الآيات 37 - 55

وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلٍ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴿37﴾ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ﴿38﴾ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَن يَشَإِ اللّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴿39﴾ قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿40﴾ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ ﴿41﴾ وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ﴿42﴾ فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴿43﴾ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ ﴿44﴾ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿45﴾ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُم بِهِ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ ﴿46﴾ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ ﴿47﴾ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿48﴾ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ ﴿49﴾ قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ ﴿50﴾ وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴿51﴾ وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴿52﴾ وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ﴿53﴾ وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿54﴾ وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ﴿55﴾

بيان:

احتجاجات متنوعة على المشركين في أمر التوحيد وآية النبوة.

قوله تعالى: ﴿وقالوا لو لا نزل عليه آية من ربه قل إن الله قادر﴾ إلى آخر الآية، تحضيض منهم على تنزيل الآية بداعي تعجيز النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولما صدر هذا القول منهم وبين أيديهم أفضل الآيات أعني القرآن الكريم الذي كان ينزل عليهم سورة سورة وآية آية، ويتلى عليهم حينا بعد حين تعين أن الآية التي كانوا يقترحونها بقولهم: ﴿لو لا نزل عليه آية من ربه﴾ هي آية غير القرآن، وأنهم كانوا لا يعدونه آية تقنعهم وترتضيه نفوسهم بما لها من المجازفات والتهوسات.

وقد حملهم التعصب لآلهتهم أن ينقطعوا عن الله سبحانه كأنه ليس بربهم، فقالوا: ﴿لو لا نزل عليه آية من ربه﴾ ولم يقولوا: من ربنا أو من الله ونحوهما إزراء بأمره وتأكيدا في تعجيزه أي لو كان ما يدعيه ويدعو إليه حقا فليغر له ربه الذي يدعو إليه ولينصره ولينزل عليه آية تدل على حقية دعواه.

والذي بعثهم إلى هذا الاقتراح جهلهم بأمرين: أحدهما: أن الوثنية يرون لآلهتهم استقلالا في الأمور المرجوعة إليهم في الكون مع ما يدعون لهم من مقام الشفاعة فإله الحرب أو السلم له ما يدبره من الأمر من غير أن يختل تدبيره من ناحية غيره، وكذلك إله البر وإله البحر وإله الحب وإله البغض وسائر الآلهة، فلا يبقى لله سبحانه شأن يتصرف فيه فقد قسم الأمر بين أعضاده وإن كان هؤلاء شفعاءه وهو رب الأرباب، فليس يسعه تعالى أن يبطل أمر آلهتهم بإنزال آية تدل على نفي ألوهيتها.

وكان يحضهم على هذه المزعمة ويؤيد هذا الاعتقاد في قلوبهم ما كانوا يتلقونه من يهود الحجاز أن يد الله مغلولة لا سبيل له إلى تغيير شيء من النظام الجاري، وخرق العادة المألوفة في عالم الأسباب.

وثانيهما: أن الآيات النازلة من عند الله سبحانه إذا كانت مما خص الله به رسولا من رسله من غير أن يقترحه الناس فإنما هي بينات تدل على صحة دعوى الرسول من غير أن يستتبع محذورا للناس المدعوين كالعصا واليد البيضاء لموسى وإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وخلق الطير لعيسى، والقرآن الكريم لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم).

لكن الآية لو كانت مما اقترحها الناس فإن سنة الله جرت على القضاء بينهم بنزولها فإن آمنوا بها وإلا نزل عليهم العذاب ولم ينظروا بعد ذلك كآيات نوح وهود وصالح وغير ذلك، وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تدل على ذلك، كقوله تعالى: ﴿وقالوا لو لا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون﴾ الأنعام: 8، وقوله: ﴿وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها﴾ الإسراء: 59.

وقد أشير في الآية الكريمة أعني قوله: ﴿وقالوا لو لا نزل عليه آية من ربه قل إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون﴾ إلى الجهتين جميعا.

فذكر أن الله قادر على أن ينزل أي آية شاء، وكيف يمكن أن يفرض من هو مسمى باسم ﴿الله﴾ ولا تكون له القدرة المطلقة، وقد بدل في الجواب لفظة ﴿الرب﴾ إلى اسم ﴿الله﴾ للدلالة على برهان الحكم، فإن الألوهية المطلقة تجمع كل كمال من غير أن تحد بحد أو تقيد بقيد فلها القدرة المطلقة، والجهل بالمقام الألوهي هو الذي بعثهم إلى اقتراح الآية بداعي التعجيز.

على أنهم جهلوا أن نزول ما اقترحوه من الآية لا يوافق مصلحتهم، وأن اجتراءهم على اقتراحها تعرض منهم لهلاك جمعهم وقطع دابرهم، والدليل على أن هذا المعنى منظور إليه بوجه في الكلام قوله تعالى في ذيل هذه الاحتجاجات: ﴿قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم والله أعلم بالظالمين﴾ الأنعام: 58.

وفي قوله تعالى: ﴿نزل﴾ و﴿ينزل﴾ مشددين من التفعيل دلالة على أنهم اقترحوا آية تدريجية أو آيات كثيرة تنزل واحدة بعد واحدة كما يدل عليه ما حكي من اقتراحهم في موضع آخر من كلامه تعالى كقوله: ﴿وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا، أو تكون لك جنة - إلى أن قال - أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه﴾ الإسراء: 93، وقوله: ﴿وقال الذين لا يرجون لقائنا لو لا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا﴾ الفرقان: 21 وقوله: ﴿وقال الذين كفروا لو لا نزل عليه القرآن جملة واحدة﴾ الفرقان: 32.

وروي عن ابن كثير أنه قرأ بالتخفيف.

قوله تعالى: ﴿وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم﴾ إلى آخر الآية، الدابة كل حيوان يدب على الأرض وقد كثر استعماله في الفرس، والدب بالفتح والدبيب هو المشي الخفيف.

