الآيات 59 - 70‏‎

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ﴿59﴾ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا ﴿60﴾ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا ﴿61﴾ فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا ﴿62﴾ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا ﴿63﴾ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا ﴿64﴾ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا ﴿65﴾ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا ﴿66﴾ وَإِذاً لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيمًا ﴿67﴾ وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا ﴿68﴾ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ﴿69﴾ ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ عَلِيمًا ﴿70﴾

بيان:

الآيات - كما ترى - غير عادمة الارتباط بما تقدمها من الآيات فإن آيات السورة آخذة من قوله تعالى: ﴿واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا﴾ كأنها مسوقة لترغيب الناس في الإنفاق في سبيل الله، وإقامة صلب طبقات المجتمع وأرباب الحوائج من المؤمنين وذم الذين يصدون الناس عن القيام بهذا المشروع الواجب، ثم الحث على إطاعة الله وإطاعة الرسول وأولي الأمر، وقطع منابت الاختلاف والتجنب عن التشاجر والتنازع، وإرجاعه إلى الله ورسوله لو اتفق، والتحرز عن النفاق، ولزوم التسليم لأوامر الله ورسوله وهكذا إلى أن تنتهي إلى الآيات النادبة إلى الجهاد المبينة لحكمه أو الآمرة بالنفر في سبيل الله، فجميع هذه الآيات مجهزة للمؤمنين للجهاد في سبيل الله، ومنظمة لنظام أمورهم في داخلهم، وربما تخللها آية أو آيتان بمنزلة الاعتراض في الكلام لا يخل باتصال الكلام كما تقدم الإيماء إليه في قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى﴾ الآية 43 من السورة.

قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم﴾ لما فرغ من الندب إلى عبادة الله وحده لا شريك له وبث الإحسان بين طبقات المؤمنين وذم من يعيب هذا الطريق المحمود أو صد عنه صدودا عاد إلى أصل المقصود بلسان آخر يتفرع عليه فروع أخر، بها يستحكم أساس المجتمع الإسلامي وهو التحضيض والترغيب في أخذهم بالائتلاف والاتفاق، ورفع كل تنازع واقع بالرد إلى الله ورسوله.

ولا ينبغي أن يرتاب في أن قوله: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول، جملة سيقت تمهيدا وتوطئة للأمر برد الأمر إلى الله ورسوله عند ظهور التنازع، وإن كان مضمون الجملة أساس جميع الشرائع والأحكام الإلهية.

فإن ذلك ظاهر تفريع قوله: ﴿فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول﴾ ثم العود بعد العود إلى هذا المعنى بقوله: ﴿ألم تر إلى الذين يزعمون﴾ إلخ، وقوله: ﴿وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله﴾ إلخ، وقوله: ﴿فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم﴾ إلخ.

ولا ينبغي أن يرتاب في أن الله سبحانه لا يريد بإطاعته إلا إطاعته في ما يوحيه إلينا من طريق رسوله من المعارف والشرائع، وأما رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) فله حيثيتان: إحداهما: حيثية التشريع بما يوحيه إليه ربه من غير كتاب، وهو ما يبينه للناس من تفاصيل ما يشتمل على إجماله الكتاب وما يتعلق ويرتبط بها كما قال تعالى: ﴿وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم﴾ النحل: 44، والثانية: ما يراه من صواب الرأي وهو الذي يرتبط بولايته الحكومة والقضاء قال تعالى: ﴿لتحكم بين الناس بما أراك الله﴾ النساء: 105، وهذا هو الرأي الذي كان يحكم به على ظواهر قوانين القضاء بين الناس، وهو الذي كان (صلى الله عليه وآله وسلم) يحكم به في عزائم الأمور، وكان الله سبحانه أمره في اتخاذ الرأي بالمشاورة فقال: ﴿وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله﴾ آل عمران: 159، فأشركهم به في المشاورة ووحده في العزم.

إذا عرفت هذا علمت أن لإطاعة الرسول معنى ولإطاعة الله سبحانه معنى آخر وإن كان إطاعة الرسول إطاعة لله بالحقيقة لأن الله هو المشرع لوجوب إطاعته كما قال: ﴿وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله﴾ فعلى الناس أن يطيعوا الرسول فيما يبينه بالوحي، وفيما يراه من الرأي.

وهذا المعنى والله أعلم هو الموجب لتكرار الأمر بالطاعة في قوله: وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول، لا ما ذكره المفسرون: أن التكرار للتأكيد فإن القصد لو كان متعلقا بالتأكيد كان ترك التكرار كما لو قيل: وأطيعوا الله والرسول أدل عليه وأقرب منه فإنه كان يفيد أن إطاعة الرسول عين إطاعة الله سبحانه وأن الإطاعتين واحدة، وما كل تكرار يفيد التأكيد.

وأما أولوا الأمر فهم - كائنين من كانوا - لا نصيب لهم من الوحي، وإنما شأنهم الرأي الذي يستصوبونه فلهم افتراض الطاعة نظير ما للرسول في رأيهم وقولهم، ولذلك لما ذكر وجوب الرد والتسليم عند المشاجرة لم يذكرهم بل خص الله والرسول فقال: فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، وذلك أن المخاطبين بهذا الرد هم المؤمنون المخاطبون بقوله في صدر الآية: يا أيها الذين آمنوا، والتنازع تنازعهم بلا ريب، ولا يجوز أن يفرض تنازعهم مع أولي الأمر مع افتراض طاعتهم بل هذا التنازع هو ما يقع بين المؤمنين أنفسهم، وليس في أمر الرأي بل من حيث حكم الله في القضية المتنازع فيها بقرينة الآيات التالية الذامة لمن يرجع إلى حكم الطاغوت دون حكم الله ورسوله، وهذا الحكم يجب الرجوع فيه إلى أحكام الدين المبينة المقررة في الكتاب والسنة، والكتاب والسنة حجتان قاطعتان في الأمر لمن يسعه فهم الحكم منهما، وقول أولي الأمر في أن الكتاب والسنة يحكمان بكذا أيضا حجة قاطعة فإن الآية تقرر افتراض الطاعة من غير أي قيد أو شرط، والجميع راجع بالآخرة إلى الكتاب والسنة.

ومن هنا يظهر أن ليس لأولي الأمر هؤلاء - كائنين من كانوا - أن يضعوا حكما جديدا، ولا أن ينسخوا حكما ثابتا في الكتاب والسنة، وإلا لم يكن لوجوب إرجاع موارد التنازع إلى الكتاب والسنة والرد إلى الله والرسول معنى على ما يدل عليه قوله: ﴿وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا﴾ الأحزاب: 36، فقضاء الله هو التشريع وقضاء رسوله إما ذلك وإما الأعم، وإنما الذي لهم أن يروا رأيهم في موارد نفوذ الولاية، وأن يكشفوا عن حكم الله ورسوله في القضايا والموضوعات العامة.

وبالجملة لما لم يكن لأولي الأمر هؤلاء خيرة في الشرائع، ولا عندهم إلا ما لله ورسوله من الحكم أعني الكتاب والسنة لم يذكرهم الله سبحانه ثانيا عند ذكر الرد بقوله: فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول، فلله تعالى إطاعة واحدة، وللرسول وأولي الأمر إطاعة واحدة، ولذلك قال: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم.

ولا ينبغي أن يرتاب في أن هذه الإطاعة المأمور بها في قوله: ﴿أطيعوا الله وأطيعوا الرسول﴾ إطاعة مطلقة غير مشروطة بشرط، ولا مقيدة بقيد وهو الدليل على أن الرسول لا يأمر بشيء، ولا ينهى عن شيء يخالف حكم الله في الواقعة وإلا كان فرض طاعته تناقضا منه تعالى وتقدس ولا يتم ذلك إلا بعصمة فيه (صلى الله عليه وآله وسلم).

وهذا الكلام بعينه جار في أولي الأمر غير أن وجود قوة العصمة في الرسول لما قامت عليه الحجج من جهة العقل والنقل في حد نفسه من غير جهة هذه الآية دون أولي الأمر ظاهرا أمكن أن يتوهم متوهم أن أولي الأمر هؤلاء لا يجب فيهم العصمة ولا يتوقف عليها الآية في استقامة معناها.

بيان ذلك أن الذي تقرره الآية حكم مجعول لمصلحة الأمة يحفظ به مجتمع المسلمين من تسرب الخلاف والتشتت فيهم وشق عصاهم فلا يزيد على الولاية المعهودة بين الأمم والمجتمعات، تعطي للواحد من الإنسان افتراض الطاعة ونفوذ الكلمة، وهم يعلمون أنه ربما يعصي وربما يغلط في حكمه، لكن إذا علم بمخالفته القانون في حكمه لا يطاع فيه، وينبه فيما أخطأ، وفيما يحتمل خطؤه ينفذ حكمه وإن كان مخطئا في الواقع ولا يبالي بخطئه فإن مصلحة حفظ وحدة المجتمع والتحرز من تشتت الكلمة مصلحة يتدارك بها أمثال هذه الأغلاط والاشتباهات.

وهذا حال أولي الأمر الواقع في الآية في افتراض طاعتهم فرض الله طاعتهم، على المؤمنين فإن أمروا بما يخالف الكتاب والسنة فلا يجوز ذلك منهم ولا ينفذ حكمهم لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) وقد روى هذا المعنى الفريقان وبه يقيد إطلاق الآية، وأما الخطأ والغلط فإن علم به رد إلى الحق وهو حكم الكتاب والسنة، وإن احتمل خطؤه نفذ فيه حكمه كما فيما علم عدم خطإه، ولا بأس بوجوب القبول وافتراض الطاعة فيما يخالف الواقع هذا النوع لأن مصلحة حفظ الوحدة في الأمة وبقاء السؤدد والأبهة تتدارك بها هذه المخالفة، ويعود إلى مثل ما تقرر في أصول الفقه من حجية الطرق الظاهرية مع بقاء الأحكام الواقعية على حالها، وعند مخالفة مؤداها للواقع تتدارك المفسدة اللازمة بمصلحة الطريق.

