الآيات 1 - 6

﴿وَالذَّرِيَتِ ذَرْواً (1) فَالْحَـمِلَـتِ وِقْراً (2) فَالْجَـرِيَـتِ يُسْراً(3) فَالْمُقَسِّمَتِ أَمْراً (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَقِعٌ (6)﴾

التّفسير

قسماً بالأعاصير والسُحُب الذاريات:

هذه السورة هي الثانية بعد سورة "الصافات" التي تبدأ بالقسم المتكرّر، القسم العميق والباعث على التفكّر، القسم الذي يوقظ الإنسان ويمنحه الوعي والإطّلاع!

وكثير من سور القرآن التي سنواجهها - في المستقبل إن شاء الله - بالبحث والتّفسير - هي على هذه الشاكلة ..

والطريف في الأمر أنّ هذا القسم غالباً ما يوطِّىءُ للمعاد، سوى بعض المواطن التي يمهّد فيها للتوحيد والمسائل المتعلّقة به.

كما أنّ ممّا يلفت النظر أنّ هذا القسم يرتبط محتواه بمحتوى يوم القيامة والنشور .. وهو يتابع بظرافة ورونق خاصّ هذا البحث المهمّ من جوانب متعدّدة:

والحقيقة أنّ كلّ قسم في القرآن هو بنفسه - وإن كثرت الأقسام - أو الأيمان - وجه من وجوه إعجاز القرآن هذا الكتاب السماوي، وهو من أجمل جوانبه وأبهاها وسيأتي تفصيل كلّ ذلك في موقعه.

وفي مستهلّ السورة يقسم الله سبحانه بخمسة أشياء مختلفة، وقد جاء القسم بأربعة أشياء متوالية سرداً وجاء القسم بخامسها فرداً.

فيقول الله في البداية: (والذاريات ذرواً)(1) أي قسماً بالرياح التي تحمل السحب في السماء وتذروا البذور على الأرض في كلّ مكان ... ثمّ يضيف: (فالحاملات وقراً)(2) قسماً بالسحب التي تحمل أمطاراً ثقيلة معها ..

(فالجاريات يُسراً)(3) "والجاريات هنا هي السفن" أي قسماً بالسفن التي تجري في الأنهار العظيمة والبحار الشاسعة بيسر وسهولة .. (فالمقسمات أمراً) "والمقسمات "هنا" معناها الملائكة الذين يقسّمون الاُمور.

ونقرأ حديثاً نقله كثير من المفسّرين ذيل هذه الآية أنّ "ابن الكوا"(4) سأل مرّة علياً (ع) وهو على المنبر خطيباً: ما (الذاريات ذرواً)؟ فقال (ع): هي الرياح.

فقال: (فالحاملات وقراً) فأجاب (ع): هي السحاب.

فقال: (فالجاريات يسراً) فقال (ع): هي السُفن.

فقال: (فالمقسمات أمراً) فقال: الملائكة.

ومع هذه الحال فهناك تفاسير اُخر يمكن ضمّها إلى هذا التّفسير، منها أنّ المراد بـ "الجاريات" هي الأنهار التي تجري بماء المزن و "المقسمات أمراً" هي الأرزاق التي تقسّم بواسطة الملائكة عن طريق الزراعة.

وعلى هذا فإنّ الكلام عن الرياح ثمّ الغيوم وبعدها الأنهار وأخيراً نمو النباتات في الأرض يتناسب تناسباً قريباً مع مسألة المعاد، لأنّنا نعرف أنّ واحداً من أدلّة إمكان المعاد هو إحياء الأرض الميتة بنزول الغيث وقد ذكر ذلك عدّة مرّات في القرآن بأساليب مختلفة.

كما يردّ هذا الإحتمال أيضاً: وهو أنّ هذه الأوصاف الأربعة جميعها للرياح - الرياح المولّدة للسُحب، والرياح التي تحملها على متونها، والرياح التي تجري بها إلى كلّ جانب، والرياح التي تنثر وتقسّم قطرات الغيثِ لكلّ جهة(5)!.

ومع ملاحظة أنّ هذه التعبيرات الواردة في الآيات جميعها جامعة وكليّة فيمكن أن تحمل المعاني آنفة الذكر كلّها، إلاّ أنّ التّفسير الأساس هو التّفسير الأوّل.