والطائر ما يسبح في الهواء بجناحيه، وجمعه الطير كالراكب، والركب والأمة هي الجماعة من الناس يجمعهم مقصد واحد يقصدونه كدين واحد أو سنة واحدة أو زمان واحد أو مكان واحد، والأصل في معناها، القصد يقال: أم يؤم إذا قصد، والحشر جمع الناس بإزعاج إلى الحرب أو جلاء ونحوه من الأمور الاجتماعية.

والظاهر أن توصيف الطائر بقوله: ﴿يطير بجناحيه﴾ محاذاة لتوصيف الدابة بقوله: ﴿في الأرض﴾ فهو بمنزلة قولنا: ما من حيوان أرضي ولا هوائي، مع ما في هذا التوصيف من نفي شبهة التجوز فإن الطيران كثيرا ما يستعمل بمعنى سرعة الحركة كما أن الدبيب هو الحركة الخفيفة فكان من المحتمل أن يراد بالطيران حيث ذكر مع الدبيب الحركة السريعة فدفع ذلك بقوله: ﴿يطير بجناحيه﴾ كلام في المجتمعات الحيوانية

والخطاب في الآية للناس، وقد ذكر فيها أن الحيوانات أرضية كانت أو هوائية هي أمم أمثال الناس، وليس المراد بذلك كونها جماعات ذوات كثرة وعدد فإن الأمة لا تطلق على مجرد العدد الكثير بل إذا جمع ذلك الكثير جامع واحد من مقصد اضطراري أو اختياري يقصده أفراده، ولا أن المراد مجرد كونها أنواعا شتى كل نوع منها يشترك أفراده في نوع خاص من الحياة والرزق والسفاد والنسل والمأوى وسائر الشئون الحيوية فإن هذا المقدار من الاشتراك وإن صحح الحكم بمماثلتها الإنسان لكن قوله في ذيل الآية: ﴿ثم إلى ربهم يحشرون﴾ يدل على أن المراد بالمماثلة ليس مجرد التشابه في الغذاء والسفاد والإواء بل هناك جهة اشتراك أخرى تجعلها كالإنسان في ملاك الحشر إلى الله، وليس ملاك الحشر إلى الله في الإنسان إلا نوعا من الحياة الشعورية التي تخد للإنسان خدا إلى سعادته وشقائه، فإن الفرد من الإنسان يمكن أن ينال في الدنيا ألذ الغذاء وأوفق النكاح وأنضر المسكن ولا يكون مع ذلك سعيدا في حياته لما ينكب عليه من الظلم والفجور أو أن يحيط به جماع المحن والشدائد والبلايا وهو سعيد في حياته مبتهج بكمال الإنسانية ونور العبودية.

بل حياة الإنسان الشعورية وإن شئت فقل: الفطرة الإنسانية وما يؤيدها من دعوة النبوة تسن للإنسان سنة مشروعة من الاعتقاد والعمل إن أخذ بها وجرى عليها ووافقه المجتمع عليه سعد في الحياتين: الدنيا والآخرة، وإن استن بها وحده سعد بها في الآخرة أو في الدنيا والآخرة معا، وإن لم يعمل بها وتخلف عن الأخذ ببعضها أو كلها كان في ذلك شقاؤه في الدنيا والآخرة.

وهذه السنة المكتوبة له تجمعها كلمتان: البعث إلى الخير والطاعة، والزجر عن الشر والمعصية، وإن شئت قلت: الدعوة إلى العدل والاستقامة، والنهي عن الظلم والانحراف عن الحق فإن الإنسان بفطرته السليمة يستحسن أمورا هي العدل في نفسه أو غيره، ويستقبح أمورا هي الظلم على نفسه أو غيره ثم الدين الإلهي يؤيدها ويشرح له تفاصيلها.

وهذا محصل ما تبين لنا في كثير من الأبحاث السابقة، وكثير من الآيات القرآنية تفيد ذلك وتؤيده كقوله تعالى: ﴿ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها﴿: الشمس: 10، وقوله تعالى: ﴿كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلف فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم﴿: البقرة: 213.

والإمعان في التفكر في أطوار الحيوانات العجم التي تزامل الإنسان في كثير من شئون الحياة، وأحوال نوع منها في مسير حياتها وتعيشها يدلنا على أن لها كالإنسان عقائد وآراء فردية واجتماعية تبني عليها حركاتها وسكناتها في ابتغاء البقاء نظيره ما يبني الإنسان تقلباته في أطوار الحياة الدنيا على سلسلة من العقائد والآراء.

فالواحد منا يشتهي الغذاء والنكاح أو الولد أو غير ذلك، أو يكره الضيم أو الفقر أو غير ذلك فيلوح له من الرأي أن من الواجب أن يطلب الغذاء أو يأكله أو يدخره في ملكه، وأن يتزوج وأن ينسل وهكذا، وأن من الممنوع المحرم عليه أن يصبر على ضيم أو يتحمل مصيبة الفقر وهكذا فيتحرك ويسكن على طبق ما اتخد له هذه الآراء اللائحة لنفسه من الطريق.

كذلك الواحد من الحيوان - على ما نشاهده - يأتي في مبتغيات حياته من الحركات المنظمة التي يحتال بها إلى رفع حوائج نفسه في الغذاء والسفاد والمأوى بما لا نشك به في أن له شعورا بحوائجه وما يرتفع به حاجته، وآراء وعقائد ينبعث بها إلى جلب المنافع ودفع المضار كما في الإنسان، وربما عثرنا فيها من أنواع الحيل والمكائد للحصول على الصيد والنجاة من العدو من الطرق الاجتماعية والفردية ما لم يتنبه إليه الإنسان إلا بعد طي قرون وأحقاب من عمره النوعي.

وقد عثر العلماء الباحثون عن الحيوان في كثير من أنواعه، كالنمل والنحل والأرضة على عجائب من آثار المدنية والاجتماع، ودقائق من الصنعة ولطائف من السنن والسياسات لا تكاد توجد نظائرها إلا في الأمم ذوي الحضارة والمدنية من الإنسان.