وبالجملة طاعة أولي الأمر مفترضة وإن كانوا غير معصومين يجوز عليهم الفسق والخطأ فإن فسقوا فلا طاعة لهم، وإن أخطئوا ردوا إلى الكتاب والسنة إن علم منهم ذلك، ونفذ حكمهم فيما لم يعلم ذلك، ولا بأس بإنفاذ ما يخالف حكم الله في الواقع دون الظاهر رعاية لمصلحة الإسلام والمسلمين، وحفظا لوحدة الكلمة.

وأنت بالتأمل فيما قدمناه من البيان تعرف سقوط هذه الشبهة من أصلها، وذلك أن هذا التقريب من الممكن أن نساعده في تقييد إطلاق الآية في صورة الفسق بما ذكر من قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) وما يؤدي هذا المعنى من الآيات القرآنية كقوله: ﴿إن الله لا يأمر بالفحشاء﴾ الأعراف: 28، وما في هذا المعنى من الآيات.

وكذا من الممكن بل الواقع أن يجعل شرعا نظير هذه الحجية الظاهرية المذكورة كفرض طاعة أمراء السرايا الذين كان ينصبهم عليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكذا الحكام الذين كان يوليهم على البلاد كمكة واليمن أو يخلفهم بالمدينة إذا خرج إلى غزاة، وكحجية قول المجتهد على مقلده وهكذا لكنه لا يوجب تقيد الآية فكون مسألة من المسائل صحيحة في نفسه أمر وكونها مدلولا عليها بظاهر آية قرآنية أمر آخر.

فالآية تدل على افتراض طاعة أولي الأمر هؤلاء، ولم تقيده بقيد ولا شرط، وليس في الآيات القرآنية ما يقيد الآية في مدلولها حتى يعود معنى قوله ﴿وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم﴾ إلى مثل قولنا: وأطيعوا أولي الأمر منكم فيما لم يأمروا بمعصية أو لم تعلموا بخطئهم فإن أمروكم بمعصية فلا طاعة عليكم، وإن علمتم خطأهم فقوموهم بالرد إلى الكتاب والسنة فما هذا معنى قوله: وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم.

مع أن الله سبحانه أبان ما هو أوضح من هذا القيد فيما هو دون هذه الطاعة المفترضة كقوله في الوالدين: ﴿ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما﴾ العنكبوت: 8 فما باله لم يظهر شيئا من هذه القيود في آية تشتمل على أس أساس الدين، وإليها تنتهي عامة أعراق السعادة الإنسانية.

على أن الآية جمع فيها بين الرسول وأولي الأمر، وذكر لهما معا طاعة واحدة فقال: وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، ولا يجوز على الرسول أن يأمر بمعصية أو يغلط في حكم فلو جاز شيء من ذلك على أولي الأمر لم يسع إلا أن يذكر القيد الوارد عليهم فلا مناص من أخذ الآية مطلقة من غير أي تقييد، ولازمه اعتبار العصمة في جانب أولي الأمر كما اعتبر في جانب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من غير فرق.

ثم إن المراد بالأمر في أولي الأمر هو الشأن الراجع إلى دين المؤمنين المخاطبين بهذا الخطاب أو دنياهم على ما يؤيده قوله تعالى: ﴿وشاورهم في الأمر﴾ آل عمران: 159، وقوله في مدح المتقين: ﴿وأمرهم شورى بينهم﴾ الشورى: 38، وإن كان من الجائز بوجه أن يراد بالأمر ما يقابل النهي لكنه بعيد.

وقد قيد بقوله: ﴿منكم﴾ وظاهره كونه ظرفا مستقرا أي أولي الأمر كائنين منكم وهو نظير قوله تعالى: ﴿هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم﴾ الجمعة: 2، وقوله في دعوة إبراهيم: ﴿ربنا وابعث فيهم رسولا منهم﴾ البقرة: 129، وقوله: ﴿رسلا منكم يقصون عليكم آياتي﴾ الأعراف: 35، وبهذا يندفع ما ذكره بعضهم: أن تقييد أولي الأمر بقوله: ﴿منكم﴾ يدل على أن الواحد منهم إنسان عادي مثلنا وهم منا ونحن مؤمنون من غير مزية عصمة إلهية.

ثم إن أولي الأمر لما كان اسم جمع يدل على كثرة جمعية في هؤلاء المسمين بأولي الأمر فهذا لا شك فيه لكن يحتمل في بادىء النظر أن يكونوا آحادا يلي الأمر ويتلبس بافتراض الطاعة واحد منهم بعد الواحد فينسب افتراض الطاعة إلى جميعهم بحسب اللفظ، والأخذ بجامع المعنى، كقولنا: صل فرائضك وأطع سادتك وكبراء قومك.

ومن عجيب الكلام ما ذكره الرازي: أن هذا المعنى يوجب حمل الجمع على المفرد، وهو خلاف الظاهر، وقد غفل عن أن هذا استعمال شائع في اللغة، والقرآن مليء به كقوله تعالى: ﴿فلا تطع المكذبين﴾ القلم: 8، وقوله: ﴿فلا تطع الكافرين﴾ الفرقان: 52، وقوله: ﴿إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا﴾ الأحزاب: 67، وقوله: ﴿ولا تطيعوا أمر المسرفين﴾ الشعراء: 151، وقوله: ﴿حافظوا على الصلوات﴾ البقرة: 238، وقوله: ﴿واخفض جناحك للمؤمنين﴾ الحجر: 88، إلى غير ذلك من الموارد المختلفة بالإثبات والنفي، والإخبار والإنشاء.

والذي هو خلاف الظاهر من حمل الجمع على المفرد هو أن يطلق لفظ الجمع ويراد به واحد من آحاده لا أن يوقع حكم على الجمع بحيث ينحل إلى أحكام متعددة بتعدد الآحاد، كقولنا: أكرم علماء بلدك أي أكرم هذا العالم، وأكرم ذاك العالم، وهكذا.

ويحتمل أيضا أن يكون المراد بأولي الأمر - هؤلاء الذين هم متعلق افتراض الطاعة - الجمع من حيث هو جمع أي الهيئة الحاصلة من عدة معدودة كل واحد منهم من أولي الأمر، وهو أن يكون صاحب نفوذ في الناس، وذا تأثير في أمورهم كرؤساء الجنود والسرايا والعلماء وأولياء الدولة، وسراة القوم، بل كما ذكره في المنار هم أهل الحل والعقد الذين تثق بهم الأمة من العلماء والرؤساء في الجيش والمصالح العامة كالتجارة والصناعات والزراعة وكذا رؤساء العمال والأحزاب، ومديرو الجرائد المحترمة، ورؤساء تحريرها! فهذا معنى كون أولي الأمر هم أهل الحل والعقد، وهم الهيئة الاجتماعية من وجوه الأمة لكن الشأن في تطبيق مضمون تمام الآية على هذا الاحتمال.

الآية دالة - كما عرفت - على عصمة أولي الأمر وقد اضطر إلى قبول ذلك القائلون بهذا المعنى من المفسرين.

فهل المتصف بهذه العصمة أفراد هذه الهيئة فيكون كل واحد واحد منهم معصوما فالجميع معصوم إذ ليس المجموع إلا الآحاد؟ لكن من البديهي أن لم يمر بهذه الأمة يوم يجتمع فيه جماعة من أهل الحل والعقد كلهم معصومون على إنفاذ أمر من أمور الأمة ومن المحال أن يأمر الله بشيء لا مصداق له في الخارج، أو أن هذه العصمة - وهي صفة حقيقية - قائمة بتلك الهيئة قيام الصفة بموصوفها وإن كانت الأجزاء والأفراد غير معصومين بل يجوز عليهم من الشرك والمعصية ما يجوز على سائر أفراد الناس فالرأي الذي يراه الفرد يجوز فيه الخطأ وأن يكون داعيا إلى الضلال والمعصية بخلاف ما إذا رأته الهيئة المذكورة لعصمتها؟ وهذا أيضا محال وكيف يتصور اتصاف موضوع اعتباري بصفة حقيقية أعني اتصاف الهيئة الاجتماعية بالعصمة.

أو أن عصمة هذه الهيئة ليست وصفا لأفرادها ولا لنفس الهيئة بل حقيقته أن الله يصون هذه الهيئة أن تأمر بمعصية أو ترى رأيا فتخطىء فيه، كما أن الخبر المتواتر مصون عن الكذب، ومع ذلك ليست هذه العصمة بوصف لكل واحد من المخبرين ولا للهيئة الاجتماعية بل حقيقته أن العادة جارية على امتناع الكذب فيه، وبعبارة أخرى هو تعالى يصون الخبر الذي هذا شأنه عن وقوع الخطأ فيه وتسرب الكذب عليه، فيكون رأي أولي الأمر مما لا يقع فيه الخطأ البتة وإن لم يكن آحادهم ولا هيئتهم متصفة بصفة زائدة بل هو كالخبر المتواتر مصون عن الكذب والخطأ وليكن هذا معنى العصمة في أولي الأمر، والآية لا تدل على أزيد من أن رأيهم غير خابط بل مصيب يوافق الكتاب والسنة، وهو من عناية الله على الأمة، وقد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: لا تجتمع أمتي على خطأ.

