الآيات 114 - 121

أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴿114﴾ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ يمُ ﴿115﴾ وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ ﴿116﴾ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴿117﴾ فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ ﴿118﴾ وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ ﴿119﴾ وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ ﴿120﴾ وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ﴿121﴾

بيان:

الآيات على ما لها من الاتصال بما قبلها كما يدل عليه التفريع بالفاء في قوله: ﴿أفغير الله أبتغي حكما﴾ إلخ.

لها فيما بينها أنفسها - وهي ثمان آيات - اتصال يرتبط به بعضها ببعض ويرجع بعضها إلى بعض فإن فيها إنكار أن يتخذ حكم إلا الله وقد فصل أحكامه في كتابه، ونهيا من اتباع الناس وإطاعتهم وأن إطاعة أكثر الناس من المضلات لاتباعهم الظن وبنائهم على الخرص والتخمين، وفي آخرها أن المشركين وهم أولياء الشياطين يجادلون المؤمنين في أمر أكل الميتة، وفيها الأمر بأكل ما ذكر اسم الله عليه والنهي عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه، وأن ذلك هو الذي فصله في كتابه وارتضاه لعباده.

وهذا كله يؤيد ما نقل عن ابن عباس: أن المشركين خاصموا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين في أمر الميتة قائلين: أ تأكلون مما قتلتم أنتم ولا تأكلون مما قتله الله؟ فنزلت، فالغرض من هذه الآيات بيان الفرق وتثبيت الحكم.

قوله تعالى: ﴿أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا﴾ قال في المجمع:، الحكم والحاكم بمعنى واحد إلا أن الحكم أمدح لأن معناه من يستحق أن يتحاكم إليه فهو لا يقضي إلا بالحق وقد يحكم الحاكم بغير حق.

قال: ومعنى التفصيل تبيين المعاني بما ينفي التخليط المعمي للمعنى، وينفي أيضا التداخل الذي يوجب نقصان البيان عن المراد، انتهى.

وفي قوله: ﴿أفغير الله أبتغي حكما﴾ تفريع على ما تقدم من البصائر التي جاءت من قبله تعالى، وقد ذكر قبل ذلك في القرآن أنه كتاب أنزله مبارك مصدق الذي بين يديه من التوراة والإنجيل، والمعنى: أ فغير الله من سائر من تدعون من الآلهة أو من ينتمي إليهم أطلب حكما يتبع حكمه وهو الذي أنزل عليكم هذا الكتاب وهو القرآن مفصلا متميزا بعض معارفه من بعض غير مختلط بعض أحكامه ببعض، ولا يستحق الحكم إلا من هو على هذه الصفة فالآية كقوله تعالى: ﴿والله يقضي بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء إن الله هو السميع البصير﴾ المؤمنون: 20.

وقوله: ﴿أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدي إلا أن يهدى﴾ يونس: 35.

قوله تعالى: ﴿والذين آتيناهم الكتاب يعلمون﴾ إلى آخر الآية، رجوع إلى خطاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بما يتأكد به يقينه ويزيد في ثبوت قدمه فيما ألقاه إلى المشركين من الخطاب المشعر بأن الكتاب النازل إليه منزل من ربه بالحق ففي الكلام التفات، وهو بمنزلة المعترضة ليزيد بذلك رسوخ قدمه واطمئنان قلبه وليعلم المشركون أنه على بصيرة من أمره.

