الآيات 24 - 30
﴿هَلْ أَتَـكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَـماً قَالَ سَلَـمٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْل سَمِين (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَـم عَلِيم (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِى صَرَّة فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالِتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29)قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30)﴾
التّفسير
ضيوف إبراهيم (ع):
من هذا المقطع - فما بعدُ - يتحدّث القرآن في هذه السورة عن قصص الأنبياء الماضين والاُمم المتقدّمة تأكيداً وتأييداً للموضوع آنف الذكر وما حواه من مسائل، وأوّل جانب يثيره هذا المقطع هو قصّة الملائكة الذين جاءوا لعذاب قوم لوط، ومرّوا على إبراهيم (ع) على صورة بشر، ليبشّروه بالولد، مع أنّ إبراهيم بلغ سنّاً كبيراً فهو في مرحلة المشيب وامرأته كانت عقيماً كذلك!
فمن جهة .. يعدّ إعطاء هذا الولد لإبراهيم وزوجه وهما في مرحلة الكبر واليأس من الإنجاب تأكيداً على كون الأرزاق مقدّرة كما اُشير إلى ذلك في الآيات المتقدّمة.
ومن جهة اُخرى يُعدّ دليلا آخر على قدرة الحقّ وآية من آيات معرفة الله التي ورد البحث عنها في الآيات آنفاً.
ومن جهة ثالثة يُعدّ بُشرى للاُمم المؤمنة بأنّها في رعاية الحقّ - كما أنّ الآيات التالية تتحدّث عن عذاب قوم لوط وهي في الوقت ذاته تهديد للمجرمين.
ففي البدء يوجّه الله سبحانه الخطاب لنبيّه فيقول: (هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين)(1).
والتعبير بـ "المكرمين" إمّا لأنّ هؤلاء الملائكة كانوا مأمورين من قبل الحقّ، وقد ورد التعبير عنهم في الآية (26) من سورة الأنبياء أيضاً بمثل هذا - (بل هم عباد مكرمون) أو لأنّ إبراهيم (ع) أكرمهم، أو للوجهين معاً.
ثمّ يبيّن القرآن حالهم فيقول: (إذ دخلوا عليه فقالوا سلاماً قال سلام قوم منكرون)(2).
قال بعضهم: جملة أنّهم "قوم منكرون" لم يصرّح بها إبراهيم، بل حدّث بها نفسه لأنّ هذا الكلام لا ينسجم مع وافر الإحترام للضيف الكرام.
إلاّ أنّه كما هو المعتاد قد يقول المضيّف للضيف في حال الإحترام والترحيب: "لا أدري أين التقيت بك من قبل - أو يبدو انّك غريب .. " فبناءً على هذا يمكن التمسّك بظاهر الآية وأنّ إبراهيم قال هذا الكلام صراحةً وإن كان الإحتمال الأوّل غير بعيد.
خاصّة أنّ "الضيف" لم يردّوا على هذا الكلام، ولو كان إبراهيم قال مثل هذا الكلام صراحةً، فلابدّ أن يجيبوه.
وعلى كلّ حال فإنّ إبراهيم أدّى ما عليه من حقّ الضيافة (فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين).
والفعل "راغ" كما يقول الراغب في مفرداته مشتقّ من "روغ" - على وزن "شوق" - ومعناه التحرّك مقروناً بخطّة خفيّة، لأنّ إبراهيم فعل "كذلك" وقام بذلك خفاء لئلاّ يلتفت الضيف فلا يقبلوا بضيافته التي تستلزم نفقة كثيرة! إلاّ أنّه لِمَ هيّأ إبراهيم طعاماً كثيراً؟ مع أنّ ضيفه كانوا كما يقول بعض المفسّرين "ثلاثة" وقال بعضهم: كانوا إثني عشر - وهذا أقصى ما قاله بعض المفسّرين(3)ـ .
فذلك لأنّ الكرماء لا يهيّؤون الطعام بمقدار الضيف فحسب، بل يهيّؤون طعاماً يستوعب حتّى العمّال ليشاركوهم في الأكل، وربّما أخذوا بنظر الإعتبار حتّى الجار والأقارب فعلى هذا لا يعدّ مثل هذا الطعام الذي هيّأه إبراهيم إسرافاً، ويلاحظ هذا المعنى في يومنا هذا عند بعض العشائر التي تعيش على طريقتها القديمة.