أما الرواية فهي أجنبية عن المورد فإنها إن صحت فإنما تنفي اجتماع الأمة على خطإ، ولا تنفي اجتماع أهل الحل والعقد منهم على خطإ، وللأمة معنى ولأهل الحل والعقد معنى آخر، ولا دليل على إرادة معنى الثاني من لفظ الأول، وكذا لا تنفي الخطأ عن اجتماع الأمة بل تنفي الاجتماع على خطإ، وبينهما فرق.

ويعود معنى الرواية إلى أن الخطأ في مسألة من المسائل لا يستوعب الأمة بل يكون دائما فيهم من هو على الحق: إما كلهم أو بعضهم ولو معصوم واحد، فيوافق ما دل من الآيات والروايات على أن دين الإسلام وملة الحق لا يرتفع من الأرض بل هو باق إلى يوم القيامة، قال تعالى: ﴿فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين﴾ الأنعام: 89 وقوله: ﴿وجعلها كلمة باقية في عقبه﴾ الزخرف: 28 وقوله: ﴿إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون﴾ الحجر: 9 وقوله: ﴿وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه﴾ فصلت: 42 إلى غير ذلك من الآيات.

وليس يختص هذا بأمة محمد بل الصحيح من الروايات تدل على خلافه، وهي الروايات الواردة من طرق شتى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الدالة على افتراق اليهود على إحدى وسبعين فرقة والنصارى على اثنتين وسبعين فرقة، والمسلمين على ثلاث وسبعين فرقة كلهم هالك إلا واحدة، وقد نقلنا الرواية في المبحث الروائي الموضوع في ذيل قوله تعالى: ﴿واعتصموا بحبل الله جميعا﴾ آل عمران: 103.

وبالجملة لا كلام على متن الرواية إن صح سندها فإنها أجنبية عن مورد الكلام، وإنما الكلام في معنى عصمة أهل الحل والعقد من الأمة لو كان هو المراد بقوله: وأولي الأمر منكم.

ما هو العامل الموجب لعصمة أهل الحل والعقد من المسلمين فيما يرونه من الرأي؟ هذه العصابة التي شأنها الحل والعقد في الأمور غير مختصة بالأمة المسلمة بل كل أمة من الأمم العظام بل الأمم الصغيرة بل القبائل والعشائر لا تفقد عدة من أفرادها لهم مكانة في مجتمعهم ذات قوة وتأثير في الأمور العامة، وأنت إذا فحصت التاريخ في الحوادث الماضية وما في عصرنا من الأمم والأجيال وجدت موارد كثيرة اجتمعت أهل الحل والعقد منهم في مهام الأمور وعزائمها على رأي استصوبوه ثم عقبوه بالعمل، فربما أصابوا وربما أخطئوا، فالخطأ وإن كان في الآراء الفردية أكثر منه في الآراء الاجتماعية لكن الآراء الاجتماعية ليست بحيث لا تقبل الخطأ أصلا فهذا التاريخ وهذه المشاهدة يشهدان منه على مصاديق وموارد كثيرة جدا: فلو كان الرأي الاجتماعي من أهل الحل والعقد في الإسلام مصونا عن الخطإ فإنما هو بعامل ليس من سنخ العوامل العادية بل عامل من سنخ العوامل المعجزة الخارقة للعادة، ويكون حينئذ كرامة باهرة تختص بها هذه الأمة تقيم صلبهم، وتحفظ حماهم وتقيهم من كل شر يدب في جماعتهم ووحدتهم وبالآخرة سببا معجزا إلهيا يتلو القرآن الكريم، ويعيش ما عاش القرآن، نسبته إلى حياة الأمة العملية نسبة القرآن إلى حياتهم العلمية فكان من اللازم أن يبين القرآن حدوده وسعة دائرته، ويمتن الله به كما أمتن بالقرآن وبمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويبين لهذه العصابة وظيفتهم الاجتماعية كما بين لنبيه ذلك، وأن يوصي به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أمته، ولا سيما أصحابه الكرام وهم الذين صاروا بعده أهلا للحل والعقد، وتقلدوا ولاية أمور الأمة، وأن يبين أن هذه العصابة المسماة بأولي الأمر ما حقيقتها، وما حدها وما سعة دائرة عملها، وهل يتشكل هيئة حاكمة واحدة على جميع المسلمين في الأمور العامة لجميع الأمة الإسلامية؟ أو تنعقد في كل جمعية إسلامية جمعية أولي الأمر فيحكم في نفوسهم وأعراضهم وأموالهم؟.

ولكان من اللازم أن يهتم به المسلمون ولا سيما الصحابة فيسألوا عنه ويبحثوا فيه، وقد سألوا عن أشياء لا قدر لها بالنسبة إلى هذه المهمة كالأهلة، وما ذا ينفقون، والأنفال قال تعالى: ﴿يسألونك عن الأهلة﴾ و﴿ويسألونك ما ذا ينفقون﴾ و﴿يسألونك عن الأنفال﴾ فما بالهم لم يسألوا؟ أو أنهم سألوا ثم لعبت به الأيدي فخفي علينا؟ فليس الأمر مما يخالف هوى أكثرية الأمة الجارية على هذه الطريقة حتى يقضوا عليه بالإعراض فالترك حتى ينسى.

ولكان من الواجب أن يحتج به في الاختلافات والفتن الواقعة بعد ارتحال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حينا بعد حين، فما لهذه الحقيقة لا توجد لها عين ولا أثر في احتجاجاتهم ومناظراتهم، وقد ضبطها النقلة بكلماتها وحروفها، ولا توجد في خطاب ولا كتاب؟ ولم تظهر بين قدماء المفسرين من الصحابة والتابعين حتى ذهب إليه شرذمة من المتأخرين: الرازي وبعض من بعده!.

حتى أن الرازي أورد على هذا الوجه بعد ذكره: بأنه مخالف للإجماع المركب فإن الأقوال في معنى أولي الأمر لا تجاوز أربعة: الخلفاء الراشدون، وأمراء السرايا، والعلماء والأئمة المعصومون، فالقول الخامس خرق للإجماع، ثم أجاب بأنه في الحقيقة راجع إلى القول الثالث فأفسد على نفسه ما كان أصلحه فهذا كله يقضي بأن الأمر لم يكن بهذه المثابة، ولم يفهم منه أنه عطية شريفة وموهبة عزيزة من معجزات الإسلام وكراماته الخارقة لأهل الحل والعقد من المسلمين.

أو يقال: إن هذه العصمة لا تنتهي إلى عامل خارق للعادة بل الإسلام بنى تربيته العامة على أصول دقيقة تنتج هذه النتيجة: أن أهل الحل والعقد من الأمة لا يغلطون فيما اجتمعوا عليه، ولا يعرضهم الخطأ فيما رأوه.

وهذا الاحتمال مع كونه باطلا من جهة منافاته للناموس العام وهو أن إدراك الكل هو مجموع إدراكات الأبعاض، وإذا جاز الخطأ على كل واحد واحد جاز على الكل يرد عليه أن رأي أولي الأمر بهذا المعنى لو اعتمد في صحته وعصمته على مثل هذا العامل غير المغلوب لم يتخلف عن أثره فإلى أين تنتهي هذه الأباطيل والفسادات التي ملأت العالم الإسلامي؟.

وكم من منتدى إسلامي بعد رحلة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) اجتمع فيه أهل الحل والعقد من المسلمين على ما اجتمعوا عليه ثم سلكوا طريقا يهديهم إليه رأيهم فلم يزيدوا إلا ضلالا ولم يزد إسعادهم المسلمين إلا شقاء ولم يمكث الاجتماع الديني بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دون أن عاد إلى إمبراطورية ظالمة حاطمة! فليبحث الباحث الناقد في الفتن الناشئة منذ قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وما استتبعته من دماء مسفوكة، وأعراض مهتوكة، وأموال منهوبة، وأحكام عطلت وحدود أبطلت! ثم ليبحث في منشئها ومحتدها، وأصولها وأعراقها هل تنتهي الأسباب العاملة فيها إلا إلى ما رأته أهل الحل والعقد من الأمة ثم حملوا ما رأوه على أكتاف الناس؟.

فهذا حال هذا الركن الركين الذي يعتمد عليه بناية الدين أعني رأي أهل الحل والعقد لو كان هو المراد بأولي الأمر المعصومين في رأيهم.

فلا مناص على القول بأن المراد بأولي الأمر أهل الحل والعقد من أن نقول بجواز خطئهم وإنهم على حد سائر الناس يصيبون ويخطئون غير أنهم لما كانوا عصابة فاضلة خبيرة بالأمور مدربين مجربين يقل خطؤهم جدا، وأن الأمر بوجوب طاعتهم مع كونهم ربما يغلطون ويخطئون من باب المسامحة في موارد الخطإ نظرا إلى المصلحة الغالبة في مداخلتهم فلو حكموا بما يغاير حكم الكتاب والسنة، ويطابق ما شخصوه من مصلحة الأمة بتفسير حكم من أحكام الدين بغير ما كان يفسر سابقا أو تغيير حكم بما يوافق صلاح الوقت أو طبع الأمة أو وضع حاضر الدنيا كان هو المتبع، وهو الذي يرتضيه الدين لأنه لا يريد إلا سعادة المجتمع ورقيه في اجتماعه كما هو الظاهر المتراءى من سير الحكومات الإسلامية في صدر الإسلام ومن دونهم فلم يمنع حكم من الأحكام الدائرة في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يقض على سيرة من سيره وسننه إلا علل ذلك بأن الحكم السابق يزاحم حقا من حقوق الأمة، وأن صلاح حال الأمة في إنفاذ حكم جديد يصلح شأنهم، أو سن سنة حديثة توافق آمالهم في سعادة الحياة، وقد صرح بعض الباحثين أن الخليفة له أن يعمل بما يخالف صريح الدين حفظا لصلاح الأمة.