وقوله: ﴿بالحق﴾ متعلق بقوله: ﴿منزل من ربك﴾ وكون التنزيل بالحق هو أن لا يكون بتنزيل الشياطين بالتسويل أو بطريق الكهانة كما في قوله تعالى: ﴿هل أنبئكم على من تنزل الشياطين، تنزل على كل أفاك أثيم﴾ الشعراء: 222 أو بتخليط الشياطين بعض الباطل بالوحي الإلهي، وقد أمن الله رسول من ذلك بمثل قوله: ﴿عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا، ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم﴾ الجن: 28. قوله تعالى: ﴿وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم﴾ الكلمة - وهي ما دل على معنى تام أو غيره - ربما استعملت في القرآن في القول الحق الذي قاله الله عز من قائل من القضاء أو الوعد كما في قوله: ﴿ولو لا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم﴾ يونس: 19 يشير إلى قوله لآدم عند الهبوط: ﴿ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين﴾ البقرة: 36 وقوله تعالى: ﴿حقت عليهم كلمة ربك﴾ يونس: 96 يشير إلى قوله تعالى لإبليس: ﴿لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين﴾ ص: 85 وقد فسرها في موضع آخر بقوله: ﴿وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين﴾ هود: 119 وكقوله تعالى: ﴿وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا﴾ الأعراف: 137 يشير إلى ما وعدهم أنه سينجيهم من فرعون ويورثهم الأرض كما يشير إليه قوله: ﴿ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين﴾ القصص: 5.

وربما استعملت الكلمة في العين الخارجي كالإنسان مثلا كقوله تعالى: ﴿إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم﴾ آل عمران: 45 والعناية فيه أنه (عليه السلام) خرق عادة التدريج وخلق بكلمة إلهية موجدة قال تعالى: ﴿إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون﴾ آل عمران: 59.

فظاهر سياق الآيات فيما نحن فيه يعطي أن يكون المراد بقوله: ﴿وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا﴾ كلمة الدعوة الإسلامية وما يلازمها من نبوة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ونزول القرآن المهيمن على ما تقدم عليه من الكتب السماوية المشتمل على جوامع المعارف الإلهية وكليات الشرائع الدينية كما أشار إليه فيما حكى من دعاء إبراهيم (عليه السلام) عند بناء الكعبة: ﴿ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم﴾ البقرة: 129.

وأشار إلى تقدم ذكره في الكتب السماوية في قوله: ﴿الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل﴾ الأعراف: 157 وبذلك يشعر قوله في الآية السابقة: ﴿والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق﴾ وقوله: ﴿الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم﴾ البقرة: 146 إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.

فالمراد بتمام الكلمة - والله أعلم - بلوغ هذه الكلمة أعني ظهور الدعوة الإسلامية بنبوة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ونزول الكتاب المهيمن على جميع الكتب، مرتبة الثبوت واستقرارها في مستقر التحقق بعد ما كانت تسير دهرا طويلا في مدارج التدريج بنبوة بعد نبوة وشريعة بعد شريعة فإن الآيات الكريمة دالة على أن الشريعة الإسلامية تتضمن جمل ما تقدمت عليه من الشرائع وتزيد عليها بما ليس فيها كقوله تعالى: ﴿شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى﴾ الشورى: 13.

وبذلك يظهر معنى تمام الكلمة وأن المراد به انتهاء تدرج الشرائع من مراحل النقص إلى مرحلة الكمال، ومصداقه الدين المحمدي قال تعالى: ﴿والله متم نوره ولو كره الكافرون، هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون﴾ الصف: 9.

وتمام هذه الكلمة الإلهية صدقا هو أن يصدق القول بتحققها في الخارج بالصفة التي بين بها، وعدلا أن تتصف بالتقسيط على سواء فلا يتخلف بعض أجزائه عن بعض وتزن الأشياء على النحو الذي من شأنها أن توزن به من غير إخسار أو حيف وظلم، ولذلك بين هذين القيدين أعني ﴿صدقا وعدلا﴾ بقوله ﴿لا مبدل لكلماته﴾ فإن الكلمة الإلهية إذا لم تقبل تبديلا من مبدل سواء كان المبدل هو نفسه تعالى كأن ينقض ما قضى بتبدل إرادة أو يخلف ميعاده، أو كان المبدل غيره تعالى كأن يعجزه غيره ويقهره على خلاف ما يريد كانت كلمته صدقا تقع كما قال، وعدلا لا تنحرف عن حالها التي كانت عليها وصفها الذي وصفت به فالجملة أعني قوله: ﴿لا مبدل لكلماته﴾ بمنزلة التعليل يعلل بها قوله: ﴿صدقا وعدلا﴾.

