الآيات 105 - 126

إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا ﴿105﴾ وَاسْتَغْفِرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ﴿106﴾ وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا ﴿107﴾ يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا ﴿108﴾ هَاأَنتُمْ هَؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً ﴿109﴾ وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا ﴿110﴾ وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴿111﴾ وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا ﴿112﴾ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّآئِفَةٌ مُّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاُّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ﴿113﴾ لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴿114﴾ وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا ﴿115﴾ إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا ﴿116﴾ إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا ﴿117﴾ لَّعَنَهُ اللّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا ﴿118﴾ وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا ﴿119﴾ يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا ﴿120﴾ أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا ﴿121﴾ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً ﴿122﴾ لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا ﴿123﴾ وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ﴿124﴾ وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً ﴿125﴾ وَللّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطًا ﴿126﴾

بيان:

الذي يفيده التدبر في الآيات أنها ذات سياق واحد تتعرض للتوصية بالعدل في القضاء، والنهي عن أن يميل القاضي في قضائه، والحاكم في حكمه إلى المبطلين، ويجور على المحقين كائنين من كانوا.

وذلك بالإشارة إلى بعض الحوادث الواقعة عند نزول الآيات، ثم البحث فيما يتعلق بذلك من الحقائق الدينية والأمر بلزومها ورعايتها، وتنبيه المؤمنين أن الدين إنما هو حقيقة لا اسم، وإنما ينفع التلبس به دون التسمي.

والظاهر أن هذه القصة هي التي يشير إليها قوله تعالى ﴿ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا﴾ حيث يدل على أنه كان هناك شيء من المعاصي التي تقبل الرمي كسرقة أو قتل أو إتلاف أو إضرار ونحوها، وأنه كان من المتوقع أن يهتموا بإضلال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حكمه والله عاصمه.

والظاهر أن هذه القصة أيضا هي التي تشير إليها الآيات الأول كما في قوله تعالى ﴿ولا تكن للخائنين خصيما﴾ الآية وقوله ﴿يستخفون من الناس﴾ الآية وقوله ﴿ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم﴾ إلخ فإن الخيانة وإن كان ظاهرها ما يكون في الودائع والأمانات لكن سياق قوله ﴿إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما يستخفون من الناس﴾ كما سيجيء بيانه يعطي أن المراد بها ما يتحقق في سرقة ونحوها بعناية أن المؤمنين كنفس واحدة، وما لبعضهم من المال مسئول عنه البعض الآخر من حيث رعاية احترامه، والاهتمام بحفظه وحمايته، فتعدى بعضهم إلى مال البعض خيانة منهم لأنفسهم.

فالتدبر يقرب أن القصة كأنها سرقة وقعت من بعضهم ثم رفع الأمر إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فرمى بها السارق غيره ممن هو بريء منها، ثم ألح قوم السارق عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقضي لهم، وبالغوا في أن يغيروه (صلى الله عليه وآله وسلم) على المتهم البريء فأنزلت الآيات وبرأه الله مما قالوا.

فالآيات أشد انطباقا على ما روي في سبب النزول من قصة سرقة أبي طعمة بن الأبيرق، وإن كانت أسباب النزول - كما سمعت مرارا - في أغلب ما رويت من قبيل تطبيق القصص المأثورة على ما يناسبها من الآيات القرآنية.

ويستفاد من الآيات حجية قضائه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعصمته وحقائق أخر سيأتي بيانها إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: ﴿إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله﴾ ظاهر الحكم بين الناس هو القضاء بينهم في مخاصماتهم ومنازعاتهم مما يرجع إلى الأمور القضائية ورفع الاختلافات بالحكم، وقد جعل الله تعالى الحكم بين الناس غاية لإنزال الكتاب فينطبق مضمون الآية على ما يتضمنه قوله تعالى ﴿كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه﴾ البقرة: 213 وقد مر تفصيل القول فيه.

فهذه الآية إنا أنزلنا إليك الكتاب إلخ في خصوص موردها نظيرة تلك الآية كان الناس أمة واحدة، في عمومها، وتزيد عليها في أنها تدل على جعل حق الحكم لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والحجية لرأيه ونظره فإن الحكم وهو القطع في القضاء وفصل الخصومة لا ينفك عن إعمال نظر من القاضي الحاكم وإظهار عقيدة منه مضافا إلى ما عنده من العلم بالأحكام العامة والقوانين الكلية في موارد الخصومة فإن العلم بكليات الأحكام وحقوق الناس أمر، والقطع والحكم بانطباق مورد النزاع على بعضها دون بعض أمر آخر.

فالمراد بالإراءة في قوله ﴿لتحكم بين الناس بما أراك الله﴾ إيجاد الرأي وتعريف الحكم لا تعليم الأحكام والشرائع كما احتمله بعضهم.

ومضمون الآية على ما يعطيه السياق أن الله أنزل إليك الكتاب وعلمك أحكامه وشرائعه وحكمه لتضيف إليها ما أوجد لك من الرأي وعرفك من الحكم فتحكم بين الناس، وترفع بذلك اختلافاتهم.

قوله تعالى: ﴿ولا تكن للخائنين خصيما﴾ عطف على ما تقدمه من الجملة الخبرية لكونها في معنى الإنشاء كأنه قيل: فاحكم بينهم ولا تكن للخائنين خصيما.

والخصيم هو الذي يدافع عن الدعوى وما في حكمها، وفيه نهيه (صلى الله عليه وآله وسلم) عن أن يكون خصيما للخائنين على من يطالبهم بحقوقه فيدافع عن الخائنين ويبطل حقوق المحقين من أهل الدعوى.

وربما أمكن أن يستفاد من عطف قوله ﴿ولا تكن للخائنين﴾ على ما تقدمه وهو أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) أمرا مطلقا بالحكم أن المراد بالخيانة مطلق التعدي على حقوق الغير ممن لا ينبغي منه ذلك لا خصوص الخيانة للودائع وإن كان ربما عطف الخاص على العام لعناية ما بشأنه لكن المورد كالخالي عن العناية، وسيجيء لهذا الكلام تتمة.

قوله تعالى: ﴿واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما﴾ الظاهر أن الاستغفار هاهنا هو أن يطلب من الله سبحانه الستر على ما في طبع الإنسان من إمكان هضم الحقوق والميل إلى الهوى ومغفرة ذلك، وقد مر مرارا أن العفو والمغفرة يستعملان في كلامه تعالى في شئون مختلفة يجمعها جامع الذنب، وهو التباعد من الحق بوجه.

فالمعنى - والله أعلم - ولا تكن للخائنين خصيما ولا تمل إليهم، واطلب من الله سبحانه أن يوفقك لذلك ويستر على نفسك أن تميل إلى الدفاع عن خيانتهم ويتسلط عليك هوى النفس.

والدليل على إرادة ذلك ما في ذيل الآيات ﴿الكريمة ولو لا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء﴾ فإن الآية تنص على أنهم لا يضرون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وإن بذلوا غاية جهدهم في تحريك عواطفه إلى إيثار الباطل وإظهاره على الحق فالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في أمن إلهي من الضرر، والله يعصمه فهو لا يجور في حكمه ولا يميل إلى الجور، ولا يتبع الهوى، ومن الجور والميل إلى الهوى المذموم أن يفرق في حكمه بين قوي وضعيف، أو صديق وعدو، أو مؤمن وكافر ذمي، أو قريب وبعيد، فأمره بأن يستغفر ليس لصدور ذنب ذي وبال وتبعة منه، ولا لإشرافه على ما لا يحمد منه بل ليسأل من الله أن يظهره على هوى النفس، ولا ريب في حاجته في ذلك إلى ربه وعدم استغنائه عنه وإن كان على عصمة، فإن لله سبحانه أن يفعل ما يشاء.

وهذه العصمة مدار عملها ما يعد طاعة ومعصية، وما يحمد أو يذم عليه من الأعمال لا ما هو الواقع الخارجي، وبعبارة أخرى الآيات تدل على أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) في أمن من اتباع الهوى، والميل إلى الباطل، وأما إن الذي يحكم ويقضي به بما شرعه من القواعد وقوانين القضاء الظاهرية كقوله ﴿البينة على المدعي واليمين على من أنكر﴾ ونحو ذلك يصادف دائما ما هو الحق في الواقع فينتج دائما غلبة المحق، ومغلوبية المبطل في دعواه، فالآيات لا تدل على ذلك أصلا، ولا أن القوانين الظاهرية في استطاعتها أن تهدي إلى ذلك قطعا فإنها أمارات مميزة بين الحق والباطل غالبا لا دائما، ولا معنى لاستلزام الغالب الدائم وهو ظاهر.

