الآيات 23 - 30

﴿وَقَالَ قَرِينُهُ هَـذَا مَا لَدَىَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّار عَنِيد(24) مَّنَّاع لِلْخَيْرِ مُعْتَد مُّرِيب (25) الَّذِى جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلَـهاً ءَاخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِى الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَـكِن كَانَ فِى ضَلَـلِ بَعِيد (27) قَالَ لاَ تَخْتَصِمُوا لَدَىَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ(28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَىَّ وَمَآ أَنَا بِظَلَّـم لِّلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلاَْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيد(30)﴾

التّفسير

قرناء الإنسان من الملائكة والشياطين:

مرّةً اُخرى ترتسم في هذه الآيات صورة اُخرى عن المعاد، صورة مثيرة مذهلة حيث أنّ الملك - قرين الإنسان - يبيّن محكومية الإنسان بين الملأ ويصدر حكم الله لمعاقبته وجزائه.

تقول الآية الاُولى من هذه الآيات: يقول صاحبه وقرينه هذا كتاب أعمال

هذا الإنسان حاضر لديّ: (وقال قرينه هذا ما لديّ عتيد) فيكشف الستار عن كلّ صغيرة وكبيرة صدرت منه.

ولكن ما المراد من "قرينه"؟ للمفسّرين أقوال كثيرة، إلاّ أنّ أغلبهم يرى أنّ المراد منه هو الملك الذي يرافق الإنسان في الدنيا والذي كان مأموراً بتسجيل أعماله وضبطها ليشهد عليه هناك في محكمة عدل الله.

والآيات السابقة التي كانت تشير إلى أنّ من يرد عرصات المحشر فإنّ معه سائقاً يسوقه وشهيداً يشهد عليه، تدلّ على هذا المعنى أيضاً.

زد على ذلك لحن الآية نفسها والآية التي تليها تتناسبان مع هذا المعنى أيضاً فلاحظوا بدقّة.

إلاّ أنّ بعض المفسّرين ذكر أنّ المراد من قرينه هو "الشيطان"، لأنّ كلمة "قرين" أُطلقت في كثير من آيات القرآن على الشيطان الذي يصطحب الإنسان ..

فيكون معنى الآية على هذا التقدير هكذا: "وقال الشيطان قرين الإنسان: "إنّني أعددت هذا المجرم لجهنّم وبذلت أقصى ما في وسعي من جهد في هذا السبيل".

إلاّ أنّ هذا المعنى لا أنّه لا يتناسب مع الآيات السابقة واللاحقة فحسب، بل لا ينسجم مع تبرئة الشيطان نفسه من إغوائه الإنسان على الذنب كما تصرّح بذلك الآية الواردة بعد عدّة آيات من هذه الآية محلّ البحث.

فطبقاً لهذا التّفسير للآية فإنّ الشيطان يعترف بمسؤوليته في إغواء الإنسان، والحال أنّ الآيات المقبلة نقرأ فيها قوله: (وقال قرينه ربّنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد) فيقع التضادّ بين القولين كما تلاحظون.

وهناك تفسير ثالث وهو أبعد ممّا ذكر آنفاً ولا قرينة عليه أبداً، وهو أنّ المراد من "قرينه" هو من رافق الإنسان في حياته من البشر!!

ثمّ يخاطب الله الملكين المأمورين بتسجيل أعمال الإنسان فيقول لهما: (ألقيا في جهنّم كلّ كفّار عنيد).

كلمة "عنيد" مشتقّة من العناد، ومعناها التكبّر وحبّ الذات وعدم الخضوع للحقّ!

ومن هم المخاطَبَين هنا؟ هناك تفاسير متعدّدة أيضاً، فمنهم من إختار التّفسير آنف الذكر، ومنهم من قال بأنّهما خازنا النيران.

وقال بعضهم - أيضاً - من المحتمل أن يكون المخاطب واحداً فحسب، وهو الشاهد الذي يرد عرصة القيامة مع المجرم، وصرّحت به الآيات آنفة الذكر، وتثنية الفعل هو من أجل التأكيد، فكأنّه يؤكّد مرتين: "القِ، الق" وإستعمال التثنية في خطاب المفرد وارد في لغة العرب، إلاّ أنّ هذا التّفسير بعيد جدّاً.

