الآيات 85 - 91

مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا ﴿85﴾ وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا ﴿86﴾ اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثًا ﴿87﴾ فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً ﴿88﴾ وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتَّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا ﴿89﴾ إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىَ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ أَوْ جَآؤُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُونَكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً ﴿90﴾ سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوَاْ إِلَى الْفِتْنِةِ أُرْكِسُواْ فِيِهَا فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوَاْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا ﴿91﴾

بيان:

الآيات متصلة بما قبلها من حيث تتعرض جميعا 85 - 91 لما يرتبط بأمر القتال مع طائفة من المشركين وهم المنافقون منهم، ويظهر من التدبر فيها أنها نزلت في قوم من المشركين أظهروا الإيمان للمؤمنين ثم عادوا إلى مقرهم وشاركوا المشركين في شركهم فوقع الريب في قتالهم، واختلفت أنظار المسلمين في أمرهم، فمن قائل يرى قتالهم، وآخر يمنع منه ويشفع لهم لتظاهرهم بالإيمان، والله سبحانه يكتب عليهم إما المهاجرة أو القتال ويحذر المؤمنين الشفاعة في حقهم.

ويلحق بهم قوم آخرون ثم آخرون يكتب عليهم إما إلقاء السلم أو القتال، ويستهل لما في الآيات من المقاصد في صدر الكلام ببيان حال الشفاعة في آية، وببيان حال التحية لمناسبتها إلقاء السلم في آية أخرى.

قوله تعالى: ﴿من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها﴾ النصيب والكفل بمعنى واحد، ولما كانت الشفاعة نوع توسط لترميم نقيصة أو لحيازة مزية ونحو ذلك كانت لها نوع سببية لإصلاح شأن فلها شيء من التبعة والمثوبة المتعلقتين بما لأجله الشفاعة، وهو مقصد الشفيع والمشفوع له فالشفيع ذو نصيب من الخير أو الشر المترتب على الشفاعة، وهو قوله تعالى ﴿من يشفع شفاعة﴾ إلخ.

وفي ذكر هذه الحقيقة تذكرة للمؤمنين، وتنبيه لهم أن يتيقظوا عند الشفاعة لما يشفعون له، ويجتنبوها إن كان المشفوع لأجله مما فيه شر وفساد كالشفاعة للمنافقين من المشركين أن لا يقاتلوا، فإن في ترك الفساد القليل على حاله، وإمهاله في أن ينمو ويعظم فسادا معقبا لا يقوم له شيء، ويهلك به الحرث والنسل فالآية في معنى النهي عن الشفاعة السيئة وهي شفاعة أهل الظلم والطغيان والنفاق والشرك المفسدين في الأرض.

قوله تعالى: ﴿وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها﴾ الآية أمر بالتحية قبال التحية بما يزيد عليها أو يماثلها، وهو حكم عام لكل تحية حيي بها، غير أن مورد الآيات هو تحية السلم والصلح التي تلقى إلى المسلمين على ما يظهر من الآيات التالية.

قوله تعالى: ﴿الله لا إله إلا هو ليجمعنكم﴾ إلخ معنى الآية ظاهر، وهي بمنزلة التعليل لما تشتمل عليه الآيتان السابقتان من المضمون كأنه قيل: خذوا بما كلفكم الله في أمر الشفاعة الحسنة والسيئة، ولا تبطلوا تحية من يحييكم بالإعراض والرد فإن أمامكم يوما يجمعكم الله فيه ويجازيكم على إجابة ما دعاكم إليه ورده.

قوله تعالى: ﴿فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم﴾ الآية الفئة الطائفة، والإركاس الرد.

والآية بما لها من المضمون كأنها متفرعة على ما تقدم من التوطئة والتمهيد أعني قوله ﴿من يشفع شفاعة﴾ الآية، والمعنى: فإذا كانت الشفاعة السيئة تعطي لصاحبها كفلا من مساءتها فما لكم أيها المؤمنون تفرقتم في أمر المنافقين فئتين، وتحزبتهم حزبين: فئة ترى قتالهم، وفئة تشفع لهم وتحرض على ترك قتالهم، والإغماض عن شجرة الفساد التي تنمو بنمائهم، وتثمر برشدهم، والله ردهم إلى الضلال بعد خروجهم منه جزاء بما كسبوا من سيئات الأعمال، أ تريدون بشفاعتكم أن تهدوا هؤلاء الذين أضلهم الله؟ ومن يضلل الله فما له من سبيل إلى الهدى.