ومما تقدم يظهر ما في كلام بعض المفسرين حيث ذكر في قوله تعالى ﴿واستغفر الله﴾ إنه أمر بالاستغفار عما هم به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الدفاع والذب عن هذا الخائن المذكور في الآية، وقد سأله قومه أن يدفع عنه ويكون خصيما له على يهودي.

وذلك أن هذا القدر أيضا تأثير منهم بأثر مذموم، وقد نفى الله سبحانه عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كل ضرر.

قوله تعالى ﴿ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم﴾ قيل: إن نسبة الخيانة إلى النفس لكون وبالها راجعا إليها، أو يعد كل معصية خيانة للنفس كما عد ظلما لها، وقد قال تعالى ﴿علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم﴾ البقرة: 187.

ويمكن أن يستفاد من الآية بمعونة ما يدل عليه القرآن من أن المؤمنين كنفس واحدة، وأن مال الواحد منهم مال لجميعهم يجب على الجميع حفظه وصونه عن الضيعة والتلف، كون تعدي بعضهم على بعض بسرقة ونحوها اختيانا لأنفسهم.

وفي قوله تعالى ﴿إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما﴾ دلالة على استمرار هؤلاء الخائنين في خيانتهم، ويؤكده قوله ﴿أثيما﴾ فإن الأثيم آكد في المعنى من الإثم وهو صفة مشبهة تدل على الثبوت.

على أن قوله ﴿يختانون أنفسهم﴾ لا تخلو عن دلالة على الاستمرار، وكذا قوله ﴿للخائنين﴾ حيث عبر بالوصف ولم يعبر بمثل قولنا: للذين خانوا، كما عبر بذلك في قوله ﴿فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم﴾ الأنفال: 71.

فمن هذه القرائن وأمثالها يظهر أن معنى الآية - بالنظر إلى مورد النزول -: ولا تكن خصيما لهؤلاء، ولا تجادل عنهم فإنهم مصرون على الخيانة مبالغون فيها ثابتون على الإثم، والله لا يحب من كان خوانا أثيما.

وهذا يؤيد ما ورد في أسباب النزول من نزول الآيات في أبي طعمة بن الأبيرق،

كما سيجيء.

ومعنى الآية - مع قطع النظر عن المورد -: ولا تدافع في قضائك عن المصرين على الخيانة المستمرين عليها، فإن الله لا يحب الخوان الأثيم، وكما أنه تعالى لا يحب كثير الخيانة لا يحب قليلها، ولو أمكن أن يحب قليلها أمكن أن يحب كثيرها وإذا كان كذلك فالله ينهى أن يدافع عن قليل الخيانة كما ينهى عن أن يدافع عن كثيرها وأما من خان في أمر ثم نازع في أمر آخر وهو محق في نزاعه، فالدفاع عنه دفاع غير محظور ولا ممنوع منه، ولا ينهى عنه قوله ﴿ولا تكن للخائنين خصيما﴾ الآية.

قوله تعالى: ﴿يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله﴾ وهذا أيضا من الشواهد على ما قدمناه من أن الآيات 105- 126 جميعا ذات سياق واحد، نازلة في قصة واحدة، وهي التي يشير إليها قوله ﴿ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا﴾ الآية، وذلك أن الاستخفاء إنما يناسب الأعمال التي يمكن أن يرمى بها الغير كالسرقة وأمثال ذلك فيتأيد به أن الذي تشير إليه هذه الآية وما تقدمها من الآيات هو الذي يشير إليه قوله ﴿ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به﴾ الآية.

والاستخفاء من الله أمر غير مقدور إذ لا يخفى على الله شيء في الأرض ولا في السماء فطرفه المقابل له أعني عدم الاستخفاء أيضا أمر اضطراري غير مقدور، وإذا كان غير مقدور لم يتعلق به لوم ولا تعيير كما هو ظاهر الآية.

لكن الظاهر أن الاستخفاء كناية عن الاستحياء ولذلك قيد قوله ﴿ولا يستخفون من الله﴾ أولا بقوله ﴿وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول﴾ فدل على أنهم كانوا يدبرون الحيلة ليلا للتبري من هذه الخيانة المذمومة، ويبيتون في ذلك قولا لا يرضى به الله سبحانه ثم قيده ثانيا بقوله ﴿وكان الله بما يعملون محيطا﴾ ودل على إحاطته تعالى بهم في جميع الأحوال ومنها حال الجرم الذي أجرموه، والتقييد بهذين القيدين أعني قوله ﴿وهو معهم﴾ وقوله ﴿وكان الله﴾ تقييد بالعام بعد الخاص، وهو في الحقيقة تعليل لعدم استخفائهم من الله بعلة خاصة ثم بأخرى عامة.

قوله تعالى: ﴿هاأنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا﴾ الآية بيان لعدم الجدوى في الجدال عنهم، وأنهم لا ينتفعون بذلك في صورة الاستفهام والمراد أن الجدال عنهم لو نفعهم فإنما ينفعهم في الحياة الدنيا، ولا قدر لها عند الله، وأما الحياة الأخروية التي لها عظيم القدر عند الله أو ظرف الدفاع فيها يوم القيامة فلا مدافع هناك عن الخائنين ولا مجادل عنهم بل لا وكيل لهم يومئذ يتكفل تدبير أمورهم وإصلاح شئونهم.

قوله تعالى. ﴿ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه﴾ الآية فيه ترغيب وحث لأولئك الخائنين أن يرجعوا إلى ربهم بالاستغفار، والظاهر أن الترديد بين السوء وظلم النفس والتدرج من السوء إلى الظلم لكون المراد بالسوء التعدي على الغير، وبالظلم التعدي على النفس، أو أن السوء أهون من الظلم كالمعصية الصغيرة بالنسبة إلى الكبيرة، والله أعلم.

وهذه الآية والآيتان بعدها جميعا كلام مسوق لغرض واحد، وهو بيان أمر الإثم الذي يكسبه الإنسان بعمله، يتكفل كل واحدة من الآيات الثلاث بيان جهة من جهاته، فالآية الأولى تبين أن المعصية التي يقترفها الإنسان فيتأثر بتبعتها نفسه وتكتب في كتاب أعماله، للعبد أن يتوب إلى الله منها ويستغفره فلو فعل ذلك وجد الله غفورا رحيما.

والآية الثانية تذكر الإنسان أن الإثم الذي يكسبه إنما يكسبه على نفسه وليس بالذي يمكن أن يتخطاه ويلحق غيره برمي أو افتراء ونحو ذلك.

والآية الثالثة توضح أن الخطيئة أو الإثم الذي يكسبه الإنسان لو رمى به بريئا غيره كان الرمي به إثما آخر وراء أصل الخطيئة أو الإثم.

قوله تعالى: ﴿ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما﴾ قد تقدم أن الآية مرتبطة مضمونا بالآية التالية المتعرضة للرمي بالخطيئة والإثم فهذه كالمقدمة لتلك، وعلى هذا فقوله ﴿فإنما يكسبه على نفسه﴾ مسوق لقصر التعيين، وفي الآية عظة لمن يكسب الإثم ثم يرمي به بريئا غيره.

والمعنى - والله أعلم - أنه يجب على من يكسب إثما أن يتذكر أن ما يكسبه من الإثم فإنما يكسبه على نفسه لا على غيره، وأنه هو الذي فعله لا غيره وإن رماه به أو تعهد له هو أن يحمل إثمه وكان الله عليما يعلم أنه فعل هذا الكاسب، وأنه الذي فعله لا غيره المرمي به، حكيما لا يؤاخذ بالإثم إلا آثمه، وبالوزر غير وازرتها كما قال تعالى: ﴿لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت﴾ البقرة: 286، وقال: ﴿ولا تزر وازرة وزر أخرى﴾ الأنعام: 164 وقال: ﴿وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون﴾ العنكبوت: 12.

قوله تعالى: ﴿ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا﴿، قال الراغب في المفردات، إن من أراد شيئا فاتفق منه غيره يقال: أخطأ وإن وقع منه كما أراده يقال أصاب، وقد يقال لمن فعل فعلا لا يحسن أو أراد إرادة لا تجمل: إنه أخطأ.