وعلى هذا فيكون حال الملة الإسلامية حال سائر المجتمعات الفاضلة المدنية في أن فيها جمعية منتخبة تحكم على قوانين المجتمع على حسب ما تراه وتشاهده من مقتضيات الأحوال، وموجبات الأوضاع.

وهذا الوجه أو القول - كما ترى - قول من يرى أن الدين سنة اجتماعية سبكت في قالب الدين، وظهرت في صورته فهو محكوم بما يحكم على متون الاجتماعات البشرية وهياكلها بالتطور في أطوار الكمال التدريجي، ومثال عال لا ينطبق إلا على حياة الإنسان الذي كان يعيش في عصر النبوة وما يقاربه.

فهي حلقة متقضية من حلق هذه السلسلة المسماة بالمجتمع الإنساني لا ينبغي أن يبحث عنها اليوم إلا كما يبحث علماء طبقات الأرض الجيولوجيا عن السلع المستخرجة من تحت أطباق الأرض.

والذي يذهب إلى مثل هذا القول لا كلام لنا معه في هذه الآية: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم الآية، فإن القول يبتني على أصل مؤثر في جميع الأصول والسنن المأثورة من الدين من معارف أصلية ونواميس أخلاقية وأحكام فرعية ولو حمل على هذا ما وقع من الصحابة في زمن النبي وفي مرض موته ثم الاختلافات التي صدرت منهم وما وقع من تصرف الخلفاء في بعض الأحكام وبعض سير النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم في زمن معاوية ومن تلاه من الأمويين ثم العباسيين ثم الذين يلونهم والجميع أمور متشابهة أنتج نتيجة باهتة.

ومن أعجب الكلام المتعلق بهذه الآية ما ذكره بعض المؤلفين أن قوله تعالى: ﴿أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم﴾ لا يدل على شيء مما ذكره المفسرون على اختلاف أقوالهم.

أما أولا فلأن فرض طاعة أولي الأمر كائنين من كانوا لا يدل على فضل ومزية لهم على غيرهم أصلا كما أن طاعة الجبابرة والظلام واجبة علينا في حال الاضطرار اتقاء من شرهم، ولن يكونوا بذلك أفضل منا عند الله سبحانه.

وأما ثانيا فلأن الحكم المذكور في الآية لا يزيد على سائر الأحكام التي تتوقف فعليتها على تحقق موضوعاتها نظير وجوب الإنفاق على الفقير وحرمة إعانة الظالم فليس يجب علينا أن نوجد فقيرا حتى ننفق عليه أو ظالما حتى لا نعينه.

والوجهان اللذان ذكرهما ظاهرا الفساد، مضافا إلى أن هذا القائل قدر أن المراد بأولي الأمر في الآية الحكام والسلاطين وقد تبين فساد هذا الاحتمال.

أما الوجه الأول فلأنه غفل عن أن القرآن مملوء من النهي عن طاعة الظالمين والمسرفين والكافرين، ومن المحال أن يأمر الله مع ذلك بطاعتهم ثم يزيد على ذلك فيقرن طاعتهم بطاعة نفسه ورسوله، ولو فرض كون هذه الطاعة طاعة تقية لعبر عنها بإذن ونحو ذلك كما قال تعالى: ﴿إلا أن تتقوا منهم تقاة﴾ آل عمران: 28، لا بالأمر بطاعتهم صريحا حتى يستلزم كل محذور شنيع.

وأما الوجه الثاني فهو مبني على الوجه الأول من معنى الآية أما لو فرض افتراض طاعتهم لكونهم ذا شأن في الدين كانوا معصومين لما تقدم تفصيلا، ومحال أن يأمر الله بطاعة من لا مصداق له، أو له مصداق اتفاقي في آية تتضمن أس أساس المصالح الدينية وحكما لا يستقيم بدونه حال المجتمع الإسلامي أصلا، وقد عرفت أن الحاجة إلى أولي الأمر عين الحاجة إلى الرسول وهي الحاجة إلى ولاية أمر الأمة وقد تكلمنا فيه في بحث المحكم والمتشابة.

ولنرجع إلى أول الكلام في الآية: ظهر لك من جميع ما قدمناه أن لا معنى لحمل قوله تعالى: ﴿وأولي الأمر منكم﴾ على جماعة المجمعين من أهل الحل والعقد، وهي الهيئة الاجتماعية بأي معنى من المعاني فسرناه فليس إلا أن المراد بأولي الأمر آحاد من الأمة معصومون في أقوالهم مفترض طاعتهم فتحتاج معرفتهم إلى تنصيص من جانب الله سبحانه من كلامه أو بلسان نبيه فينطبق على ما روي من طرق أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أنهم هم.

وأما ما قيل: إن أولي الأمر هم الخلفاء الراشدون أو أمراء السرايا أو العلماء المتبعون في أقوالهم وآرائهم فيدفع ذلك كله أولا: أن الآية تدل على عصمتهم ولا عصمة في هؤلاء الطبقات بلا إشكال إلا ما تعتقده طائفة من المسلمين في حق علي (عليه السلام)، وثانيا: أن كلا من الأقوال الثلاث قول من غير دليل يدل عليه.

وأما ما أورد على كون المراد به أئمة أهل البيت المعصومين (عليهم السلام): أولا: إن ذلك يحتاج إلى تعريف صريح من الله ورسوله، ولو كان ذلك لم يختلف في أمرهم اثنان بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

وفيه: أن ذلك منصوص عليه في الكتاب والسنة كآية الولاية وآية التطهير وغير ذلك، وسيأتي بسط الكلام فيها، وكحديث السفينة: (مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق) وحديث الثقلين: (إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا) وقد مر في بحث المحكم والمتشابه في الجزء الثالث من الكتاب، وكأحاديث أولي الأمر المروية من طرق الشيعة وأهل السنة، وسيجيء بعضها في البحث الروائي التالي.

وثانيا: أن طاعتهم مشروطة بمعرفتهم فإنها من دون معرفتهم تكليف بما لا يطاق وإذا كانت مشروطة فالآية تدفعه لأنها مطلقة.

وفيه: أن الإشكال منقلب على المستشكل فإن الطاعة مشروطة بالمعرفة مطلقا، وإنما الفرق أن أهل الحل والعقد يعرف مصداقهم على قوله من عند أنفسنا من غير حاجة إلى بيان من الله ورسوله، والإمام المعصوم يحتاج معرفته إلى معرف يعرفه، ولا فرق بين الشرط والشرط في منافاته الآية.

على أن المعرفة وإن عدت شرطا لكنها ليست من قبيل سائر الشروط فإنها راجعة إلى تحقق بلوغ التكليف فلا تكليف من غير معرفة به وبموضوعه ومتعلقه، وليست راجعة إلى التكليف والمكلف به، ولو كانت المعرفة في عداد سائر الشرائط كالاستطاعة في الحج، ووجدان الماء في الوضوء مثلا لم يوجد تكليف مطلق أبدا إذ لا معنى لتوجه التكليف إلى مكلف سواء علم به أو لم يعلم.

وثالثا: أنا في زماننا هذا عاجزون عن الوصول إلى الإمام المعصوم وتعلم العلم والدين منه، فلا يكون هو الذي فرض الله طاعته على الأمة إذ لا سبيل إليه.

وفيه: أن ذلك مستند إلى نفس الأمة في سوء فعالها وخيانتها على نفسها لا إلى الله ورسوله فالتكليف غير مرتفع كما لو قتلت الأمة نبيها ثم اعتذرت أنها لا تقدر على طاعته، على أن الإشكال مقلوب عليه فإنا لا نقدر اليوم على أمة واحدة في الإسلام ينفذ فيها ما استصوبته لها أهل الحل والعقد منها.

ورابعا: أن الله تعالى يقول: ﴿فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول﴾ ولو كان المراد من أولي الأمر الإمام المعصوم لوجب أن يقال: فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الإمام.

وفيه: أن جوابه تقدم فيما مر من البيان، والمراد بالرد الرد إلى الإمام بالتقريب الذي تقدم.

وخامسا: أن القائلين بالإمام المعصوم يقولون: إن فائدة اتباعه إنقاذ الأمة من ظلمة الخلاف، وضرر التنازع والتفرق وظاهر الآية يبين حكم التنازع مع وجود أولي الأمر، وطاعة الأمة لهم كأن يختلف أولو الأمر في حكم بعض النوازل والوقائع، والخلاف والتنازع مع وجود الإمام المعصوم غير جائز عند القائلين به لأنه عندهم مثل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فلا يكون لهذا الزيادة فائدة على رأيهم.

وفيه: أن جوابه ظاهر مما تقدم أيضا فإن التنازع المذكور في الآية إنما هو تنازع المؤمنين في أحكام الكتاب والسنة دون أحكام الولاية الصادرة عن الإمام في الوقائع والحوادث، وقد تقدم أن لا حكم إلا لله ورسوله فإن تمكن المتنازعون من فهم الحكم من الكتاب والسنة كان لهم أن يستنبطوه منهما، أو يسألوا الإمام عنه وهو معصوم في فهمه، وإن لم يتمكنوا من ذلك كان عليهم أن يسألوا عنه الإمام، وذلك نظير ما كان لمن يعاصر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كانوا يتفقهون فيما يتمكنون منه أو يسألون عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويسألونه فيما لا يتمكنون من فهمه بالاستنباط.