وقد حث القرآن الكريم على معرفة الحيوان والتفكر في خلقها وأعمالها عامة كقوله تعالى: ﴿وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون﴾ الجاثية: 4 ودعا إلى الاعتبار بأمر كثير منها كالأنعام والطير والنحل والنمل.

وهذه الآراء والعقائد التي نرى أن الحيوان على اختلاف أنواعها في شئون الحياة ومقاصدها تبنى عليها أعمالها إذا لم تخل عن الأحكام الباعثة والزاجرة لم تخل عن استحسان أمور واستقباح أمور، ولم تخل عن معنى العدل أو الظلم.

وهو الذي يؤيده ما نشاهده من بعض الاختلاف في أفراد أي نوع من الحيوان في أخلاقها، فكم بين الفرس والفرس وبين الكبش والكبش وبين الديك والديك مثلا من الفرق الواضح في حدة الخلق أو سهولة الجانب ولين العريكة.

وكذا يؤيده جزئيات أخرى من حب وبغض وعطوفة ورحمة أو قسوة أو تعد وغير ذلك مما نجدها بين الأفراد من نوع وقد وجدنا نظائرها بين أفراد الإنسان، ووجدناها مؤثرة في الاعتقاد بالحسن والقبح في الأفعال، والعدل والظلم في الأعمال ثم إنها مؤثرة أيضا في حياة الإنسان الأخروية، وملاكا لحشره ومحاسبة أعماله والجزاء عليها بنعمة أو نقمة أخروية.

وببلوغ البحث هذا المبلغ ربما لاح لنا أن للحيوان حشرا كما أن للإنسان حشرا فإن الله سبحانه يعد انطباق العدل والظلم والتقوى والفجور على أعمال الإنسان ملاكا للحشر ويستدل به عليه كما في قوله تعالى: ﴿أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار﴾ ص: 28 بل يعد بطلان الحشر في ما خلقه من السماء والأرض وما بينهما بطلانا لفعله وصيرورته لعبا أو جزافا كما في الآية السابقة على هذه الآية: ﴿وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار﴾ ص: 27.

فهل للحيوان غير الإنسان حشر إلى الله سبحانه كما أن للإنسان حشرا إليه؟ ثم إذا كان له حشر فهل يماثل حشره حشر الإنسان فيحاسب على أعماله وتوزن وينعم بعد ذلك في جنة أو نار على حسب ما له من التكليف في الدنيا؟ وهل استقرار التكليف الدنيوي عليه ببعث الرسل وإنزال الأحكام؟ وهل الرسول المبعوث إلى الحيوان من نوع نفسه أو أنه إنسان؟.

هذه وجوه من السؤال تسبق إلى ذهن الباحث في هذا الموقف: أما السؤال الأول هل للحيوان غير الإنسان حشر؟ فقوله تعالى في الآية: ﴿ثم إلى ربهم يحشرون﴾ يتكفل الجواب عنه، ويقرب منه قوله تعالى: ﴿وإذا الوحوش حشرت﴾ الشمس: 5.

بل هناك آيات كثيرة جدا دالة على إعادة السماوات والأرض والشمس والقمر والنجوم والجن والحجارة والأصنام وسائر الشركاء المعبودين من دون الله، والذهب والفضة حيث يحمى عليهما في نار جهنم فتكوى بها جباه مانعي الزكاة وجنوبهم إلى غير ذلك في آيات كثيرة لا حاجة إلى إيرادها، والروايات في هذه المعاني لا تحصى كثرة.

وأما السؤال الثاني، وهو أنه هل يماثل حشره حشر الإنسان فيبعث وتحضر أعماله ويحاسب عليها فينعم أو يعذب بها فجوابه أن ذلك لازم الحشر بمعنى الجمع بين الأفراد وسوقهم إلى أمر بالإزعاج، وأما مثل السماء والأرض وما يشابههما من شمس وقمر وحجارة وغيرها فلم يطلق في موردها لفظ الحشر كما في قوله تعالى: ﴿يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار﴿: إبراهيم: 48 وقوله: ﴿والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه﴾ الزمر: 67 وقوله: ﴿وجمع الشمس والقمر﴾ القيامة: 9 وقوله: ﴿إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون، لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها﴾ الأنبياء: 99.

على أن الملاك الذي يعطيه كلامه تعالى في حشر الناس هو القضاء الفصل بينهم فيما اختلفوا فيه من الحق قال تعالى: ﴿إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون﴾ السجدة: 25 وقوله: ﴿ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون﴾ آل عمران: 55 وغير ذلك من الآيات.

ومرجع الجميع إلى إنعام المحسن والانتقام من الظالم بظلمه كما ذكره في قوله: ﴿إنا من المجرمين منتقمون﴾ السجدة: 22 وقوله: ﴿فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام، يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار﴾ إبراهيم: 48 وهذان الوصفان أعني الإحسان والظلم موجودان في أعمال الحيوانات في الجملة.

ويؤيده ظاهر قوله تعالى: ﴿ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى﴾ فاطر: 45 فإن ظاهره أن ظلم الناس لو استوجب المؤاخذة الإلهية كان ذلك لأنه ظلم والظلم شائع بين كل ما يسمى دابة: الإنسان وسائر الحيوانات فكان ذلك مستعقبا لأن يهلك الله تعالى كل دابة على ظهرها هذا وإن ذكر بعضهم: أن المراد بالدابة في الآية خصوص الإنسان.

ولا يلزم من شمول الأخذ والانتقام يوم القيامة لسائر الحيوان أن يساوي الإنسان في الشعور والإرادة، ويرقى الحيوان العجم إلى درجة الإنسان في نفسياته وروحياته، والضرورة تدفع ذلك، والآثار البارزة منها ومن الإنسان تبطله.