ولهذا يقال: أصاب الخطأ، وأخطأ الصواب، وأصاب الصواب، وأخطأ الخطأ.

وهذه اللفظة مشتركة كما ترى، مترددة بين معان يجب لمن يتحرى الحقائق أن يتأملها.

قال: والخطيئة والسيئة تتقاربان لكن الخطيئة أكثر ما تقال فيما لا يكون مقصودا إليه في نفسه بل يكون القصد سببا لتولد ذلك الفعل منه كمن يرمي صيدا فأصاب إنسانا، أو شرب مسكرا فجنى جناية في سكره، والسبب سببان: سبب محظور فعله كشرب المسكر وما يتولد عنه من الخطأ غير متجاف عنه، وسبب غير محظور كرمي الصيد، قال تعالى:، ﴿ليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم﴾ وقال تعالى: ﴿ومن يكسب خطيئة أو إثما﴾ فالخطيئة هاهنا هي التي لا تكون عن قصد إلى فعلها انتهى.

وأظن أن الخطيئة من الأوصاف التي استغني عن موصوفاتها بكثرة الاستعمال كالمصيبة والرزية والسليقة ونحوها، ووزن فعيل يدل على اختزان الحدث واستقراره، فالخطيئة هي العمل الذي اختزن واستقر فيه الخطأ والخطأ، الفعل الواقع الذي لا يقصده الإنسان كقتل الخطأ، هذا في الأصل، ثم وسع إلى ما لا ينبغي للإنسان أن يقصده لو كانت نفسه على سلامتها الفطرية، فكل معصية وأثر معصية من مصاديق الخطأ على هذا التوسع، والخطيئة هي العمل أو أثر العمل الذي لم يقصده الإنسان ولا يعد حينئذ معصية أو لم يكن ينبغي أن يقصده ويعد حينئذ معصية أو وبال معصية.

لكن الله سبحانه لما نسبها في قوله ﴿ومن يكسب خطيئة﴾ إلى الكسب كان المراد بها الخطيئة التي هي المعصية، فالمراد بالخطيئة في الآية هي التي تكون عن قصد إلى فعلها وإن كان من شأنها أن لا يقصد إليها.

وقد مر في قوله تعالى ﴿قل فيهما إثم﴾ البقرة: 219 أن الإثم هو العمل الذي يوجب بوباله حرمان الإنسان عن خيرات كثيرة كشرب الخمر والقمار والسرقة مما يصد الإنسان عن حيازة الخيرات الحيوية، ويوجب انحطاطا اجتماعيا يسقط الإنسان عن وزنه الاجتماعي ويسلب عنه الاعتماد والثقة العامة.

وعلى هذا فاجتماع الخطيئة والإثم على نحو الترديد ونسبتهما جميعا إلى الكسب في قوله ﴿ومن يكسب خطيئة أو إثما﴾ الآية يوجب اختصاص كل منهما بما يختص به من المعنى، والمعنى - والله أعلم -: أن من يكسب معصية لا تتجاوز موردها وبالا كترك بعض الواجبات كالصوم أو فعل بعض المحرمات كأكل الدم أو يكسب معصية يستمر وبالها كقتل النفس من غير حق والسرقة ثم يرم بها بريئا بنسبتها إليه فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا.

وفي تسمية نسبة العمل السيىء إلى الغير رميا - والرمي يستعمل في مورد السهم - وكذا في إطلاق الاحتمال على قبول وزر البهتان استعارة لطيفة كان المفتري يفتك بالمتهم البريء برميه بالسهم فيوجب له فتكه أن يتحمل حملا يشغله عن كل خير مدى حياته من غير أن يفارقه.

ومن ما تقدم يظهر وجه اختلاف التعبير عن المعصية في الآيات الكريمة تارة بالإثم وأخرى بالخطيئة والسوء والظلم والخيانة والضلال، فكل واحد من هذه الألفاظ هو المناسب بمعناه لمحله الذي حل فيه.

قوله تعالى: ﴿ولو لا فضل الله عليك ورحمته لهمت﴾ إلى آخر الآية السياق يدل على أن المراد بهمهم بإضلال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو همهم أن يرضوه بالدفاع عن الذين سماهم الله تعالى في صدر الآيات بالخائنين والجدال عنهم وعلى هذا فالمراد بهذه الطائفة أيضا هم الذين عدل الله سبحانه إلى خطابهم بقوله ﴿ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا﴾ الآية وينطبق على قوم أبي طعمة على ما سيجيء.

وأما قوله ﴿وما يضلون إلا أنفسهم﴾ فالمراد به بقرينة قوله بعده ﴿وما يضرونك من شيء﴾ إن إضلال هؤلاء لا يتعدى أنفسهم ولا يتجاوزهم إليك، فهم الضالون بما هموا به لأنه معصية وكل معصية ضلال.

ولهذا الكلام معنى آخر تقدمت الإشارة إليه في الكلام على قوله ﴿وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون﴾ آل عمران: 69 في الجزء الثالث من هذا الكتاب، لكنه لا يناسب هذا المقام.

وأما قوله ﴿وما يضرونك من شيء وأنزل الله عليك﴿، ففيه نفي إضرارهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نفيا مطلقا غير أن ظاهر السياق أنه مقيد بقوله ﴿وأنزل الله عليك الكتاب﴾ على أن يكون جملة حالية عن الضمير في قوله ﴿يضرونك﴾ وإن كان الأغلب مقارنة الجملة الفعلية المصدرة بالماضي بقد على ما ذكره النحاة، وعلى هذا فالكلام مسوق لنفي إضرار الناس مطلقا بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في علم أو عمل.

قوله تعالى: ﴿وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم﴿، ظاهر الكلام كما أشرنا إليه أنه في مقام التعليل لقوله ﴿وما يضرونك من شيء﴾ أو لمجموع قوله ﴿وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء﴾ وكيف كان فهذا الإنزال والتعليم هو المانع من تأثيرهم في إضلاله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فهو الملاك في عصمته.

كلام في معنى العصمة:

ظاهر الآية أن الأمر الذي تتحقق به العصمة نوع من العلم يمنع صاحبه عن التلبس بالمعصية والخطأ، وبعبارة أخرى علم مانع عن الضلال، كما أن سائر الأخلاق كالشجاعة والعفة والسخاء كل منها صورة علمية راسخة موجبة لتحقق آثارها، مانعة عن التلبس بأضدادها من آثار الجبن والتهور والخمود والشره والبخل والتبذير.

والعلم النافع والحكمة البالغة وإن كانا يوجبان تنزه صاحبهما عن الوقوع في مهالك الرذائل، والتلوث بأقذار المعاصي، كما نشاهده في رجال العلم والحكمة والفضلاء من أهل التقوى والدين، غير أن ذلك سبب غالبي كسائر الأسباب الموجودة في هذا العالم المادي الطبيعي فلا تكاد تجد متلبسا بكمال يحجزه كماله من النواقص ويصونه عن الخطإ صونا دائميا من غير تخلف، سنة جارية في جميع الأسباب التي نراها ونشاهدها.

والوجه في ذلك أن القوى الشعورية المختلفة في الإنسان يوجب بعضها ذهوله عن حكم البعض الآخر أو ضعف التفاته إليه كما أن صاحب ملكة التقوى ما دام شاعرا بفضيلة تقواه لا يميل إلى اتباع الشهوة غير المرضية، ويجري على مقتضى تقواه، غير أن اشتعال نار الشهوة وانجذاب نفسه إلى هذا النحو من الشعور ربما حجبه عن تذكر فضيلة التقوى أو ضعف شعور التقوى فلا يلبث دون أن يرتكب ما لا يرتضيه التقوى ويختار سفساف الشره، وعلى هذا السبيل سائر الأسباب الشعورية في الإنسان وإلا فالإنسان لا يحيد عن حكم سبب من هذه الأسباب ما دام السبب قائما على ساق، ولا مانع يمنع من تأثيره، فجميع هذه التخلفات تستند إلى مغالبة التقوى والأسباب، وتغلب بعضها على بعض.

ومن هنا يظهر أن هذه القوة المسماة بقوة العصمة سبب شعوري علمي غير مغلوب البتة، ولو كانت من قبيل ما نتعارفه من أقسام الشعور والإدراك لتسرب إليها التخلف، وخبطت في أثرها أحيانا، فهذا العلم من غير سنخ سائر العلوم والإدراكات المتعارفة التي تقبل الاكتساب والتعلم.

