الآيات 7 - 14

﴿وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِى قَوْل مُّخْتَلِف (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِى غَمْرَة سَاهُونَ(11) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ(13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَـذَا الَّذِى كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)﴾

التّفسير

والسّماء ذات الحُبك:

تبدأ هذه الآيات كالآيات المتقدّمة بالقسم وتتحدّث عن إختلاف الكفّار وجدلهم حول يوم الجزاء والقيامة ومسائل اُخر متعدّدة من بينها شخصية النّبي (محمّد) ومسألة التوحيد.

فتقول الآيات في البداية: قسماً بالسماء ذات الخطوط والتعرّجات الجميلة: (والسماء ذات الحبك).

وفي اللغة معان كثيرة لكلمة "الحبك" على زنة "كتب" وهي جمع "حباك" على وزن - كتاب - .

من ضمن هذه المعاني الطرق والتعاريج التي تبدو على الرمل نتيجة للرياح

أو التي تبدو على صفحة الماء أو على السُحب في السماء!

كما تطلق الحبُك على الشعر المجعّد.

وقد تُفسّر الحبك بالزينة والجمال!

كذلك تأتي بمعنى الشكل الموزون والرتيب.

والجذر الأصلي لها "حبْك" ومعناه هو الشدّ والإحكام(1)!

ويبدو أنّ جميع هذه المعاني تعود إلى معنى واحد وهي التجاعيد والتعاريج الجميلة التي تظهر على صفحات الرمل في الصحراء أو صفحات الماء أو التجاعيد في الشعر أو السُحب في السماء.

وأمّا تطبيق هذا المعنى على السماء ووصفها بها (والسماء ذات الحبك) هو إمّا لنجومها ذات المجاميع المختلفة وصورها الفلكية "تطلق على مجموعات النجوم الثابتة التي لها شكل خاصّ بالصورة الفلكية"!

وإمّا للأمواج الجميلة التي ترتسم في السحب وقد تكون جميلة إلى درجة بحيث تحدق العين فيها لفترة طويلة!

أو لمجرّاتها العظيمة التي تبدو وكأنّها تجاعيد الشعر على صفحة السماء، وخاصّة صورها التي التقطت "بالتلسكوب" إذ تشبه هذه الصور التجاعيد في الشعر تماماً.

فعلى هذا يكون معنى (والسماء ذات الحبك) أنّ القرآن يقسم بالسماء ومجراتها العظيمة التي لم تكتشفها يومئذ العيون الحادّة ببصرها ولا علم الإنسان يومئذ أيضاً.

ومع ملاحظة أنّ الجمع بين المعاني المتقدّمة ممكن ولا منافاة فيه فيحتمل أن تكون هذه المعاني كلّها مجتمعة في القسم، ونقرأ في الآية (17) من سورة "المؤمنون" أيضاً قوله تعالى: (ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق)(2).

كما يجدر الإلتفات إلى أنّ الجذر الأصلي للحبك يمكن أن يكون إشارة إلى إستحكام السماء وإرتباط الكرات بعضها ببعض كالكواكب السياره والمجموعة أو المنظومة الشمسية التي ترتبط بقرص الشمس.

أمّا الآية التالية فهي جواب للقسم وبيان لما وقع عليه القسم إذ تقول مؤكّدة: (إنّكم لفي قول مختلف).

فدائماً أنتم تتناقضون في الكلام، وكأنّ هذا التناقض في كلامكم دليل على أنّه لا أساس لكلامكم أبداً.

ففي مسألة المعاد تقولون أحياناً: لا نصدّق أبداً أن نعود أحياء بعد أن تصير عظامنا رميماً.

وتارةً تقولون نحن نشكّ في هذه القضيّة ونتردّد!

وتارةً تضيفون أن هاتوا آباءنا وأسلافنا من قبورهم ليشهدوا أنّ بعد الموت قيامةً ونشوراً لنقبل بما تقولون!

وتقولون في شأن النّبي محمّد (ص) تارةً بأنّه شاعر، أو بأنّه ساحر، وتارةً تقولون أنّه لمجنون، وتارةً تقولون إنّما يعلمه بشر فهو مُعَلَّم!!