و "العجل" على وزن "طفل" معناه ولد البقر "وما يراه بعضهم أنّه الخروف فلا ينسجم مع متون اللغة"!..
وهذه الكلمة مأخوذة في الأصل من العجلة، لأنّ هذا الحيوان في هذه السنّ وفي هذه المرحلة يتحرّك حركة عجلى، وحين يكبر تزول عنه هذه الصفة تماماً.
و "السمين" معناه المكتنز لحمه، وإنتخاب مثل هذا العجل إنّما هو لإكرام الضيف وليسع المتعلّقين والأكلة الآخرين!
وفي الآية التاسعة والستّين من سورة هود جاء وصف هذا العجل بأنّه "حنيذ" أي مشويّ، وبالرغم من أنّ الآية محلّ البحث لم تذكر شيئاً عن هذا العجل، إلاّ أنّه لا منافاة بين التعبيرين.
ثمّ تضيف الآية بالقول عن إبراهيم وضيفه (فقرّبه إليهم) إلاّ أنّه لاحظ أنّ أيديهم لا تصل إلى الطعام فتعجّب و (قال ألا تأكلون).
وكان إبراهيم يتصوّر أنّهم من الآدميين (فأوجس منهم خيفةً) لأنّه كان معروفاً في ذلك العصر وفي زماننا أيضاً بين كثير من الناس الملتزمين بالتقاليد العرفية، أنّه متى ما أكل شخص من طعام صاحبه فلن يناله أذى منه ولا يخونه ..
ولذلك فإنّ الضيف إذا لم يأكل من طعام صاحبه، يثير الظنّ السيء بأنّه جاء لأمر محذور، وقد قيل على سبيل المثل في لغة العرب: من لم يأكل طعامك لم يحفظ ذمامك"!
و "الإيجاس" مشتقّ من وجس - على وزن مكث - ومعناه في الأصل الصوت الخفي ومن هنا فقد أطلق الإيجاس على الإحساس الداخلي والخفي، فكأنّ الإنسان يسمع صوتاً داخله وحين يقترن الإيجاس بالخيفة يكون معناه الإحساس بالخوف.
وهنا قال له الضيف كما ورد في الآية (70) من سورة هود طمأنةً له فـ (قالوا لا تخف).
ويضيف القرآن: (وبشّروه بغلام عليم).
وبديهي أنّ الغلام عند ولادته لا يكون عليماً، إلاّ أنّه من الممكن أن يكون له إستعداد بحيث يكون في المستقبل عالماً كبيراً .. والمراد به هنا هو ذلك المعنى!.
وهذا الغلام من هو؟ هل هو إسحاق أم إسماعيل؟! هناك أقوال بين المفسّرين وإن كان المشهور أنّه إسحاق وإحتمال كونه إسماعيل - مع ملاحظة الآية (71) من سورة هود التي تقول فبشّرناها بإسحاق - يبدو غير صحيح، فبناءً على ذلك ليس
من شكٍّ أنّ المرأة التي يأتي ذكرها في الآيات التالية هي سارة زوج إبراهيم وولدها هذا هو إسحاق!
(فأقبلت امرأته في صرّة فصكّت وجهها وقالت عجوز عقيم) ونقرأ في الآية (72) من سورة هود قوله تعالى: (قالت ياويلتا أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً)!؟
فبناءً على هذا فصراخها كان صراخ تعجّب مقرون بالسرور، وكلمة "صرّة" مشتقّة من الصرّ على وزن الشرّ، ومعناه في الأصل الشدّ والإرتباط، كما يطلق على الصوت العالي والصراخ والجماعة المتراكمة لأنّها ذات شدّة وإرتباط.
ويطلق على الريح الباردة "صرصر" لأنّها تصرّ الإنسان و "الصرورة" كلمة تطلق على من لم يحجّ رجلا كان أو امرأة! كما تطلق على من لم يرغب في الزواج منهما لأنّ في ذلك نوعاً من الإمتناع أو الإرتباط، والصرّة في الآية محلّ البحث معناها هو الصوت العالي الشديد.
أمّا "صكّت" فمشتقّة من مادّة صكّ على وزن شكّ - ومعناها الضرب الشديد أو الضرب، والمراد منها هنا هو أنّ امرأة إبراهيم حين سمعت بالبشرى ضربت بيدها على وجهها - كعادة سائر النساء - تعجّباً وحياءً!