فحكم أولي الأمر في الطاعة حكم الرسول على ما يدل عليه الآية، وحكم التنازع هو الذي ذكره في الآية سواء في ذلك حضور الرسول كما يدل عليه الآيات التالية، وغيبته كما يدل عليه الأمر في الآية بإطلاقه، فالرد إلى الله والرسول المذكور في الآية مختص بصورة تنازع المؤمنين كما يدل عليه قوله: تنازعتم، ولم يقل: فإن تنازع أولو الأمر، ولا قال: فإن تنازعوا، والرد إلى الله والرسول عند حضور الرسول هو سؤال الرسول عن حكم المسألة أو استنباطه من الكتاب والسنة للمتمكن منه، وعند غيبته أن يسأل الإمام عنه أو الاستنباط كما تقدم بيانه، فلا يكون قوله: ﴿فإن تنازعتم في شيء﴾ زائدا من الكلام مستغنى عنه كما ادعاه المستشكل.

فقد تبين من جميع ما تقدم: أن المراد بأولي الأمر في الآية رجال من الأمة حكم الواحد منهم في العصمة وافتراض الطاعة حكم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهذا مع ذلك لا ينافي عموم مفهوم لفظ أولي الأمر بحسب اللغة، وإرادته من اللفظ فإن قصد مفهوم من المفاهيم من اللفظ شيء وإرادة المصداق الذي ينطبق عليه المفهوم شيء آخر، وذلك كما أن مفهوم الرسول معنى عام كلي وهو المراد من اللفظ في الآية لكن المصداق المقصود هو الرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).

قوله تعالى: ﴿فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول﴾ إلى آخر الآية تفريع على الحصر المستفاد من المورد فإن قوله: ﴿أطيعوا الله﴾ إلخ حيث أوجب طاعة الله ورسوله، وهذه الطاعة إنما هي في المواد الدينية التي تتكفل رفع كل اختلاف مفروض، وكل حاجة ممكنة لم يبق مورد تمس الحاجة الرجوع إلى غير الله ورسوله، وكان معنى الكلام: أطيعوا الله، ولا تطيعوا الطاغوت، وهو ما ذكرناه من الحصر.

وتوجه الخطاب إلى المؤمنين كاشف عن أن المراد بالتنازع هو تنازعهم بينهم لا تنازع مفروض بينهم وبين أولي الأمر، ولا تنازع مفروض بين أولي الأمر فإن الأول أعني التنازع بينهم وبين أولي الأمر لا يلائم افتراض طاعة أولي الأمر عليهم، وكذا الثاني أعني التنازع بين أولي الأمر فإن افتراض الطاعة لا يلائم التنازع الذي أحد طرفيه على الباطل، على أنه لا يناسب كون الخطاب متوجها إلى المؤمنين في قوله: ﴿فإن تنازعتم في شيء فردوه﴾.

ولفظ الشيء وإن كان يعم كل حكم وأمر من الله ورسوله وأولي الأمر كائنا ما كان لكن قوله بعد ذلك: فردوه إلى الله والرسول يدل على أن المفروض هو النزاع في شيء ليس لأولي الأمر الاستقلال والاستبداد فيه من أوامرهم في دائرة ولايتهم كأمرهم بنفر أو حرب أو صلح أو غير ذلك، إذ لا معنى لإيجاب الرد إلى الله والرسول في هذه الموارد مع فرض طاعتهم فيها.

فالآية تدل على وجوب الرد في نفس الأحكام الدينية التي ليس لأحد أن يحكم فيها بإنفاذ أو نسخ إلا الله ورسوله، والآية كالصريح في أنه ليس لأحد أن يتصرف في حكم ديني شرعه الله ورسوله، وأولو الأمر ومن دونهم في ذلك سواء.

وقوله: ﴿إن كنتم تؤمنون بالله﴾ تشديد في الحكم وإشارة إلى أن مخالفته إنما تنتشىء من فساد في مرحلة الإيمان فالحكم يرتبط به ارتباطا فالمخالفة تكشف عن التظاهر بصفة الإيمان بالله ورسوله، واستبطان للكفر، وهو النفاق كما يدل عليه الآيات التالية.

وقوله: ﴿ذلك خير وأحسن تأويلا﴾ أي الرد عند التنازع أو إطاعة الله ورسوله وأولي الأمر، والتأويل هو المصلحة الواقعية التي تنشأ منها الحكم ثم تترتب على العمل وقد تقدم البحث عن معناه في ذيل قوله تعالى: ﴿وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله﴾ آل عمران: 7 في الجزء الثالث من الكتاب.

قوله تعالى: ﴿ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك﴾ إلى آخر الآية الزعم هو الاعتقاد بكذا سواء طابق الواقع أم لا، بخلاف العلم فإنه الاعتقاد المطابق للواقع، ولكون الزعم يستعمل في الاعتقاد في موارد لا يطابق الواقع ربما يظن أن عدم مطابقة الواقع مأخوذ في مفهومه وليس كذلك، والطاغوت مصدر بمعنى الطغيان كالرهبوت والجبروت والملكوت غير أنه ربما يطلق ويراد به اسم الفاعل مبالغة يقال: طغى الماء إذا تعدى ظرفه لوفوره وكثرته، وكان استعماله في الإنسان أولا على نحو الاستعارة ثم ابتذل فلحق بالحقيقة وهو خروج الإنسان عن طوره الذي حده له العقل أو الشرع، فالطاغوت هو الظالم الجبار، والمتمرد عن وظائف عبودية الله استعلاء عليه تعالى وهكذا، وإليه يعود ما قيل: إن الطاغوت كل معبود من دون الله.

وقوله: ﴿بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك﴾ بمنزلة أن يقال: بما أنزل الله على رسله، ولم يقل: آمنوا بك وبالذين من قبلك لأن الكلام في وجوب الرد إلى كتاب الله وحكمه وبذلك يظهر أن المراد بقوله: ﴿وقد أمروا أن يكفروا به﴾ الأمر في الكتب السماوية والوحي النازل على الأنبياء: محمد ومن قبله (صلى الله عليه وآله وسلم).

وقوله: ﴿ألم تر﴾ إلخ، الكلام بمنزلة دفع الدخل كأنه قيل: ما وجه ذكر قوله: ﴿أطيعوا الله وأطيعوا الرسول﴾ فقيل: ألم تر إلى تخلفهم من الطاعة حيث يريدون التحاكم إلى الطاغوت؟ والاستفهام للتأسف والمعنى: من الأسف ما رأيته أن بعض الناس، وهم معتقدون أنهم مؤمنون بما أنزل إليك من الكتاب وإلى سائر الأنبياء والكتب السماوية إنما أنزلت لتحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وقد بينه الله تعالى لهم بقوله: ﴿كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه﴾ البقرة: 213 يتحاكمون عند التنازع إلى الطاغوت وهم أهل الطغيان والمتمردون عن دين الله المتعدون على الحق، وقد أمروا في هذه الكتب أن يكفروا بالطاغوت، وكفى في منع التحاكم إليهم أنه إلغاء لكتب الله وإبطال لشرائعه.

وفي قوله ﴿ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا﴾ دلالة على أن تحاكمهم إنما هو بإلقاء الشيطان وإغوائه، والوجهة فيه الضلال البعيد.

قوله تعالى: ﴿وإذا قيل لهم تعالوا﴾ إلى آخر الآية، تعالوا بحسب الأصل أمر من التعالي وهو الارتفاع، وصد عنه يصد صدودا أي أعرض، وقوله: إلى ما أنزل الله وإلى الرسول، بمنزلة أن يقال: إلى حكم الله ومن يحكم به، وفي قوله: يصدون عنك، إنما خص الرسول بالإعراض مع أن الذي دعوا إليه هو الكتاب والرسول معا لا الرسول وحده لأن الأسف إنما هو من فعل الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل الله فهم ليسوا بكافرين حتى يتجاهروا بالإعراض عن كتاب الله بل منافقون بالحقيقة يتظاهرون بالإيمان بما أنزل الله لكنهم يعرضون عن رسوله.

ومن هنا يظهر أن الفرق بين الله ورسوله بتسليم حكم الله والتوقف في حكم الرسول نفاق البتة.

قوله تعالى: ﴿فكيف إذا أصابتهم مصيبة﴾ إلخ إيذان بأن هذا الإعراض والانصراف عن حكم الله ورسوله، والإقبال إلى غيره وهو حكم الطاغوت سيعقب مصيبة تصيبهم لا سبب لها إلا هذا الإعراض عن حكم الله ورسوله، والتحاكم إلى الطاغوت، وقوله: ثم جاءوك يحلفون بالله، اه حكاية لمعذرتهم أنهم ما كانوا يريدون بركونهم إلى حكم الطاغوت سوء، والمعنى - والله أعلم -: فإذا كان حالهم هذا الحال كيف صنيعهم إذا أصابهم بفعالهم هذا وباله السيىء ثم جاءوك يحلفون بالله قائلين ما أردنا بالتحاكم إلى غير الكتاب والرسول إلا الإحسان والتوفيق وقطع المشاجرة بين الخصوم.

قوله تعالى: ﴿أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم﴾ إلخ تكذيب لقولهم فيما اعتذروا به، ولم يذكر حال ما في قلوبهم، وأنه ضمير فاسد لدلالة قوله: ﴿فأعرض عنهم وعظهم﴾ على ذلك إذ لو كان ما في قلوبهم غير فاسد كان قولهم صدقا وحقا ولا يؤمر بالإعراض عمن يقول الحق ويصدق في قوله.