ومن أقوال المفسرين في الآية أن المراد بالكلمة والكلمات القرآن، وقيل: إن المراد بالكلمة القرآن، وبالكلمات ما فيه غير الشرائع فإنها تقبل التبديل بالنسخ والله سبحانه يقول: ﴿لا مبدل لكلماته﴾ وقيل: المراد بالكلمة الدين، وقيل: المراد الحجة، وقيل: الصدق ما كان في القرآن من الأخبار والعدل ما فيه من الأحكام، هذا.

وقوله تعالى: ﴿وهو السميع العليم﴾ أي السميع المستجيب لما تدعونه بلسان حاجتكم، العليم بحقيقة ما عندكم من الحاجة، أو السميع بما يحدث في ملكه بواسطة الملائكة الرسل، والعليم بذلك من غير واسطة، أو السميع لأقوالكم، العليم بأفعالكم.

قوله تعالى: ﴿وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله﴾ إلى آخر الآية.

الخرص الكذب والتخمين، والمعنى الثاني هو الأنسب بسياق الآية فإن الجملة أعني قوله: ﴿وإن هم إلا يخرصون﴾ والتي قبلها أعني قوله: ﴿إن يتبعون إلا الظن﴾ واقعتان موقع التعليل لقوله: ﴿وإن تطع أكثر من في الأرض﴾ إلخ، واتباع الظن والقول بالخرص والتخمين سببان بالطبع للضلال في الأمور التي لا يسوغ الاعتماد فيها إلا على العلم واليقين كالمعارف الراجعة إليه تعالى والشرائع المأخوذة من قبله.

وسير الإنسان وسلوكه الحيوي في الدنيا وإن كان لا يتم دون الركون إلى الظن والاستمداد من التخمين حتى أن الباحث عن علوم الإنسان الاعتبارية والعلل والأسباب التي تدعوه إلى صوغه لها وتقليبها في قالب الاعتبار، وارتباطها بشئونه الحيوية وأعماله وأحواله لا يكاد يجد مصداقا يركن الإنسان فيه إلى العلم الخالص واليقين المحض اللهم إلا بعض الكليات النظرية التي ينتهي إليها مما يضطر إلى الإذعان بها والاعتماد عليها.

إلا أن ذلك كله فيما يقبل التقريب والتخمين من جزئيات الأمور في الحياة، وأما السعادة الإنسانية التي فيه فوز هذا النوع وفلاحه، والشقاء الذي يرتبط به الهلاك الأبدي والخسران الدائم، وما يتوقف عليه التبصر فيهما من النظر في العالم وصانعه والغرض من إيجاده وما ينتهي إليه الأمر من البعث والنشور وما يتعلق به من النبوة والكتاب والحكم فإن ذلك كله مما لا يقبل الركون إلى الظن والتخمين والله سبحانه لا يرتضي من عباده في ذلك إلا العلم واليقين، والآيات في ذلك كثيرة جدا كقوله تعالى: ﴿ولا تقف ما ليس لك به علم﴾ الإسراء: 36.

ومن أوضحها دلالة هذه الآية التي نحن فيها يبين فيها أن أكثر أهل الأرض لركونهم العام إلى الظن والتخمين لا يجوز طاعتهم فيما يدعون إليه ويأمرون به في سبيل الله وطريق عبوديته لأن الظن ليس مما يكشف به الحق الذي يستراح إليه في أمر الربوبية والعبودية لملازمته الجهل بالواقع وعدم الاطمئنان إليه، ولا عبودية مع الجهل بالرب وما يريده من عبده.