وذلك أن مجرد الاشتراك في الأخذ والانتقام والحساب والأجر بين الإنسان وغيره لا يقضي بالمعادلة والمساواة من جميع الجهات كما لا يقتضي الاشتراك في ما هو أقرب من ذلك بين أفراد الإنسان أنفسهم أن يجري حساب أعمالهم من حيث المداقة والمناقشة مجرى واحدا فيوقف العاقل والسفيه والرشيد والمستضعف في موقف واحد.

على أنه تعالى ذكر من بعض الحيوان من لطائف الفهم ودقائق النباهة ما ليس بكل البعيد من مستوى الإنسان المتوسط الحال في الفقه والتعقل كالذي حكى عن نملة سليمان بقوله: ﴿حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون﴾ النمل: 18 وما حكاه من قول هدهد له (عليه السلام) في قصة غيبته عنه: ﴿فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين، إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم، وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون﴾ إلى آخر الآيات: النمل: 24 فإن الباحث النبيه إذا تدبر هذا الآيات بما يظهر منها من آثار الفهم والشعور لها ثم قدر زنته لم يشك في أن تحقق هذا المقدار من الفهم والشعور يتوقف على معارف جمة وإدراكات متنوعة كثيرة من بساط المعاني ومركباتها.

وربما أيد ذلك ما حصله أصحاب معرفة الحيوان بعميق مطالعاتهم وتربياتهم لأنواع الحيوان المختلفة من عجائب الأحوال التي لا تكاد تظهر إلا من موجود ذي إرادة لطيفة وفكر عميق وشعور حاد.

وأما السؤال الثالث والرابع أعني أنه: هل الحيوان يتلقى تكليفه في الدنيا برسول يبعث إليه ووحي ينزل عليه؟ وهل هذا الرسول المبعوث إلى نوع من أنواع الحيوان من أفراد ذلك النوع بعينه؟ فعالم الحيوان إلى هذا الحين مجهول لنا مضروب دونه بحجاب فالاشتغال بهذا النوع من البحث مما لا فائدة فيه ولا نتيجة له إلا الرجم بالغيب، والكلام الإلهي على ما يظهر لنا من ظواهره غير متعرض لبيان شيء من ذلك، ولا يوجد في الروايات المأثورة عن النبي والأئمة من أهل بيته (صلى الله عليه وآله وسلم) ما يعتمد عليه في ذلك.

فقد تحصل أن المجتمعات الحيوانية كالمجتمع الإنساني فيها مادة الدين الإلهي ترتضع من فطرتها نحو ما يرتضع الدين من الفطرة الإنسانية ويمهدها للحشر إلى الله سبحانه كما يمهد دين الفطرة الإنسان للحشر والجزاء، وإن كان المشاهد من حال الحيوان بالقياس إلى الإنسان - وتؤيده الآيات القرآنية الناطقة بتسخير الأشياء للإنسان وأفضليته من عامة الحيوان - أن الحيوان لم يؤت تفاصيل المعارف الإنسانية ولا كلف بدقائق التكاليف الإلهية التي كلف بها الإنسان.

ولنرجع إلى متن الآية فقوله تعالى: ﴿وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم﴾ يدل على أن المجتمعات الحيوانية التي توجد بين كل نوع من أنواع الحيوان إنما تأسست على مقاصد نوعية شعورية يقصدها كل نوع من الحيوان على اختلافها بالشعور والإرادة كالإنسان.

وليس ذلك مقصورا على المقاصد الطبيعية أعني مقاصد التغذي والنمو وتوليد المثل المحدودة بهذه الحياة الدنيا بل ينبسط ذيله على ما بعد الموت ويتهيأ به إلى حياة أخرى ترتبط بالسعادة والشقاوة المرتضعتين من ثدي الشعور والإرادة.

وربما اعترض عليه أن القوم تسلموا أن غير الإنسان من أنواع الحيوان محروم من موهبة الاختيار، ولذلك يعد أفعال الحيوان كأفعال النبات طبيعية غير اختيارية لما يشاهد من حالها أنها لا تملك نفسها من الإقدام على الفعل إذا صادف ما فيه نفعها المطلوب كالهرة إذا رأت فأرة أو الأسد إذا رأى فريسته، والهرب إذا صادف ما يخافه من عدو غالب كالفأرة إذا رأت هرة أو الغزالة إذا شاهدت أسدا فلا معنى للسعادة والشقاوة الاختياريتين في الحيوان غير الإنسان.

لكن التأمل في معنى الاختيار والحالات النفسية التي يتوسل بها الإنسان إلى إتيان أفعاله الاختيارية يدفع هذه الشبهة وذلك أن الشعور والإرادة الذين يتم بهما فعل الإنسان الاختياري بالحقيقة إنما أودعا في الإنسان مثلا لأنه نوع شعوري يتصرف في المادة الخارجية للانتفاع بها في بقاء وجوده بتمييز ما ينفعه مما يضره، ولذلك جهزته العناية الإلهية بالشعور والإرادة فهو يميز بشعوره الحي ما يضره مما ينفعه فإذا تحقق النفع أراد ففعل فما كان من الأمور بين النفع ولا يحتاج في الحكم بكونه مما ينتفع به إلى أزيد من وجدانه وحصول العلم به إرادة من فوره وفعله وتصرف فيه من غير توقف كما في موارد الملكات الراسخة غالبا مثل التنفس، وأما ما كان من الأمور غير بين النفع موسوما بنقص من الأسباب أو محفوفا بشيء من الموانع الخارجية أو الاعتقادية لم يكف مجرد العلم بتحققه في إرادته وفعله لعدم الجزم بالانتفاع به.

