الآيات 52 - 55

﴿كَذَلِكَ مَآ أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُول إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُوم (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)﴾

التّفسير

إنّ الذكرى تنفع المؤمنين:

قرأنا في الآية 39 من هذه السورة أنّ فرعون اتّهم موسى (ع) عندما دعاه إلى الله وترك الظلم أنّه ساحر أو مجنون، فهذا الإتّهام ورد على لسان المشركين في زمان النّبي محمّد (ص) أيضاً إذ اتّهموه بمثل ما اتّهم فرعون موسى وقد عزّ ذلك على المؤمنين الأوائل والقلائل كما كان يؤلم روح النّبي (ص).

فالآيات محلّ البحث ومن أجل تسلية النّبي والمؤمنين تقول: (كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلاّ قالوا ساحر أو مجنون)(1).

كانوا يتّهمون الرسل السابقين بأنّهم سحرة لأنّهم لم يجدوا جواباً منطقياً لمعاجزهم الباهرة، وكانوا يخاطبون رسولهم بأنّه "مجنون" .. لأنّه لم يكن على غرارهم ومتلوّناً بلون المحيط ولم يستسلم للاُمور الماديّة.

فبناءً على ذلك لا تحزن ولا تكترث وواصل المسير بالصبر والإستقامة، لأنّ مثل هذه الكلمات قيلت في أمثالك يارسول الله من رجال الحقّ وأهله.

ثمّ يضيف القرآن هل أنّ هذه الأقوام الكافرة تواصت فيما بينها على توجيه هذه التّهمة إلى جميع الأنبياء: (أتواصوا به)؟!

وكان عملهم هذا إلى درجة من الإنسجام، وكأنّهم إجتمعوا في مجلس - في ما وراء التاريخ - وتشاوروا وتواصوا على أن يتّهموا الأنبياء عامّةً بالسحر والجنون ليخفّفوا من وطأة نفوذهم في نفوس الناس!

ولعلّ كلاًّ منهم كان يريد أن يمضي من هذه الدنيا ويوصي أبناءه وأحبابه بذلك! ويعقّب القرآن على ذلك قائلا: (بل هم قوم طاغون)(2).

وهذه هي إفرازات روح الطغيان حيث يتوسّلون بكلّ كذب واتّهام لإخراج أهل الحقّ من الساحة، وحيث أنّ الأنبياء يأتون الناس بالمعجزات فإنّ خير ما يلصقونه بهم من التّهم أن يَسِموهم بالسحر أو الجنون، فبناءً على ذلك يكون عامل "وحدة عملهم" هذا هي الروحية الخبيثة والطاغية الواحدة لهم.

ولمزيد التسرّي عن قلب النّبي وتسليته يضيف القرآن: (فتولّ عنهم).

وكن مطمئناً بأنّك قد أدّيت ما عليك من التبليغ والرسالة (فما أنت بملوم).

وإذا لم يستجب اُولئك للحقّ فلا تحزن فهناك قلوب متعطّشة له جديرة بحمله وهي في إنتظاره.

وهذه الجملة في الحقيقة تذكر بالآيات السابقة التي تدلّ على أنّ النّبي كان يتحرّق لقومه حتّى يؤمنوا ويتأثّر غاية التأثّر لعدم إيمانهم حتّى كاد يهلك نفسه من أجلهم.

كما تشير الآية (3) من سورة الكهف حيث نقرأ فيها: (فلعلّك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً)... وبالطبع فإنّ القائد الحقّ ينبغي أن يكون كذلك.

قال المفسّرون: لمّا نزلت هذه الآية حزن النّبي والمؤمنون لأنّهم تصوّروا أنّ هذا آخر الكلام في شأن المشركين وأنّ وحي السماء قد إنقطع ويوشك أن يحيق بهم العذاب .. إلاّ أنّه لم تمض فترة قصيرة حتّى نزلت الآية بعدها لتأمر النّبي بالتذكير: (وذكّر فإنّ الذكرى تنفع المؤمنين)(4).

فكان أن أحسّ الجميع بالإطمئنان!

والآية تشير إلى أنّ هناك قلوباً مهيّأة تنتظر كلامك يارسول الله وتبليغك .. فإذا ما عاند جماعة ونهضوا بوجه الحقّ مخالفين، فإنّ هناك جماعةً آخرين تتوق إلى الحقّ من أعماق قلوبهم وأرواحهم ويؤثّر فيها كلامك اللّين!

ملاحظة

لابدّ من قلوب مهيّأة .. لقبول الحقّ:

لاحظوا المزارع والفلاّح الذي ينثر البذور، فقد تقع بعض هذه البذور على الأحجار، ومن الواضح أنّ ما يقع على الأحجار والصخور لا ينمو!

وبعض هذه البذور يقع على طبقة رقيقة من التراب الذي يغطّي الصخر، فتثبت هذه البذور وتمدّ جذورها، إلاّ أنّ المكان حيث كان حرجاً لا يساعد على إمتداد الجذور (لكون الأرض صخرية) فما أسرع من أن تجفّ البراعم وتموت الجذور.

ويقع قسم من البذور على أرض ذات تراب صالحة، إلاّ أنّ نبات الشوك والعلف تنمو إلى جانبها، فحتّى لو أورقت تلك البذور إلاّ أنّها ما أسرع أن تغلبها الأشواك وتلتفّ عليها فتموت.

وأحسن هذه البذور حظّاً تلك البذور التي تستقرّ في تربة صالحة ولا تعوقها نباتات اُخرى .. فلا يمضي زمن حتّى تنبت وتنمو وتورق وتستوي على سوقها وتعطي ثمارها.

فكلمات الحقّ التي تخرج من أفواه الأنبياء ورسل الله وخلفائهم المعصومين كهذه البذور، فالقلوب الصخرية لا تتقبّل هذه الكلمات من الأساس، والقلوب الضعيفة تتقبّلها مؤقتاً ثمّ تعرض عنها، وهناك قلوب مهيّأة للقبول، لكن الأهواء والصفات الرذيلة والشهوات نابتة فيها، وهذه الاُمور تبطل تأثير تلك الكلمات الحقّة.

القلوب - الوحيدة - التي تتقبّل كلمات هؤلاء الأئمّة العظام وتنمو فيها وتثمر هي القلوب التي تطلب الحقّ ويحكم عليها البحث عن الحقّ! وخالية من الصفات السلبية والدوافع الدنيوية أيضاً .. وتلك هي قلوب المؤمنين.

أجل .. (فذكّر إنّ الذكرى تنفع المؤمنين)!


1- مجمع البيان، ج9، ص161.

2- سورة الملك، الآية 6.

3- سورة الطلاق، الآية 12.

4- هود الآيتان 118 و119.