الآيات 84 - 90

وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴿84﴾ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ ﴿85﴾ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ﴿86﴾ وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴿87﴾ ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴿88﴾ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ ﴿89﴾ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ﴿90﴾

بيان:

اتصال الآيات بما قبلها واضح لا يحتاج إلى بيان فهي من تتمة حديث إبراهيم (عليه السلام)، والآيات وإن اشتملت على بعض الامتنان عليه وعلى من عد معه من الأنبياء كما هو ظاهر قوله تعالى: ﴿ووهبنا له إسحاق ويعقوب﴾ وقوله: ﴿وكذلك نجزي المحسنين﴾ وقوله: ﴿وكلا فضلنا على العالمين﴾ إلى غير ذلك لكنها ليست مسوقة لذلك فحسب كما يظهر من بعض المفسرين بل لبيان النعم الجسيمة والأيادي الجميلة الإلهية التي يتعقبها التوحيد الفطري والاهتداء بالهداية الإلهية.

فإن ذلك هو الموافق لغرض هذه السورة التي تبين فيها مسألة التوحيد على ما تهدي إليه الفطرة التي فطر الناس عليها، وقد تقدم أن قصة إبراهيم (عليه السلام) بالنسبة إلى الآيات السابقة من السورة بمنزلة المثال المضروب لبيان عام.

وفي سياق الآيات مضافا إلى بيان التوحيد بيان أن عقيدة التوحيد محفوظة بين الناس في سلسلة متصلة ركبت حلقاتها بعضها على بعض بهداية إلهية وعناية خاصة ربانية حفظ الله بها الفطرة الإلهية من أن تضيع بالأهواء الشيطانية، وتسقط رأسا من الفعلية فيبطل بذلك غرض الخلقة ويذهب سدى كما يشعر بذلك قوله: ﴿ووهبنا له﴾ إلخ، وقوله: ﴿ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته﴾ إلخ، وقوله: ﴿ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم﴾ وقوله: ﴿فإن يكفر بها هؤلاء﴾ إلخ.

وفي طي الآيات بيان ما تمتاز به الهداية الإلهية من غيرها من الخصائص وهي الاجتباء واستقامة الصراط وإيتاء الكتاب والحكم والنبوة على ما سيجيء من البيان إن شاء الله.

قوله تعالى: ﴿ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا﴾ إسحاق هو ابن إبراهيم ويعقوب هو ابن إسحاق (عليه السلام)، وقوله: ﴿كلا هدينا﴾ قدم فيه كلا للدلالة على أن الهداية الإلهية تعلقت بكل واحد من المعدودين استقلالا لا أنها تعلقت ببعضهم استقلالا كإبراهيم وبغيره بتبعه، فهو بمنزلة أن يقال: هدينا إبراهيم وهدينا إسحاق وهدينا يعقوب.

كما قيل.

قوله تعالى: ﴿ونوحا هدينا من قبل﴾ فيه إشعار بأن سلسلة الهداية غير منقطعة ولا مبتدئة من إبراهيم (عليه السلام) بل كانت الرحمة قبله شاملة لنوح (عليه السلام).

قوله تعالى: ﴿ومن ذريته داود وسليمان - إلى قوله - وكذلك نجزي المحسنين﴾ الضمير في ﴿ذريته﴾ راجع إلى نوح ظاهرا لأنه المرجع القريب لفظا، ولأن في المعدودين من ليس هو من ذرية إبراهيم مثل لوط وإلياس على ما قيل.

وربما قيل: إن الضمير يعود إلى إبراهيم (عليه السلام) وقد ذكر لوط وإلياس (عليهما السلام) من الذرية تغليبا قال: ﴿ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب: العنكبوت: 27 أو أن المراد بالذرية هم الستة المذكورون في هذه الآية دون الباقين، وأما قوله: ﴿و زكريا﴾ إلخ، وقوله: ﴿و إسماعيل﴾ إلخ، فمعطوفان على قوله: ومن ﴿ذريته﴾ لا على قوله: ﴿داود﴾ إلخ، وهو بعيد من السياق.

وأما قوله: ﴿وكذلك نجزي المحسنين﴾ فالظاهر أن المراد بهذا الجزاء هو الهداية الإلهية المذكورة، وإليها الإشارة بقوله ﴿كذلك﴾ والإتيان بلفظ الإشارة البعيد لتفخيم أمر هذه الهداية فهو نظير قوله: ﴿كذلك يضرب الله الأمثال﴾ الرعد: 17 والمعنى نجزي المحسنين على هذا المثال.

قوله تعالى: ﴿وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين﴾ تقدم الكلام في معنى الإحسان والصلاح فيما سلف من المباحث وفي ذكر عيسى بين المذكورين من ذرية نوح (عليه السلام) وهو إنما يتصل به من جهة أمه مريم دلالة واضحة على أن القرآن الكريم يعتبر أولاد البنات وذريتهن أولادا وذرية حقيقة، وقد تقدم استفادة نظير ذلك من آية الإرث وآية محرمات النكاح، وللكلام تتمة ستوافيك في البحث الروائي الآتي إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: ﴿وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين﴾ الظاهر أن المراد بإسماعيل هو ابن إبراهيم أخو إسحاق (عليهما السلام) وقوله: ﴿اليسع﴾ بفتحتين كأسد وقرىء ﴿الليسع﴾ كالضيغم أحد أنبياء بني إسرائيل ذكر الله اسمه مع إسماعيل (عليه السلام) كما في قوله: ﴿واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الأخيار﴾ ص: 48 ولم يذكر شيئا من قصته في كلامه.

وأما قوله: ﴿وكلا فضلنا على العالمين﴾ فالعالم هو الجماعة من الناس كعالم العرب وعالم العجم وعالم الروم، ومعنى تفضيلهم على العالمين تقديمهم بحسب المنزلة على عالمي زمانهم لما أن الهداية الخاصة الإلهية أخذتهم بلا واسطة، وأما غيرهم فإنما تشملهم رحمة الهداية بواسطتهم، ويمكن أن يكون المراد تفضيلهم بما أنهم طائفة مهدية بالهداية الفطرية الإلهية من غير واسطة على جميع العالمين من الناس سواء عاصروهم أو لم يعاصروهم فإن الهداية الإلهية من غير واسطة نعمة يتقدم بها من تلبس بها على من لم يتلبس، وقد شملت المذكورين من الأنبياء ومن لحق بهم من آبائهم وذرياتهم وإخوانهم فالمجتمع الحاصل منهم مفضل على غيرهم جميعا بتفضيل إلهي.

وبالجملة الملاك في أمر هذا التفضيل هو التلبس بتلك الهداية الإلهية التي لا واسطة فيها، والأنبياء فضلوا على غيرهم بسبب التلبس بها فلو فرض تلبس من غيرهم بهذه الهداية كالملائكة كما ربما يظهر من كلامه تعالى وكالأئمة على ما تقدم في البحث عن قوله تعالى: ﴿وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات﴾ البقرة: 124 في الجزء الأول من الكتاب فلا يفضل عليهم الأنبياء (عليهم السلام) من هذه الحيثية وإن أمكن أن يفضلوا عليهم من جهة أخرى غير جهة الهداية.

ومن هنا يظهر: أن استدلال بعضهم بالآية على أن الأنبياء أفضل من الملائكة ليس في محله.

ويظهر أيضا أن المراد بالتفضيل إنما هو التفضيل من حيث الهداية الإلهية الخاصة التي أخذتهم من غير توسط أحد، وأما كونهم أهل الاجتباء وأهل الصراط المستقيم وأهل الكتاب والحكم والنبوة فأمر خارج عن مصب التفضيل المذكور في هذه الآية.

