الآيات 1 - 5
﴿ق وَالْقُرْءَانِ الَْمجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَن جَآءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الْكَـفِرُونَ هَذَا شَىْءٌ عَجِيبٌ (2) أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الاَْرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَـبٌ حَفِيظُ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ فَهُمْ فِى أَمْر مَّرِيج(5)﴾
التّفسير
المنكرون المعاندون في أمر مريج!
مرّةً اُخرى نواجه هنا بعض الحروف المقطّعة! وهو الحرف "ق"، وكما قلنا من قبل أنّ واحداً من التفاسير المتينة هو أنّ هذا القرآن على عظمته مؤلّف من حروف بسيطة هي ألف باء الخ..
وهذا يدلّ على أنّ مُبدع القرآن ومنزله لديه علم لا محدود وقدرة مطلقة بحيث خلق هذا التركيب الرفيع العالي من هذه الوسائل البسيطة المألوفة!
وبالطبع فإنّ هناك تفاسير اُخر للحروف المقطّعة ويمكن مراجعتها في بدايات سور "البقرة، آل عمران، الأعراف وسور حم أيضاً".
قال بعض المفسّرين أنّ "ق" إشارة إلى بعض أسماء الله تعالى "كالقادر والقيّوم" وما إلى ذلك من الأسماء المبدوءة بحرف القاف.
كما ورد في كثير من التفاسير أنّ "ق" اسم لجبل عظيم يحيط بالكرة الأرضية!
ولكن أي جبل هو بحيث يحيط بالكرة الأرضية أو مجموع العالم؟! وما المراد منه؟ ليس هنا محلّ الكلام عنه! لكن ما ينبغي ذكره هنا أنّه من البعيد جدّاً أن يكون "ق" في هذه السورة إشارة إلى جبل قاف! لأنّه ليس هذا لا يتناسب مع مواضيع السورة وما ورد فيها فحسب، بل حرف "القاف" هنا كسائر الحروف المقطّعة الواردة في بدايات السور في القرآن، أضف إلى ذلك لو كان "ق" إشارة إلى جبل "قاف" لكان ينبغي أن يقترن بواو القسم كقوله تعالى: والطور وأمثال ذلك، وذكر كلمة ما من دون مبتدأ ولا خبر أو واو القسم لا مفهوم لها.
ثمّ بعد هذا كلّه، فإنّ الرسم القرآني لجميع المصاحف هو ورود الحرف "ق" مفرداً، في حين أنّ جبل "قاف" يُكتب رسمه على هيئة إسمه الكامل "قاف".
ومن جملة الاُمور التي تثبت على أنّ هذا الحرف "ق" هو من الحروف المقطّعة المذكورة لبيان عظمة القرآن هو مجيء القسم مباشرةً - بعد هذا الحرف - بالقرآن المجيد إذ يقول سبحانه: (ق والقرآن المجيد).
كلمة "المجيد" مشتقّة من المجد ومعناها الشرف الواسع، وحيث أنّ القرآن عظمته غير محدودة وشرفه بلا نهاية، فهو جدير بأن يكون مجيداً من كلّ جهة، فظاهره رائق، ومحتواه عظيم، وتعاليمه عالية، ومناهجه مدروسة، تبعث الروح والحياة في نفوس العباد.
ولسائل أن يسأل: ما المراد من ذكر هذا القسم؟ أو ما هو المقسم له؟! هناك بين المفسّرين إحتمالات كثيرة، ولكن مع الإلتفات إلى ما بعد القسم من الآيات فإنّه يبدو أنّ المقصود بالقسم أو جواب القسم هو مسألة النبوّة نبوّة محمّد أو نشور الناس وبعثهم بعد موتهم(1).
ثمّ يبيّن القرآن جانباً من إشكالات الكفّار والمشركين العرب الواهية فيذكر إشكالين منها ..
الأوّل هو حكايته عنهم: (بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب).
وهذا إشكال طالما أشار إليه القرآن وردّ عليه، وتكرار هذا الإشكال يدلّ على أنّه من إشكالات الكفّار الأساسية التي كانوا يكرّروها دائماً!.
ولم يكن النّبي محمّد (ص) وحده قد أشكلوا عليه بهذا الإشكال، فالرسل أيضاً أشكلوا عليهم أيضاً بذلك بقولهم: (إن أنتم إلاّ بشر مثلنا تريدون أن تصدّونا عمّا كان يعبد آباؤنا).(2)
وكانوا يقولون أحياناً: (ما هذا إلاّ بشر مثلكم يأكل ممّا تأكلون منه ويشرب ممّا تشربون).(3)
وربّما أضافوا أحياناً (لولا أُنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً).(4)
إلاّ أنّ جميع هذه الاُمور كانت حِججاً واهية وذريعة لعدم التسليم للحقّ.
والقرآن في هذه الآيات محلّ البحث لا يردّ على هذا الإشكال، لأنّه أجاب عليه مراراً، وهو إن أردنا أن نرسل ملكاً لجعلناه على صورة بشر ..
أي أنّ قادة الناس ينبغي أن يكونوا منهم فحسب ليكونوا قادرين على معرفة همومهم وآلامهم ورغباتهم وحاجاتهم ومسائل حياتهم، وليكونوا اُسوة لهم من الناحية العملية ولئلاّ يقولوا لو كانوا أمثالنا لما ظلّوا طاهرين أنقياء!
