم فلا يستعجلون)(1).. ويقولوا إن كان عذاب الله حقّاً فلِمَ لا يصيبنا؟!

والتعبير بـ "الظلم" في شأن هذه الجماعة هو لأنّ الشرك والكفر من أكبر الظلم، ولأنّ حقيقة الظلم هي وضع الشيء في غير موضعه المناسب، ومن المعلوم أنّ عبادة الأصنام مكان عبادة الله تعدّ أهمّ مصداق للظلم، ولذلك فهم يستحقّون العاقبة التي نالها الأقدمون من المشركين.

"الذنوب": - على وزن قبول - في الأصل معناه "الفرس التي لها ذنب طويل"، كما تطلق الكلمة ذاتها على الدلو الكبير التي لها ذنب.

وكان العرب في السابق ينزحون ماء البئر بواسطة الحيوانات بأن يهيّؤا دلاءً عظيمة متّصلة بحبال تعين على سحب الدلاء المملوءة بالماء.

وحيث كانت هذه الدلاء تقسّم أحياناً على الجماعات حول البئر، فتنال كلّ مجموعة دلواً أو أكثر، فقد استعملت هذه الكلمة بمعنى النصيب والسهم أيضاً، وهي في الآية محل البحث بهذا المعنى أيضاً، غاية ما في الأمر أنّها هنا تشير إلى السهم الكبير(2).

وهل المراد من هذه الكلمة في هذه الآية التهديد بعذاب الدنيا أو عذاب الآخرة؟ قال جماعة من المفسّرين بالمعنى الأوّل، وقال آخرون بالمعنى الثاني.

ونرى أنّ القرائن تدلّ على أنّ هذا العذاب هو العذاب الدنيوي، لأنّ العجلة لدى بعض الكفّار هي أنّهم كانوا يقولون للنبي: متى هذا الوعد .. وأين عذاب الله .. ولِمَ لا يأتينا .. الخ.

فمن الواضح أنّه إشارة إلى عذاب الدنيا(3) هذا أوّلا.

وثانياً إنّ التعبير بـ (مثل ذنوب أصحابهم) الظاهر أنّه إشارة إلى عاقبة الاُمم المتقدّم ذكرها في هذه السورة كقوم لوط وقوم فرعون وعاد وثمود الذين نال كلاًّ منهم نوع من العذاب في الدنيا وهلكوا به جميعاً.

وهنا ينقدح هذا السؤال، وهو إذا كانت الآية تشير إلى عذاب الدنيا فلِمَ لا يتحقّق الوعد الإلهي في شأنهم؟!

وهذا السؤال له جوابان:

1 - إنّ هذا الوعد تحقّق في شأن كثير منهم كأبي جهل وجماعة آخرين في غزوة بدر وغيرها.

2 - نزول العذاب على جميعهم مشروط بعدم الرجوع نحو الله وعدم التوبة من الشرك، ولمّا آمن معظمهم في فتح مكّة .. فإنّ هذا الشرط أصبح منتفياً فلم ينزل عذاب الله.

وفي الآية الأخيرة إستكمال لعذاب الدنيا بعذاب الآخرة إذ تقول: (فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون).

وكما أنّ هذه السورة بُدئت بمسألة المعاد والقيامة، فإنّها إنتهت بالتأكيد عليها كذلك(4)!.

كلمة "الويل" تستعمل في لغة العرب عندما يقع فرد ما أو أفراد في الهلاك .. كما تعني العذاب والشقاء، وقال بعضهم في الويل معنى أشدّ من العذاب.

وكلمات الويل والويس والويح تستعمل في لغة العرب لإظهار التأسّف والتأثّر، غاية ما في الأمر .. تستعمل كلمة "ويل" لمن يعمل أعمالا قبيحة، أمّا "ويس" فتستعمل في مقام التحقير، وكلمة "ويح" تستعمل في موضع الترحّم.

قال بعضهم أنّ "وَيْلا" بئر من آبار جهنّم أو باب من أبوابها، غير أنّ مراد القائلين لا يعني بأنّ هذه الكلمة جاءت في اللغة بهذا المعنى فحسب، بل هي في الحقيقة بيان لمصداق من المصاديق.

وقد إستعملت هذه الكلمة في القرآن بكثرة، منها في شأن الكفّار والمشركين والكاذبين والمكذّبين والمجرمين والمطفّفين والمصلّين الذين هم عن صلاتهم ساهون، إلاّ أنّ أكثر إستعمالها في القرآن في شأن المكذّبين، وقد تكرّرت الآية (ويل يومئذ للمكذّبين) في سورة المرسلات وحدها عشر مرّات!.

ربّنا، نجّنا من عذاب ذلك اليوم العظيم ومن خزيه.

اللهمّ ارزقنا قبول الطاعة والتوفيق للعبودية والفخر بأن نكون عبيدك!

اللهمّ لا تبتلنا بعاقبة المكذّبين المؤلمة الذين كذّبوا رسلك وآياتك وأيقظنا من نومة الغافلين برحمتك ياأرحم الراحمين.

آمين يا ربّ العالمين

نهاية سورة الذاريات


1- تراجع الآيتان (57) و58) من سورة الأنعام، والآية (72) من سورة النمل وأمثالها، وهذا التعبير في القرآن قد يستعمل في شأن القيامة أيضاً.

2- يرى بعض المفسّرين أنّ هذه الآية تشير إلى عذاب الدنيا. مع أنّ مثل هذا التعبير في القرآن يكون ليوم القيامة غالباً ..

3- مجمع البيان، ج9، ص162 ـ تفسير البرهان، ص240.

4- المصدر السابق.