واعلم أن الذي وقع في الآيات الثلاث من ذكر من عدده الله تعالى من الأنبياء بأسمائهم - وهم سبعة عشر نبيا - لم يراع فيه الترتيب الذي بينهم لا بحسب الزمان وهو ظاهر، ولا بحسب الرتبة والفضيلة فإن فيهم نوحا وموسى وعيسى (عليهما السلام)، وهم أفضل من باقي المذكورين بنص الكتاب كما تقدم في مباحث النبوة في الجزء الثاني من الكتاب وقد قدم عليهم غيرهم في الذكر.

وقد ذكر صاحب المنار في وجه الترتيب المأخوذ في الآيات الثلاث بين الأنبياء المسمين فيها - وهم أربعة عشر نبيا - ما ملخصه: أنه تعالى جعلهم ثلاثة أقسام لمعان في ذلك جامعة بين كل قسم منهم.

فالقسم الأول: داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون، والمعنى الجامع بينهم أن الله تعالى آتاهم الملك والإمارة والحكم والسيادة مع النبوة والرسالة، وقد قدم ذكر داود وسليمان وكانا ملكين غنيين منعمين، وذكر بعدهما أيوب ويوسف، وكان أيوب أميرا غنيا عظيما محسنا، وكان يوسف وزيرا عظيما وحاكما متصرفا، وقد ابتليا بالضراء فصبرا وبالسراء فشكرا، وبعد ذلك موسى وهارون وكانا حاكمين في قومهما ولم يكونا ملكين.

فكل زوجين من هذه الأزواج الثلاثة ممتاز بمزية والترتيب مع ذلك من حيث نعم الدنيا فداود وسليمان كانا أكثر تمتعا من نعمها من أيوب ويوسف، وهما من موسى وهارون، أو الترتيب من حيث الفضل الديني فالظاهر أن موسى وهارون أفضل من أيوب ويوسف، وهما أفضل من داود وسليمان لجمعهما بين الصبر في الضراء والشكر في السراء.

والقسم الثاني: زكريا ويحيى وعيسى وإلياس، وهؤلاء قد امتازوا بشدة الزهد في الدنيا، والإعراض عن لذائذها، والرغبة عن زينتها، ولذلك خصهم هنا بوصف الصالحين لأن هذا الوصف أليق بهم عند مقابلتهم بغيرهم وإن كان كل نبي صالحا ومحسنا على الإطلاق.

والقسم الثالث: إسماعيل واليسع ويونس ولوط، وأخر ذكرهم لعدم الخصوصية إذ لم يكن لهم من ملك الدنيا وسلطانها ما كان للقسم الأول، ولا من المبالغة من الإعراض عن الدنيا ما كان للقسم الثاني، انتهى ملخصا.

وفي تفسير الرازي، ما يقرب منه وإن كان ما ذكره أوجه بالنسبة إلى ما ذكره الرازي، ويرد على ما ذكراه جميعا أنهما جعلا القسم الثالث من لا خصوصية له يمتاز به وهو غير مستقيم فإن إسماعيل (عليه السلام) قد ابتلاه الله بأمر الذبح فصبر على ما امتحنه الله تعالى به قال تعالى: ﴿فبشرناه بغلام حليم فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ما ذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين - إلى أن قال - إن هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم وتركنا عليه في الآخرين﴾ الصافات: 108 وهذا من الخصائص الفاخرة التي اختص الله بها إسماعيل (عليه السلام)، وبلاء مبين امتاز به حتى جعل الله تعالى التضحية في الحج طاعة عامة مذكرة لمحنته في جنب الله وترك عليه في الآخرين على أنه شارك أباه الكريم في بناء الكعبة وكفى به ميزا.

وكذلك يونس النبي (عليه السلام) امتحنه الله تعالى بما لم يمتحن به أحدا من أنبيائه وهو ما التقمه الحوت فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين.

وأما لوط فمحنه في جنب الله مذكورة في القرآن الكريم فقد قاسى المحن في أول أمره مع إبراهيم (عليه السلام) حتى هاجر قومه وأرضه في صحابته، ثم أرسله الله إلى أهل سدوم وما والاه مهد الفحشاء التي لم يسبقهم إليها أحد من العالمين حتى إذا شملهم الهلاك لم يوجد فيهم غير بيت المسلمين وهو من بيت لوط خلا امرأته.

وأما اليسع فلم يذكر له في القرآن قصة، وإنما ورد في بعض الروايات أنه كان وصي إلياس وقد أتى قومه بما أتى به عيسى بن مريم (عليهما السلام) من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وقد ابتلى الله قومه بالسنة والقحط العظيم.

فالأحسن أن يتمم الوجه المذكور لترتيب الأسماء المعدودة في الآية بأن يقال: إن الطائفة الأولى المذكورين - وهم ستة - اختصوا بالملك والرئاسة مع الرسالة، والطائفة الثانية - وهم أربعة - امتازوا بالزهد في الدنيا والإعراض عن زخارفها، والطائفة الثالثة - وهم أربعة - أولو خصائص مختلفة ومحن إلهية عظيمة يختص كل بشيء من المميزات والله أعلم.

ثم إن الذي ذكره في أثناء كلامه من تفضيل موسى وهارون على أيوب ويوسف، وتفضيلهما على داود وسليمان بما ذكره من الوجه، وكذا جعله الصلاح بمعنى الزهد والإحسان كل ذلك ممنوع لا دليل عليه.

قوله تعالى: ﴿ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم﴾ هذا التعبير يؤيد ما قدمناه أن المراد بيان اتصال سلسلة الهداية حيث أضاف الباقين إلى المذكورين بأنهم متصلون بهم بأبوة أو بنوة أو أخوة.

قوله تعالى: ﴿واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم﴾ قال الراغب في المفردات:، يقال: جبيت الماء في الحوض جمعته والحوض الجامع له جابية وجمعها (جواب) قال الله تعالى: وجفان كالجواب، ومنه استعير جبيت الخراج جباية ومنه قوله تعالى: يجبى إليه ثمرات كل شيء، والاجتباء الجمع على طريق الاصطفاء قال عز وجل: فاجتباه ربه.

قال: واجتباء الله العبد تخصيصه إياه بفيض إلهي يتحصل له منه أنواع من النعم بلا سعي من العبد، وذلك للأنبياء وبعض من يقارنهم من الصديقين والشهداء كما قال تعالى: وكذلك يجتبيك ربك، فاجتباه ربه فجعله من الصالحين واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم وقوله تعالى: ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى، وقال عز وجل: يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب، انتهى.

والذي ذكره من معنى الاجتباء وإن كان كذلك على ما يفيده موارد وقوعه في كلامه تعالى لكنه لازم المعنى الأصلي بحسب انطباقه على صنعه فيهم والذي يعطيه سياق الآيات أن العناية تعلقت بمعنى الكلمة الأصلي وهو الجمع من مواضع وأمكنة مختلفة متشتتة فيكون تمهيدا لما يذكر بعده من الهداية إلى صراط مستقيم كأنه يقول: وجمعناهم على تفرقهم حتى إذا اجتمعوا وانضم بعضهم إلى بعض هديناهم جميعا إلى صراط كذا وكذا.

وذلك لما عرفت أن المقصود بالسياق بيان اتصال سلسلة المهتدين بهذه الهداية الفطرية الإلهية، والمناسب لذلك أن يتصور لهم اجتماع وتوحد حتى تشمل جمعهم الرحمة الإلهية، ويهتدوا مجتمعين بهداية واحدة توردهم صراطا واحدا مستقيما لا اختلاف فيه أصلا فلا يختلف بحسب الأحوال، ولا بحسب الأزمان، ولا بحسب الأجزاء، ولا بحسب الأشخاص السائرين فيه، ولا بحسب المقصد.