فمناهج الملائكة تتناسب معهم ولا تتناسب مع طموحات البشر وآلامهم:
وبعد إشكالهم الأوّل على نبوّة النّبي محمّد (ص) وهو كيف يكون النّبي بشراً؟! كان لهم إشكال آخر على محتوى دعوته ووضعوا أصابع الدهشة على مسألة اُخرى كانت عندهم أمراً غريباً وهي (أإذا متنا وكنّا تراباً ذلك رجع بعيد)(5).
وعلى كلّ حال، كانوا يتصوّرون أنّ العودة للحياة مرّة اُخرى بعيدة لا يصدّقها العقل، بل كانوا يرونها محالا ويعدّون من يقول بها ذا جنّة! كما نقرأ ذلك في الآيتين 7 و8 من سورة سبأ إذ: (قال الذين كفروا هل ندلّكم على رجل ينبئكم إذا مزّقتم كلّ ممزّق إنّكم لفي خلق جديد أفترى على الله كذباً أم به جنّة).
ولم يكن هذا الإشكال الذي أوردوه على النّبي هنا فحسب، بل أشكلوا عليه به عدّة مرّات وسمعوا ردّه عليهم، إلاّ أنّهم كرّروا عليه ذلك عناداً.
وعلى كلّ حال، فإنّ القرآن يردّ عليهم بطرق متعدّدة! فتارةً يشير إلى علم الله الواسع فيقول: (قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ).
إذا كان إشكالكم هو أنّه كيف تجتمع عظام الإنسان النخرة ولحمه الذي صار تراباً وذرّاته التي تبدلّت إلى بخار وغازات متفرّقة في الهواء، ومن يجمعها؟! أو من يعرف عنها شيئاً؟! فجواب ذلك معلوم ..
فالله الذي أحاط بكلّ شيء علماً يعرف جميع هذه الذرّات ويجمعها متى شاء، كما أنّ ذرّات الحديد المتناثرة في تلّ من الرمل يمكن جمعها بقطعة من "المغناطيس" فكذلك جمع ذرّات الإنسان أيسر على الله من ذلك.
وإذا كان إشكالهم أنّه من يحفظ أعمال الإنسان ليوم المعاد، فالجواب على ذلك أنّ جميع أعمال الناس في لوح محفوظ، ولا يضيع أي شيء في هذا العالم، وكلّ شيء - حتّى أعمالكم - سيظلّ باقياً وإن تغيّر شكله.
(الكتاب الحفيظ) معناه الكتاب الذي يحفظ جميع أعمال الناس وغيرها، وهو إشارة إلى "اللوح المحفوظ" الذي بيّنا معناه بتفصيل في ذيل الآية (39) من سورة الرعد.
ثمّ يردّ القرآن عليهم بجواب آخر، وفيه منحى نفسي أكثر إذ يقول: (بل كذّبوا بالحقّ لمّا جاءهم).
أي إنّهم جحدوا الحقّ مع علمهم به، وإلاّ فإنّه لا غبار على الحقّ، وكما سيتّضح في الآيات المقبلة فإنّهم يرون صورة مصغّرة للمعاد بأعينهم مراراً في هذه الدنيا وليس عندهم مجال للشكّ والتردّد!
لذلك فإنّ القرآن يختتم هذه الآية مضيفاً: (فهم في أمر مريج)! فلأنّهم كذّبوا الرسالة فهم دائماً في تناقض في القول وحيرة في العمل وإضطراب في السلوك.
فتارةً يتّهمون النّبي بأنّه مجنون أو أنّه شاعر أو كاهن.
وتارةً يعبّرون عن كلماته بأنّها "أساطير الأوّلين".
وتارةً يقولون بأنّه يعلّمه بشر.
وتارةً يقولون عنه بأنّه ساحر لنفوذ كلماته في القلوب.
وتارةً يقولون بأنّنا نستطيع أن نأتي بمثله.
وهذه الكلمات المتفرّقة والمتناقضة تدلّ على أنّهم فهموا الحقّ، إلاّ أنّهم يتذرّعون بحجج واهية شتّى، ولذلك لا يقرّون على كلام واحد أبداً.
وكلمة "مريج" مشتقّة من مرج - على زنة حرج - ومعناها الأمر المختلط والمشتبه والمشوش، ولذلك فقد أطلقوا على الأرض التي تكثر فيها النباتات المختلفة والمتعدّدة بأنّها "مرج" أو "مرتع".
1- سورة المؤمنون، 33.
2- سورة الفرقان، 7.
3- جواب إذا محذوف ويعرف من الجملة التالية وتقديرها: "أإذا متنا وكنّا تراباً نرجع ونردّ أحياء ذلك رجع بعيد".
4- كنّا قد بحثنا فوائد إيجاد الجبال واتّساع الأرض وبسطها وزوجية النباتات بحثاً مفصّلا في سورة الرعد ذيل الآية (3).
5- يمكن أن تكون تبصرة مفعولا لأجله كما يمكن أن تكون مفعولا مطلقاً .. إلاّ أنّ الإحتمال الأوّل أنسب، ومثل هذا يقع الكلام على كلمة "ذكرى".