الآيات 12 - 15

﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوح وَأَصْحَـبُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعُوْنُ وَإِخْوَنُ لُوط (13) وَأَصْحَـبُ الاَْيْكَةِ وَقَوْمُ تُبّع كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيَينَا بِالْخَلْقِ الاَْوَّلِ بَلْ هُمْ فِى لَبْس مِّنْ خَلْق جَدِيد (15)﴾

التّفسير

لست وحدك المبتلى بالعدوّ

تعالج هذه الآيات مسألة المعاد من خلال نوافذ متعدّدة! ففي البداية ومن أجل تثبيت قلب النّبي (ص) وتسليته تقول: لست وحدك المرسل الذي كذّبه الكفّار وكذّبوا محتوى دعواته ولا سيّما المعاد فإنّه: (كذّبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرسّ وثمود)!.

وجماعة "ثمود" هم قوم صالح النّبي العظيم إذ كانوا يقطنون منطقة "الحجر" شمال الحجاز.

أمّا "أصحاب الرسّ" فهناك أقوال عند المفسّرين، فالكثير من المفسّرين يعتقدون أنّهم طائفة كانت تقطن اليمامة، وكان عندهم نبيّ يُدعى حنظلة فكذّبوه.

وألقوه في البئر في آخر الأمر "من معاني الرسّ هو البئر" والمعنى الآخر الأثر اليسير الباقي من الشيء، وقد بقي من هؤلاء القوم الشيء اليسير في ذاكرة التاريخ!.

ويرى بعض المفسّرين أنّهم "قوم شعيب" لأنّهم كانوا يحفرون الآبار، ولكن مع الإلتفات إلى أنّ "أصحاب الأيكة" المذكورين في الآيات التالية هم قوم شعيب أنفسهم ينتفي هذا الإحتمال أيضاً.

وقال بعض المفسّرين: هم بقايا قوم - صالح - أي ثمود، ومع الإلتفات إلى ذكر ثمود على حدة في الآية فإنّ هذا الإحتمال يبدو بعيداً أيضاً.

فعلى هذا يكون التّفسير الأوّل هو الأنسب، وهو ما إشتهر على أقلام المفسّرين وألسنتهم!.

ثمّ يضيف القرآن قائلا: (وعاد وفرعون وإخوان لوط) والمراد بإخوان لوط هم قومه، وقد عبّر القرآن عن لوط بأنّه أخوهم، وهذا التعبير مستعمل في اللغة العربية بشكل عام.

وكذلك من بعدهم: (وأصحاب الأيكة وقوم تُبّع).

والأيكة: معناها الأشجار الكثيرة المتداخلة بعضها ببعض - أو الملتفّة أغصانها - و "أصحاب الأيكة" هم طائفة من قوم شعيب كانوا يقطنون منطقة غير "مدين" وهي منطقة ذات أشجار كثيرة(1)!

والمراد من "قوم تبّع" طائفة من أهل اليمن، لأنّ "تبّع" لقب لملوك اليمن، باعتبار أنّ هؤلاء القوم يتبعون ملوكهم، وظاهر تعبير القرآن هنا وفي آية اُخرى منه (37 - الدخان) هو ملك مخصوص من ملوك اليمن إسمه (أسعد أبو كرب) كما نصّت عليه بعض الرّوايات، ويعتقد جماعة من المفسّرين بأنّه كان رجلا صالحاً مؤمناً يدعو قومه إلى اتّباع الأنبياء، إلاّ أنّهم خالفوه(2).

ثمّ إنّ الآية هذه أشارت إلى جميع من ذكرتهم من الأقوام الثمانية فقالت: (كلٌّ كذّب الرسل فحقّ وعيد).

وما نراه في النصّ من أنّ جميع هؤلاء كذّبوا الرسل والحال أنّ كلّ قوم كذّبوا رسولهم فحسب لأنّ الفعل الصادر منهم جميعاً (التكذيب) نال الأنبياء جميعاً وإن كان كلّ قوم قد كذّبوا نبيّهم وحده في زمانهم.

أو لأنّ تكذيب أحد النّبيين والرسل يعدّ تكذيباً لجميع الرسل، لأنّ محتوى دعوتهم سواء.

وعلى كلّ حال، فإنّ هؤلاء الاُمم كذّبوا أنبياءهم وكذّبوا مسألة المعاد والتوحيد أيضاً، وكانت عاقبة أمرهم نُكراً ووبالا عليهم، فمنهم من اُبتلي بالطوفان، ومنهم من أخذته الصاعقة، ومنهم من غرق بالنيل، ومنهم من خُسفت به الأرض أو غير ذلك، وأخيراً فإنّهم ذاقوا ثمرة تكذيبهم المرّة!! فكن مطمئناً يارسول الله أنّه لو واصل هؤلاء تكذيبهم لك فلن يكونوا أحسن حالا من السابقين.

ثمّ يشير القرآن إلى دليل آخر من دلائل إمكان النشور ويوم القيامة فيقول: (أفعيينا بالخلق الأوّل)(3).

ثمّ يضيف القرآن: إنّهم لا يشكّون ولا يتردّدون في الخلق الأوّل لأنّهم يعلمون أنّ خالق الإنسان هو الله ولكنّهم يشكّون في المعاد مع كلّ تلك الدلائل الواضحة: (بل هم في لبس جديد).

وفي الحقيقة إنّهم في تناقض بسبب هوى النفس والتعصّب الأعمى، فمن جهة يعتقدون بأنّ خالق الناس أوّلا هو الله إذ خلقهم من تراب، إلاّ أنّهم من جهة اُخرى حين يقع الكلام على المعاد وخلق الإنسان ثانية من التراب يعدّون ذلك أمراً عجيباً ولا يمكن تصوّره وقبوله، في حين أنّ الأمرين متماثلان: "وحكم الأمثال في ما يجوز وما لا يجوز واحد".

وهكذا فإنّ القرآن يستدلّ على المعاد في هذه الآيات والآيات الآنفة بأربعة طرق مختلفة، فتارةً عن طريق علم الله، واُخرى عن طريق قدرته، وثالثة عن طريق تكرّر صور المعاد ومشاهده في عالم النباتات، وأخيراً عن طريق الإلتفات إلى الخلق الأوّل.

ومتى ما عُدنا إلى آيات القرآن الاُخر في مجال المعاد وجدنا هذه الأدلّة بالإضافة إلى أدلّة اُخر وردت في آيات مختلفة وبصورة مستقلّة، وقد أثبت القرآن المعاد بالمنطق القويم والتعبير السليم والاُسلوب الرائع (القاطع) للمنكرين وبيّنه بأحسن وجه ..

فلو خضعوا لمنطق العقل وتجنّبوا الأحكام المسبقة والتعصّب الأعمى والتقليد الساذج فسرعان ما يذعنوا لهذه المسألة وسيعلمون بأنّ المعاد أو يوم القيامة ليس أمراً ملتوياً وعسيراً.


1- في الجملة الآنفة إيجاز حذف وتقدير الكلام في تماميته أن يقال "أفعيينا بالخلق الأوّل حتّى نعجز عن الثاني".

2- سورة الأنفال، 24.

3- نور الثقلين، ج5، ص108.