وذلك أن صراطهم الذي هداهم الله إليه وإن كان يختلف بحسب ظاهر الشرائع سعة وضيقا إلا أن ذلك إنما هو بحسب الإجمال والتفصيل وقلة استعداد الأمم وكثرته، والجميع متفق في حقيقة واحدة وهو التوحيد الفطري والعبودية التي تهدي إليه البنية الإنسانية بحسب نوع الخلقة التي أظهرها الله سبحانه على ذلك ومن المعلوم أن الخلقة الإنسانية بما أنها خلقة إنسانية لا تتغير ولا تتبدل تبدلا يقضي بتبدل أصول الشعور والإرادة الإنسانيين فحواس الإنسان الظاهرة وإحساساته وعواطفه الباطنة ومبدأ القضاء والحكم الذي فيه وهو العقل الفطري لا تزال تجري بحسب الأصول على وتيرة واحدة وإن اختلفت الآراء والمقاصد بحسب الاستكمال التدريجي الذي يتعلق بالنوع والتنبه بجهات حوائج الحياة.

فلا يزال الإنسان يشعر بحاجته في المأكل والمشرب والملبس والمسكن والمنكح، ويشتهي ما يريح نفسه الشحيحة، ويكره ما يؤلمه ويضربه، ويأمل سعادة الحياة ويخشى الشقاء وسوء العاقبة وإن اختلفت مظاهر حياته وصور أعماله عصرا بعد عصر وجيلا بعد جيل.

قال تعال: ﴿فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون﴾ الروم: 30 فالدين الحنيف الإلهي الذي هو قيم على المجتمع الإنساني هو الذي تهدي إليه الفطرة وتميل إليه الخلقة البشرية بحسب ما تحس بحوائجها الوجودية، وتلهم بما يسعدها فيها من الاعتقاد والعمل، وبتعبير آخر من المعارف والأخلاق والأعمال.

وهذا أمر لا يتغير ولا يتبدل لأنه مبني على الفطرة التكوينية التي لا سبيل للتغير والتبدل إليها فلا يختلف بحسب الأحوال والأزمان بأن يدعو إلى السعادة الإنسانية في حال دون حال أو في زمان دون زمان، ولا بحسب الأجزاء بأن يزاحم بعض أحكام الدين الحنيف بعضه الآخر بتناقض أو تضاد أو أي شيء آخر يؤدي إلى إبطال بعضها بعضا فإن الجميع ترتضع من ثدي التوحيد الذي يعدلها أحسن تعديل كما أن القوى البدنية إذا تنافت أو أراد بعضها أن يطغى على بعض فإن هناك حاكما مدبرا يدبر كلا على حسب ما له من الوزن والتأثير في تقويم الحياة الإنسانية.

ولا بحسب الأشخاص فإن المهتدين بهذه الهداية القيمة الفطرية لا يختلف مسيرهم، ولا يدعو آخرهم إلا إلى ما دعا إليه أولهم وإن اختلفت دعوتهم بالإجمال والتفصيل بحسب اختلاف أعصار الإنسانية تكاملا ورقيا كما قال تعالى: ﴿إن الدين عند الله الإسلام﴾ آل عمران: 19، وقال: ﴿شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه﴾ الشورى: 13.

ولا بحسب المقصد والغاية فإنه التوحيد الذي يئول إليه شتات المعارف الدينية والأخلاق الفاضلة والأحكام الشرعية قال تعالى: ﴿إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون﴾ الأنبياء: 92 وقال: ﴿وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون﴾ الأنبياء: 25.

وقد ظهر بما تقدم معنى قوله تعالى: ﴿وهديناهم إلى صراط مستقيم﴾ وقد نكر الصراط من غير أن يذكر على طريق العهد كما في قوله: ﴿اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم﴾ الحمد: 7 لتتوجه عناية الذهن إلى اتصافه بالاستقامة - والاستقامة في الشيء كونه على وتيرة واحدة في صفته وخاصته - فالصراط الذي هدوا إليه صراط لا اختلاف فيه في جهة من الجهات ولا حال من الأحوال لما أنه صراط مبني على الفطرة كما أن الفطرة الإنسانية وهي نوع خلقته وكونه لا تختلف من حيث إنها خلقة إنسانية في الهداية والاهتداء إلى مقاصد الإنسان التكوينية.

فهؤلاء المهديون إلى مستقيم الصراط في أمن إلهي من خطرات السير وعثرات الطريق إذ كان الصراط الذي يسلكونه والمسير الذي يضربون فيه لا اختلاف فيه بالهداية والإضلال والحق والباطل والسعادة والشقاوة بل هو مؤتلف الأجزاء ومتساوي الأحوال يقوم على الحق ويؤدي إلى الحق لا يدع صاحبه في حيرة، ولا يورده إلى ظلم وشقاء ومعصية قال تعالى: ﴿الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون﴾ الأنعام: 82.

قوله تعالى: ﴿ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده﴾ إلى آخر الآية.

يبين تعالى أن الذي ذكره من صفة الهداية التي هدى بها المذكورين من أنبيائه هو المعرف لهداه الخاص به الذي يهدي به من يشاء من عباده.

فالهدى إنما يكون هدى - حق الهدى - إذا كان من الله سبحانه، والهدى إنما يكون هدى الله إذا أورد المتلبس به صراطا مستقيما اتفق على الورود فيه أصحاب الهدى وهم الأنبياء المكرمون (عليهم السلام)، واتفق أجزاء ذلك الصراط في الدعوة إلى كلمة التوحيد وإقامة دعوة الحق والاتسام بسمة العبودية والتقوى.

أما الطريق الذي يفرق فيه بين رسل الله فيؤمن فيه ببعض ويكفر ببعض أو يفرق فيه بين أحكام الله وشرائعه فيؤخذ فيه ببعض ويترك بعض، والطرق التي لا تضمن سعادة حياة المجتمع الإنساني أو يسوق إلى بعض ما ليس فيه السعادة الإنسانية فتلك هي الطرق التي لا مرضاة فيها لله سبحانه وقد انحرفت فيها عن شريعة الفطرة إلى مهابط الضلال ومزالق الأهواء، والاهتداء إليها ليس اهتداء بهدى الله سبحانه.

قال تعالى: ﴿إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا، أولئك هم الكافرون حقا﴾ النساء: 151 وقال: ﴿أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب﴾ البقرة: 85 وقال: ﴿ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين﴾ القصص: 50 يريد أن الطريق الذي فيه اتباع الهوى إنما هو ضلال لا يورد سالكه سعادة الحياة وليس بهدى الله لأن فيه ظلما والله سبحانه لم يجعل الظلم ولن يجعله مما يتوسل به إلى سعادة ولا أن السعادة تنال بظلم.

وبالجملة هدى الله سبحانه من خاصته أنه لا يشتمل على ضلال ولا يجامع ضلالا بالتأدية إليه، وإنما هو الهدى محضا تتلوه السعادة محضة عطاء غير مجذوذ لكن لا على حد العطايا المعمولة فيما بيننا التي ينقطع معها ملك المعطي بالكسر عن عطيته وينتقل إلى المعطى بالفتح فيحوزه على أي حال سواء شكر أو كفر.

بل هذه العطية الإلهية إنما تقوم على شريطة التوحيد والعبودية فلا كرامة لأحد عليه تعالى ولا أمن له منه إلا بالعبودية محضا ولذلك ذيل الكلام بقوله: ﴿ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون﴾ وإنما ذكر الإشراك لأن محط البيان إنما هو التوحيد.

قوله تعالى: ﴿أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة﴾ الإشارة باللفظ المفيد للبعد للدلالة على علو شأنهم ورفعة مقامهم، والمراد بإيتائهم الكتاب وغيره إيتاء جمعهم ذلك بوصف المجموع وإن كان بعضهم لم يؤتوا بعض المذكورات كما مر في تفسير قوله: ﴿واجتبيناهم وهديناهم﴾ فإن الكتاب إنما أوتيه بعض الأنبياء كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى (عليهما السلام).