فهذا هو الذي يقضي به العقل الصريح، وقد أمضاه الله سبحانه كما في قوله في الآية التالية في معنى تعليل النهي عن الطاعة: ﴿إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين﴾ حيث علل الحكم بعلم الله دون حكم العقل، وقد جمع سبحانه بين الطريقين جميعا في قوله: ﴿وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا وهذا أخذ بحكم العقل - فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى﴾ النجم: 30 وفي ذيل الآية استناد إلى علم الله سبحانه وحكمه.

قوله تعالى: ﴿إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين﴾ ذكروا أن ﴿أعلم﴾ إذا لم يتم بمن ربما أفاد معنى التفضيل وربما استعمل بمعنى الصفة خالية عن التفضيل، والآية تحتمل المعنيين جميعا فإن أريد حقيقة العلم بالضالين والمهتدين فهو لله سبحانه لا يشاركه فيها أحد حتى يفضل عليه، وإن أريد مطلق العلم أعم مما كان المتصف به متصفا بذاته أو كان اتصافه به بعطية منه تعالى كان المتعين هو معنى التفضيل فإن لغيره تعالى علما بالضال والمهتدي قدر ما أفاضه الله عليه من العلم.

وتعدي أعلم بالباء في قوله: ﴿أعلم بالمهتدين﴾ يدل على أن قوله: ﴿من يضل﴾ منصوب بنزع الخافض والتقدير: ﴿أعلم بمن يضل﴾ ويؤيده ما نقلناه آنفا من آية سورة النجم.

قوله تعالى: ﴿فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين﴾ لما تمهد ما قدمه من البيان الذي هو حجة على أن الله سبحانه هو أحق بأن يطاع من غيره استنتج منه وجوب الأخذ بالحكم الذي شرعه وهو الذي يدل عليه هذه الآية، ووجوب رفض ما يبيحه غيره بهواه من غير علم ويجادل المؤمنين فيه بوحي الشياطين إليه، وهو الذي يدل عليه قوله: ﴿ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه﴾ إلى آخر الآية.

ومن هنا يظهر أن العناية الأصلية متعلقة بجملتين من بين الجمل المتسقة في الآية إلى تمام أربع آيات، وسائر الجمل مقصودة بتبعها يبين بها ما يتوقف عليه المطلوب بجهاته فأصل الكلام: فكلوا مما ذكر اسم الله عليه ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه أي فرقوا بين المذكى والميتة فكلوا من هذه ولا تأكلوا من ذاك، وإن كان المشركون يجادلونكم في أمر التفريق.

فقوله: ﴿فكلوا مما ذكر اسم الله﴾ تفريع للحكم على البيان السابق، ولذا أردفه بقوله: ﴿إن كنتم بآياته مؤمنين﴾ والمراد بما ذكر اسم الله عليه الذبيحة المذكاة.

قوله تعالى: ﴿وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه﴾ إلى آخر الآية، بيان تفصيلي لإجمال التفريع الذي في الآية السابقة، والمعنى: أن الله فصل لكم ما حرم عليكم واستثنى صورة الاضطرار وليس فيما فصل لكم ما ذكر اسم الله عليه فلا بأس بأكله وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين المتجاوزين عن حدوده وهؤلاء هم المشركون القائلون: لا فرق بين ما قتلتموه أنتم وما قتله الله فكلوا الجميع أو دعوا الجميع.

ويظهر بما مر أن معنى قوله: ﴿وما لكم ألا تأكلوا﴾ ما لكم من نفع في أن لا تأكلوا، وما للاستفهام التعجيبي، وقيل: المعنى ليس لكم أن لا تأكلوا، وما للنفي.

ويظهر من الآية أن محرمات الأكل نزلت قبل سورة الأنعام وقد وقعت في سورة النحل من السور المكية فهي نازلة قبل الأنعام.