وخير التفاسير وأنسبها هو التّفسير الأوّل.

وفي الآية التالية إشارة إلى بعض الأوصاف التي يتّصف بها هؤلاء الكفّار - الذميمة المنحطّة إذ تقول الآية: (منّاع للخير معتد مريب).

"المنّاع" بحكم كونه صيغة مبالغة فإنّه يطلق على الشخص الذي يمنع كثيراً من الاُمور، فيكون التعبير بـ "منّاع للخير" يقصد به من يمنع كلّ عمل صالح فيه خير وبأيّة صورة كانت.

وقد ورد في بعض الرّوايات أنّ الآية نزلت في "الوليد بن المغيرة" حيث أنّه كان يمنع أبناء أخيه عن الإسلام ويقول لهم: طالما كنت حيّاً فلن أعينكم في حياتكم(1).

وكلمة "معتد" معناها المتجاوز على الحدود، سواءً أكان متجاوزاً لحقوق الآخرين أو لحدود الله وأحكامه!

وكلمة "مريب" مشتقّة من الريب، وتعني من هو في شكّ، الشكّ المقرون بسوء الظنّ، أو من يخدع الآخرين فيجعلهم بما يقول أو يعمل في شكّ من أمرهم .. فيضلّوا عن سواء السبيل.

ثمّ تضيف الآية التالية لتذكر وصفاً ذميماً لمن كان من طائفة الكفّار فتقول: (الذي جعل مع الله إلهاً آخر).

أجل: (فألقياه في العذاب الشديد).

وفي هذه الآيات بيان ستّة أوصاف لأهل النار، فالأوصاف الخمسة المتقدّمة بعضها لبعض بمثابة العلّة والمعلول، أمّا الوصف السادس فإيضاح للجذر الأصيل لهذه الأوصاف.

لأنّ معنى الكفّار هو من أصرّ على كفره كثيراً، وينتهي هذا الأمر إلى العناد.

والمعاند أو العنيد يصرّ على منع الخير أيضاً، ومثل هذا الشخص بالطبع يكون معتدياً متجاوزاً على حقوق الآخرين وحدود الله.

والمعتدون يصرّون على إيقاع الآخرين في الشكّ والريب وسلب الإيمان عنهم.

وهكذا تبيّن أنّ هذه الأوصاف الخمسة أي "الكفّار والعنيد والمنّاع للخير والمعتدي والمريب" يرتبط بعضها ببعض إرتباطاً وثيقاً، وبعضها لبعض يشكّل علاقة اللازم بالملزوم.

وفي الوصف السادس أي (الذي جعل مع الله إلهاً آخر) يكمن الجذر الأصيل والأساس لجميع الإنحرافات الآنف ذكرها، والمراد من هذا الوصف هو الشرك، لأنّ التدقيق فيه يكشف أنّ الشرك هو الباعث على جميع هذه الاُمور المتقدّمة!

وفي الآية التالية يكشف الستار عن مشهد آخر وصورة اُخرى ممّا يجري على هؤلاء الكفّار وعاقبتهم، وهو المجادلة بينهم وبين الشيطان الغويّ في يوم القيامة، فكلّ من الكفّار يلقي التبعات على الشياطين، إلاّ أنّ قرينه "الشيطان" يردّ عليه ويقول كما يحكي عنه القرآن: (قال قرينه ربّنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد).

فلم أجبره على سلوك طريق الغواية والضلالة، بل هو الذي سلكه بإختياره وإرادته وإختار هذا الطريق.

وهذا التعبير يشبه ما ورد في سورة إبراهيم الآية (22) إذ يتبرّأ الشيطان من أتباعه فيقول: (...وما كان لي عليكم من سلطان إلاّ أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم)!!

وبالطبع فإنّ الشيطان لا يريد أن ينكر أثره في إغواء الإنسان إنكاراً كليّاً، بل يريد أن يثبت أنّه لم يجبر أحداً على إغوائه، بل الإنسان بمحض إستجابته ورغبته قبل وساوس الشيطان، فعلى هذا الأساس لا تضادّ بين هذه الآية والآية (82) من سورة (ص): (لاُغوينّهم أجمعين).