والكتاب إذا نسب في كلامه تعالى إلى الأنبياء (عليهم السلام) نوعا من النسبة يراد به الصحف التي تشتمل على الشرائع ويقضى بها بين الناس فيما اختلفوا فيه كقوله تعالى: ﴿كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه﴾ البقرة: 213 وقوله: ﴿إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون - إلى أن قال - وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله﴾ المائدة: 48. إلى غير ذلك من الآيات.

والحكم هو إلقاء النسبة التصديقية بين أجزاء الكلام كقولنا: فلان عالم، وإذا كان ذلك في الأمور الاجتماعية والقضايا العملية التي تدور بين المجتمعين عد نوع النسبة حكما كما تسمى نفس القضية حكما كما يقال يجب على الإنسان أن يفعل كذا ويحرم عليه أن يفعل كذا أو يجوز له أن يفعل كذا أو أحب أو أكره أن تفعل كذا فتسمى الوجوب والحرمة والجواز والاستحباب والكراهة أحكاما كما تسمى القضايا المشتملة عليها أحكاما، ولأهل الاجتماع أحكام أخر ناشئة من نسب أخرى كالملك والرئاسة والنيابة والكفاية والولاية وغير ذلك.

وإذا قصد به المعنى المصدري أريد به إيجاد الحكم وجعله إما بحسب التشريع والتقنين كما يجعل أهل التقنين أحكاما صالحة ليجري عليها الناس ويعملوا بها في مسير حياتهم لحفظ نظام مجتمعهم، وإما بحسب التشخيص والنظر كتشخيص القضاة والحكام في المنازعات والدعاوي أن المال لفلان والحق مع فلان وكتشخيص أهل الفتيا في فتاواهم وقد يراد به إنفاذ الحكم كحكم الوالي والملك على الناس بما يريدان في حوزة الولاية والملك.

والظاهر من الحكم في الآية بقرينة ذكر الكتاب معه أن يكون المراد به معنى القضاء فيكون المراد من إيتاء الكتاب والحكم إعطاء شرائع الدين والقضاء بحسبها بين الناس كما هو ظاهر عدة من الآيات كقوله تعالى: ﴿وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه﴾ البقرة: 213 وقوله: ﴿إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا﴾ المائدة: 44 وقوله: ﴿لتحكم بين الناس بما أراك الله﴾ النساء: 105 وقوله: ﴿وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث﴾ الأنبياء: 78 وقوله: ﴿يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله﴾ ص: 26 إلى غير ذلك من الآيات وهي كثيرة، وإن كان مثل قوله تعالى حكاية عن إبراهيم (عليه السلام): ﴿رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين﴾ الشعراء: 83 لا يأبى بظاهره الحمل على المعنى الأعم.

وأما النبوة فقد تقدم في تفسير قوله: ﴿كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين﴾ البقرة: 213 أن المراد بها التحقق بأنباء الغيب بعناية خاصة إلهية وهي الأنباء المتعلقة بما وراء الحس والمحسوس كوحدانيته تعالى والملائكة واليوم الآخر.

وعد هذه الكرامات الثلاث التي أكرم الله سبحانه بها سلسلة الأنبياء (عليهم السلام) أعني الكتاب والحكم والنبوة في سياق الآيات الواصفة لهداه تعالى يدل على أنها من آثار هداية الله وبها يتم العلم بالله تعالى وآياته فكأنه قيل: تلك الهداية التي جمعنا عليها الأنبياء (عليهم السلام) وفضلناهم بها على العالمين هي التي توردهم صراطا مستقيما وتعلمهم الكتاب المشتمل على شرائعه، وتسددهم وتنصبهم للحكم بين الناس، وتنبئهم أنباء الغيب.

كلام في معنى الكتاب في القرآن:

الكتاب بحسب ما يتبادر منه اليوم إلى أذهاننا هو الصحيفة أو الصحائف التي تضبط فيها طائفة من المعاني على طريق التخطيط بقلم أو طابع أو غيرهما لكن لما كان الاعتبار في استعمال الأسماء إنما هو بالأغراض التي وقعت التسمية لأجلها أباح ذلك التوسع في إطلاق الأسماء على غير مسمياتها المعهودة في أوان الوضع، والغرض من الكتاب هو ضبط طائفة من المعاني بحيث يستحضرها الإنسان كلما راجعه، وهذا المعنى لا يلازم ما خطته اليد بالقلم على القرطاس كما أن الكتاب في ذكر الإنسان إذا حفظه كتاب وإذا أملاه عن حفظه كتاب وإن لم يكن هناك صحائف أو ألواح مخطوطة بالقلم المعهود.

و لى هذا التوسع جرى كلامه تعالى في إطلاق الكتاب على طائفة من الوحي الملقى إلى النبي وخاصة إذا كان مشتملا على عزيمة وشريعة وكذا إطلاقه على ما يضبط الحوادث والوقائع نوعا من الضبط عند الله سبحانه، قال تعالى: ﴿كتاب أنزلناه إليك مبارك﴾ ص: 29 وقال تعالى: ﴿ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها﴾ الحديد: 22 وقال تعالى: ﴿وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا، اقرأ كتابك﴾ الإسراء: 14.

وفي هذه الأقسام الثلاثة ينحصر ما ذكره الله سبحانه في كلامه من كتاب منسوب إلى نفسه غير ما في ظاهر قوله في أمر التوراة: ﴿وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء﴾ الأعراف: 145 وقوله: ﴿وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه﴾ الأعراف: 150 وقوله: ﴿و لما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون﴾ الأعراف: 154.

القسم الأول: الكتب المنزلة على الأنبياء (عليهم السلام) وهي المشتملة على شرائع الدين - كما تقدم آنفا - وقد ذكر الله سبحانه منها كتاب نوح (عليه السلام) في قوله: ﴿وأنزل معهم الكتاب بالحق﴾ البقرة: 213 وكتاب إبراهيم وموسى (عليهما السلام) قال: ﴿صحف إبراهيم وموسى﴾ الأعلى: 19 وكتاب عيسى وهو الإنجيل قال: ﴿وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور﴾ المائدة: 46 وكتاب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) قال؟ ﴿تلك آيات الكتاب وقرآن مبين﴾ الحجر: 1 وقال: ﴿رسول من الله يتلوا صحفا مطهرة، فيها كتب قيمة﴾ البينة: 3 وقال: ﴿في صحف مكرمة، مرفوعة مطهرة، بأيدي سفرة، كرام بررة﴾ عبس: 16 وقال: ﴿نزل به الروح الأمين، على قلبك لتكون من المنذرين، بلسان عربي مبين﴾ الشعراء: 195.

القسم الثاني: الكتب التي تضبط أعمال العباد من حسنات أو سيئات فمنها: ما يختص بكل نفس إنسانية كالذي يشير إليه قوله تعالى: ﴿وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا﴾ الإسراء: 13 وقوله: ﴿يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء﴾ آل عمران: 30 إلى غير ذلك من الآيات، ومنها: ما يضبط أعمال الأمة كالذي يدل عليه قوله: ﴿وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها﴾ الجاثية: 28 ومنها: ما يشترك فيه الناس جميعا كما في قوله: ﴿هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون﴾ الجاثية: 29 لو كان الخطاب فيه لجميع الناس.

لعل لهذا القسم من الكتاب تقسيما آخر بحسب انقسام الناس إلى طائفتي الأبرار والفجار وهو الذي يذكره في قوله: ﴿كلا إن كتاب الفجار لفي سجين، وما أدراك ما سجين، كتاب مرقوم - إلى أن قال - كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين، وما أدراك ما عليون، كتاب مرقوم، يشهده المقربون﴾ المطففين: 21.