كما تقولون في شأن القرآن بأنّه: أساطير الأوّلين تارةً، أو تقولون بأنّه شعر، وتارةً تسمّونه سحراً، وحيناً آخر تقولون أنّه كذب إفتراه وأعانه عليه قوم آخرون! .. الخ.

فقسماً بحُبكِ السماء وتجاعيدها إنّ كلامكم مختلف ومليء بالتناقض، ولو كان لكلامكم أساس لكنتم على الأقل تقفون عند موضوع خاصّ ومطلب معيّن ولما تحوّلتم منه كلّ يوم إلى موضوع آخر!

وهذا التعبير في الحقيقة إنّما هو إستدلال على بطلان إدّعاء المخالفين في شأن التوحيد والمعاد والنّبي والقرآن "وإن كان إعتماد هذه الآيات في الأساس على مسألة المعاد كما تدلّ عليه القرينة في الآيات التالية"!.

ونعرف أنّه يُستند دائماً لكشف كذب المدّعين الكذبة سواءً في المسائل القضائية أو المسائل الاُخرى على تناقض كلامهم وتضادّه، فكذلك القرآن يعوّل على هذا الموضوع تماماً!

وفي الآية التالية يبيّن القرآن علّة الإنحراف عن الحقّ فيقول: (يؤفك عنه من اُفِك) أي يؤفك عن الإيمان بالقيامة والبعث كلّ مخالف للحقّ! وإلاّ فإنّ دلائل الحياة بعد الموت واضحة وجليّة!

وينبغي الإلتفات إلى أنّ تعبير الآية عامّ ومغلق، وترجمتها الحرفية هي "ليصرف عنه من هو مصروف".

لأنّ "الإفك" في الأصل يطلق على صرف الشيء، فلذا يطلق على الكذب الذي فيه تأثير إنحرافي بأنّه إفك، كما يطلق على الرياح المختلفة بأنّها "المؤتفكات".

ولكن مع ملاحظة أنّ الكلام كان في الآيات المتقدّمة على المعاد والقيامة، فمن المعلوم أنّ المراد الأصلي من الإنحراف والأفك هنا هو الإنحراف عن هذه العقيدة ..

كما أنّه حيث كان الكلام في الآية المتقدّمة عن إختلاف كلام الكفّار وتناقضهم فيعلم أنّ المراد هنا من الآية هم اُولئك المنحرفون عن الإيمان بالمعاد الذين انحرفوا عن مسير الدليل العقلي والمنطق السليم الباحث عن الحقّ!

وبالطبع لا مانع أن يكون المراد من "الإفك" هنا هو الإنحراف عن قبول الحقّ أيّاً كان نوعه، سواءً كان هذا الإنحراف عن القرآن أم التوحيد أو النبوّة أو المعاد "ومن هذا القبيل مسألة ولاية الأئمّة المعصومين الواردة في بعض الرّوايات" ولكن مسألة القيامة والمعاد على كلّ حال التي هي الموضوع الأصلي داخلة فيه قطعاً.

وفي الآية التالية ذمّ شديد للكاذبين وتهديد لتخرصّاتهم إذ تقول: (قتل الخرّاصون).

و "الخرّاص" من مادّة "خَرْص" - على زنة دَرس - ومعناه في الأصل كلّ كلام يقال تخميناً أو ظنّاً، وحيث أنّ مثل هذا الكلام غالباً ما يكون كذباً فقد إستعملت هذه الكلمة في الكذب أيضاً ..

فيكون المعنى من "الخراصون" هو: اُولئك الذين يطلقون كلمات عارية من الصحّة ولا أساس لها، والمراد منها هنا - بقرينة الآيات التالية - هو: اُولئك الذين يحكمون أو يقضون في شأن القيامة والمعاد بكلام لا أساس له بعيد عن المنطق.

على كلّ حال، فإنّ هذا التعبير هو في شكل دعاء عليهم .. دعاء يدلّ على أنّهم "موجودات" تستحقّ الفناء والقتل، فعدمهم خير من وجودهم!