قوله تعالى: ﴿وذروا ظاهر الإثم وباطنه﴾ إلى آخر الآية، وإن كانت مطلقة بحسب المضمون تنهى عن عامة الإثم ظاهره وباطنه غير أن ارتباطها بالسياق المتصل الذي لسابقتها ولاحقتها يقضي بكونها تمهيدا للنهي الآتي في قوله: ﴿و لا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق﴾ ولازم ذلك أن يكون الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه من مصاديق الإثم حتى يرتبط بالتمهيد السابق عليه فهو من الإثم الظاهر أو الباطن لكن التأكيد البليغ الذي في قوله: ﴿و إنه لفسق﴾ يفيد أنه من الإثم الباطن وإلا لم تكن حاجة إلى تأكيده ذاك التأكيد الأكيد.

وبهذا البيان يظهر أن المراد بظاهر الإثم المعصية التي لا ستر على شؤم عاقبته ولا خفاء في شناعة نتيجته كالشرك والفساد في الأرض والظلم، وبباطن الإثم ما لا يعرف منه ذلك في بادىء النظر كأكل الميتة والدم ولحم الخنزير وإنما يتميز هذا النوع بتعريف إلهي وربما أدركه العقل، هذا هو الذي يعطيه السياق من معنى ظاهر الإثم وباطنه.

وللمفسرين في تفسيرهما أقوال أخر، من ذلك: أن ظاهر الإثم وباطنه هما المعصية في السر والعلانية، وقيل: أريد بالظاهر أفعال الجوارح، وبالباطن أفعال القلوب، وقيل: الظاهر من الإثم هو الزنا، والباطن اتخاذ الأخدان، وقيل: ظاهر الإثم نكاح امرأة الأب، وباطنه الزنا، وقيل: ظاهر الإثم الزنا الذي أظهر به، وباطنه الزنا إذا استسر به صاحبه على ما كان يراه أهل الجاهلية من العرب أن الزنا لا بأس به إذا لم يتجاهر به، وإنما الفحشاء هو الذي أظهره صاحبه، وهذه الأقوال - كما ترى - على أن جميعها أو أكثرها لا دليل عليها يخرج الآية عن حكم السياق.

وقوله تعالى: ﴿إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون﴾ تعليل للنهي وإنذار بالجزاء السيىء.

قوله تعالى: ﴿ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه﴾ نهي هو زميل قوله: ﴿فكلوا مما ذكر اسم الله عليه﴾ كما تقدم.

وقوله: ﴿وإنه لفسق﴾ إلى آخر الآية، بيان لوجه النهي وتثبيت له أما قوله: ﴿و إنه لفسق﴾ فهو تعليل والتقدير: إنه لفسق وكل فسق يجب اجتنابه فالأكل مما لم يذكر اسم الله عليه واجب الاجتناب.

وأما قوله: ﴿وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم﴾ ففيه رد ما كان المشركون يلقونه إلى المؤمنين من الشبهة، والمراد بأولياء الشياطين هم المشركون، ومعناه أن ما يجادلكم به المشركون وهو قولهم: إنكم تأكلون مما قتلتم ولا تأكلون مما قتله الله يعنون الميتة، هو مما أوحاه إليهم الشياطين من باطل القول، والفارق أن أكل الميتة فسق دون أكل المذكى، وأن الله حرم أكل الميتة ولم يحرم أكل المذكى فليس فيما حرمه الله ذكر ما ذكر اسم الله عليه.

وأما قوله: ﴿وإن أطعتموهم إنكم لمشركون﴾ فهو تهديد وتخويف بالخروج من الإيمان، والمعنى: إن أطعتم المشركين في أكل الميتة الذي يدعونكم إليه صرتم مشركين مثلهم إما لأنكم استننتم بسنة المشركين، أو لأنكم بطاعتهم تكونوا أولياء لهم فتكونون منهم قال تعالى: ﴿ومن يتولهم منكم فإنه منهم﴾ المائدة: 51.