القسم الثالث: الكتب التي تضبط تفاصيل نظام الوجود والحوادث الكائنة فيه فمنها الكتاب المصون عن التغير المكتوب فيه كل شيء كالذي يشير إليه قوله تعالى: ﴿وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين﴾ يونس: 61 وقوله: ﴿وكل شيء أحصيناه في إمام مبين﴾ يس: 12 وقوله: ﴿وعندنا كتاب حفيظ﴾ ق: 4 وقوله: ﴿لكل أجل كتاب﴾ الرعد: 38 ومن الآجال الأجل المسمى الذي لا سبيل للتغير إليه وقوله: ﴿وما كان نفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا﴾ آل عمران: 146.

ولعل هذا النوع من الكتاب ينقسم إلى كتاب واحد عام حفيظ لجميع الحوادث والموجودات، وكتاب خاص بكل موجود موجود يحفظ به حاله في الوجود كما يشعر به الآيتان الأخيرتان وسائر الآيات الكريمة التي تشاكلهما.

و منها: الكتب التي يتطرق إليها التغيير ويداخلها المحو والإثبات كما يدل عليه قوله تعالى: ﴿يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب﴾ الرعد: 39 واستيفاء البحث عن كل قسم من أقسام هذه الكتب موكول إلى المحل الذي يناسبه من الكتاب والله المستعان.

كلام في معنى الحكم في القرآن:

الأصل في مادة الحكم بحسب ما يتحصل من موارد استعمالاتها هو المنع، وبذلك سمي الحكم المولوي حكما لما أن الأمر يمنع به المأمور عن الإطلاق في الإرادة والعمل ويلجمه أن يقع على كل ما تهواه نفسه، وكذا الحكم بمعنى القضاء يمنع مورد النزاع من أن يتزلزل بالمنازعة والمشاجرة أو يفسد بالتعدي والجور، وكذا الحكم بمعنى التصديق يمنع القضية من تطرق الشك إليه، والأحكام والاستحكام يشعران عن حال في الشيء يمنعه من دخول ما يفسده بين أجزائه أو استيلاء الأمر الأجنبي في داخله، والأحكام يقابل بوجه التفصيل الذي هو جعل الشيء فصلا فصلا يبطل بذلك التئام أجزائه وتوحدها قال تعالى: ﴿كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير﴾ هود: 1 وإلى ذلك يعود معنى المحكم الذي يقابل المتشابه.

قال الراغب في المفردات:، حكم أصله منع منعا لإصلاح، ومنه سميت اللجام حكمة الدابة بفتحتين فقيل: حكمته، وحكمت الدابة منعتها بالحكمة، وأحكمتها جعلت لها حكمة، وكذلك حكمت السفينة وأحكمتها قال الشاعر: ﴿أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم﴾.

والحكم إذا نسب إلى الله سبحانه فإن كان في تكوين أفاد معنى القضاء الوجودي وهو الإيجاد الذي يساوق الوجود الحقيقي والواقعية الخارجية بمراتبها قال تعالى: ﴿والله يحكم لا معقب لحكمه﴾ الرعد: 41.

وقال: ﴿وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون﴾ البقرة: 117 ومنه يوجه قوله: ﴿قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد﴾ المؤمنون: 48.

وإن كان في تشريع أفاد معنى التقنين والحكم المولوي قال تعالى: ﴿وعندهم التوراة فيها حكم الله﴾ المائدة: 43 وقال: ﴿ومن أحسن من الله حكما﴾ المائدة: 50.

وإذا نسب إلى الأنبياء (عليهم السلام) أفاد معنى القضاء وهو من المناصب الإلهية التي أكرمهم بها قال تعالى: ﴿فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق﴾ المائدة: 48 وقال تعالى: ﴿أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم﴾ الأنعام: 89.

ولعل في بعض الآيات إشعارا أو دلالة على إيتائهم الحكم بمعنى التشريع كما في قوله حكاية عن إبراهيم (عليه السلام) في دعائه: ﴿رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين﴾ الشعراء: 83.

وأما غير الأنبياء من الناس فنسب إليهم الحكم بمعنى القضاء كما في قوله: ﴿وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه﴾ المائدة: 47 والحكم بمعنى التشريع وقد ذمهم الله عليه كما في قوله: ﴿وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا - إلى أن قال - ساء ما يحكمون﴾ الأنعام: 136 وقوله ﴿وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين﴾ هود: 45 والآية بحسب موردها يشمل الحكم بمعنى إنجاز الوعد وإنفاذ الحكم.

قوله تعالى: ﴿فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين﴾ الضميران في قوله: ﴿يكفر بها﴾ وقوله: ﴿وكلنا بها﴾ راجعان إلى الهدى ويجوز فيه التذكير والتأنيث من جهة أنه هداية، أو راجعان إلى الكتاب والحكم والنبوة التي هي من آثار الهداية الإلهية، ولا يخلو أول الوجهين عن بعد، والمشار إليه بقوله: ﴿هؤلاء﴾ الكافرون بالدعوة من قوم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمتيقن منهم بحسب مورد الآية كفار مكة الذين أشار الله سبحانه إليهم بقوله: ﴿إن الذين كفروا سواء عليهم ء أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون﴾ البقرة: 6.

والمعنى على الوجه الأول: فإن يكفر مشركو قومك بهدايتنا وهي طريقتنا فقد وكلنا بها من عبادنا من ليس يكفر بها، والكفر والإيمان يتعلقان بالهداية وخاصة إذا كانت بمعنى الطريقة كما ينسبان إلى الله سبحانه وآياته قال تعالى: ﴿وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به﴾ الجن: 13 وقال: ﴿فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون﴾ البقرة: 38.

وعلى الوجه الثاني: فإن يكفر بالكتاب والحكم والنبوة - وهي التي تشتمل على الطريقة الإلهية والدعوة الدينية - مشركو مكة فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين.

وأما أن هؤلاء القوم من هم: - وفي تنكير اللفظ دلالة على أن لهم خطرا عظيما - فقد اختلف فيهم أقوال المفسرين: فمن قائل: إن المراد بهم الأنبياء المذكورون في الآيات السابقة وهم ثمانية عشر نبيا أو مطلق الأنبياء المذكورين بأسمائهم أو بنعوتهم في قوله: ﴿ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم﴾ وفيه أن سياق اللفظ لا يلائمه إذ ظاهر قوله: ﴿ليسوا بها بكافرين﴾ نفي الحال أو الاستمرار في النفي والمذكورون من الأنبياء (عليهم السلام) لم يكونوا موجودين حال الخطاب ولو كان المراد ذلك لكان المتعين أن يقال: لم يكونوا بها بكافرين، وليس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) معدودا منهم بحسب هذه العناية وإن كان هو منهم وأفضلهم فإن الله سبحانه يذكره (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد ذلك بقوله: ﴿أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده﴾.

ومن قائل إن المراد بهم الملائكة وفيه كما قيل إن القوم وخاصة إذا أطلق من غير تقييد لا يطلق على الملائكة ولا يسبق إلى الذهن على أن في الآية بحسب السياق نوع تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا معنى لتسليته في كفر قومه بإيمان الملائكة.

ومن قائل إن المراد بهم المؤمنون به (صلى الله عليه وآله وسلم) عند نزول السورة في مكة أو مطلق المهاجرين.

وفيه: أن بعض هؤلاء قد ارتدوا بعد إيمانهم كالذي قال سأنزل مثل ما أنزل الله، وقد تعرض سبحانه لأمره في هذه السورة بعد آيات، وقد كان فيهم المنافق فلا ينطبق عليهم قوله: ﴿ليسوا بها بكافرين﴾.

ومن قائل: إن المراد بهم الأنصار أو المهاجرون والأنصار جميعا أو أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من المهاجرين والأنصار وهم الذين أقاموا هذه الدعوة على ساقها ونصروا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم العسرة، وقد مدحهم الله في كتابه أبلغ المدح.