وقوله: وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا أي قولا يبلغ في أنفسهم ما تريد أن يقفوا عليه ويفقهوه من مفاسد هذا الصنيع، وأنه نفاق لو ظهر نزل بهم الويل من سخط الله تعالى.

قوله تعالى: ﴿وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله﴾ رد مطلق لجميع ما تقدمت حكايته من هؤلاء المنافقين من التحاكم إلى الطاغوت، والإعراض عن الرسول، والحلف والاعتذار بالإحسان والتوفيق.

فكل ذلك مخالفة للرسول بوجه سواء كانت مصاحبة لعذر يعتذر به أم لا، وقد أوجب الله طاعته من غير قيد وشرط فإنه لم يرسله إلا ليطاع بإذن الله، وليس لأحد أن يتخيل أن المتبع من الطاعة طاعة الله، وإنما الرسول بشر ممن خلق إنما يطاع لحيازة الصلاح فإذا أحرز صلاح من دون طاعته فلا بأس بالاستبداد في إحرازه، وترك الرسول في جانب، وإلا كان إشراكا بالله، وعبادة لرسوله معه، وربما كان يلوح ذلك في أمور يكلمون فيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول قائلهم له إذا عزم عليهم في مهمة: أبأمر من الله أم منك؟.

فذكر الله سبحانه أن وجوب طاعة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وجوب مطلق، وليست إلا طاعة الله فإنها بإذنه نظير ما يفيده قوله تعالى: ﴿من يطع الرسول فقد أطاع الله﴾ النساء: 80.

ثم ذكر أنهم لو رجعوا إلى الله ورسوله بالتوبة حين ما خالفوا الرسول بالإعراض لكان خيرا لهم من أن يحلفوا بالله، ويلفقوا أعذارا غير موجهة لا تنفع ولا ترضي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأن الله سبحانه يخبره بحقيقة الأمر، وذلك قوله: ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك إلى آخر الآية.

قوله تعالى: ﴿فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك﴾ إلخ، الشجر - بسكون الجيم - والشجور: الاختلاط يقال: شجر شجرا وشجورا أي اختلط، ومنه التشاجر والمشاجرة كأن الدعاوي أو الأقوال اختلط بعضها مع بعض، ومنه قيل للشجر: شجر لاختلاط غصونها بعضها مع بعض، والحرج الضيق.

وظاهر السياق في بدء النظر أنه رد لزعم المنافقين أنهم آمنوا بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع تحاكمهم إلى الطاغوت فالمعنى: فليس كما يزعمون أنهم يؤمنون مع تحاكمهم إلى الطاغوت بل لا يؤمنون حتى يحكموك إلخ.

لكن شمول حكم الغاية أعني قوله: حتى يحكموك إلخ لغير المنافقين، وكذا قوله بعد ذلك: ﴿ولو أنا كتبنا عليهم﴾ إلى قوله: ﴿ما فعلوه إلا قليل منهم﴾ يؤيد أن الرد لا يختص بالمنافقين بل يعمهم وغيرهم من جهة أن ظاهر حالهم أنهم يزعمون أن مجرد تصديق ما أنزل من عند الله بما يتضمنه من المعارف والأحكام إيمان بالله ورسوله وبما جاء به من عند ربه حقيقة، وليس كذلك بل الإيمان تسليم تام باطنا وظاهرا فكيف يتأتى لمؤمن حقا أن لا يسلم للرسول حكما في الظاهر بأن يعرض عنه ويخالفه، أو في باطن نفسه بأن يتحرج عن حكم الرسول إذا خالف هوى نفسه، وقد قال الله تعالى لرسوله: ﴿لتحكم بين الناس بما أراك الله﴾ النساء: 105.

فلو تحرج متحرج بما قضى به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فمن حكم الله تحرج لأنه الذي شرفه بافتراض الطاعة ونفوذ الحكم.

وإذا كانوا سلموا حكم الرسول، ولم يتحرج قلوبهم منه كانوا مسلمين لحكم الله قطعا سواء في ذلك حكمه التشريعي والتكويني، وهذا موقف من مواقف الإيمان يتلبس فيه المؤمن بعدة من صفات الفضيلة أوضحها: التسليم لأمر الله، ويسقط فيه التحرج والاعتراض والرد من لسان المؤمن وقلبه، وقد أطلق في الآية التسليم إطلاقا.

ومن هنا يظهر أن قوله: فلا وربك إلى آخر الآية، وإن كان مقصورا على التسليم لحكم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بحسب اللفظ لأن مورد الآيات هو تحاكمهم إلى غير رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مع وجوب رجوعهم إليه إلا أن المعنى عام لحكم الله ورسوله جميعا، ولحكم التشريع والتكوين جميعا كما عرفت.

بل المعنى يعم الحكم بمعنى قضاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكل سيرة سار بها أو عمل عمل به لأن الأثر مشترك فكل ما ينسب بوجه إلى الله ورسوله بأي نحو كان لا يتأتى لمؤمن بالله حق إيمانه أن يرده أو يعترض عليه أو يمله أو يسوءه بوجه من وجوه المساءة فكل ذلك شرك على مراتبه، وقد قال تعالى: ﴿وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون﴾ يوسف: 106.

قوله تعالى: ﴿ولو أنا كتبنا عليهم﴾ إلى قوله: ﴿ما فعلوه إلا قليل منهم﴾ قد تقدم في قوله: ﴿ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا﴾ آية: 46 من السورة إن هذا التركيب يدل على أن الحكم للهيئة الاجتماعية من الأفراد وهو المجتمع، وأن الاستثناء لدفع توهم استغراق الحكم واستيعابه لجميع الأفراد، ولذلك كان هذا الاستثناء أشبه بالمنفصل منه بالمتصل أو هو برزخ بين الاستثنائين: المتصل والمنفصل لكونه ذا جنبتين.

على هذا فقوله ﴿ما فعلوه إلا قليل منهم﴾ وارد مورد الإخبار عن حال الجملة المجتمعة أنهم لا يمتثلون الأحكام والتكاليف الحرجية الشاقة التي تماس ما يتعلق به قلوبهم تعلق الحب الشديد كنفوسهم وديارهم، واستثناء القليل لدفع التوهم.

فالمعنى: ولو أنا كتبنا أي فرضنا عليهم قتل أنفسهم والخروج من ديارهم وأوطانهم المألوفة لهم ما فعلوه أي لم يمتثلوا أمرنا، ثم لما استشعر أن قوله: ما فعلوه يوهم أن ليس فيهم من هو مؤمن حقا مسلم لحكم الله حقيقة دفع ذلك باستثناء القليل منهم، ولم يكن يشمله الحكم حقيقة لأن الإخبار عن حال المجتمع من حيث إنه مجتمع ولم تكن الأفراد داخلة فيه إلا بتبع الجملة.

ومن هنا يظهر أن المراد قتل الجملة الجملة وخروج الجملة وجلاؤهم من جملة ديارهم كالبلدة والقرية دون قتل كل واحد نفسه، وخروجه من داره كما في قوله تعالى: ﴿فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم﴾ البقرة: 54، فإن المقصود بالخطاب هو الجماعة دون الأفراد.

قوله تعالى: ﴿ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا﴾ في تبديل الكتابة في قوله: ولو أنا كتبنا عليهم، بالوعظ في قوله: ما يوعظون به إشارة إلى أن هذه الأحكام الظاهرة في صورة الأمر والفرض ليست إلا إشارات إلى ما فيه صلاحهم وسعادتهم فهي في الحقيقة مواعظ ونصائح يراد بها خيرهم وصلاحهم.

وقوله: ﴿لكان خيرا لهم﴾ أي في جميع ما يتعلق بهم من أولاهم وأخراهم، وذلك أن خير الآخرة لا ينفك من خير الدنيا بل يستتبعه، وقوله: ﴿وأشد تثبيتا﴾ أي لنفوسهم وقلوبهم بالإيمان لأن الكلام فيه، قال تعالى: ﴿يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت﴾ إبراهيم: 27.

قوله تعالى: ﴿وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما﴾ أي حين تثبتوا بالإيمان الثابت، والكلام في إبهام قوله: ﴿أجرا عظيما﴾ كالكلام في إطلاق قوله: ﴿لكان خيرا لهم﴾.

قوله تعالى: ﴿ولهديناهم صراطا مستقيما﴾ قد مضى الكلام في معنى الصراط المستقيم في ذيل قوله: ﴿اهدنا الصراط المستقيم﴾ الحمد: 6 في الجزء الأول من الكتاب.

قوله تعالى: ﴿ومن يطع الله والرسول﴾ إلى قوله: ﴿حسن أولئك رفيقا﴾ جمع بين الله والرسول في هذا الوعد الحسن مع كون الآيات السابقة متعرضة لإطاعة الرسول والتسليم لحكمه وقضائه، لتخلل ذكره تعالى بينها في قوله: ولو أنا كتبنا عليهم ﴿إلخ﴾ فالطاعة المفترضة طاعته تعالى وطاعة رسوله، وقد بدأ الكلام على هذا النحو في قوله: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول الآية.

وقوله: فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم، يدل على اللحوق دون الصيرورة فهؤلاء ملحقون بجماعة المنعم عليهم، وهم أصحاب الصراط المستقيم الذي لم ينسب في كلامه تعالى إلى غيره إلا إلى هذه الجماعة في قوله تعالى: ﴿اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم﴾ الفاتحة: 7، وبالجملة فهم ملحقون بهم غير صائرين منهم كما لا يخلو قوله: ﴿وحسن أولئك رفيقا﴾ من تلويح إليه، وقد تقدم أن المراد بهذه النعمة هي الولاية.

