الآيات 38 - 40

﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّام وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوب (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَـرَ السُّجُودِ (40)﴾

التّفسير

خالق السموات والأرض قادر على إحياء الموتى:

تعقيباً على ما ورد في الآيات آنفة الذكر ودلائلها المتعدّدة في شأن المعاد، تشير الآيات محلّ البحث إلى دليل آخر من دلائل إمكان المعاد ..

ثمّ تأمر النّبي بالصبر والإستقامة والتسبيح بحمد الله ليبطل دسائس المتآمرين وما يحيكونه ضدّه، فتقول الآية الاُولى من هذه الآيات: (ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستّة أيّام وما مسّنا من لغوب).

"اللغوب" بمعنى "التعب" وبديهي أنّ من لديه قدرة محدودة وأراد أن يعمل عملا فوق طاقته وقدرته فإنّه يتعب ويناله اللغوب والنصب، إلاّ أنّ من كان ذا قدرة لا نهاية لها، وقوّة لا حدّ لها فإنّ التعب والنصب واللغوب لا تعني شيئاً لديه ..

فعلى هذا من كان قادراً على إيجاد السماوات والأرض وخلق الكواكب والمجرّات وأفلاكها جميعاً، قادر على إعادة الإنسان بعد موته وأن يُلبسه ثوباً جديداً من الحياة.

بعض المفسّرين ذكر في شأن نزول الآية أنّ اليهود كانوا يتصوّرون أنّ الله خلق السماوات والأرض في ستّة أيّام "ستّة أيّام من أيّام الأسبوع"! ثمّ إستراح في اليوم السابع "السبت" فوضع رجلا على رجل اُخرى!! وهكذا فإنّهم يرون أنّ الجلوس على هذه الشاكلة غير لائق، وأنّه خاصّ بالله، فنزلت الآية آنفة الذكر وحسمت الكلام في مثل هذه الخرافات المضحكة(1)!

إلاّ أنّ هذا الشأن لا يمنع من أن يتابع مسألة إمكان المعاد في الوقت الذي هو دليل على توحيد الله وقدرته وعلمه، إذ خلق السماوات والأرض بما فيهما من عجائب و (ملايين) الأحياء والأسرار المذهلة ونظمها الخاصّة بحيث أنّ التفكّر في زاوية واحدة من هذا الخلق يسوقنا إلى الخالق الذي حرّكت يد قدرته هذه الكواكب ونثرت نور الحياة في كلّ مكان ليكون دليلا عليه.

وقد تكرّر موضوع خلق السماوات والأرض في ستّة أيّام في آيات متعدّدة من القرآن(2).

وكلمة "يوم" يراد منها الفترة الزمنية لا بمعنى أربع وعشرين ساعة أو إثنتي عشرة ساعة، كأن نقول "كان الناس يعيشون في ظلّ النّبي يوماً، وسلّط عليهم بنو اُميّة يوماً وبنو العبّاس يوماً آخر!..الخ".

وواضح أنّ كلمة "اليوم" في هذه التعبيرات وأمثالها يراد منها الفترة الزمانية سواءً كانت سنّةً أو شهراً أو جيلا .. أو آلاف السنين ..

فنقول مثلا: كانت الكرة الأرضية قطعةً متلهّبة يوماً، وبردت يوماً فغدت مهيّأة للحياة، فجميع هذه التعبيرات تشير إلى الفترات الزمنية.

فيستفاد من التعبيرات الواردة في الآية آنفة الذكر أنّ الله خلق جميع السماوات والأرض والموجودات الاُخرى في ستّ مراحل أو ستّ فترات زمانية.

"وتفصيل هذا الكلام مبيّن في ذيل الآية 54 من سورة الأعراف فلا بأس بمراجعته".

إذاً، لا يبقى مجال للسؤال بأنّه لم يكن قبل خلق السماء والأرض ليل أو نهار فكيف خلقتهما في ستّة أيّام؟!