وفي قوله ﴿ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا﴾ التفات من خطاب المؤمنين إلى خطاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إشارة إلى أن من يشفع لهم من المؤمنين لا يتفهم حقيقة هذا الكلام حق التفهم، ولو فقهه لم يشفع في حقهم فأعرض عن مخاطبتهم به وألقى إلى من هو بين واضح عنده وهو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

قوله تعالى: ﴿ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء﴾ إلخ هو بمنزلة البيان لقوله ﴿والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله﴾ والمعنى: أنهم كفروا وزادوا عليه أنهم ودوا وأحبوا أن تكفروا مثلهم فتستووا.

ثم نهاهم عن ولايتهم إلا أن يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فليس عليكم فيهم إلا أخذهم وقتلهم حيث وجدتموهم، والاجتناب عن ولايتهم ونصرتهم، وفي قوله ﴿فإن تولوا﴾ دلالة على أن على المؤمنين أن يكلفوهم بالمهاجرة فإن أجابوا فليوالوهم، وإن تولوا فيقتلوهم.

قوله تعالى: ﴿إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاءوكم حصرت صدورهم﴾ استثنى الله سبحانه من قوله ﴿فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم﴾ طائفتين: إحداهما الذين يصلون إلخ أي بينهم وبين بعض أهل الميثاق ما يوصلهم بهم من حلف ونحوه، والثانية الذين يتحرجون من مقاتلة المسلمين ومقاتلة قومهم لقتلهم أو لعوامل أخر، فيعتزلون المؤمنين ويلقون إليهم السلم لا للمؤمنين ولا عليهم بوجه، فهاتان الطائفتان مستثنون من الحكم المذكور، وقوله ﴿حصرت صدورهم﴾ أي ضاقت.

قوله تعالى: ﴿ستجدون آخرين﴾ إخبار بأنه سيواجهكم قوم آخرون ربما شابهوا الطائفة الثانية من الطائفتين المستثناتين حيث إنهم يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم غير أن الله سبحانه يخبر أنهم منافقون غير مأمونين في مواعدتهم وموادعتهم، ولذا بدل الشرطين المثبتين في حق غيرهم أعني قوله ﴿فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم﴾ بالشرط المنفي أعني قوله ﴿فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم﴾ إلخ وهذا في معنى تنبيه المؤمنين على أن يكونوا على حذر منهم ومعنى الآية ظاهر.

كلام في معنى التحية:

الأمم والأقوام على اختلافها في الحضارة والتوحش والتقدم والتأخر لا تخلو في مجتمعاتهم من تحية يتعارفونها عند الملاقاة ملاقاة البعض البعض على أقسامها وأنواعها من الإشارة بالرأس واليد ورفع القلانس وغير ذلك، وهي مختلفة باختلاف العوامل المختلفة العاملة في مجتمعاتهم.

وأنت إذا تأملت هذه التحيات الدائرة بين الأمم على اختلافها وعلى اختلافهم وجدتها حاكية مشيرة إلى نوع من الخضوع والهوان والتذلل يبديه الداني للعالي، والوضيع للشريف، والمطيع لمطاعه، والعبد لمولاه، وبالجملة تكشف عن رسم الاستعباد الذي لم يزل رائجا بين الأمم في أعصار الهمجية فما دونها، وإن اختلفت ألوانه، ولذلك ما نرى أن هذه التحية تبدأ من المطيع وتنتهي إلى المطاع، وتشرع من الداني الوضيع وتختتم في العالي الشريف، فهي من ثمرات الوثنية التي ترتضع من ثدي الاستعباد.

والإسلام - كما تعلم - أكبر همه إمحاء الوثنية وكل رسم من الرسوم ينتهي إليها، ويتولد، منها ولذلك أخذ لهذا الشأن طريقة سوية وسنة مقابلة لسنة الوثنية ورسم الاستعباد، وهو إلقاء السلام الذي هو بنحو أمن المسلم عليه من التعدي عليه، ودحض حريته الفطرية الإنسانية الموهوبة له فإن أول ما يحتاج إليه الاجتماع التعاوني بين الأفراد هو أن يأمن بعضهم بعضا في نفسه وعرضه وماله، وكل أمر يئول إلى أحد هذه الثلاثة.

وهذا هو السلام الذي سن الله تعالى إلقاؤه عند كل تلاق من متلاقيين قال تعالى: ﴿فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة﴾ النور: 61 وقال تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون﴾ النور: 27 وقد أدب الله رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالتسليم للمؤمنين وهو سيدهم فقال: ﴿وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة﴾ الأنعام: 54 وأمره بالتسليم لغيرهم في قوله: ﴿فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون﴾ الزخرف: 89.