وأما هؤلاء الطوائف الأربع أعني النبيين والصديقين والشهداء والصالحين فالنبيون هم أصحاب الوحي الذين عندهم نبأ الغيب، ولا خبرة لنا من حالهم بأزيد من ذلك إلا من حيث الآثار، وقد تقدم أن المراد بالشهداء شهداء الأعمال فيما يطلق من لفظ الشهيد في القرآن دون المستشهدين في معركة القتال، وأن المراد بالصالحين هم أهل اللياقة بنعم الله.

وأما الصديقون فالذي يدل عليه لفظه هو أنه مبالغة من الصدق، ومن الصدق ما هو في القول، ومنه ما هو في الفعل، وصدق الفعل هو مطابقته للقول لأنه حاك عن الاعتقاد فإذا صدق في حكايته كان حاكيا لما في الضمير من غير تخلف، وصدق القول مطابقته لما في الواقع، وحيث كان القول نفسه من الفعل بوجه كان الصادق في فعله لا يخبر إلا عما يعلم صدقه وأنه حق، ففي قوله الصدق الخبري والمخبري جميعا.

فالصديق الذي لا يكذب أصلا هو الذي لا يفعل إلا ما يراه حقا من غير اتباع لهوى النفس، ولا يقول إلا ما يرى أنه حق، ولا يرى شيئا إلا ما هو حق فهو يشاهد حقائق الأشياء، ويقول الحق، ويفعل الحق.

وعلى ذلك فيترتب المراتب فالنبيون وهم السادة، ثم الصديقون وهم شهداء الحقائق والأعمال، والشهداء وهم شهداء الأعمال، والصالحون وهم المتهيئون للكرامة الإلهية.

وقوله تعالى: ﴿وحسن أولئك رفيقا﴾ أي من حيث الرفاقة فهو تمييز، قيل: ولذلك لم يجمع، وقيل: المعنى: حسن كل واحد منهم رفيقا، وهو حال نظير قوله: ﴿ثم نخرجكم طفلا﴾ الحج: 5 .

قوله تعالى: ﴿ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما﴾ تقديم ﴿ذلك﴾ وإتيانه بصيغة الإشارة الدالة على البعيد ودخول اللام في الخبر يدل على تفخيم أمر هذا الفضل كأنه كل الفضل، وختم الآية بالعلم لكون الكلام في درجات الإيمان التي لا سبيل إلى تشخيصها إلا العلم الإلهي.

واعلم أن في هذه الآيات الشريفة موارد عديدة من الالتفات الكلامي متشابك بعضها مع بعض فقد أخذ المؤمنون في صدر الآيات مخاطبين ثم في قوله: ﴿ولو أنا كتبنا عليهم﴾ كما مر غائبين، وكذلك أخذ تعالى نفسه في مقام الغيبة في صدر الآيات في قوله: أطيعوا الله الآية، ثم في مقام المتكلم مع الغير في قوله: وما أرسلنا من رسول الآية، ثم الغيبة في قوله: بإذن الله الآية، ثم المتكلم مع الغير في قوله: ولو أنا كتبنا الآية، ثم الغيبة في قوله: ومن يطع الله والرسول الآية.

وكذلك الرسول أخذ غائبا في صدر الآيات في قوله: ﴿وأطيعوا الرسول﴾ الآية، ثم مخاطبا في قوله: ﴿ذلك خير﴾ الآية، ثم غائبا في قوله: ﴿واستغفر لهم الرسول﴾ الآية، ثم مخاطبا في قوله: ﴿فلا وربك﴾ الآية، ثم غائبا في قوله: ﴿ومن يطع الله والرسول﴾ الآية، ثم مخاطبا في قوله: ﴿وحسن أولئك﴾ الآية، فهذه عشر موارد من الالتفات الكلامي والنكات المختصة بكل مورد مورد ظاهرة للمتدبر.

بحث روائي:

في تفسير البرهان، عن ابن بابويه بإسناده عن جابر بن عبد الله الأنصاري: لما أنزل الله عز وجل على نبيه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم): ﴿يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول - وأولي الأمر منكم﴾ قلت: يا رسول الله عرفنا الله ورسوله فمن أولو الأمر الذين قرن الله طاعتهم بطاعتك؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): هم خلفائي يا جابر وأئمة المسلمين من بعدي: أولهم علي بن أبي طالب، ثم الحسن، ثم الحسين، ثم علي بن الحسين، ثم محمد بن علي المعروف في التوراة بالباقر ستدركه يا جابر فإذا لقيته فأقرئه مني السلام، ثم الصادق جعفر بن محمد ثم موسى بن جعفر، ثم علي بن موسى، ثم محمد بن علي، ثم علي بن محمد، ثم الحسن بن علي، ثم سميي محمد وكنيي حجة الله في أرضه وبقيته في عباده ابن الحسن بن علي ذاك الذي يفتح الله تعالى ذكره على يديه مشارق الأرض ومغاربها، ذاك الذي يغيب عن شيعته وأوليائه غيبة لا يثبت فيه على القول بإمامته إلا من امتحن الله قلبه للإيمان. قال جابر: فقلت له يا رسول الله فهل يقع لشيعته الانتفاع به في غيبته فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) إي والذي بعثني بالنبوة إنهم يستضيئون بنوره، وينتفعون بولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشمس وإن تجلاها سحاب، يا جابر هذا من مكنون سر الله ومخزون علم الله فاكتمه إلا عن أهله.

أقول: وعن النعماني بإسناده عن سليم بن قيس الهلالي عن علي (عليه السلام) ما في معنى الرواية السابقة، ورواها علي بن إبراهيم بإسناده عن سليم عنه (عليه السلام)، وهناك روايات أخر من طرق الشيعة وأهل السنة، وفيها ذكر إمامتهم بأسمائهم من أراد الوقوف عليها فعليه بالرجوع إلى كتاب ينابيع المودة وكتاب غاية المرام للبحراني وغيرهما.

وفي تفسير العياشي، عن جابر الجعفي قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن هذه الآية: ﴿أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم﴾ قال: الأوصياء.

أقول: وفي تفسير العياشي، عن عمر بن سعيد عن أبي الحسن (عليه السلام) مثله وفيه: علي بن أبي طالب والأوصياء من بعده.

وعن ابن شهرآشوب: سأل الحسن بن صالح عن الصادق (عليه السلام) عن ذلك فقال: الأئمة من أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أقول: وروى مثله الصدوق عن أبي بصير عن الباقر (عليه السلام) وفيه: قال: الأئمة من ولد علي وفاطمة إلى أن تقوم الساعة.

وفي الكافي، بإسناده عن أبي مسروق عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: إنا نكلم أهل الكلام فنحتج عليهم بقول الله عز وجل: ﴿أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم﴾ فيقولون: نزلت في المؤمنين، ونحتج عليهم بقول الله عز وجل: ﴿قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى﴾ فيقولون: نزلت في قربى المسلمين قال: فلم أدع شيئا مما حضرني ذكره من هذا وشبهه إلا ذكرته، فقال لي: إذا كان ذلك فادعهم إلى المباهلة، قلت: وكيف أصنع؟ فقال: أصلح نفسك ثلاثا وأطبه، قال: وصم واغتسل وابرز أنت وهو إلى الجبال فتشبك أصابعك من يدك اليمنى في أصابعه ثم أنصفه، وابدأ بنفسك، وقل: اللهم رب السموات السبع ورب الأرضين السبع عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم إن كان أبو مسروق جحد حقا وادعى باطلا فأنزل عليه حسبانا من السماء وعذابا أليما، ثم رد الدعوة عليه فقل: وإن جحد حقا وادعى باطلا فأنزل عليه حسبانا من السماء وعذابا أليما. ثم قال لي: فإنك لا تلبث أن ترى ذلك فيه، فوالله ما وجدت خلقا يجيبني إليه.

وفي تفسير العياشي، عن عبد الله بن عجلان عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله: ﴿أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم﴾ قال: هي في علي وفي الأئمة جعلهم الله مواضع الأنبياء غير أنهم لا يحلون شيئا ولا يحرمونه.

أقول: والاستثناء في الرواية هو الذي قدمنا في ذيل الكلام على الآية أنها تدل على أن لا حكم تشريعا إلا لله ورسوله.

وفي الكافي، بإسناده عن بريد بن معاوية قال: تلا أبو جعفر (عليه السلام): أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن خفتم تنازعا في الأمر فارجعوه إلى الله وإلى الرسول وإلى أولي الأمر منكم. قال: كيف يأمر بطاعتهم ويرخص في منازعتهم إنما قال ذلك للمارقين الذين قيل لهم: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول.

أقول: الرواية لا تدل على أزيد من كون ما تلاه (عليه السلام) تفسير للآية وبيانا للمراد منها، وقد تقدم في البيان السابق توضيح دلالتها على ذلك، وليس المراد هو القراءة كما ربما يستشعر من قوله: تلا أبو جعفر (عليه السلام).

ويدل على ذلك اختلاف اللفظ الموجود في الروايات كما في تفسير القمي، بإسناده عن حريز عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: نزلت: ﴿فإن تنازعتم في شيء فارجعوه إلى الله وإلى الرسول وإلى أولي الأمر منكم﴾.

وما في تفسير العياشي، عن بريد بن معاوية عن أبي جعفر (عليه السلام) وهو رواية الكافي، السابقة وفي الحديث: ثم قال للناس: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ فجمع المؤمنين إلى يوم القيامة ﴿أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم﴾ إيانا عنى خاصة ﴿فإن خفتم تنازعا في الأمر فارجعوا إلى الله وإلى الرسول وأولي الأمر منكم﴾ هكذا نزلت، وكيف يأمرهم بطاعة أولي الأمر ويرخص لهم في منازعتهم إنما قيل ذلك للمأمورين الذين قيل لهم: ﴿أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم﴾.