وقد أشار الله تعالى إليه في خطابه الذي خص به نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله ﴿وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم﴾ وهو خطاب خاص لا نفقهه حقيقة الفقه إذ لا ذوق لنا في هذا النحو من العلم والشعور غير أن الذي يظهر لنا من سائر كلامه تعالى بعض الظهور كقوله ﴿قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك﴾ البقرة: 97 وقوله ﴿نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين﴾ الشعراء: 195 أن الإنزال المذكور من سنخ العلم، ويظهر من جهة أخرى أن ذلك من قبيل الوحي والتكليم كما يظهر من قوله ﴿شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى﴾ الشورى: 13 وقوله ﴿إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده﴾ النساء: 163 وقوله ﴿إن أتبع إلا ما يوحى إلي﴾ الأنعام: 50، وقوله ﴿إنما أتبع ما يوحى إلي﴾ الأعراف: 203.

ويستفاد من الآيات على اختلافها أن المراد بالإنزال هو الوحي وحي الكتاب والحكمة وهو نوع تعليم إلهي لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) غير أن الذي يشير إليه بقوله ﴿وعلمك ما لم تكن تعلم﴾ ليس هو الذي علمه بوحي الكتاب والحكمة فقط فإن مورد الآية قضاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الحوادث الواقعة والدعاوي التي ترفع إليه برأيه الخاص، وليس ذلك من الكتاب والحكمة بشيء وإن كان متوقفا عليهما بل رأيه ونظره الخاص به.

ومن هنا يظهر أن المراد بالإنزال والتعليم في قوله ﴿وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم﴾ نوعان اثنان من العلم، أحدهما التعليم بالوحي ونزول الروح الأمين على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والآخر: التعليم بنوع من الإلقاء في القلب والإلهام الخفي الإلهي من غير إنزال الملك وهذا هو الذي تؤيده الروايات الواردة في علم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

وعلى هذا فالمراد بقوله ﴿وعلمك ما لم تكن تعلم﴾ آتاك نوعا من العلم لو لم يؤتك إياه من لدنه لم يكفك في إيتائه الأسباب العادية التي تعلم الإنسان ما يكتسبه من العلوم.

فقد بان من جميع ما قدمناه أن هذه الموهبة الإلهية التي نسميها قوة العصمة نوع من العلم والشعور يغاير سائر أنواع العلوم في أنه غير مغلوب لشيء من القوى الشعورية البتة بل هي الغالبة القاهرة عليها المستخدمة إياها، ولذلك كانت تصون صاحبها من الضلال والخطيئة مطلقا، وقد ورد في الروايات أن للنبي والإمام روحا تسمى روح القدس تسدده وتعصمه عن المعصية والخطيئة، وهي التي يشير إليها قوله تعالى ﴿وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا﴾ الشورى: 52 بتنزيل الآية على ظاهرها من إلقاء كلمة الروح المعلمة الهادية إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ونظيره قوله تعالى ﴿وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين﴾ الأنبياء: 73 بناء على ما سيجيء من بيان معنى الآية إن شاء الله العزيز أن المراد به تسديد روح القدس الإمام بفعل الخيرات وعبادة الله سبحانه.

وبان مما مر أيضا أن المراد بالكتاب في قوله ﴿وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم﴾ هو الوحي النازل لرفع اختلافات الناس على حد قوله تعالى ﴿كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه﴾ البقرة: 213 وقد تقدم بيانه في الجزء الثاني من هذا الكتاب.

والمراد بالحكمة سائر المعارف الإلهية النازلة بالوحي، النافعة للدنيا والآخرة، والمراد بقوله ﴿وعلمك ما لم تكن تعلم﴾ غير المعارف الكلية العامة من الكتاب والحكمة.

وبذلك يظهر ما في كلمات بعض المفسرين في تفسير الآية.

فقد فسر بعضهم الكتاب بالقرآن، والحكمة بما فيه من الأحكام، و﴿ما لم تكن تعلم﴾ بالأحكام والغيب وفسر بعضهم الكتاب والحكمة بالقرآن والسنة، و﴿ما لم تكن تعلم﴾ بالشرائع وأنباء الرسل الأولين وغير ذلك من العلوم إلى غير ذلك مما ذكروه، وقد تبين وجه ضعفها بما مر فلا نعيد.

قوله تعالى: ﴿وكان فضل الله عليك عظيما﴾ امتنان على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

قوله تعالى: ﴿لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس﴾ قال الراغب: وناجيته أي ساررته وأصله أن تخلو به في نجوة من الأرض انتهى فالنجوى المسارة في الحديث، وربما أطلق على نفس المتناجين قال تعالى: ﴿وإذ هم نجوى﴾ الإسراء: 47 أي متناجون.

وفي الكلام أعني قوله ﴿لا خير في كثير من نجواهم﴾ عود إلى ما تقدم من قوله تعالى ﴿إذ يبيتون ما لا يرضى من القول﴾ الآية بناء على اتصال الآيات وقد عمم البيان لمطلق المسارة في القول سواء كان ذلك بطريق التبييت أو بغيره لأن الحكم المذكور وهو انتفاء الخير فيه إنما هو لمطلق المسارة وإن لم تكن على نحو التبييت، ونظيره قوله ﴿ومن يشاقق﴾ دون أن يقول: ومن يناج للمشاقة، لأن الحكم المذكور لمطلق المشاقة أعم من أن يكون نجوى أو لا.

وظاهر الاستثناء أنه منقطع، والمعنى: لكن من أمر بكذا وكذا فيه ففيما أمر به شيء من الخير، وقد سمى دعوة النجوى إلى الخير أمرا وذلك من قبيل الاستعارة، وقد عد تعالى هذا الخير الذي يأمر به النجوى ثلاثة: الصدقة، والمعروف، والإصلاح بين الناس.

ولعل إفراد الصدقة عن المعروف مع كونها من أفراده لكونها الفرد الكامل في الاحتياج إلى النجوى بالطبع، وهو كذلك غالبا.

قوله تعالى: ﴿ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله﴾ تفصيل لحال النجوى ببيان آخر من حيث التبعة من المثوبة والعقوبة ليتبين به وجه الخير فيما هو خير من النجوى، وعدم الخير فيما ليس بخير منه.

ومحصله أن فاعل النجوى على قسمين: أحدهما من يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله، ولا محالة ينطبق على ما يدعو إلى معروف أو إصلاح بين الناس تقربا إلى الله، وسوف يثيبه الله سبحانه بعظيم الأجر، وثانيهما أن يفعل ذلك لمشاقة الرسول واتخاذ طريق غير طريق المؤمنين وسبيلهم، وجزاؤه الإملاء والاستدراج الإلهي ثم إصلاء جهنم وساءت مصيرا.

قوله تعالى: ﴿ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين﴾ ، المشاقة من الشق وهو القطعة المبانة من الشيء فالمشاقة والشقاق كونك في شق غير شق صاحبك، وهو كناية عن المخالفة، فالمراد بمشاقة الرسول بعد تبين الهدى مخالفته وعدم إطاعته، وعلى هذا فقوله ﴿ويتبع غير سبيل المؤمنين﴾ بيان آخر لمشاقة الرسول، والمراد بسبيل المؤمنين إطاعة الرسول فإن طاعته طاعة الله قال تعالى: ﴿من يطع الرسول فقد أطاع الله﴾ النساء: 80.

فسبيل المؤمنين بما هم مجتمعون على الإيمان هو الاجتماع على طاعة الله ورسوله - وإن شئت فقل على طاعة رسوله - فإن ذلك هو الحافظ لوحدة سبيلهم كما قال تعالى: ﴿وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا﴾ آل عمران: 103 وقد تقدم الكلام في الآية في الجزء الثالث من هذا الكتاب، وقال تعالى: ﴿وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون﴾ الأنعام: 153 وإذا كان سبيله سبيل التقوى، والمؤمنون هم المدعوون إليه فسبيلهم مجتمعين سبيل التعاون على التقوى كما قال تعالى: ﴿وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان﴾ المائدة: 2 والآية - كما ترى - تنهى عن معصية الله وشق عصا الاجتماع الإسلامي، وهو ما ذكرناه من معنى سبيل المؤمنين.

فمعنى الآية أعني قوله ﴿ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين﴾ يعود إلى معنى قوله ﴿يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وتناجوا بالبر والتقوى﴾ المجادلة: 9.