وبعد ذكر دلائل المعاد المختلفة وتصوير مشاهد المعاد ويوم القيامة المتعدّدة فإنّ القرآن يخاطب النّبي ويأمره بالصبر - لأنّ هناك طائفة لا تذعن للحقّ وتصرّ على الباطل فيقول: (فاصبر على ما يقولون) إذ بالصبر والإستقامة - وحدهما - يستطاع التغلّب على مثل هذه المشاكل.

وحيث أنّ الصبر والإستقامة يحتاجان إلى دعامة ومعتمد، فخير دعامة لهما ذكر الله والإرتباط بالمبدأ - مبدأ العلم القادر على إيجاد العالم - لذلك فإنّ القرآن يضيف تعقيباً على الأمر بالصبر قائلا: (وسبّح بحمد ربّك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب).

وكذلك: (ومن الليل فسبّحه وأدبار السجود).

فهذا الذكر والتسبيح والمستمر ينصبّ على صعيد قلبك كإنصباب الغيث على الأرض ليهبها الحياة ويسقيها الرواء، فالتسبيح أيضاً يُلهم قلبك النشاط والإستقامة بوجه الأعداء المعاندين.

وهناك أقوال مختلفة بين المفسّرين في المراد من "التسبيح" في الأوقات الأربعة "قبل طلوع الشمس وبعد الغروب ومن الليل وأدبار السجود!".

فبعضهم يعتقد أنّ المراد من هذه التعبيرات هو الصلوات الخمس اليومية ..

وبعضاً من النوافل الفضلى على الترتيب والنحو التالي.

فـ (قبل طلوع الشمس) إشارة إلى صلاة الصبح، لأنّ في آخر وقتها تطلع الشمس فينبغي أداؤها قبل طلوع الشمس.

وقبل الغروب إشارة إلى صلاتي الظهر والعصر لأنّ الشمس تغرب آخر وقتيهما.

أمّا قوله: (ومن الليل) فيشير إلى صلاتي المغرب والعشاء وقوله: (وادبار السجود) ناظر إلى النوافل بعد صلاة المغرب، وقال ابن عبّاس بهذا التّفسير - مع هذا القيد - وهو أنّ المراد من إدبار السجود هو جميع النوافل التي تؤدّى بعد الفرائض ولكن حيث أنّا نعتقد بأنّ ما يؤدّى من النوافل اليومية بعد الفرائض هما نافلة المغرب ونافلة العشاء فحسب، فلا يصحّ هذا التعميم آنفاً.

كما فسّر بعضهم قوله "قبل طلوع الشمس" بصلاة الصبح، "وقبل الغروب" بصلاة العصر، "ومن الليل فسبّحه" بصلاتي المغرب والعشاء، فلم يذكروا شيئاً عن صلاة الظهر هنا، وهذا دليل على ضعف هذا التّفسير.

ونقرأ في بعض الرّوايات المنقولة عن الإمام الصادق أنّه حين سئل عن الآية: (وسبّح بحمد ربّك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب) ..

قال (ع): "تقول حين تصبح وتمسي عشر مرّات لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كلّ شيء قدير"(3).

ولا يتنافى هذا التّفسير مع التّفسير الأوّل ويمكن أن يجتمعا في الآية معاً.

وممّا ينبغي الإلتفات إليه هو ورود نظير هذا المعنى بإختلاف يسير في الآية (130) من سورة طه أيضاً إذ تقول الآية: (وسبّح بحمد ربّك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبّح وأطراف النهار لعلّك ترضى).

جملة "لعلّك ترضى" - تدلّ على أنّ لهذا التسبيح والذكر في هذه الأوقات أثراً مهمّاً في إطمئنان القلب ورضا الخاطر، إذ يمنح القلب قوّة وشدّة بوجه الحوادث.

وهناك لطيفة تسترعي النظر وهي أنّ الآية (49) من سورة الطور تقول هكذا: (ومن الليل فسبّحه وادبار النجوم)(4).

وقد ورد في حديث عن الإمام علي (ع) أنّه قال: "المراد بـ (أدبار السجود)ركعتا نافلة تؤدّيان بعد صلاة المغرب "ينبغي الإلتفات إلى أنّ نافلة المغرب أربع ركعات وقد اُشير إلى إثنين منهما هنا فحسب" وإدبار النجوم ركعتا نافلة الصبح إذ تؤدّيان عند غروب النجوم وتفرّقها وقبل صلاة الصبح"(5).