فهذه الأمور هي التي يتوقف الانبعاث إليها إلى التفكر مثلا فيها من جهة ما معها من النواقص والموانع والتروي فيها ليميز بذلك إنما هل هي من قبيل النافع أو الضار؟ فإن أنتج التروي كونها نافعة ظهرت الإرادة متعلقة بها وفعلت كما لو كانت بينة النفع غير محتاجة إلى التروي فيها، وذلك كالإنسان الجائع إذا وجد غذاء يمكنه أن يسد به خلة الجوع فربما شك في أمره أنه هل هو غذاء طيب صالح لأن يتغذى به أو أنه غير صالح فاسد أو مسموم أو مشتمل على مواد مضرة؟ وأنه هل هو ماله نفسه ولا مانع من التصرف فيه كاحتياج مبرم مستقبل أو صوم ونحوه أو مال غيره ولا يجوز التصرف فيه؟ وحينئذ يتوقف عن المبادرة إلى التصرف فيه، ولا يزال يتروى حتى يقطع بأحد الطرفين فإن حكم بالجواز كان مصداقا لما ينتفع فلا يتوقع بعد ذلك دون أن يريد فيتصرف فيه.

وإن لم يشك في أمره وكان بينا عنده من أول الأمر أنه طيب صالح للتغذي إرادة إذا علم بوجوده من غير ترو أو تفكر، ولم ينفك العلم به عن إرادة التصرف فيه قطعا.

فمحصل حديث الاختيار أن الإنسان إذا لم يتميز عنده بعض الأمور التي يتصرف فيها أنها نافعة أو ضارة ميز ذلك بالتروي والتفكر فاختار أحد الجانبين أو الجوانب، وأما لو تميز من أول الأمر إرادة ففعله من غير مهل ولم يحتج إلى ترو أصلا فالإنسان يختار ما يرى نفعه بترو أو من غير ترو ولا تروي إلا لرفع الموانع عن الحكم.

ثم إنك إذا تأملت حال أفراد الإنسان المختارين في أفعالهم وجدتهم ذوي اختلاف شديد في مبادىء اختيارهم أعني الصفات الروحية والأحوال الباطنية من شجاعة وجبن وعفة وشره ونشاط وكسل ووقار وخفة، وكذا في قوة التعقل وضعفه وإصابة النظر وخطائه فكثيرا ما يرى الشره نفسه مضطرة مسلوبة الاختيار في موارد يشتهي الانهماك فيها لا يعبأ بأمرها العفيف المتطهر، وربما يرى الجبان أدنى أذى يصيبه في مهمة أو مقتلة عذرا لنفسه ينفي عنه الاختيار، ولا يرى الشجاع الباسل الآبي عن الضيم الموت الأحمر وأي زجر بدني أمرا فوق الطاقة، ولا يرى لأي مصيبة هائلة في سبيل مقاصده من بأس، وربما اختار السفيه خفيف العقل بأدنى تصور، واه ولا يرى العاقل اللبيب ترجيح الفعل بأمثال تلك المرجحات إلا تلهيا ولعبا، وأفعال الصبيان غير المميزين اختيارية معها بعض التروي ولا يعبأ بها وبأمرها البالغ الرشيد، وكثيرا ما نعد في محاوراتنا فعلا من أفعالنا اضطراريا أو إجباريا إذا قارن أعذارا اجتماعية غير ملزمة بحسب الحقيقة كشارب الدخان يعتذر بالعادة، والنومة يعتذر بالكسل والسارق أو الخائن يعتذر بالفقر.

وهذا الاختلاف الفاحش في مبادىء الاختيار وأسبابه والعرض العريض في مستوى الأفعال الاختيارية هو الذي بعث الدين وسائر السنن الاجتماعية أن يحدوا الفعل الاختياري بما يراه المتوسط من أفراد المجتمع الإنساني اختياريا، ويبنوا على ذلك صحة تعلق الأمر والنهي والعقاب والثواب ونفوذ التصرف وغير ذلك، ويعذروا من لم يتحقق فيه ما يتحقق في الفعل الاختياري الذي يأتي به الإنسان المتوسط من المبادي والأسباب، وهو المتوسط من الاستطاعة والفهم.

فهذا الوسط المعدود اختيارا النافي لاختيارية ما دونه إنما هو كذلك بحسب الحكم الديني أو الاجتماعي المراعى فيه مصلحة الدين أو الاجتماع وإن كان الأمر بحسب النظر التكويني أوسع من ذلك.

والإمعان فيما تقدم يعطي أن يجزم بأن الحيوان غير الإنسان غير محروم من موهبة الاختيار في الجملة وإن كان أضعف مما نجده في المتوسط من الناس من معنى الاختيار وذلك لما نشاهده في كثير من الحيوانات وخاصة الحيوانات الأهلية من آثار التردد في بعض الموارد المقرونة بالموانع من الفعل وكذا الكف عن الفعل بزجر أو إخافة أو تربية، فجميع ذلك يدل على أن في نفوسها صلاحية الحكم بلزوم الفعل والترك، وهو الملاك في أصل الاختيار وإن كان التروي ضعيفا فيها جدا غير بالغ حد ما نجده في الإنسان المتوسط.

وإذا صح أن الحيوان غير الإنسان لا يخلو عن معنى الاختيار في الجملة وإن كان ضعيفا فمن الجائز أن يجعل الله سبحانه المتوسط من مراتب الاختيار الموجودة فيها ملاكا لتكاليف مناسبة لها خاصة بها لا نحيط بها، أو يعاملها بما لها من موهبة الاختيار بنحو آخر لا معرفة لنا به إلا أنه فيها بنحو يصحح الإنعام عليها عند الموافقة، ومؤاخذتها والانتقام منها عند المخالفة بما الله سبحانه أعلم به.

وقوله تعالى: ﴿ما فرطنا في الكتاب من شيء﴾ جملة معترضة، وظاهرها أن المفرط فيه هو الكتاب، ولفظ ﴿من شيء﴾ بيان للفرط الذي يقع التفريط به، والمعنى لا يوجد شيء تجب رعاية حاله والقيام بواجب حقه وبيان نعته في الكتاب إلا وقد فعل من غير تفريط، فالكتاب تام كامل.