وفي تفسير العياشي، في رواية أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: نزلت يعني آية أطيعوا الله، في علي بن أبي طالب (عليه السلام) قلت له: إن الناس يقولون لنا: فما منعه أن يسمي عليا وأهل بيته في كتابه؟ فقال أبو جعفر (عليه السلام): قولوا لهم: إن الله أنزل على رسوله الصلاة ولم يسم ثلاثا ولا أربعا حتى كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الذي فسر ذلك لهم وأنزل الحج ولم ينزل طوفوا أسبوعا حتى فسر ذلك لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، والله أنزل: ﴿أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم﴾ تنزلت في علي والحسن والحسين (عليهما السلام)، وقال في علي من كنت مولاه فعلي مولاه، وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أوصيكم بكتاب الله وأهل بيتي إني سألت الله أن لا يفرق بينهما حتى يوردهما علي الحوض فأعطاني ذلك، وقال: فلا تعلموهم فإنهم أعلم منكم، إنهم لن يخرجوكم من باب هدى، ولن يدخلوكم في باب ضلال، ولو سكت رسول الله ولم يبين أهلها لادعى آل عباس وآل عقيل وآل فلان، ولكن أنزل الله في كتابه: ﴿إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت - ويطهركم تطهيرا﴾ فكان علي والحسن والحسين وفاطمة (عليهما السلام) تأويل هذه الآية، فأخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بيد علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهما السلام) فأدخلهم تحت الكساء في بيت أم سلمة وقال: اللهم إن لكل نبي ثقلا وأهلا فهؤلاء ثقلي وأهلي، وقالت أم سلمة: أ لست من أهلك؟ قال: إنك إلى خير، ولكن هؤلاء ثقلي وأهلي، الحديث: أقول: وروي في الكافي، بإسناده عن أبي بصير عنه (عليه السلام) مثله مع اختلاف يسير في اللفظ.

وفي تفسير البرهان، عن ابن شهرآشوب عن تفسير مجاهد: أنها نزلت في أمير المؤمنين حين خلفه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالمدينة فقال: يا رسول الله أتخلفني على النساء والصبيان؟ فقال: يا أمير المؤمنين أ ما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ حين قال له: ﴿اخلفني في قومي وأصلح﴾ فقال الله: وأولي الأمر منكم. قال: علي بن أبي طالب ولاه الله أمر الأمة بعد محمد، وحين خلفه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالمدينة فأمر الله العباد بطاعته وترك خلافه.

وفيه، عنه عن أبانة الفلكي: أنها نزلت حين شكا أبو بريدة من علي (عليه السلام)، الخبر.

وفي العبقات، عن كتاب ينابيع المودة، للشيخ سليمان بن إبراهيم البلخي عن المناقب عن سليم بن قيس الهلالي عن علي في حديث قال: وأما أدنى ما يكون به العبد ضالا أن لا يعرف حجة الله تبارك وتعالى وشاهده على عباده، الذي أمر الله عباده بطاعته، وفرض ولايته. قال سليم: قلت: يا أمير المؤمنين صفهم لي، قال: الذين قرنهم الله بنفسه ونبيه فقال: ﴿يا أيها الذين آمنوا - أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم﴾ فقلت له: جعلني الله فداك أوضح لي، فقال: الذين قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في مواضع وفي آخر خطبته يوم قبضه الله عز وجل إليه: إني تركت فيكم أمرين لن تضلوا بعدي إن تمسكتم بهما كتاب الله عز وجل، وعترتي أهل بيتي، فإن اللطيف الخبير قد عهد إلي أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض كهاتين وجمع بين مسبحتيه ولا أقول: كهاتين وجمع مسبحته والوسطى فتمسكوا بهما ولا تقدموهم فتضلوا.

أقول: والروايات عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في المعاني السابقة كثيرة جدا وقد اقتصرنا فيما نقلناه على إيراد نموذج من كل صنف منها، وعلى من يطلبها أن يراجع جوامع الحديث.

وأما الذي روي عن قدماء المفسرين فهي ثلاثة أقوال: الخلفاء الراشدون، وأمراء السرايا والعلماء، وما نقل عن الضحاك أنهم أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو يرجع إلى القول الثالث فإن اللفظ المنقول منه: أنهم أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هم الدعاة الرواة، وظاهره أنه تعليل بالعلم فيرجع إلى التفسير بالعلماء.

واعلم أيضا أنه قد نقل في أسباب نزول هذه الآيات أمور كثيرة، وقصص مختلفة شتى لكن التأمل فيها لا يدع ريبا في أنها جميعا من قبيل التطبيق النظري من رواتها، ولذلك تركنا إيرادها لعدم الجدوى في نقلها، وإن شئت تصديق ذلك فعليك بالرجوع إلى الدر المنثور، وتفسير الطبري، وأشباههما.

وفي محاسن البرقي، بإسناده عن أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله تعالى: ﴿فلا وربك لا يؤمنون﴾ الآية، قال: التسليم، الرضا، والقنوع بقضائه.

وفي الكافي، بإسناده عن عبد الله الكاهلي قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): لو أن قوما عبدوا الله وحده لا شريك له، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وحجوا البيت، وصاموا شهر رمضان ثم قالوا الشيء صنعه الله وصنع رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم): لم صنع هكذا وكذا، ولو صنع خلاف الذي صنع، أو وجدوا ذلك في قلوبهم لكانوا بذلك مشركين، ثم تلا هذه الآية: ﴿فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم - ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما﴾ ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): عليكم بالتسليم.

وفي تفسير العياشي، عن عبد الله بن يحيى الكاهلي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: والله لو أن قوما عبدوا الله وحده لا شريك له وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وحجوا البيت، وصاموا شهر رمضان ثم قالوا لشيء صنعه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لم صنع كذا وكذا؟ ووجدوا ذلك في أنفسهم لكانوا بذلك مشركين، ثم قرأ: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم - ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضى محمد وآل محمد ويسلموا تسليما.

أقول: وفي معنى الروايتين روايات أخر، والذي ذكره (عليه السلام) تعميم في الآية من جهة الملاك من جهتين: من جهة أن الحكم لا يفرق فيه بين أن يكون حكما تشريعيا أو تكوينيا، ومن جهة أن الحاكم بالحكم لا يفرق فيه بين أن يكون هو الله أو رسوله.

واعلم أن هناك روايات تطبق الآيات أعني قوله: فلا وربك لا يؤمنون إلى آخر الآيات على ولاية علي (عليه السلام) أو على ولاية أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، وهو من مصاديق التطبيق على المصاديق، فإن الله سبحانه ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) مصاديق الآيات وهي جارية فيهم.

وفي أمالي الشيخ، بإسناده إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: جاء رجل من الأنصار إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول الله ما أستطيع فراقك، وإني لأدخل منزلي فأذكرك فأترك ضيعتي وأقبل حتى أنظر إليك حبا لك، فذكرت إذا كان يوم القيامة فأدخلت الجنة فرفعت في أعلى عليين فكيف لي بك يا نبي الله؟ فنزل: ﴿ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم - من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين - وحسن أولئك رفيقا﴾ فدعا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الرجل فقرأها عليه وبشره بذلك.

أقول: وهذا المعنى مروي من طرق أهل السنة أيضا رواه في الدر المنثور، عن الطبراني وابن مردويه وأبي نعيم في الحلية والضياء المقدسي في صفة الجنة وحسنه عن عائشة، وعن الطبراني وابن مردويه من طريق الشعبي عن ابن عباس، وعن سعيد بن منصور وابن المنذر عن الشعبي، وعن ابن جرير عن سعيد بن جبير.

وفي تفسير البرهان، عن ابن شهرآشوب عن أنس بن مالك عمن سمى عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله تعالى: ﴿ومن يطع الله والرسول - فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين﴾ يعني محمدا و﴿الصديقين﴾ يعني عليا وكان أول من صدق و﴿الشهداء﴾ يعني عليا وجعفرا وحمزة والحسن والحسين (عليهما السلام).

أقول: وفي هذا المعنى أخبار أخر.

وفي الكافي، عن الباقر (عليه السلام) قال: أعينونا بالورع فإنه من لقي الله بالورع كان له عند الله فرحا فإن الله عز وجل يقول: ومن يطع الله والرسول، وتلا الآية ثم قال: فمنا النبي ومنا الصديق ومنا الشهداء والصالحون.

وفيه، عن الصادق (عليه السلام): المؤمن مؤمنان: مؤمن وفى الله بشروطه التي اشترطها عليه فذلك مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، وذلك ممن يشفع ولا يشفع له، وذلك ممن لا يصيبه أهوال الدنيا ولا أهوال الآخرة، ومؤمن زلت به قدم فذلك كخامة الزرع كيفما كفأته الريح انكفأ، وذلك ممن يصيبه أهوال الدنيا وأهوال الآخرة ويشفع له، وهو على خير.

أقول: في الصحاح: الخامة: الغضة الرطبة من النبات انتهى، ويقال: كفأت فلانا فانكفأ أي صرفته فانصرف ورجع، وهو (عليه السلام) يشير في الحديث إلى ما تقدم في تفسير قوله: ﴿صراط الذين أنعمت عليهم﴾ الفاتحة: 7 أن المراد بالنعمة الولاية فينطبق على قوله تعالى: ﴿ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون﴾ يونس: 63 ولا سبيل لأهوال الحوادث إلى أولياء الله الذين ليس لهم إلا الله سبحانه.