وبالرغم من أنّ هذه الآيات تتحدّث عن دفاع الشيطان عن نفسه فحسب، ولا يظهر فيها كلام على إعتراض الكفّار وردّهم على الشيطان، إلاّ أنّه وبقرينة سائر الآيات التي تتحدّث عن مخاصمتهم في يوم القيامة وبقرينة الآية التالية يتّضح جدال الطرفين إجمالا، لأنّها تقول حاكية عن ربّ العزّة: (قال لا تخصموا لديّ وقد قدّمت إليكم بالوعيد) وأخبرتكم عن هذا المصير.

إشارة إلى قوله تعالى للشيطان من جهة: (إذهب فمن تبعك منهم فإنّ جهنّم جزاؤكم جزاءً موفوراً).(2)

ومن جهة اُخرى فقد أنذر سبحانه من تبعه من الناس (لأملأنّ جهنّم منك وممّن تبعك منهم أجمعين).(3)

وهذا التهديد والوعيد واردة في سائر آيات القرآن، وهي حاكية جميعاً عن أنّ الله أتمّ الحجّة على الشياطين والإنس كلّهم ..

وحذّر كلا الفريقين من الإغواء والغواية والإضلال والضلال.

ولمزيد التأكيد تقول الآية التالية حاكية عن لسان ربّ العزّة: (ما يبدّل القول لدي وما أنا بظلاّم للعبيد)(4).

والمراد من "القول" هنا هو التهديد أو الوعيد الذي أشار إليه الله سبحانه مراراً في آيات متعدّدة وذكرنا آنفاً أمثلةً منها.

والتعبير بـ "ظلاّم" وهو صيغة مبالغة معناه كثير الظلم، مع أنّ الله لا يصدر منه أقل ظلم، ولعلّ هذا التعبير هو إيذان بأنّ مقام عدل الله وعلمه في درجة بحيث لو صدر منه أصغر ظلم لكان يعدّ كبيراً جدّاً ولكان مصداقاً للظلاّم، فعلى هذا فإنّ الله بعيد عن أي أنواع الظلم.

أو أنّ هذا التعبير ناظر إلى الأفراد والمصاديق، إذ لو نال عبداً ظلم من الله فهناك نظراء لهذا العبد، وفي المجموع يكون الظلم كثيراً.

وعلى كلّ حال، فإنّ هذا التعبير دليل على أنّ العباد مخيّرون ولديهم الحريّة "في الإرادة" فلا الشيطان مجبور على شيطنته وعمله، ولا الكفّار مجبورون على الكفر وأتباع طريق الشيطان، ولا العاقبة والمصير القطعي الخارج عن الإرادة قد تقرّرا لأحد أبداً.

وهنا ينقدح هذا السؤال! وهو:

كيف يقول سبحانه (ما يبدّل القول لديّ)؟ مع أنّ جماعة من العباد يشملهم عفوه وغفرانه؟

والجواب على هذا السؤال: أنّ العفو أيضاً وفقاً لمنهج دقيق وفرع على عمل أدّاه الإنسان بحيث أنّه على رغم جرمه فهو جدير بالعفو، وهذا بنفسه أحد السنن الإلهيّة، وهو أنّ من يستحقّ العفو يشمله عفوه، وهذا أيضاً لا يتغيّر.

وفي آخر آية من الآيات محلّ البحث إشارة إلى جانب قصير ومثير من مشاهد يوم القيامة إذ تقول الآية: (يوم نقول لجهنّم هل امتلأت وتقول هل من مزيد)(5).

والمراد من (هل من مزيد) ما هو؟ هناك تفسيران:

الأوّل: أنّه إستفهام إنكاري، أي أنّ جهنّم تقول لا مجال للزيادة، وبهذا فينسجم هذا المعنى مع الآية 13 من سورة السجدة: (لأملأنّ جهنّم من الجنّة والناس أجمعين) وهو تأكيد على أنّ تهديد الله يتحقّق في ذلك اليوم تماماً وأنّ جهنّم تمتلىء في يوم القيامة من الكفّار والمجرمين.