والمراد بالكتاب إن كان هو اللوح المحفوظ الذي يسميه الله سبحانه في موارد من كلامه كتابا مكتوبا فيه كل شيء مما كان وما يكون وما هو كائن، كان المعنى أن هذه النظامات الأممية المماثلة لنظام الإنسانية كان من الواجب في عناية الله سبحانه أن يبني عليها خلقة الأنواع الحيوانية فلا يعود خلقها عبثا ولا يذهب وجودها سدى، ولا تكون هذه الأنواع بمقدار ما لها من لياقة القبول ممنوعة من موهبة الكمال.

فالآية على هذا تفيد بنحو الخصوص ما يفيده بنحو العموم، قوله تعالى: ﴿وما كان عطاء ربك محظورا﴾ الإسراء: 20، وقوله: ﴿ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم﴾ هود: 56.

وإن كان هو القرآن الكريم وقد سماه الله كتابا في مواضع من كلامه، كان المعنى أن القرآن المجيد لما كان كتاب هداية يهدي إلى صراط مستقيم على أساس بيان حقائق المعارف التي لا غنى عن بيانها في الإرشاد إلى صريح الحق ومحض الحقيقة لم يفرط فيه في بيان كل ما يتوقف على معرفته سعادة الناس في دنياهم وآخرتهم كما قال تعالى: ﴿ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء﴾ النحل: 89.

ومما يجب أن يعرفه الناس في سبيل تفقه أمر المعاد أن يتبينوا كيفية ارتباط الحشر وهو البعث يوم القيامة على نهج الاجتماع بالتشكل الأممي في الدنيا، وأن ذلك هو الذي يجدونه بين أنفسهم ويجدونه بين سائر الأنواع الحيوانية، ويترتب عليه دون ذلك فوائد أخرى كالتبصر في توحيد الله تعالى ولطيف قدرته وعنايته بأمر الخليقة والنظام العام الجاري في العالم، ومن أهم فوائده معرفة أن الموجود آخذ في سلسلته من النقص إلى الكمال، وبعض قطعاتها المشتملة على حلقات الحيوان الشامل للإنسان وما دونه مراتب مختلفة مترتبة آخذة من المراتب القاطنة في أفق النبات إلى المراتب المجاورة لمرتبة الإنسان ثم الإنسان.

وقد ندب الله سبحانه الناس إلى معرفة الحيوان والنظر في الآيات المودعة في وجوده أبلغ الندب، وعد ذلك موصلا إلى أفضل النتائج العلمية الملازمة للسعادة الإنسانية وهو اليقين بالله سبحانه حيث قال: ﴿وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون﴾ الجاثية: 4، والآيات في الحث على النظر في أمر الحيوان كثيرة في القرآن الكريم.

ومن الممكن أن يشار في الآية إلى كلا المعنيين فيراد في الكتاب مطلق الكتاب، ويكون المعنى أن الله سبحانه لا يفرط فيما يكتب من شيء، أما في كتاب التكوين فإنه يقضي ويقدر لكل نوع ما في استحقاقه أن يناله من كمال الوجود كالأنواع الحيوانية هيأ لكل منها من سعادة الحياة الأممية الاجتماعية ما هيأه للإنسان لما رأى من صلوحها لذلك فلم يفرط في أمرها، وأما في كتابه الذي هو كلامه الموحى إلى الناس فإنه يبين فيه ما في معرفته خير الناس وسعادة عاجلهم وآجلهم ولا يفرط في ذلك، ومن ذلك أنه لم يفرط في أمر الأمم الحيوانية، وبين في هذه الآية حقيقة ما وهبه لها من نوع السعادة الوجودية التي جعلتهم أمما حية سائرة بوجودها إلى الله سبحانه محشورة إليه كالإنسان.

وقوله تعالى: ﴿ثم إلى ربهم يحشرون﴾ بيان لعموم الحشر لهم وأن حياتهم الموهوبة نوع حياة تستتبع الحشر إلى الله كما أن الحياة الإنسانية كذلك، ولذلك أرجع الضمير المستعمل في أولي الشعور والعقل، فقال: ﴿إلى ربهم يحشرون﴾ إشارة إلى أن أصل الملاك وهو الأمر الذي يدور عليه الرضا والسخط والإثابة والمؤاخذة موجود فيهم.

وقد وقع في الآية التفات من الغيبة إلى التكلم مع الغير ثم إلى الغيبة بالنسبة إليه تعالى، والتدبر فيها يعطي أن الأصل في السياق الغيبة وإنما تحول السياق في قوله: ﴿ما فرطنا في الكتاب من شيء﴾ إلى التكلم مع الغير لكون المعترضة خطابا خاصا بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فلما فرغ منه رجع إلى أصل السياق.

ومن عجيب ما قيل في الآية استدلال بعضهم بها على التناسخ وهو أن تتعلق نفس الإنسان بعد مفارقتها البدن بالموت ببدن واحد من الحيوان يناسبها في الخلق الرذيل الذي رسخ فيها كأن تتعلق نفس المكار بدن ثعلب، ونفس المفسد الحقود ببدن الذئب، ونفس من يتبع سقطات الناس وعوراتهم ببدن خنزير، ونفس الشره الأكول ببدن البقر، وهكذا ولا تزال تنتقل من بدن إلى بدن وتعذب بذلك هذا إن كانت شقية ذات أخلاق رذيلة، وإن كانت سعيدة تعلقت بعد الموت ببدن سعيد منعم بسعادته من أفاضل أفراد الإنسان ومعنى الآية على هذا: ما من حيوان من الحيوانات إلا أمم إنسانية أمثالكم انتقلت بعد الموت إلى صور الحيوانات.

وقد ظهر مما تقدم أن الآية في معزل من هذا المعنى، على أن ذيل الآية: ﴿ثم إلى ربهم يحشرون﴾ لا يلائم هذا المعنى، على أن أمثال هذه الأقاويل من وضوح الفساد بحيث لا طائل في التعرض لها والبحث عن صحتها وسقمها.