وقوله ﴿نوله ما تولى﴾ أي نجره على ما جرى عليه، ونساعده على ما تلبس به من اتباع غير سبيل المؤمنين كما قال تعالى: ﴿كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا﴾ الإسراء: 20.

وقوله ﴿ونصله جهنم وساءت مصيرا﴾ عطفه بالواو يدل على أن الجميع أي توليته ما تولى وإصلاءه جهنم أمر واحد إلهي بعض أجزائه دنيوي وهو توليته ما تولى، وبعضها أخروي وهو إصلاؤه جهنم وساءت مصيرا.

قوله تعالى: ﴿إن الله لا يغفر أن يشرك به﴾ إلى آخر الآية ظاهر الآية أنها في مقام التعليل لقوله في الآية السابقة ﴿نوله ما تولى ونصله جهنم﴿، بناء على اتصال الآيات فالآية تدل على أن مشاقة الرسول شرك بالله العظيم، وأن الله لا يغفر أن يشرك به، وربما استفيد ذلك من قوله تعالى ﴿إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا وسيحبط أعمالهم يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم﴾ محمد: 34 فإن ظاهر الآية الثالثة أنها تعليل لما في الآية الثانية من الأمر بطاعة الله وطاعة رسوله فيكون الخروج عن طاعة الله وطاعة رسوله كفرا لا يغفر أبدا، وهو الشرك.

والمقام يعطي أن إلحاق قوله ﴿ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء﴾ بقوله ﴿إن الله لا يغفر أن يشرك به﴾ إنما هو لتتميم البيان، وإفادة عظمة هذه المعصية المشئومة أعني مشاقة الرسول، وقد تقدم بعض الكلام في الآية في آخر الجزء الرابع من هذا الكتاب.

قوله تعالى: ﴿إن يدعون من دونه إلا إناثا﴾ الإناث جمع أنثى يقال: أنث الحديد أنثا أي انفعل ولان، وأنث المكان أسرع في الإنبات وجاد، ففيه معنى الانفعال والتأثر، وبذلك سميت الأنثى من الحيوان أنثى وقد سميت الأصنام وكل معبود من دون الله إناثا لكونها قابلات منفعلات ليس في وسعها أن تفعل شيئا مما يتوقعه عبادها منها - كما قيل - قال تعالى: ﴿إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز﴾ الحج: 74 وقال: ﴿واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا﴾ الفرقان: 3.

فالظاهر أن المراد بالأنوثة الانفعال المحض الذي هو شأن المخلوق إذا قيس إلى الخالق عز اسمه، وهذا الوجه أولى مما قيل: إن المراد هو اللات والعزى ومنات الثالثة ونحوها، وقد كان لكل حي صنم يسمونه أنثى بني فلان إما لتأنيث أسمائها أو لأنها كانت جمادات والجمادات تؤنث في اللفظ.

ووجه الأولوية أن ذلك لا يلائم الحصر الواقع في قوله ﴿إن يدعون من دونه إلا إناثا﴾ كثير ملاءمة، وبين من يدعى من دون الله من هو ذكر غير أنثى كعيسى المسيح وبرهما وبوذا.

قوله تعالى: ﴿وإن يدعون إلا شيطانا مريدا﴾ المريد هو العاري من كل خير أو مطلق العاري، قال البيضاوي: المارد والمريد الذي لا يعلق بخير، وأصل التركيب للملامسة، ومنه صرح ممرد، وغلام أمرد، وشجرة مرداء للتي تناثر ورقها.

والظاهر أن الجملة بيان للجملة السابقة فإن الدعوة كناية عن العبادة لكون العبادة إنما نشأت بين الناس للدعوة على الحاجة، وقد سمى الله تعالى الطاعة عبادة قال تعالى: ﴿ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني﴾ يس: 61 فيئول معنى الجملة إلى أن عبادتهم لكل معبود من دون الله عبادة ودعوة منهم للشيطان المريد لكونها طاعة له.

قوله تعالى: ﴿لعنه الله﴾ اللعن هو الإبعاد عن الرحمة، وهو وصف ثان للشيطان وبمنزلة التعليل للوصف الأول.

قوله تعالى: ﴿وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا﴾ كأنه إشارة إلى ما حكاه الله تعالى عنه من قوله ﴿فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين﴾ ص: 83 وفي قوله ﴿من عبادك﴾ تقرير أنهم مع ذلك عباده لا ينسلخون عن هذا الشأن، وهو ربهم يحكم فيهم بما شاء.

قوله تعالى: ﴿ولأضلنهم ولأمنينهم﴾ إلى آخر الآية التبتيل هو الشق، وينطبق على ما نقل: أن عرب الجاهلية كانت تشق آذان البحائر والسوائب لتحريم لحومها.

وهذه الأمور المعدودة جميعها ضلال فذكر الإضلال معها من قبيل ذكر العام ثم ذكر بعض أفراده لعناية خاصة به، يقول: لأضلنهم بالاشتغال بعبادة غير الله واقتراف المعاصي، ولأغرنهم بالاشتغال بالآمال والأماني التي تصرفهم عن الاشتغال بواجب شأنهم وما يهمهم من أمرهم، ولآمرنهم بشق آذان الأنعام وتحريم ما أحل الله سبحانه، ولآمرنهم بتغيير خلق الله وينطبق على مثل الإخصاء وأنواع المثلة واللواط والسحق.

وليس من البعيد أن يكون المراد بتغيير خلق الله الخروج عن حكم الفطرة وترك الدين الحنيف، قال تعالى: ﴿فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم﴾ الروم: 30.

ثم عد تعالى دعوة الشيطان وهي طاعته فيما يأمر به اتخاذا له وليا فقال: ﴿ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا﴾ ولم يقل: ومن يكن الشيطان له وليا إشعارا بما تشعر به الآيات السابقة أن الولي هو الله، ولا ولاية لغيره على شيء وإن اتخذ وليا.

قوله تعالى: ﴿يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا﴾ ظاهر السياق أنه تعليل لقوله في الآية السابقة ﴿فقد خسر خسرانا مبينا﴾ وأي خسران أبين من خسران من يبدل السعادة الحقيقية وكمال الخلقة بالمواعيد الكاذبة والأماني الموهومة، قال تعالى: ﴿والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب﴾ النور 39.

أما المواعيد فهي الوساوس الشيطانية بلا واسطة، وأما الأماني فهي المتفرعة على وساوسه مما يستلذه الوهم من المتخيلات، ولذلك قال: ﴿وما يعدهم الشيطان إلا غرورا﴾ فعد الوعد غرورا دون التمنية على ما لا يخفى.

ثم بين عاقبة حالهم بقوله ﴿أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا﴾ أي معدلا ومفرا من (حاص) إذا عدل.

ثم ذكر ما يقابل حالهم وهو حال المؤمنين تتميما للبيان فقال تعالى: ﴿والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات﴾ إلى آخر الآية وفي الآيات التفات من سياق التكلم مع الغير إلى الغيبة، والوجه العام فيه الإيماء إلى جلالة المقام وعظمته بوضع لفظ الجلالة موضع ضمير المتكلم مع الغير فيما يحتاج إلى هذا الإشعار حتى إذا استوفى الغرض رجع إلى سابق السياق الذي كان هو الأصل، وذلك في قوله ﴿سندخلهم جنات﴾ وفي ذلك نكتة أخرى، وهي الإيماء إلى قرب الحضور وعدم احتجابه تعالى عن عباده المؤمنين وهو وليهم.

قوله تعالى: ﴿وعد الله حقا ومن أصدق من الله قيلا﴾ فيه مقابلة لما ذكر في وعد الشيطان أنه ليس إلا غرورا فكان وعد الله حقا، وقوله صدقا.

قوله تعالى: ﴿ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب﴾ عود إلى بدء الكلام وبمنزلة النتيجة المحصلة الملخصة من تفصيل الكلام، وذلك أنه يتحصل من المحكي من أعمال بعض المؤمنين وأقوالهم، وإلحاحهم على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يراعي جانبهم، ويعاضدهم ويساعدهم على غيرهم فيما يقع بينهم من النزاع والمشاجرة أنهم يرون أن لهم بإيمانهم كرامة على الله سبحانه وحقا على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يجب به على الله ورسوله مراعاة جانبهم، وتغليب جهتهم على غيرهم على الحق كانوا أو على الباطل، عدلا كان الحكم أو ظلما على حد ما يراه اتباع أئمة الضلال، وحواشي رؤساء الجور وبطائنهم وأذنابهم، فالواحد منهم يمتن على متبوعه ورئيسه في عين أنه يخضع له ويطيعه، ويرى أن له عليه كرامة تلتزمه على مراعاة جانبه وتقديمه على غيره تحكما.