وفيه: أن كرامة جماعتهم ورفعة منزلتهم بما هم جماعة مما لا يدانيه ريب لكن كان بينهم من ارتد بعد إيمانه والمنافق الذي لم يظهر حاله بعد، ولا ينطبق على من هذا نعته مثل قوله تعالى: ﴿فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين﴾ وظاهره أنه لا سبيل للكفر إليهم ولم يقل: فقد وكلنا بها قوما يؤمنون بها أو آمنوا بها.

وربما يستفاد من كلمات بعضهم: أن المراد به قيام الإيمان بجماعتهم وإن أمكن أن يتخلف عن إقامته آحاد منهم وبعبارة أخرى قوله: ﴿ليسوا بها بكافرين﴾ وصف للمجتمع ولا ينافي خروج بعض الأبعاض اتصاف المجتمع بوصفه القائم بالمجموع من حيث هو مجموع، والمؤمنون به (صلى الله عليه وآله وسلم) من الأنصار أو منهم ومن المهاجرين أو الصحابة ثبت الإيمان فيهم ثبوتا من غير زوال وإن زال عن بعض أفرادهم.

وهذا الوجه لو تم لدل على أن المراد بالقوم جميع الأمة المسلمة أو المؤمنون من جميع الأمم، ولا دليل من تخصيصه بقوم دون قوم، واختصاص بعضهم بمزايا وكرامات دينية كتقدم المهاجرين في الإيمان بالله والصبر على الأذى في جنب الله، أو تبوء الأنصار الدار والإيمان وإعلاؤهم كلمة التوحيد لا يوجب إلا فضل اتصافهم بهذا النعت لا اختصاصه بهم وحرمان غيرهم منه مع مشاركته إياهم في معناه.

إلا أنه يرد على هذا الوجه: أن المألوف من كلامه في الأوصاف الاجتماعية التي لا تستوعب جميع أفراد المجتمع أن يستثني المتخلفين عنها لو كان هناك متخلف أو يأتي بما في معنى الاستثناء كقوله: ﴿لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم، ثم رددناه أسفل سافلين، إلا الذين آمنوا﴾ التين: 6.

وقوله: ﴿محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم - إلى أن قال - وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما﴾ الفتح: 29 وقوله: ﴿إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار - إلى أن قال - إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله﴾ النساء: 146 وقوله: ﴿كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم - إلى أن قال - إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا﴾ آل عمران: 89 وهذا المعنى كثير دائر في القرآن الكريم فما بال قوله: ﴿قوما ليسوا بها بكافرين﴾ لم يستثن منه المتخلف عن الوصف من القوم مع وجوده فيهم.

وأغرب منه قول بعضهم: إن المراد بوصف القوم بأنهم ليسوا بها بكافرين - والقوم على قوله هم الأنصار - الإشارة إلى أنهم وإن لم يؤمنوا بها بعد لكنهم لم يكفروا بها كما كفر بها مشركو مكة.

وفيه مضافا إلى أنه لا يسلم مما تقدم من الإشكال على الوجوه السابقة أن أهل المدينة من الأنصار كانوا حين نزول الآيات مشركين يعبدون الأصنام ولا معنى لنفي الكفر عنهم اللهم إلا بمعنى الرد بعد الدعوة وهو الاستكبار والاستنكاف ولا دليل على كون الكفر في الآية بهذا المعنى مع كون الآيات مسوقة لوصف الهداية الإلهية المقابلة للإشراك كما جرى على هذا المجرى في قوله: ﴿ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون﴾.

وفيه: أن التوكيل المذكور في الآية يفيد معنى الحفظ، ولا معنى لقولنا: إن يكفر بها هؤلاء فقد حفظناها بقوم لم يؤمنوا بها ولم يردوها بعد.

ومن قائل: إن المراد بهم العجم ولم يكونوا يؤمنوا بها يومئذ وكأنه مأخوذ من قوله تعالى ﴿إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين﴾ النساء: 133 فقد ورد أن المراد بالآخرين هم العجم لكن يرد عليه ما يرد على سابقه.

ومن قائل: إن المراد بالقوم هم المؤمنون من أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أو المؤمنون من جميع الأمم.

وفيه: أنه يرد عليه ما أورد على ما قبله من الوجوه.

نعم يمكن أن يوجه بأن المراد بهم نفوس من هذه الأمة أو من جميع الأمم يؤمن بالله إيمانا لا يعقبه كفر ما دامت تعيش في الدنيا فهؤلاء قوم مؤمنون وليسوا بها بكافرين وإن لم يمتنع الكفر عليهم لكن دوامهم على الإيمان بدعوة التوحيد من غير كفر أو نفاق يستدعي صدق قوله ﴿قوما ليسوا بها بكافرين﴾ عليهم ويتم به معنى الآية في أنها مسوقة لتسلية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتطييب قلبه الشريف إذ كان يحزنه كفر المشركين من قومه واستكبارهم عن إجابة دعوة الحق والإيمان بالله وآياته، وفي أنها دالة على اعتزازه تعالى بحفظ هدايته وطريقته التي أكرم بها عباده المكرمين وأنبياءه المقربين.

لكن يتوجه إليه أن بناء هذا الوجه على قضية اتفاقية وهي إيمان المؤمنين بها إيمانا يتفق أن يبقى سليما من الزوال من غير ضامن يضمن بقاءه، ولا يلائمه قوله تعالى: ﴿وكلنا بها﴾ فإن التوكيل يفيد معنى الاعتماد ويتضمن معنى الحفظ والكلاءة، ولا وجه للاعتزاز والمباهاة بأمر لا ضامن لثباته ولا حافظ لاستقراره وبقائه.

على أن الله سبحانه يذم كثيرا من الإيمان إذ يقول: ﴿وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون﴾ يوسف: 106 وهذه الآيات إنما تصف التوحيد الفطري المحض والهداية الإلهية الطاهرة النقية الخالية عن شوب الشرك والظلم التي أكرم الله بها خليله إبراهيم ومن قبله وبعده من الأنبياء المكرمين (عليهم السلام) كما يذكره إبراهيم (عليه السلام) في قوله على ما يحكيه الله سبحانه عنه: ﴿الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون﴾ الأنعام: 82 والهداية التي هذا شأنها لا يعد كل متلبس بالإيمان حافظا لها موكلا بها من الله يحفظها الله به من الضيعة والفساد البتة وفيهم الطغاة والبغاة والفراعنة والمستكبرون والجفاة الظلمة وأهل البدع والمتوغلون في الفجور وأنواع الفحشاء والفسق.

والذي ينبغي أن يقال في معنى الآية أعني قوله: ﴿فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين﴾ إن الآيات لما كانت تصف التوحيد الفطري والهداية الإلهية الطاهرة من شوب الشرك بالله سبحانه، وتذكر أن الله سبحانه أكرم بهذه الهداية سلسلة متصلة متحدة من أنبيائه واصطفاهم بها ذرية بعضها من بعض واجتباهم وهداهم إلى صراط مستقيم لا ضلال فيه وآتاهم الكتاب والحكم والنبوة.

ثم فرع على ذلك قوله: ﴿فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين﴾ وسياقه سياق اعتزاز منه تعالى وتسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتطييب لنفسه لئلا يوهنه الحزن ويفسخ عزيمته في الدعوة الدينية ما يشاهده من كفر قومه واستكبارهم وعمههم في طغيانهم فمعناه أن لا تحزن بما تراه من كفرهم بهذه الهداية الإلهية والطريقة التي تشتمل عليها الكتاب والحكم والنبوة التي آتيناها سلسلة المهديين من الأنبياء الكرام فإنا قد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين فلا سبيل للضيعة والزوال إلى هذه الهداية الإلهية لأنا وكلناهم بها واعتمدنا عليهم فيها وأولئك غير كافرين بها البتة.

فهؤلاء قوم لا يتصور في حقهم كفر ولا يدخل في قلوبهم شرك لأن الله وكلهم بها واعتمد عليهم فيها وحفظها بهم ولو جاز عليهم الشرك وأمكن فيهم التخلف كان الاعتماد عليهم فيها خطاء وضلالا والله سبحانه لا يضل ولا ينسى.