ومن عجيب ما قيل فيها أيضا: إن المراد بحشر الحيوان موتها فلا بعث بعد ذلك أو مجموع الموت والبعث.

أما الأول فينفيه ظاهر قوله: ﴿إلى ربهم﴾ إذ لا معنى للموت إلى الله، وأما الثاني فهو من الالتزام بما لا يلزم إذ لا موجب لضم الموت إلى البعث في المعنى، ولا أن في الآية ما يستوجبه.

قوله تعالى: ﴿والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات﴾ إلى آخر الآية يريد تعالى أن المكذبين لآياته محرومون من نعمة السمع والتكلم والبصر لكونهم في ظلمات لا يعمل فيها البصر فهم لصممهم لا يقدرون على أن يسمعوا الكلام الحق وأن يستجيبوا له، ولبكمهم لا يستطيعون أن يتكلموا بالقول الحق ويشهدوا بالتوحيد والرسالة، ولإحاطة الظلمات بهم لا يسعهم أن يبصروا طريق الحق فيتخذوه طريقا.

و في قوله تعالى: ﴿من يشأ الله يضلله﴾ إلخ، دلالة على أن هذا الصمم والبكم والوقوع في الظلمات إنما هي رجز وقع عليهم منه تعالى جزاء لتكذيبهم بآيات الله فإن الله سبحانه جعل إضلاله المنسوب إليه من قبيل الجزاء، كما في قوله: ﴿وما يضل به إلا الفاسقين﴾ البقرة: 26.

فتكذيب آيات الله غير مسبب عن كونهم صما بكما في الظلمات بل الأمر بالعكس وعلى هذا فالمراد بالإضلال بحسب الانطباق على المورد هو جعلهم صما بكما في الظلمات والمراد بمن شاء الله ضلاله هم الذين كذبوا بآياته.

وبالمقابلة يظهر أن المراد بالجعل على صراط مستقيم هو أن يعطيه سمعا يسمع به فيجيب داعي الله بلسانه ويتبصر بالحق ببصره، وأن هذا جزاء من لا يكذب بآيات الله سبحانه فمن يشأ الله يضلله ولا يشاء إلا إضلال من يستحقه ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم ولا يشاء ذلك إلا لمن تعرض لرحمته.

وقد تقدم البحث عن حقيقة معنى ما يصفهم الله تعالى به من الصمم والبكم والعمى وما يشابه ذلك من الصفات، وقد عني في الآية بنكتة أخرى، وهي ما يفيده الوصل والفصل في قوله: ﴿صم وبكم في الظلمات﴾ حيث ذكر الصمم وهو من أوصافهم ثم ذكر البكم وعطفه عليه وهو صفة ثانية، ثم ذكر كونهم في الظلمات ولم يعطفها وهي صفة ثالثة، وبالجملة وصل بعض الصفات وفصل بعضها، وقد أتى في مثل الآية بحسب المعنى بالفصل أعني قوله في المنافقين: ﴿صم بكم عمي﴾ البقرة: 18، وفي آية أخرى يماثلها بالعطف وهي قوله في الكفار: ﴿ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة﴾ البقرة: 7.

ولعل النكتة في الآية التي نحن فيها أعني قوله: ﴿صم وبكم في الظلمات ﴿، الإشارة إلى كون من هم صم غير الذين هم بكم فالصم هم الجهلاء المقلدون الذين يتبعون كبراءهم فلا يدع لهم ذلك سمعا يسمعون به الدعوة الحقة، والبكم هم العظماء المتبوعون الذين لهم علم بصحة الدعوة إلى التوحيد وبطلان الشرك، غير أنهم لعنادهم وبغيهم بكم لا تنطلق ألسنتهم إلى الاعتراف بكلمة الحق والشهادة بها، والطائفتان جميعا تشتركان في أنهما واقعتان في ظلمة لا يتبصر فيها إلى الحق، ولا يسع غيرهما أن يبصرهما بشيء من الإشارات لمكان وقوعهما في الظلمات فلا تنجح فيها الإشارة.

ويؤيد ذلك أن الكلام المسرود في الآيات يعم الطائفتين جميعا كما يشير إليه قوله تعالى في الآيات السابقة: ﴿وهم ينهون عنه وينأون عنه﴾ آية: 26، وكذا قوله: ﴿ولكن أكثرهم لا يعلمون﴾ آية: 37.

هذا في الآية التي نحن فيها، وأما آية المنافقين: ﴿صم بكم عمي﴿، فالعناية فيها باجتماع جميع هذه الصفات فيهم في زمان واحد لانقطاعهم عن رحمة الله من كل جهة، وأما آية الكفار: ﴿ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة﴾ فقد تعلقت العناية فيها بكون ختم السمع من غير جنس ختم القلوب كما حكاه عنهم في قوله: ﴿وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب﴾ حم السجدة: 5 وربما وجهت الآية بغير ذلك من الوجوه.

قوله تعالى: ﴿قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة﴾ إلى آخر الآيتين لفظ ﴿أرأيتكم﴾ بهمزة الاستفهام وصيغة المفرد المذكر الماضي من الرؤية وضمير الجمع المخاطب، أخذه أهل الأدب بمعنى أخبرني، قال الراغب في المفردات:، ويجري ﴿أرأيت﴾ مجرى أخبرني فيدخل عليه الكاف ويترك التاء على حالته في التثنية والجمع والتأنيث، ويسلط التغيير على الكاف دون التاء، قال تعالى: ﴿أرأيتك هذا الذي﴾ قل أرأيتكم.

وفي الآية تجديد احتجاج على المشركين، وإقامة حجة على بطلان شركهم من وجه، وهو أنها تفرض عذابا آتيا من جانب الله أو إتيان الساعة إليهم ثم تفرض أنهم يدعون في ذلك من يكشف العذاب عنهم على ما هو المغروز في فطرة الإنسان أنه يتوجه بالمسألة إذا بلغت به الشدة نحو من يقدر أن يكشفها عنه.