وكذا كان يراه أهل الكتاب على ما حكاه الله تعالى في كتابه عنهم قال تعالى: ﴿وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه﴾ المائدة: 18، وقال تعالى: ﴿وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا﴾ البقرة: 135، وقال تعالى: ﴿قالوا ليس علينا في الأميين سبيل﴾ آل عمران: 75.

فرد الله على هذه الطائفة من المؤمنين في مزعمتهم، وأتبعهم بأهل الكتاب وسمى هذه المزاعم بالأماني استعارة لأنها كالأماني ليست إلا صورا خيالية ملذة لا أثر لها في الأعيان فقال: ليس بأمانيكم معاشر المسلمين أو معشر طائفة من المسلمين ولا بأماني أهل الكتاب بل الأمر يدور مدار العمل إن خيرا فخير وإن شرا فشر، وقدم ذكر السيئة على الحسنة لأن عمدة خطإهم كانت فيها.

قوله تعالى: ﴿من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا﴾ جيء في الكلام بالفصل من غير وصل لأنه في موضع الجواب عن سؤال مقدر، تقديره إذا لم يكن الدخول في حمى الإسلام والإيمان يجر للإنسان كل خير، ويحفظ منافعه في الحياة، وكذا اليهودية والنصرانية فما هو السبيل؟ وإلى ما ذا ينجر حال الإنسان؟ فقيل: ﴿من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ومن يعمل من الصالحات﴾ إلخ.

وقوله ﴿من يعمل سوءا يجز به﴾ مطلق يشمل الجزاء الدنيوي الذي تقرره الشريعة الإسلامية كالقصاص للجاني، والقطع للسارق، والجلد أو الرجم للزاني إلى غير ذلك من أحكام السياسات وغيرها ويشمل الجزاء الأخروي الذي أوعده الله تعالى في كتابه وبلسان نبيه.

وهذا التعميم هو المناسب لمورد الآيات الكريمة والمنطبق عليه، وقد ورد في سبب النزول أن الآيات نزلت في سرقة ارتكبها بعض، ورمى بها يهوديا أو مسلما ثم ألحوا على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقضي على المتهم.

وقوله ﴿ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا﴾ يشمل الولي والنصير في صرف الجزاء السيىء عنه في الدنيا كالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو ولي الأمر وكالتقرب منهما وكرامة الإسلام والدين، فالجزاء المشرع من عند الله لا يصرفه عن عامل السوء صارف، ويشمل الولي والنصير الصارف عنه سوء الجزاء في الآخرة إلا ما تشمله الآية التالية.

قوله تعالى: ﴿ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا﴾ هذا هو الشق الثاني المتضمن لجزاء عامل العمل الصالح وهو الجنة، غير أن الله سبحانه شرط فيه شرطا يوجب تضييقا في فعلية الجزاء وعمم فيه من جهة أخرى توجب السعة.

فشرط في المجازاة بالجنة أن يكون الآتي بالعمل الصالح مؤمنا إذ الجزاء الحسن إنما هو بإزاء العمل الصالح ولا عمل للكافر، قال تعالى: ﴿ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون﴾ الأنعام: 88، وقال تعالى: ﴿أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا﴾ الكهف: 105.

قال تعالى: ﴿ومن يعمل من الصالحات﴾ فأتى بمن التبعيضية، وهو توسعة في الوعد بالجنة، ولو قيل: ومن يعمل الصالحات - والمقام مقام الدقة في الجزاء - أفاد أن الجنة لمن آمن وعمل كل عمل صالح، لكن الفضل الإلهي عمم الجزاء الحسن لمن آمن وأتى ببعض الصالحات فهو يتداركه فيما بقي من الصالحات أو اقترف من المعاصي بتوبة أو شفاعة كما قال تعالى: ﴿إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء﴾ النساء: 116 وقد تقدم تفصيل الكلام في التوبة وفي قوله تعالى: ﴿إنما التوبة على الله﴾ النساء: 17 في الجزء الرابع، وفي الشفاعة في قوله تعالى ﴿واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا﴾ البقرة: 48 في الجزء الأول من هذا الكتاب.

وقال تعالى: ﴿من ذكر أو أنثى﴾ فعمم الحكم للذكر والأنثى من غير فرق أصلا خلافا لما كانت تزعمه القدماء من أهل الملل والنحل كالهند ومصر وسائر الوثنيين أن النساء لا عمل لهن ولا ثواب لحسناتهن، وما كان يظهر من اليهودية والنصرانية أن الكرامة والعزة للرجال، وأن النساء أذلاء عند الله نواقص في الخلقة خاسرات في الأجر والمثوبة، والعرب لا تعدو فيهن هذه العقائد فسوى الله تعالى بين القبيلين بقوله ﴿من ذكر أو أنثى﴾.

ولعل هذا هو السر في تعقيب قوله ﴿فأولئك يدخلون الجنة﴾ بقوله ﴿ولا يظلمون نقيرا﴾ لتدل الجملة الأولى على أن النساء ذوات نصيب في المثوبة كالرجال، والجملة الثانية على أن لا فرق بينهما فيها من حيث الزيادة والنقيصة كما قال تعالى: ﴿فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض﴾ آل عمران: 195.

قوله تعالى: ﴿ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن﴾ إلى آخر الآية كأنه دفع لدخل مقدر، تقديره: أنه إذا لم يكن لإسلام المسلم أو لإيمان أهل الكتاب تأثير في جلب الخير إليه وحفظ منافعه وبالجملة إذا كان الإيمان بالله وآياته لا يعدل شيئا ويستوي وجوده وعدمه فما هو كرامة الإسلام وما هي مزية الإيمان؟.

فأجيب بأن كرامة الدين أمر لا يشوبه ريب، ولا يداخله شك ولا يخفى حسنه على ذي لب وهو قوله ﴿ومن أحسن دينا﴾ حيث قرر بالاستفهام على طريق إرسال المسلم فإن الإنسان لا مناص له عن الدين، وأحسن الدين إسلام الوجه لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض، والخضوع له خضوع العبودية، والعمل بما يقتضيه ملة إبراهيم حنيفا وهو الملة الفطرية، وقد اتخذ الله سبحانه إبراهيم الذي هو أول من أسلم وجهه لله محسنا واتبع الملة الحنيفية خليلا.

لكن لا ينبغي أن يتوهم أن الخلة الإلهية كالخلة الدائرة بين الناس الحاكمة بينهم على كل حق وباطل التي يفتح لهم باب المجازفة والتحكم فالله سبحانه مالك غير مملوك ومحيط غير محاط بخلاف الموالي والرؤساء والملوك من الناس فإنهم لا يملكون من عبيدهم ورعاياهم شيئا إلا ويملكونهم من أنفسهم شيئا بإزائه، ويقهرون البعض بالبعض، ويحكمون على طائفة بالأعضاد من طائفة أخرى ولذلك لا يثبتون في مقامهم إذا خالفت إرادتهم إرادة الكل بل سقطوا عن مقامهم وبان ضعفهم.

ومن هنا يظهر الوجه في تعقيب قوله ﴿ومن أحسن دينا﴾ إلخ بقوله ﴿ولله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله بكل شيء محيطا﴾.