فالآية تدل - والله أعلم - على أن لله سبحانه في كل زمان عبدا أو عبادا موكلين بالهداية الإلهية والطريقة المستقيمة التي يتضمنها ما آتاه أنبياءه من الكتاب والحكم والنبوة يحفظ الله بهم دينه عن الزوال وهدايته عن الانقراض، ولا سبيل للشرك والظلم إليهم لاعتصامهم بعصمة إلهية وهم أهل العصمة من الأنبياء الكرام وأوصيائهم (عليهم السلام).

فالآية خاصة بأهل العصمة وقصارى ما يمكن أن يتوسع به أن يلحق بهم الصالحون من المؤمنين ممن اعتصم بعصمة التقوى والصلاح ومحض الإيمان عن الشرك والظلم، وخرج بذلك عن ولاية الشيطان قال تعالى.

﴿إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون﴾ النحل: 99 إن صدق عليهم أن الله وكلهم بها واعتمد عليهم فيها.

قوله تعالى: ﴿أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده﴾ إلى آخر الآية.

عاد ثانيا إلى تعريفهم بما فيه تعريف الهدى الإلهي فالهدى الإلهي لا يتخلف عن شأنه وأثره وهو الإيصال إلى المطلوب قال تعالى: ﴿فإن الله لا يهدي من يضل﴾ النحل: 37.

وقد أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في قوله: فبهداهم اقتده بالاقتداء - وهو الاتباع - بهداهم لا بهم لأن شريعته ناسخة لشرائعهم وكتابه مهيمن على كتبهم، ولأن هذا الهدى المذكور في الآيات لا واسطة فيه بينه تعالى وبين من يهديه، وأما نسبة الهدى إليهم في قوله: ﴿فبهداهم﴾ فمجرد نسبة تشريفية، والدليل عليه قوله: ﴿ذلك هدى الله﴾ إلخ.

وقد استدل بعضهم بالآية على أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمته كانوا متعبدين بشرائع من قبلهم إلا ما قام الدليل على نسخه، وفيه: أن ذلك إنما يتم لو كان قيل: فبهم اقتده، وأما قوله ﴿فبهداهم اقتده﴾ فهو بمعزل عن الدلالة على ذلك، كما هو ظاهر.

وختم سبحانه كلامه في وصف التوحيد الفطري والهداية الإلهية إليه بقوله خطابا لنبيه: ﴿قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين﴾ كأنه قيل: اهتد بالهدى الإلهي الذي اهتدى به الأنبياء قبلك، وذكر به العالمين من غير أن تسألهم أجرا على ذلك، وقل لهم ذلك لتطيب به نفوسهم، ويكون أنجح للدعوة وأبعد من التهمة، وقد حكى الله سبحانه هذه الكلمة عن نوح ومن بعده من الأنبياء (عليهم السلام) في دعواتهم.

والذكرى أبلغ من الذكر كما ذكره الراغب، وفي الآية دليل على عموم نبوته (صلى الله عليه وآله وسلم) لجميع العالمين.

بحث روائي:

في قصص الأنبياء، للثعلبي: أن إلياس أتى إلى بيت امرأة من بني إسرائيل لها ابن يسمى اليسع بن خطوب، وكان به ضر فآوته وأخفت أمره فدعا له فعوفي من الضر الذي كان به، واتبع اليسع إلياس فآمن به وصدقه ولزمه فكان يذهب حيثما يذهب، ثم ذكر قصة رفع إلياس، وأن اليسع ناداه عند ذلك: يا إلياس ما تأمرني به؟ فقذف إليه كساءه من الجو الأعلى فكان ذلك علامة على استخلافه إياه على بني إسرائيل. قال: ونبأ الله تعالى بفضله اليسع (عليه السلام) وبعثه نبيا ورسولا إلى بني إسرائيل، وأوحى الله تعالى إليه وأيده بمثل ما أيد به عبده إلياس فآمنت به بنو إسرائيل وكانوا يعظمونه وينتهون إلى رأيه وأمره، وحكم الله تعالى فيهم قائم إلى أن فارقهم اليسع.

وفي البحار، عن الاحتجاج والتوحيد والعيون في خبر طويل رواه الحسن بن محمد النوفلي عن الرضا (عليه السلام): فيما احتج به على جاثليق النصارى إلى أن قال (عليه السلام): إن اليسع قد صنع مثل ما صنع عيسى (عليه السلام) مشى على الماء وأحيى الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص فلم يتخذه أمته ربا. الخبر.

وفي تفسير العياشي، عن محمد بن الفضيل عن الثمالي عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: ﴿ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا﴾ لنجعلها في أهل بيته، ﴿ونوحا هدينا من قبل﴾ لنجعلها في أهل بيته فأمر العقب من ذرية الأنبياء من كان قبل إبراهيم ولإبراهيم.

أقول: وفيه تأييد ما قدمناه أن الآيات لبيان اتصال سلسلة الهداية.

وفي الكافي، مسندا وفي تفسير العياشي، مرسلا عن بشير الدهان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: والله لقد نسب الله عيسى بن مريم في القرآن إلى إبراهيم من قبل النساء ثم تلا: ومن ذريته داود وسليمان إلى آخر الآية وذكر عيسى.

وفي تفسير العياشي، عن أبي حرب عن أبي الأسود قال: أرسل الحجاج إلى يحيى بن معمر قال: بلغني أنك تزعم أن الحسن والحسين من ذرية النبي تجدونه في كتاب الله، وقد قرأت كتاب الله من أوله إلى آخره فلم أجده. قال: أ ليس تقرأ سورة الأنعام؟ ﴿ومن ذريته داود وسليمان﴾ حتى بلغ يحيى وعيسى قال: أ ليس عيسى من ذرية إبراهيم؟ قال: نعم قرأت:. أقول: ورواه في الدر المنثور، عن ابن أبي حاتم عن أبي الحرب بن أبي الأسود: مثله.

وفي الدر المنثور، أخرج أبو الشيخ والحاكم والبيهقي عن عبد الملك بن عمير قال: دخل يحيى بن معمر على الحجاج فذكر الحسين فقال الحجاج: لم يكن من ذرية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). فقال يحيى: كذبت فقال لتأتيني على ما قلت ببينة فتلا: ﴿ومن ذريته داود وسليمان -إلى قوله- وعيسى وإلياس﴾ فأخبر تعالى أن عيسى من ذرية إبراهيم بأمه. قال: صدقت.

أقول: ذكر الآلوسي في روح المعاني، في قوله تعالى: ﴿وعيسى﴾ وفي ذكره (عليه السلام) دليل على أن الذرية تتناول أولاد البنات لأن انتسابه ليس إلا من جهة أمه.

وأورد عليه: أنه ليس له أب يصرف إضافته إلى الأم إلى نفسه فلا يظهر قياس غيره عليه في كونه ذرية لجده من الأم وتعقب بأن مقتضى كونه بلا أب أن يذكر في حيز الذرية.

وفيه منع ظاهر والمسألة خلافية، والذاهبون إلى دخول ابن البنت في الذرية يستدلون بهذه الآية، وبها احتج موسى الكاظم رضي الله عنه على ما رواه البعض عند الرشيد.

وفي التفسير الكبير، أن أبا جعفر رضي الله تعالى عنه استدل بها عند الحجاج بن يوسف وبآية المباهلة حيث دعا (صلى الله عليه وآله وسلم) الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما بعد ما نزل ﴿تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم﴾.

وادعى بعضهم: أن هذا من خصائصه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد اختلف إفتاء أصحابنا في هذه المسألة، والذي أميل إليه القول بالدخول.