ووقوع هذه الجملة أعني قوله: ﴿وإن أطعتموهم﴾ إلخ، في ذيل النهي عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه دون الأمر بأكل ما ذكر اسم الله عليه يدل على أن المشركين كانوا يريدون من المؤمنين بجدالهم أن لا يتركوا أكل الميتة لا أن يتركوا أكل المذكى.

بحث روائي:

في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن أبي اليمان جابر بن عبد الله قال: دخل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المسجد الحرام يوم فتح مكة ومعه مخصرة، ولكل قوم صنم يعبدونه فجعل يأتيها صنما صنما ويطعن في صدر الصنم بعصا ثم يعقره كلما صرع صنما أتبعه الناس ضربا بالفئوس حتى يكسرونه ويطرحونه خارجا من المسجد والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: وتمت كلمات ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم.

وفيه، أخرج ابن مردويه وابن النجار عن أنس بن مالك عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): في قوله: ﴿وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا﴾ قال: لا إله إلا الله.

وفي الكافي، بإسناده عن محمد بن مروان قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن الإمام ليسمع في بطن أمه فإذا ولد خط بين كتفيه: ﴿وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته - وهو السميع العليم﴾ فإذا صار الأمر إليه جعل الله له عمودا من نور يبصر به ما يعمل أهل كل بلدة.

أقول: وروي هذا المعنى بطرق أخرى عن عدة من أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام) ورواه أيضا القمي والعياشي في تفسيريهما عنه (عليه السلام)، وفي بعضها: أن الآية تكتب بين عينيه، وفي بعضها: على عضده الأيمن.

واختلاف مورد الكتابة في الروايات تكشف عن أن المراد بها القضاء بظهور الحكم الإلهي به (عليه السلام) واختلاف ما كتب عليه لاختلاف الاعتبار فكأن المراد بكتابتها فيما بين عينيه جعلها وجهة له يتوجه إليها، وبكتابتها بين كتفيه حملها عليه وإظهاره وتأييده بها وبكتابتها على عضده الأيمن جعلها طابعا على عمله وتقويته وتأييده بها.

وهذه الرواية والروايتان السابقتان عليها تؤيد ما قدمناه أن ظاهر الآية كون المراد بتمام الكلمة ظهور الدعوة الإسلامية بما يلازمها من نبوة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ونزول القرآن والإمامة من ذلك.

وفي تفسير العياشي، في قوله تعالى: ﴿فكلوا مما ذكر اسم الله عليه﴾ الآية عن محمد بن مسلم قال: سألته عن الرجل يذبح الذبيحة فيهلل أو يسبح أو يحمد ويكبر قال: هذا كله من أسماء الله.

وفيه، عن ابن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن ذبيحة المرأة والغلام هل تؤكل؟ قال: نعم إذا كانت المرأة مسلمة وذكرت اسم الله حلت ذبيحتها، وإذا كان الغلام قويا على الذبح وذكر اسم الله حلت ذبيحته، وإن كان الرجل مسلما فنسي أن يسمي فلا بأس بأكله إذا لم تتهمه.

أقول: وفي هذه المعاني أخبار من طرق أهل السنة.

وفيه، عن حمران قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: في ذبيحة الناصب واليهودي قال: لا تأكل ذبيحته حتى تسمعه يذكر اسم الله، أ ما سمعت قول الله: ﴿ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه﴾ وفي الدر المنثور، أخرج أبو داود والبيهقي في سننه وابن مردويه عن ابن عباس: ﴿ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق﴾ فنسخ واستثنى من ذلك فقال: ﴿وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم﴾.

أقول: وروي النسخ عن أبي حاتم عن مكحول وقد تقدم في أول المائدة: أن الآية إن نسخت فإنما تنسخ اشتراط الإسلام في المذكي - اسم فاعل - دون وجوب التسمية إذ لا نظر لها إليه ولا تنافي بين الآيتين في ذلك وللمسألة ارتباط بالفقه.