والتحية بإلقاء السلام كانت معمولا بها عند عرب الجاهلية على ما يشهد به المأثور عنهم من شعر ونحوه، وفي لسان العرب: وكانت العرب في الجاهلية يحيون بأن يقول أحدهم لصاحبه: أنعم صباحا، وأبيت اللعن، ويقولون سلام عليكم فكأنه علامة المسالمة، وأنه لا حرب هنالك.

ثم جاء الله بالإسلام فقصروا على السلام، وأمروا بإفشائه.

إلا أن الله سبحانه يحكيه في قصص إبراهيم عنه (عليه السلام) كثيرا: ولا يخلو ذلك من شهادة على أنه كان من بقايا دين إبراهيم الحنيف عند العرب كالحج ونحوه قال تعالى: حكاية عنه فيما يحاور أباه: ﴿قال سلام عليك سأستغفر لك ربي﴾ مريم: 47 وقال تعالى ﴿ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام﴾ هود: 69 والقصة واقعة في غير مورد من القرآن الكريم.

ولقد أخذه الله سبحانه تحية لنفسه، واستعمله في موارد من كلامه، قال تعالى: ﴿سلام على نوح في العالمين﴾ الصافات: 79 وقال: ﴿سلام على إبراهيم﴾ الصافات: 109 وقال: ﴿سلام على موسى وهارون﴾ الصافات: 120 وقال ﴿سلام على آل ياسين﴾ الصافات: 130 وقال: ﴿وسلام على المرسلين﴾ الصافات: 181.

وذكر تعالى أنه تحية ملائكته المكرمين قال: ﴿الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم﴾ النحل: 32 وقال: ﴿والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم﴾ الرعد: 24 وذكر أيضا أنه تحية أهل الجنة قال: ﴿وتحيتهم فيها سلام﴾ يونس: 10، وقال تعالى: ﴿لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما﴾ الواقعة: 26.

بحث روائي:

في المجمع، في قوله تعالى ﴿وإذا حييتم﴾ الآية: قال: ذكر علي بن إبراهيم في تفسيره، عن الصادقين: أن المراد بالتحية في الآية السلام وغيره من البر. وفي الكافي، بإسناده عن السكوني قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): السلام تطوع والرد فريضة. وفيه، بإسناده عن جراح المدائني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: يسلم الصغير على الكبير، والمار على القاعد، والقليل على الكثير. وفيه، بإسناده عن عيينة عن مصعب عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: القليل يبدءون الكثير بالسلام، والراكب يبدأ الماشي، وأصحاب البغال يبدءون أصحاب الحمير، وأصحاب الخيل يبدءون أصحاب البغال. وفيه، بإسناده عن ابن بكير عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: يسلم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد، وإذا لقيت جماعة سلم الأقل على الأكثر، وإذا لقي واحد جماعة سلم الواحد على الجماعة: أقول: وروي ما يقرب منه في الدر المنثور، عن البيهقي عن زيد بن أسلم عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). وفيه، بالإسناد عنه (عليه السلام) قال: إذا مرت الجماعة بقوم أجزأهم أن يسلم واحد منهم، وإذا سلم على القوم وهم جماعة، أجزأهم أن يرد واحد منهم.

وفي التهذيب، بإسناده عن محمد بن مسلم قال: دخلت على أبي جعفر (عليه السلام) وهو في الصلاة فقلت: السلام عليك، فقال: السلام عليك، فقلت: كيف أصبحت؟ فسكت، فلما انصرف قلت: أيرد السلام وهو في الصلاة؟ قال: نعم، مثل ما قيل له.

وفيه، بإسناده عن منصور بن حازم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا سلم عليك الرجل وأنت تصلي، قال: ترد عليه خفيا كما قال وفي الفقيه، بإسناده عن مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليه السلام) قال: لا تسلموا على اليهود، ولا على النصارى، ولا على المجوس، ولا على عبدة الأوثان، ولا على موائد شراب الخمر، ولا على صاحب الشطرنج والنرد، ولا على المخنث، ولا على الشاعر الذي يقذف المحصنات، ولا على المصلي لأن المصلي لا يستطيع أن يرد السلام، لأن التسليم من المسلم تطوع والرد فريضة، ولا على آكل الربا، ولا على رجل جالس على غائط ولا على الذي في الحمام، ولا على الفاسق المعلن بفسقه.