بحث روائي:

في تفسير القمي، أن سبب نزولها يعني قوله تعالى ﴿إنا أنزلنا إليك الكتاب﴾ الآيات أن قوما من الأنصار من بني أبيرق إخوة ثلاثة كانوا منافقين: بشير، وبشر، ومبشر. فنقبوا على عم قتادة بن النعمان وكان قتادة بدريا وأخرجوا طعاما كان أعده لعياله وسيفا ودرعا. فشكا قتادة ذلك إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول الله إن قوما نقبوا على عمي، وأخذوا طعاما كان أعده لعياله وسيفا ودرعا، وهم أهل بيت سوء، وكان معهم في الرأي رجل مؤمن يقال له: لبيد بن سهل فقال بنو أبيرق لقتادة هذا عمل لبيد بن سهل، فبلغ ذلك لبيدا فأخذ سيفه وخرج عليهم فقال: يا بني أبيرق أترمونني بالسرقة؟ وأنتم أولى به مني، وأنتم المنافقون تهجون رسول الله، وتنسبون إلى قريش، لتبينن ذلك أو لأملأن سيفي منكم، فداروه وقالوا له: ارجع يرحمك الله فإنك بريء من ذلك. فمشى بنو أبيرق إلى رجل من رهطهم يقال له: أسيد بن عروة وكان منطقيا بليغا فمشى إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال يا رسول الله إن قتادة بن النعمان عمد إلى أهل بيت منا أهل شرف وحسب ونسب فرماهم بالسرق واتهمهم بما ليس فيهم فاغتم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لذلك، وجاءه قتادة فأقبل عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال له: عمدت إلى أهل بيت شرف وحسب ونسب فرميتهم بالسرقة، وعاتبه عتابا شديدا فاغتم قتادة من ذلك، ورجع إلى عمه وقال له: يا ليتني مت ولم أكلم رسول الله فقد كلمني بما كرهته، فقال عمه: الله المستعان. فأنزل الله في ذلك على نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) ﴿إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق - إلى أن قال - إذ يبيتون ما لا يرضى من القول﴾ قال القمي يعني الفعل فوقع القول مقام الفعل ﴿ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا - إلى أن قال - ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا﴾ قال القمي لبيد بن سهل ﴿فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا﴾.

وفي تفسير القمي: في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): أن إنسانا من رهط بشير الأدنين قالوا: انطلقوا بنا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقالوا: ﴿نكلمه في صاحبنا أو نعذره أن صاحبنا بريء فلما أنزل الله يستخفون من الله - إلى قوله - وكيلا﴾ أقبلت رهط بشر فقالوا: يا بشر استغفر الله وتب إليه من الذنوب. فقال: والذي أحلف به ما سرقها إلا لبيد فنزلت ﴿ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا - فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا﴾.

ثم إن بشرا كفر ولحق بمكة، وأنزل الله في النفر الذين أعذروا بشرا وأتوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليعذروه قوله ﴿ولو لا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك إلى قوله وكان فضل الله عليك عظيما﴾.

وفي الدر المنثور: أخرج الترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه عن قتادة بن النعمان قال: كان أهل بيت منا يقال لهم ﴿بنو أبيرق﴾ بشر، وبشير، ومبشر.

وكان بشر رجلا منافقا يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم ينحله بعض العرب ثم يقول: قال فلان كذا وكذا، قال فلان كذا وكذا، وإذا سمع أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك الشعر قالوا: والله ما يقول هذا الشعر إلا هذا الخبيث فقال: أوكلما قال الرجال قصيدة. أضموا فقالوا ابن الأبيرق قالها.

قال: وكانوا أهل بيت حاجة وفاقة في الجاهلية والإسلام، وكان الناس إنما طعامهم بالمدينة التمر والشعير، وكان الرجل إذا كان له يسار فقدمت ضافطة من الشام من الدرمك ابتاع الرجل منها فخص بها نفسه، أما العيال فإنما طعامهم التمر والشعير. فقدمت ضافطة من الشام فابتاع عمي رفاعة بن زيد حملا من الدرمك فجعله في مشربة له، وفي المشربة سلاح له: درعان، وسيفاهما، وما يصلحهما. فعدا عدي من تحت الليل فنقب المشربة، وأخذ الطعام والسلاح، فلما أصبح أتاني عمي رفاعة فقال: يا ابن أخي تعلم أنه قد عدي علينا في ليلتنا هذه فنقبت مشربتنا فذهب بطعامنا وسلاحنا؟.

قال: فتجسسنا في الدار وسألنا، فقيل لنا: قد رأينا بني أبيرق قد استوقدوا في هذه الليلة، ولا نرى فيما نرى إلا على بعض طعامكم، قال: وقد كان بنو أبيرق قالوا ونحن نسأل في الدار: والله ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل رجلا منا له صلاح وإسلام فلما سمع ذلك لبيد اخترط سيفه ثم أتى بنو أبيرق وقال: أنا أسرق؟ فوالله ليخالطنكم هذا السيف أو لتبينن هذه السرقة.

قالوا: إليك عنا أيها الرجل فوالله ما أنت بصاحبها، فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها، فقال لي عمي: يا ابن أخي لو أتيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فذكرت ذلك له!.

قال قتادة: فأتيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقلت: يا رسول الله إن أهل بيت منا أهل جفاء عمدوا إلى عمي رفاعة بن زيد فنقبوا مشربة له، وأخذوا سلاحه وطعامه فليردوا علينا سلاحنا فأما الطعام فلا حاجة لنا فيه، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): سأنظر في ذلك. فلما سمع ذلك بنو أبيرق أتوا رجلا منهم يقال له أسير بن عروة فكلموه في ذلك واجتمع إليه ناس من أهل الدار فأتوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا: يا رسول الله إن قتادة بن النعمان وعمه عمدا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرميانهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت. قال قتادة: فأتيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فكلمته، فقال: عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح ترميهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت؟. قال قتادة: فرجعت ولوددت أني خرجت من بعض مالي، ولم أكلم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في ذلك، فأتاني عمي رفاعة فقال، يا ابن أخي ما صنعت؟ فأخبرته بما قال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: الله المستعان. فلم نلبث أن نزل القرآن (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق - لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما - بني أبيرق واستغفر الله - أي مما قلت لقتادة إن الله كان غفورا رحيما - ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إلى قوله ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما أي إنهم لو استغفروا الله لغفر لهم ومن يكسب خطيئة أو إثما - إلى قوله - فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا - قولهم للبيد ولو لا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك - يعني أسير بن عروة وأصحابه إلى قوله فسوف نؤتيه أجرا عظيما) فلما نزل القرآن أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالسلاح فرده إلى رفاعة. قال قتادة: فلما أتيت عمي بالسلاح، وكان شيخا قد عسا في الجاهلية وكنت أرى إسلامه مدخولا فلما أتيته بالسلاح قال: يا ابن أخي هو سبيل الله فعرفت أن إسلامه كان صحيحا. فلما نزل القرآن لحق بشر بالمشركين فنزل على سلافة بنت سعد فأنزل الله: ﴿ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى - ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى - إلى قوله - ضلالا بعيدا﴾ فلما نزل على سلافة رماها حسان بن ثابت بأبيات من شعر فأخذت رحله فوضعته على رأسها ثم خرجت فرمت به في الأبطح ثم قالت: أهديت لي شعر حسان؟ ما كنت تأتيني بخير.

أقول: وهذا المعنى مروي بطرق أخر.

وفيه: أخرج ابن جرير عن ابن زيد في الآية قال: كان رجل سرق درعا من حديد في زمان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) طرحه على يهودي: فقال اليهودي والله ما سرقتها يا أبا القاسم، ولكن طرحت علي وكان الرجل الذي سرق جيران يبرءونه ويطرحونه على اليهودي ويقولون: يا رسول الله إن هذا اليهودي خبيث يكفر بالله وبما جئت به حتى مال عليه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ببعض القول. فعاتبه الله في ذلك فقال: (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق - لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما - واستغفر الله - مما قلت لهذا اليهودي إن الله كان غفورا رحيما) ثم أقبل على جيرانه فقال: ﴿ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم إلى قوله وكيلا﴾ ثم عرض التوبة فقال: ﴿ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله - يجد الله غفورا رحيما - ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه﴾ فما أدخلكم أنتم أيها الناس على خطيئة هذا تكلمون دونه ﴿ومن يكسب خطيئة أو إثما - ثم يرم به بريئا - وإن كان مشركا - فقد احتمل بهتانا - إلى قوله - ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى﴾ قال: أبى أن يقبل التوبة التي عرض الله له، وخرج إلى المشركين بمكة فنقب بيتا يسرقه فهدمه الله عليه فقتله.

أقول: وهذا المعنى أيضا مروي بطرق كثيرة مع اختلاف يسير فيها.

وفي تفسير العياشي، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما من عبد أذنب ذنبا فقام وتوضأ واستغفر الله من ذنبه إلا كان حقيقا على الله أن يغفر له لأنه يقول: ﴿من يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله - يجد الله غفورا رحيما﴾ .