وهنا ينقدح هذا السؤال .. وهو:

إذا كان المراد من "المقسمات" هو الملائكة فماذا تقسم الملائكة؟!

نجيب على هذا السؤال أنّ تقسيم العمل هنا لعلّه راجع إلى كلّ التدبير في العالم بحيث أنّ جماعات من الملائكة مأمورة بتدبير اُموره، كما يحتمل أنّها مأمورة بتدبير الأرزاق، أو تقسيم قطرات الغيث على المناطق المتعدّدة في الأرض(6).

وبعد ذكر هذه الأقسام الأربعة التي تبيّن أهميّة الموضوع الذي يليها يقول القرآن: (إنّما توعدون لصادق)(7).

ومرّة اُخرى لمزيد التأكيد يضيف قائلا: (وإنّ الدين لواقع) الدين: هنا معناه الجزاء كما جاء بهذا المعنى في قوله تعالى: (مالك يوم الدين): أي يوم الجزاء.

وأساساً فإنّ واحداً من أسماء يوم القيامة هو "يوم الدين" و "يوم الجزاء" ويتّضح من ذلك أنّ المراد من الوعود الواقعة "هنا" هي ما يوعدون عن يوم القيامة وما يتعلّق بها من حساب وثواب وعقاب وجنّة ونار وسائر الاُمور المتعلّقة بالمعاد، فعلى هذا تكون الجملة الاُولى شاملة لجميع الوعود، والجملة الثانية تأكيد آخر على مسألة الجزاء.

وبعد عدّة جمل اُخر سيأتي الكلام على يوم الدين، وكما أشرنا آنفاً فإنّ الأقسام الواردة في بداية السورة لها علاقة وتناسب بيّن مع نتيجة هذه الأقسام! لأنّ حركة الرياح ونزول الغيث ونتيجة لكلّ ذلك فإنّ حياة الأرض بعد موتها بنفسها مشهد من مشاهد القيامة والمعاد يبدو في هذه الدنيا.

قال بعض المفسّرين إنّ (ما توعدون) يحمل معنى واسعاً يشمل جميع الوعود الإلهيّة المتعلّقة بيوم القيامة والدنيا وتقسيم الأرزاق ومجازاة المجرمين في هذه الدنيا والدار الآخرة وإنتصار المؤمنين الصالحين، فالآية (22) من هذه السورة ذاتها التي تقول: (وفي السماء رزقكم وما توعدون) يمكن أن تكون تأكيداً أو تأييداً لهذا المعنى، وحيث أنّ لفظ الآية مطلق فلا تبعد هذه العمومية.

وعلى كلّ حال فإنّ الوعود الإلهية جميعها صادقة لأنّ خلف الوعد إمّا ناشىء عن الجهل أو العجز! ..

الجهل الباعث على تغيير فكر الواعد، والعجز المانع من الوفاء به، إلاّ أنّ الله العالم والقادر لا تتخلّف وعوده أبداً .. تعالى الله عن ذلك!


1- الجاريات جمع جارية، ومعناها هنا السفن كما تأتي بمعنى الأنهار لجريانها وقد ورد قوله تعالى: (فيها عين جارية) في الآية (12) من سورة الغاشية كما تطلق الجارية على الشمس لجريها في السماء، وتطلق الجارية أيضاً على الفتاة لأنّ نشاط الشباب يجري في كيانها.

2- كان يدعى بعبدالله، وكان من المنافقين في زمان الإمام علي، وأشدّ أعدائه وكان يزعم أنّه من أصحابه إلاّ أنّه كان يتآمر عليه ..

3- أشار إلى هذا المعنى تفسير الفخر الرازي، ج28، ص195.

4- ينبغي الإلتفات إلى أنّ الواو في (والذاريات) هي للقسم، إلاّ أنّ الفاء في الآيات التي تليها عاطفة وهي تحمل مفهوم القسم كما أنّها في الوقت ذاته بمثابة علاقة ورباط بين الأقسام الأربعة هنا ..

5- ينبغي الإلتفات إلى أنّ "ما" هنا اسم موصول، وهو اسم لأنّ وخبرها لصادق.

6- يراجع "لسان العرب" والمفردات للراغب مادّة الحبك.

7- هناك شرح مفصّل في تفسير هذه الآية فراجعه في سورة "المؤمنون".