أقول: والروايات في معنى ما تقدم كثيرة، والإحاطة بما تقدم من البيان توضح معنى الروايات فالسلام تحية مؤذنة ببسط السلم، ونشر الأمن بين المتلاقين على أساس المساواة والتعادل من استعلاء وإدحاض، وما في الروايات من ابتداء الصغير بالتسليم للكبير، والقليل للكثير، والواحد للجمع لا ينافي مسألة المساواة وإنما هو مبني على وجوب رعاية الحقوق فإن الإسلام لم يأمر أهله بإلغاء الحقوق، وإهمال أمر الفضائل والمزايا بل أمر غير صاحب الفضل أن يراعي فضل ذي الفضل، وحق صاحب الحق، وإنما نهى صاحب الفضل أن يعجب بفضله، ويتكبر على غيره فيبغي على الناس بغير حق فيبطل بذلك التوازن بين أطراف المجتمع الإنساني.

وأما النهي الوارد عن التسليم على بعض الأفراد فإنما هو متفرع على النهي عن توليهم والركون إليهم كما قال تعالى: ﴿لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء﴾ المائدة: 51 وقال: ﴿لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء﴾ الممتحنة: 1 وقال ﴿ولا تركنوا إلى الذين ظلموا﴾ هود: 113 إلى غير ذلك من الآيات.

نعم ربما اقتضت مصلحة التقرب من الظالمين لتبليغ الدين أو إسماعهم كلمة الحق التسليم عليهم ليحصل به تمام الأنس وتمتزج النفوس كما أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك في قوله ﴿فاصفح عنهم وقل سلام﴾ الزخرف: 89 وكما في قوله يصف المؤمنين ﴿وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما﴾ الفرقان: 63.

وتفسير الصافي، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): إن رجلا قال له: السلام عليك، فقال: وعليك السلام ورحمة الله، وقال آخر: السلام عليك ورحمة الله، فقال: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، وقال آخر: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، فقال: وعليك، فقال الرجل: نقصتني فأين ما قال الله ﴿وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها﴾ الآية فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): إنك لم تترك فضلا ورددت عليك مثله: أقول: وروي مثله في الدر المنثور، عن أحمد في الزهد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه بسند حسن عن سلمان الفارسي.

وفي الكافي، عن الباقر (عليه السلام) قال: مر أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوم فسلم عليهم فقالوا، عليك السلام ورحمة الله وبركاته ومغفرته ورضوانه، فقال لهم أمير المؤمنين (عليه السلام)، لا تجاوزوا بنا مثل ما قالت الملائكة لأبينا إبراهيم، قالوا: رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت.

أقول: وفيه إشارة إلى أن السنة في التسليم التام، وهو قول المسلم )السلام عليك ورحمة الله وبركاته( مأخوذة من حنيفية إبراهيم، (عليه السلام) وتأييد لما تقدم أن التحية بالسلام من الدين الحنيف.

وفيه، عن الصادق (عليه السلام): أن من تمام التحية للمقيم المصافحة، وتمام التسليم على المسافر المعانقة. وفي الخصال، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): إذا عطس أحدكم قولوا يرحمكم الله، وهو يقول: يغفر الله لكم ويرحمكم، قال الله تعالى: ﴿وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها﴾ الآية وفي المناقب: جاءت جارية للحسن (عليه السلام) بطاق ريحان، فقال لها، أنت حرة لوجه الله، فقيل له في ذلك، فقال (عليه السلام): أدبنا الله تعالى فقال ﴿إذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها﴾ الآية وكان أحسن منها إعتاقها.

أقول: والروايات كما ترى تعمم معنى التحية في الآية.

وفي المجمع، في قوله تعالى ﴿فما لكم في المنافقين فئتين﴾ الآية قال اختلفوا في من نزلت هذه الآية فيه، فقيل، نزلت في قوم قدموا المدينة من مكة، فأظهروا للمسلمين الإسلام ثم رجعوا إلى مكة لأنهم استوخموا المدينة فأظهروا الشرك، ثم سافروا ببضائع المشركين إلى اليمامة، فأراد المسلمون أن يغزوهم فاختلفوا،: فقال بعضهم لا نفعل فإنهم مؤمنون، وقال آخرون: إنهم مشركون، فأنزل الله فيهم الآية: قال: وهو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام).