وقال في المنار: وأقول: في الباب حديث أبي بكرة عند البخاري مرفوعا: أن ابني هذا سيد يعني الحسن، ولفظ ابن لا يجري عند العرب على أولاد البنات، وحديث عمر في كتاب معرفة الصحابة لأبي نعيم مرفوعا: وكل ولد آدم فإن عصبتهم لأبيهم خلا ولد فاطمة فإني أبوهم وعصبتهم وقد جرى الناس على هذا فيقولون في أولاد فاطمة (عليها السلام): أولاد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبناؤه وعترته وأهل بيته.

أقول: وفي المسألة خلط، وقد اشتبه الأمر فيها على عدة من الأعلام فحسبوا أن المسألة لفظية يتبع فيها اللغة حتى احتج فيها بعضهم بمثل قول الشاعر: بنونا بنو أبنائنا وبناتنا.

بنوهن أبناء الرجال الأباعد.

وقوله: وإنما أمهات الناس أوعية.

مستودعات وللأنساب آباء.

وقد أخطئوا في ذلك، وإنما هي مسألة حقوقية اجتماعية من شعب مسألة القرابة، والأمم والأقوام مختلفة في تحديدها وتشخيصها وأن المرأة هل هي داخلة في القرابة؟ وأن أولاد بنت الرجل هل هي أولاده؟ وأن القرابة هل تختص بما يحصل بالولادة أو تعمه وما حصل بالادعاء؟ وقد كانت عرب الجاهلية لا ترى للمرأة إلا القرابة الطبيعية التي تؤثر أثرها في الازدواج والإنفاق ونحو ذلك، ولا ترى لها قرابة قانونية تسمح لها بالوراثة ونحوها، وأما أولاد البنات فلم تكن ترى لها قرابة، وكانت ترى قرابة الأدعياء وتسمى الدعي ابنا لا لأن اللغة كانت تجوز ذلك بل لأنهم اتبعوا في ذلك ما تجاورهم من الأمم الراقية ترى ذلك بحسب قوانينها المدنية أو سننها القومية كالروم وإيران.

وأما الإسلام فقد ألغى قرابة الأدعياء من رأس قال تعالى: ﴿وما جعل أدعياءكم أبناءكم﴿: الأحزاب: 4 وأدخل المرأة في القرابة ورتب على ذلك آثارها وأدخل أولاد البنات في الأولاد قال تعالى في آية الإرث: ﴿يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين﴾ النساء: 11 وقال: ﴿للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر﴾ النساء: 7.

وقال في آية محرمات النكاح: ﴿حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم - إلى أن قال - وأحل لكم ما وراء ذلكم﴿: النساء: 24 فسمى بنت البنت بنتا وأولاد البنات أولادا من غير شك في ذلك، وقال تعالى: ﴿ويحيى وعيسى وإلياس﴾ الآية فعد عيسى من ذرية إبراهيم أو نوح (عليهما السلام) وهو غير متصل بهما إلا من جهة الأم.

وقد استدل أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بهذه الآية وآية التحريم وآية المباهلة على كون ابن بنت الرجل ابنا له والدليل عام وإن كان الاحتجاج على أمر خاص ولأبي جعفر الباقر (عليه السلام) احتجاج آخر أصرح من الجميع رواه في الكافي، بإسناده عن عبد الصمد بن بشير عن أبي الجارود قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): يا أبا الجارود ما يقولون لكم في الحسن والحسين؟ قلت: ينكرون علينا أنهما ابنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: فأي شيء احتججتم عليهم؟ قلت: احتججنا عليهم بقول الله عز وجل في عيسى بن مريم: ﴿ومن ذريته داود وسليمان - وأيوب ويوسف وموسى وهارون - وكذلك نجزي المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى﴾ فجعل عيسى بن مريم من ذرية نوح. قال: فأي شيء قالوا لكم؟ قلت: قالوا: قد يكون ولد الابنة من الولد ولا يكون من الصلب. قال: فأي شيء احتججتم عليهم؟ قلت: احتججنا عليهم بقوله تعالى لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ﴿قل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم - وأنفسنا وأنفسكم﴾ ثم قال: أي شيء قالوا: قلت قالوا: قد يكون في كلام العرب أبناء رجل وآخر يقول: أبناؤنا. قال: فقال أبو جعفر (عليه السلام): لأعطينكما من كتاب الله عز وجل أنهما من صلب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يرده إلا كافر.

قلت: وأين ذلك جعلت فداك؟ قال: من حيث قال الله: ﴿حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم﴾ إلى أن انتهى إلى قوله تبارك وتعالى: ﴿وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم﴾ يا أبا الجارود هل كان يحل لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نكاح حليلتهما؟ فإن قالوا: نعم، كذبوا وفجروا، وإن قالوا: لا، فإنهما ابناه لصلبه: وروى قريبا منه القمي في تفسيره.

وبالجملة فالمسألة غير لفظية، وقد اعتبر الإسلام في المرأة القرابة الطبيعية والتشريعية جميعا، وكذا في أولاد البنات أنهم من الأولاد وأن عمود النسب يجري من جهة المرأة كما يجري من جهة الرجل كما ألغى الاتصال النسبي من جهة الدعاء أو من غير نكاح شرعي، وقد روى الفريقان عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: ﴿الولد للفراش وللعاهر الحجر﴾ غير أن مساهلة الناس في الحقائق الدينية أنستهم هذه الحقيقة ولم يبق منها إلا بعض آثارها كالوراثة والحرمة ولم تخل السلطات الدولية في صدر الإسلام من تأثير في ذلك، وقد تقدم البحث في ذيل آية التحريم من الجزء الثالث من الكتاب.

وفي تفسير النعماني، بإسناده عن سليمان بن هارون العجلي قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن صاحب هذا الأمر محفوظة له لو ذهب الناس جميعا أتى الله بأصحابه، وهم الذين قال الله عز وجل: ﴿فإن يكفر بها هؤلاء - فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين﴾ وهم الذين قال الله فيهم: ﴿فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه - أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين﴾.

أقول: وهو من الجري.

وفي الكافي، بإسناده عن أبي حمزة عن أبي جعفر (عليه السلام): قال الله عز وجل في كتابه: ﴿ونوحا هدينا من قبل إلى قوله بكافرين﴾ فإنه وكل بالفضل من أهل بيته والإخوان والذرية، وهو قول الله تبارك وتعالى: ﴿فإن يكفر بها﴾ أمتك فقد وكلنا أهل بيتك بالإيمان الذي أرسلناك به فلا يكفرون به أبدا، ولا أضيع الإيمان الذي أرسلتك به من أهل بيتك من بعدك علماء أمتك وولاة أمري بعدك، وأهل استنباط العلم الذي ليس فيه كذب ولا إثم ولا وزر ولا بطر ولا رياء:. أقول: ورواه العياشي مرسلا وكذا الذي قبله والحديث كسابقه من الجري.

وفي المحاسن، بإسناده علي بن عيينة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال: أبو عبد الله (عليه السلام): ولقد دخلت على أبي العباس وقد أخذ القوم مجلسهم فمد يده إلي والسفرة بين يديه موضوعة فذهبت لأخطو إليه فوقعت رجلي على طرف السفرة فدخلني بذلك ما شاء الله أن يدخلني إن الله يقول: ﴿فإن يكفر بها هؤلاء - فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين﴾ قوما والله يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويذكرون الله كثيرا.

أقول: محصله استحياؤه (عليه السلام) من الله سبحانه بوقوع قدمه على طرف السفرة اضطرارا كأن في وطء السفرة كفرانا لنعمة الله ففيه تعميم للكفر في قوله: ﴿ليسوا بها بكافرين﴾ لكفر النعمة.

وفي النهج،: اقتدوا بهدى نبيكم فإنه أفضل الهدى.

أقول: واستفادته من الآيات ظاهرة.

وفي تفسير القمي، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: وأحسن الهدى هدى الأنبياء.