والثّاني: إنّ هذه الجملة فيها طلب للزيادة! أي هل يوجد غير هؤلاء ليدخلوا النار، وأساساً فإنّ طبيعة كلّ شيء أن يبحث عن سنخه دائماً، فلا النار تشبع من الكفّار ولا الجنّة تشبع من المؤمنين الصالحين.

إلاّ أنّ هذا السؤال سيبقى بلا جواب، وهو أنّ مفهوم هذا الطلب أنّ جهنّم ما تزال غير ممتلئة، فلا تنسجم مع الآية 13 من سورة السجدة آنفة الذكر التي تقول: (لأملأنّ جهنّم من الجنّة والناس أجمعين).

ولكن ينبغي الإلتفات إلى أنّ طلب المزيد لا يدلّ على عدم الإمتلاء لأنّه:

أوّلا: قد يكون إناء مليء بالطعام مثلا، إلاّ أنّ شخصاً ما يزال يتمنّى أن لو اُضيف إليه فيكون متراكماً أكثر!

ثانياً: هذا الطلب يمكن أن يكون طلباً لتضييق المكان على أهل جهنّم وعقابهم الأليم أو تمنّي السعة لإستيعاب أنفار آخرين أكثر.

وعلى كلّ حال، فإنّ هذه الآية تدلّ دلالة واضحة أنّ أهل جهنّم كثيرون، وأنّ صورة جهنّم مرعبة وموحشة وأنّ تهديد الله جدّي وحقّ يربك الفكر في كلّ إنسان فيهزّه ويحذّره ألاّ يكون واحداً من أهلها! وهذا التفكير يمكن أن يصيّره ورعاً ملتزماً فلا يقدم على الذنوب الكبيرة والصغيرة!.

وينقدح سؤال آخر، وهو كيف تخاطب النار وهي موجود غير عاقل فتردّ وتجيب على الخطاب!

ولهذا السؤال توجد إجابات ثلاث:

الاُولى: إنّ هذا التعبير نوع من التشبيه وبيان لسان الحال! أي أنّ الله يسأل بلسان التكوين جهنّم وهي تجيب بلسان الحال، ونظير هذا التعبير كثير في اللغات المختلفة!

الثّانية: إنّ الدار الآخرة دار حياة واقعية، فحتّى الموجودات المادية كالجنّة والنار يكون لها نوع من الإدراك والحياة والشعور، فالجنّة تشتاق إلى المؤمنين، وجهنّم تنتظر المجرمين.

وكما أنّ أعضاء جسم الإنسان تنطق في ذلك اليوم وتشهد على الإنسان، فلا عجب أن تكون الجنّة والنار كذلك!

بل وحسب إعتقاد بعض المفسّرين إنّ ذرّات هذا العالم جميعها لها إدراك وإحساس خاصّ، ولذلك فهي تسبّح الله وتحمده، وقد أشارت إليه بعض آيات القرآن كالآية (44) من سورة الإسراء(6).

والثّالثة: إنّ المخاطبين هم خزنة النار وهم الذين يردون على هذا السؤال.

وجميع هذه التفاسير يمكن قبولها، إلاّ أنّ التّفسير الأوّل أنسب كما يبدو!


1- سورة ص، الآية 85.

2- لديّ ظرف متعلّق بـ "يبدّل" وإحتمل بعض المفسّرين أنّه متعلّق بالقول، إلاّ أنّ المعنى الأوّل أنسب ..

3- بأي كلمة متعلّق لفظ "يوم"؟ هناك ثلاثة وجوه ـ الوجه الأوّل أنّه متعلّق بمحذوف وتقديره اذكروا. والوجه الثاني أنّه متعلّق بيبدّل. والوجه الثالث أنّه متعلّق بظلاّم، إلاّ أنّ الأوّل أولى.

4- يراجع ذيل الآية 44 من سورة الإسراء.

5- غير بعيد فيها ثلاثة أوجه إعرابية، فيحتمل أن تكون ظرفاً، كما يحتمل أن تكون حالا، ويحتمل أن تكون صفةً لمحذوف تقديره إزلافاً غير بعيد ..

6- لسان العرب مادّة القلب. ق ل ب.