وقال: إن الله ليبتلي العبد وهو يحبه ليسمع تضرعه، وقال ما كان الله ليفتح باب الدعاء ويغلق باب الإجابة لأنه يقول: ﴿ادعوني أستجب لكم﴾ وما كان ليفتح باب التوبة ويغلق باب المغفرة وهو يقول: ﴿من يعمل سوءا أو يظلم نفسه - ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما﴾.

وفيه، عن عبد الله بن حماد الأنصاري عن عبد الله بن سنان قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): الغيبة أن تقول في أخيك ما هو فيه مما قد ستره الله عليه، فأما إذا قلت ما ليس فيه فذلك قول الله ﴿فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا﴾ وفي تفسير القمي، في قوله تعالى ﴿لا خير في كثير من نجواهم﴾ الآية: قال: حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن حماد عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله فرض التمحل في القرآن قلت: وما التمحل جعلت فداك؟ قال: أن يكون وجهك أعرض من وجه أخيك فتمحل له، وهو قول الله ﴿لا خير في كثير من نجواهم﴾ وفي الكافي، بإسناده عن عبد الله بن سنان عن أبي الجارود قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): إذا حدثتكم بشيء فاسألوني عنه من كتاب الله.

ثم قال في بعض حديثه: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نهى عن القيل والقال، وفساد المال وكثرة السؤال. فقيل له: يا ابن رسول الله أين هذا من كتاب الله؟ قال: إن الله عز وجل يقول: ﴿لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة - أو معروف أو إصلاح بين الناس﴾ وقال: ﴿ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما﴾ وقال: ﴿لا تسئلوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم﴾.

وفي تفسير العياشي، عن إبراهيم بن عبد الحميد عن بعض المعتمدين عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله ﴿لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة - أو معروف أو إصلاح بين الناس﴾ يعني بالمعروف القرض.

أقول: ورواه القمي أيضا في تفسيره بهذا الإسناد، وهذا المعنى مروي من طرق أهل السنة أيضا، وعلى أي حال فهو من قبيل الجري وذكر بعض المصاديق.

وفي الدر المنثور: أخرج مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة والبيهقي عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت: يا رسول الله مرني بأمر أعتصم به في الإسلام قال: قل: آمنت بالله ثم استقم، قلت يا رسول الله ما أخوف ما تخاف علي؟ قال: هذا، وأخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بطرف لسان نفسه.

أقول: والأخبار في ذم كثرة الكلام ومدح الصمت والسكوت وما يتعلق بذلك كثيرة جدا مروية في جوامع الشيعة وأهل السنة.

وفيه: أخرج أبو نصر السجزي في (الإبانة) عن أنس قال: جاء أعرابي إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الله أنزل علي في القرآن يا أعرابي ﴿لا خير في كثير من نجواهم - إلى قوله - فسوف نؤتيه أجرا عظيما﴾ يا أعرابي الأجر العظيم الجنة. قال الأعرابي: الحمد لله الذي هدانا للإسلام وفيه، في قوله تعالى ﴿ومن يشاقق الرسول﴾ أخرج الترمذي والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عمر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا يجمع الله هذه الأمة على الضلالة أبدا ويد الله على الجماعة فمن شذ شذ في النار وفيه: أخرج الترمذي والبيهقي عن ابن عباس أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: لا يجمع الله أمتي أو قال هذه: الأمة على الضلالة أبدا ويد الله على الجماعة.

أقول: الرواية من المشهورات وقد رواها الهادي (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في رسالته إلى أهل الأهواز على ما في ثالث البحار، وقد تقدم الكلام في معنى الرواية في البيان السابق.

وفي تفسير العياشي، عن حريز عن بعض أصحابنا عن أحدهما (عليهما السلام) قال: لما كان أمير المؤمنين (عليه السلام) في الكوفة أتاه الناس فقالوا: اجعل لنا إماما يؤمنا في شهر رمضان.

فقال: لا، ونهاهم أن يجتمعوا فيه. فلما أمسوا جعلوا يقولون: ابكوا في رمضان، وا رمضاناه، فأتاه الحارث الأعور في أناس فقال: يا أمير المؤمنين ضج الناس وكرهوا قولك، فقال عند ذلك: دعوهم وما يريدون ليصلي بهم من شاء وائتم قال: ﴿فمن يتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى - ونصله جهنم وساءت مصيرا﴾.

وفي الدر المنثور، في قوله تعالى ﴿ومن أصدق من الله قيلا﴾ أخرج البيهقي في الدلائل عن عقبة بن عامر في حديث: خروج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى غزوة تبوك، وفيه فأصبح بتبوك فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال. أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأوثق العرى كلمة التقوى، وخير الملل ملة إبراهيم، وخير السنن سنة محمد، وأشرف الحديث ذكر الله، وأحسن القصص هذا القرآن، وخير الأمور عوازمها، وشر الأمور محدثاتها، وأحسن الهدى هدى الأنبياء، وأشرف الموت قتل الشهداء، وأعمى العمى الضلالة بعد الهدى، وخير العلم ما نفع، وخير الهدى ما اتبع، وشر العمى عمى القلب، واليد العليا خير من اليد السفلى، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وشر المعذرة حين يحضر الموت، وشر الندامة يوم القيامة، ومن الناس من لا يأتي الصلاة إلا دبرا ومنهم من لا يذكر الله إلا هجرا، وأعظم الخطايا اللسان الكذوب، وخير الغنى غنى النفس، وخير الزاد التقوى، ورأس الحكمة مخافة الله عز وجل، وخير ما وقر في القلوب اليقين، والارتياب من الكفر، والنياحة من عمل الجاهلية، والغلول من جثا جهنم، والكنز كي من النار، والشعر من مزامير إبليس، والخمر جماع الإثم، والنساء حبالة الشيطان، والشباب شعبة من الجنون، وشر المكاسب كسب الربا، وشر المأكل مال اليتيم، والسعيد من وعظ بغيره، والشقي من شقي في بطن أمه، وإنما يصير أحدكم إلى موضع أربع أذرع، والأمر بآخره، وملاك العمل خواتمه، وشر الروايا روايا الكذب، وكل ما هو آت قريب، وسباب المؤمن فسوق، وقتال المؤمن كفر، وأكل لحمه من معصية الله، وحرمة ماله كحرمة دمه، ومن يتأل على الله يكذبه، ومن يغفر يغفر له، ومن يعف يعف الله عنه، ومن يكظم الغيظ يأجره الله، ومن يصبر على الرزية يعوضه الله، ومن يبتغ السمعة يسمع الله به، ومن يصبر يضعف الله له ومن يعص الله يعذبه الله، اللهم اغفر لي ولأمتي قالها ثلاثا أستغفر الله لي ولكم. وفي تفسير العياشي، عن محمد بن يونس عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله (عليه السلام) وعن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام): في قول الله ﴿ولآمرنهم فليغيرن خلق الله﴾ قال: أمر الله بما أمر به. وفيه، عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام): في قول الله: ﴿ولآمرنهم فليغيرن خلق الله﴾ قال: دين الله.

أقول: ومآل الروايتين واحد، وهو ما تقدم في البيان السابق أنه دين الفطرة.

وفي المجمع، في قوله ﴿فليبتكن ءاذان الأنعام﴾ قال: ليقطعوا الأذان من أصلها. قال: وهو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) وفي تفسير العياشي: في قوله تعالى ﴿ليس بأمانيكم﴾ عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لما نزلت هذه الآية من يعمل سوءا يجز به قال بعض أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما أشدها من آية، فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أ ما تبتلون في أموالكم وأنفسكم وذراريكم؟ قالوا: بلى، قال: مما يكتب الله لكم به الحسنات ويمحو به السيئات.

أقول: وهذا المعنى مروي بطرق كثيرة في جوامع أهل السنة عن الصحابة.

وفي الدر المنثور: أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله من خطاياه.

أقول: وهذا المعنى مستفيض عن النبي وأئمة أهل البيت (عليهم السلام).

وفي العيون، بإسناده عن الحسين بن خالد عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: سمعت أبي يحدث عن أبيه (عليه السلام) أنه قال: إنما اتخذ الله إبراهيم خليلا لأنه لم يرد أحدا، ولم يسأل أحدا قط غير الله عز وجل.

أقول: وهذا أصح الروايات في تسميته (عليه السلام) بالخيل لموافقته لمعنى اللفظ، وهو الحاجة فخليلك من رفع إليك حوائجه، وهناك وجوه أخر مروية.