وطبقاً لما يقول بعض المفسّرين وما ورد في سفر التكوين فإنّ امرأة إبراهيم كانت آنئذ في سنّ التسعين وإبراهيم نفسه كان في سنّ المئة عاماً .. أو أكثر.
إلاّ أنّ الآية التالية تنقل جواب الملائكة لها فتقول: (قالوا كذلك قال ربّك إنّه هو الحكيم العليم).
فبالرغم من كونك امرأةً عجوزاً وبعلك مثلك شيخاً إلاّ أنّ أمر الله إذا صدر في شيء ما فلابدّ أن يتحقّق دون أدنى شكّ!.
حتّى خلق العالم الكبير كعالمنا هذا إنّما هو عليه سهل إذ تمّ بقوله: كن فكان!
والتعبير بـ "الحكيم" و "العليم" إشارة إلى أنّه لا يحتاج إلى الإخبار بكونك امرأة عقيماً عجوزاً وبعلك شيخاً، فالله يعرف كلّ هذه الاُمور، وإذا لم يرزقك حتّى الآن ولداً وأراد أن يهبك في هذه السنّ ولداً فإنّما هو لحكمته!
الطريف أنّنا نقرأ في الآية (73) من سورة هود أنّ الملائكة قالوا لها: (أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنّه حميد مجيد).
ووجود الفرق بين هذين التعبيرين هو لأنّ الملائكة قالوا كلّ ذلك لسارة .. منتهى الأمر أنّ قسماً منه أشارت إليه سورة هود، وهنا إشارة إلى القسم الآخر، ففي سورة هود جاء الكلام عن "رحمة الله وبركاته" وهما يتناسبان مع كونه حميداً مجيداً.
أمّا هنا فالكلام على علمه بعدم إستعداد هذين الزوجين للإنجاب والولد ويأس المرأة بحسب الأسباب الطبيعية "الظاهرية" ويتناسب مع هذا الكلام أن يقال أنّه هو العلم، وإذ سئل لِمَ لم يرزقهما في فترة الشباب ولداً.
فيقال: أنّ في ذلك حكمةً وهو الحكيم سبحانه.
ملاحظة
كَرَمُ الأنبياء:
كثيراً ما يظنّ الممسكون البخلاء أنّ السخاء والنظرة البعيدة ضرب من الإفراط والإسراف والتبذير، والتشدّد وضيق النظرة نوع من الزهد والتدبير!!
والقرآن يكشف عن هذه الحقيقة في هذه الآيات والآيات التي مرّت في سورة هود، وهي أنّ الضيافة بسعتها وبشكلها المعقول ليست مخالفةً للشرع، بل طالما قام النّبي بمثل هذا العمل، فهو دليل على أنّ هذا الأمر محبوب، وبالطبع فإنّ ضيافةً كهذه الضيافة التي تستوعب الآخرين إنّما هي سنّة الكرماء الشرفاء.
والله سبحانه لم يحرّم التمتّع بمواهب الحياة وكون الإنسان ذا مال حلال كما كان إبراهيم - فلا ضير أن يتصرّف بماله كما فعل إبراهيم (ع) أيضاً.
فإبراهيم مع كونه ثريّاً ذا مال لم يغفل عن ذكر الله لحظة واحدة ولم يكن قلبه أسير ثروته ولم يجعل منافعه منحصرة به وحده.
يقول القرآن في الآية 32 من سورة الأعراف: (قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيّبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصّل الآيات لقوم يعلمون).
وفي هذا الصدد كان لنا بحث مفصّل ذيل الآية 32 من سورة الأعراف .. "فلا بأس بمراجعته هناك".
1- إقتباس عن روح البيان وحاشية تفسير الصافي ذيل الآيات محلّ البحث.
2- ينبغي الإلتفات إلى أنّ "خطب" لا يطلق على كلّ عمل، بل هو خاصّ في الاُمور والأعمال المهمّة في حين أنّ كلمات مثل عمل، شغل، أمر، فعل، لها معان عامّة.
3- ينبغي الإلتفات إلى أنّه في سورة هود جاء التعبير هكذا: إنّا اُرسلنا إلى قوم لوط، وهذا التفاوت في التعابير بين الآيات محلّ البحث وآيات سورة هود هو لأنّ كلا من الآيات يذكر قسماً ممّا جرى وبتعبير آخر هذه المسائل كلّها واقعة، غاية ما في الأمر أنّ بعضها مذكور في الآيات محلّ البحث وبعضها في الآيات الآنفة من سورة هود .