وفي تفسير القمي، في قوله تعالى ﴿ودوا لو تكفرون كما كفروا﴾ الآية أنها نزلت في أشجع وبني ضمرة، وهما قبيلتان، وكان من خبرهم أنه لما خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى غزاة الحديبية مر قريبا من بلادهم، وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هادن بني ضمرة، وواعدهم قبل ذلك فقال أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا رسول الله هذه بنو ضمرة قريبا منا، ونخاف أن يخالفونا إلى المدينة أو يعينوا علينا قريشا فلو بدأنا بهم، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كلا إنهم أبر العرب بالوالدين، وأوصلهم للرحم، وأوفاهم بالعهد.

وكان أشجع بلادهم قريبا من بلاد بني ضمرة، وهم بطن من كنانة، وكانت أشجع بينهم وبين بني ضمرة حلف بالمراعاة والأمان، فأجدبت بلاد أشجع وأخصبت بلاد بني ضمرة فسارت أشجع إلى بلاد بني ضمرة فلما بلغ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مسيرهم إلى بني ضمرة تهيأ للمسير إلى أشجع ليغزوهم للموادعة التي كانت بينه وبين بني ضمرة فأنزل الله: ﴿ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا﴾.

ثم استثنى بأشجع فقال: ﴿إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقتلوا قومهم ولو شاء الله لسلطهم عليكم فقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لك عليهم سبيلا﴾.

وكانت أشجع محالها البيضاء والحل والمستباح، وقد كانوا قربوا من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فهابوا لقربهم من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يبعث إليهم من يغزوهم، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد خافهم أن يصيبوا من أطرافه شيئا فهم بالمسير إليهم فبينما هو على ذلك إذ جاءت أشجع ورئيسها مسعود بن رجيلة، وهم سبعمائة فنزلوا شعب سلع، وذلك في شهر ربيع الأول سنة ست من الهجرة فدعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أسيد بن حصين وقال له: اذهب في نفر من أصحابك حتى تنظر ما أقدم أشجع.

فخرج أسيد ومعه ثلاثة نفر من أصحابه فوقف عليهم فقال: ما أقدمكم؟ فقام إليه مسعود بن رجيلة وهو رئيس أشجع فسلم على أسيد وعلى أصحابه فقالوا: جئنا لنوادع محمدا، فرجع أسيد إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخبره، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): خاف القوم أن أغزوهم فأرادوا الصلح بيني وبينهم.

ثم بعث إليهم بعشرة أحمال تمر فقدمها أمامه، ثم قال: نعم الشيء الهدية أمام الحاجة، ثم أتاهم فقال: يا معشر أشجع ما أقدمكم؟ قالوا: قربت دارنا منك، وليس في قومنا أقل عددا منا فضقنا لحربك لقرب دارنا منك، وضقنا لحرب قومنا لقلتنا فيهم فجئنا لنوادعكم، فقبل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) منهم ووادعهم فأقاموا يومهم ثم رجعوا إلى بلادهم، وفيهم نزلت هذه الآية ﴿إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق - إلى قوله - فما جعل الله لكم عليهم سبيلا﴾.

وفي الكافي، بإسناده عن الفضل أبي العباس عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز وجل ﴿أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم﴾ قال: نزلت في بني مدلج، لأنهم جاءوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا، إنا قد حصرت صدورنا أن نشهد إنك لرسول الله، فلسنا معكم ولا مع قومنا عليك، قال: قلت: كيف صنع بهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: وادعهم إلى أن يفرغ من العرب، ثم يدعوهم فإن أجابوا، وإلا قاتلهم.

وفي تفسير العياشي، عن سيف بن عميرة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) ﴿أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم﴾ قال: كان أبي يقول، نزلت في بني مدلج اعتزلوا فلم يقاتلوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولم يكونوا مع قومهم. قلت: فما صنع بهم،: قال لم يقاتلهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى فرغ من عدوه، ثم نبذ إليهم على سواء. قال،: و﴿حصرت صدورهم﴾ هو الضيق.

وفي المجمع: المروي عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: المراد بقوله تعالى ﴿قوم بينكم وبينهم ميثاق﴾ هو هلال بن عويمر السلمي واثق عن قومه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقال في موادعته: على أن لا نخيف يا محمد من أتانا ولا تخيف من أتاك فنهى الله أن يتعرض لأحد عهد إليهم.

أقول: وقد روي هذه المعاني وما يقرب منها في الدر المنثور بطرق مختلفة عن ابن عباس وغيره.

وفي الدر المنثور، أخرج أبو داود في ناسخه وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس والبيهقي في سننه عن ابن عباس: في قوله ﴿إلا الذين يصلون إلى قوم﴾ قال: نسختها براءة، ﴿فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم﴾.