كما ورد في رواية اُخرى أنّ المراد من "ادبار السجود" هو نافلة الوتر التي تؤدّى آخر الليل(6).

وعلى كلّ حال فإنّ التّفسير الأوّل أقرب من الجميع وأكثر تناسباً وإن كان مفهوم التسبيح وسعته شاملا لكثير من التفاسير المشار إليها في الرّوايات آنفاً.

ملاحظة

الصبر مفتاح لكلّ فلاح:

لم يكن تعويل القرآن وإعتماده على الصبر بوجه المشاكل لأوّل مرّة هنا فحسب، فطالما أمر النّبي والمؤمنون عامّة في الآيات مراراً بالصبر وأكّد على هذا الموضوع كما أنّ التجارب تدلّ على أنّ النصر والغلبة من نصيب اُولئك الذين تمتّعوا بالصبر والإستقامة.

ففي حديث عن الإمام الصادق أنّه أمر بعض أصحابه "ولعلّه كان لا يطيق بعض الظروف الصعبة في ذلك الزمان": "عليك بالصبر في جميع اُمورك.

ثمّ قال (ع) إنّ الله بعث محمّداً وأمره بالصبر والمداراة فصبر حتّى نسبوا إليه ما لا يليق فضاق صدره فأنزل الله عليه الآية: (ولقد نعلم أنّك يضيق صدرك بما يقولون فسبّح بحمد ربّك وكن من الساجدين).

فصبر فكذّبوه أيضاً، ورشقوه بنبال التّهم من كلّ جانب فحزن وتأثّر لذلك، فأنزل الله عليه تسلية قوله: (قد نعلم أنّه ليحزنك الذي يقولون فإنّهم لا يكذّبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ولقد كذّبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذّبوا واُوذوا حتّى أتاهم نصرنا).

ثمّ يضيف الإمام (ع) أنّ النّبي واصل صبره إلاّ أنّهم تجاوزوا الحدّ فكذّبوا الله فقال النّبي (ص) قد صبرت في نفسي وأهلي وعرضي ولا صبر لي على ذكر إلهي فأنزل الله عزّوجلّ: (ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستّة أيّام وما مسّنا من لغوب) ..

أي خلقنا السماوات والأرض في عدّة فترات ولم نعجل ولم يمسّنا تعب ونصب، فعليك أن تصبر، فصبر النّبي في جميع أحواله ما كان يواجهه حتّى إنتصر على أعدائه"(7).


1- مجمع البيان ـ ذيل الآيات محلّ البحث ـ .

2- ينبغي الإلتفات إلى أنّ إدبار هنا جاءت بالكسر على زنة "إقبال" أمّا في الآية محلّ البحث فجاءت أدبار بفتح الهمزة على زنة أفكار، وهي هنا جمع دبر ومعناه العقب، فيكون المعنى في أدبار السجود أي بعد كلّ سجدة، وأمّا معنى إدبار النجوم أي عند تفرّق النجوم.

3- مجمع البيان، ذيل الآية محلّ البحث ـ .

4- المصدر آنف الذكر.

5- راجع اُصول الكافي، طبقاً لما ورد في تفسير نور الثقلين، ج5، ص117.

6- بناءً على التّفسير الأوّل فإنّ "يوم" مفعول استمع، وبناءً على التّفسير الثّاني فإنّ مفعول استمع محذوف وتقديره استمع حديث ربّك فيكون نصب كلمة يوم على فعل مقدّر من الخروج وتقديره يخرجون يوم ينادي المنادي من مكان قريب.

7- يرى جماعة من المفسّرين أنّ المكان القريب يُحتمل أن تكون صخرة بيت المقدس ـ تلك الصخرة الخاصّة التي عرج منها الرّسول الأكرم(عليه السلام) نحو السماء فيقف المنادي على طرفها ويصيح أيّتها العظام البالية والأوصال المتقطّعة واللحوم المتمزّقة قومي لفصل القضاء وما أعدّ الله لكم من الجزاء .. لكن لا دليل بيّن على ذلك.