كما فسّر بعضهم "القتل" هنا بالطرد واللعن والمحروميّة عن رحمة الله.

ومن هنا يمكن أن يستفاد من هذا الحكم الكلّي أيضاً أنّ القضاء بلا دليل ولا مدرك أو مستند بيّن بل على الظنّ والحدس هو عمل يسوق إلى الضلال ويستحقّ اللعن والعذاب.

ثمّ يعرّف القرآن هؤلاء الخراصين الكذبة فيقول: (الذين هم في غمرة ساهون).

"الغمرة" في الأصل معناها الماء الغزير الذي يغطّي محلا ما .. ثمّ إستعملت على الجهل السحيق الذي يغطّي عقل الشخص!

وكلمة "ساهون" جمع لـ "ساه" وهي مشتقّة من "السهو" والمراد بها هنا الغفلة.

وقال بعضهم إنّ الجهل على مراحل.

فالاُولى هي "السهو والإشتباه"، ثمّ "الغفلة" وبعدها "الغمرة".

فيكون المعنى بناءً على هذا أنّهم ابتدوا من مرحلة السهو، ثمّ انساقوا إلى مرحلة الغفلة، ولما استمرّوا وواصلوا في هذا الطريق غرقوا في الجهل تماماً، والجمع بين هذين التعبيرين "السهو" و "الغمرة" في هذه الآية لعلّه إشارة إلى بداية هذه الحركة ونهايتها.

فعلى هذا يكون المراد من كلمة "الخراصون" هم الغارقون في جهلهم وكلّ يوم يتذرّعون بحجّة واهية فراراً من الحقّ.

ولذلك فهم دائماً: (يسألون أيّان يوم الدين).

جملة "يسألون" والفعل للمضارع يدلّ على أنّهم يثيرون هذا السؤال أيّان يوم الدين؟! باستمرار ... على أنّه ينبغي أن يكون يوم القيامة وموعده مخفياً.

ليحتمل كلّ أحد أنّه محتمل الوقوع في كلّ أيّ زمان، ويحصل منه الأثر التربوي للإيمان بيوم القيامة الذي هو بناء الشخصية والإستعداد الدائم.

وهذا الكلام يشبه تماماً كلام المريض إذ يسأل طبيبه مثلا: متى يكون آخر عمري ويكرّر عليه السؤال بإستمرار، فكلّ أحد يعدّ هذا السؤال هذراً ويقول: المهمّ أن تعرف أنّ الموت حقّ لتعالج نفسك ولئلاّ تبتلى بالموت السريع.

إلاّ أنّهم لم يكن لهم من هدف سوى الإستهزاء أو التذرّع بالحجج الواهية ولم يكن سؤالهم عن تاريخ يوم القيامة وزمانه بحقّ!

إلاّ أنّه ومع هذه الحال فإنّ القرآن يردّ عليهم مجيباً بلغة شديدة ويعنّفهم (يوم هم على النار يفتنون).

وعندئذ يقال لهم هنالك: (ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون)والفتنة في الأصل إختبار الذهب في موقد النار ليمتاز الخالص من غيره، ومن هنا فقد استعملت "الفتنة" على أيّ نوع كان من أنواع الإمتحان أو الإختبار، كما إستعملت على دخول الإنسان النار، كما تستعمل في البلاء والعذاب وعدم الراحة كما تشير إليه الآية محل البحث هنا.


1- كلمة "في" بدخولها على الجنّات واضحة المعنى، لأنّ المتّقين داخل الجنان إلاّ أنّ دخولها على العيون بالعطف ليس معناه أنّ المتّقين داخل العيون بل تعني أنّهم في جنّات تتخلّلها العيون ..

2- المراد من "قبل ذلك" .. كما قلنا سابقاً يعني قبل يوم القيامة والدخول إلى الجنّة أي في عالم الدنيا، إلاّ أنّ بعض المفسّرين قال بأنّ قبل ذلك يعني قبل ورود الشرع، وهو إشارة إلى تمسكّهم بالمستقّلات العقلية حتّى قبل نزول الوحي إلاّ أنّ هذا المعنى يبدو بعيداً .