ثم تسألهم أنه من الذي تدعونه وتتوجهون إليه بالمسألة إن كنتم صادقين؟ أ غير الله تدعون من أصنامكم وأوثانكم التي سميتموها من عند أنفسكم آلهة أم إياه تدعون؟ وهيهات أن تدعوا غيره وأنتم تشاهدون حينئذ أنها محكومة بالأحكام الكونية مثلكم لا ينفعكم دعاؤها شيئا.

بل تنسون هؤلاء الشركاء المسمين آلهة لأن الإنسان إذا أحاطت به البلية وهزهزته الهزاهز ينسى كل شيء دون نفسه إلا أن في نفسه رجاء أن ترتفع عنه البلية، والرافع الذي يرجو رفعها منه هو ربه، فتنسون شركاءكم وتدعون من يرفعها من دونهم وهو الله عز اسمه فيكشف الله سبحانه ما تدعون كشفه إن شاء أن يكشفه، وليس هو تعالى بمحكوم على الاستجابة ولا مضطرا إلى الكشف إذا دعي بل هو القادر على كل شيء في كل حال.

فإذا كان الله سبحانه هو الرب القدير الذي لا ينساه الإنسان وإن نسي كل شيء إلا نفسه ويضطر إلى التوجه إليه ببعث من نفسه عند الشدائد القاصمة الحاطمة دون غيره من الشركاء المسمين آلهة فهو سبحانه هو رب الناس دونها.

فمعنى الآية ﴿قل﴾ يا محمد ﴿أرأيتكم﴾ أخبروني ﴿إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة﴾ فرض إتيان عذاب من الله ولا ينكرونه، وفرض إتيان الساعة ولم يعبأ بإنكارهم لظهوره ﴿أغير الله تدعون﴾ لكشفه، وقد حكى الله في كلامه عنهم سؤال كشف العذاب في الدنيا ويوم القيامة جميعا لما أن ذلك من فطريات الإنسان ﴿إن كنتم صادقين﴾ وجئتم بالنصفة ﴿بل إياه﴾ الله سبحانه دون غيره من أصنامكم ﴿تدعون فيكشف ما تدعون إليه﴾ من العذاب ﴿إن شاء﴾ أن يكشفه كما كشف لقوم يونس، وليس بمجبر ولا مضطرا إلى القبول لقدرته الذاتية ﴿وتنسون ما تشركون﴾ من الأصنام والأوثان على ما في غريزة الإنسان أن يشتغل عند إحاطة البلية به عن كل شيء بنفسه، ولا يهم إلا بنفسه لضيق المجال به أن يتلهى بما لا ينفعه، فاشتغاله والحال هذه بدعاء الله سبحانه ونسيانه الأصنام أصرح حجة أنه تعالى هو الله لا إله غيره ولا معبود سواه.

وبما تقدم من تقرير معنى الآية يتبين أولا: أن إتيان العذاب أو الساعة، وكذا الدعاء لكشفه مفروضان في حجة الآية، والمطلوب بيان أن المدعو حينئذ هو الله عز اسمه دون الأصنام، وأما أصل الدعاء عند الشدائد والمصائب، وأن للإنسان توجها جبليا عند ما تطل عليه البلية ويتقطع عنه كل سبب إلى من يكشفها عنه فهو حجة أخرى غير هذه الحجة، والمطلوب بهذه الحجة - وهي التي في هذه الآية - التوحيد وبتلك الحجة إثبات الصانع من غير نظر إلى توحيده، وإن تلازم المطلوبان.

وثانيا: أن تقييد قوله: ﴿فيكشف ما تدعون إليه﴾ ، بقوله: ﴿إن شاء﴾ لبيان إطلاق القدرة فلله سبحانه أن يكشف كل شديدة حتى الساعة التي لا ريب فيها، فإن قضاءه الحتم لأمر من الأمور وإن كان يحتمه ويوجبه لكنه لا يسلب عنه القدرة على الترك فله القدرة المطلقة على ما قضى به، وما لم يقض به ومثل الساعة في ذلك كل عذاب غير مردود وأمر محتوم إن يشأ يأت به وإن لم يشأ لم يأت به وإن كان يشاء دائما ما قضى به قضاء حتما ووعده وعدا جزما والله لا يخلف الميعاد فافهم ذلك.

وله سبحانه أن لا يجيب دعوة أي داع دعاه وإن عرف نفسه بأنه مجيب، فقال: ﴿وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان﴾ البقرة: 186 ووعد الاستجابة لداعيه وعدا بتيا، فقال: ﴿ادعوني أستجب لكم﴾ المؤمنون: 60 فإن وعد الاستجابة لا يسلب عنه القدرة على عدم الاستجابة وإن كان يستجيب دائما كل من دعاه بحقيقة الدعاء، وتجري على ذلك سنته صراطا مستقيما لا تخلف فيه.

ومن هنا يظهر فساد ما استشكل على الآية بأن مدلولها يخالف ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة أن الساعة لا ريب فيها ولا محيص عن وقوعها وأن عذاب الاستئصال لا مرد له، وقد قال تعالى: ﴿وما دعاء الكافرين إلا في ضلال﴾ المؤمن: 50. وجه الفساد أن الآية لا تدل على أزيد من أن الله سبحانه أن يفعل ما يشاء وأنه قادر على كل شيء، وأما أنه يشاء كل شيء ويفعل كل شيء فلا دلالة فيها على ذلك ولا ريب أن قضاءه الحتمي بوقوع الساعة أو بعذاب قوم عذاب استئصال لا يبطل قدرته على خلافه فله أن يخالف إن شاء وإن كان لا يخلف الميعاد ولا ينقض ما أراد.

وأما قوله تعالى: ﴿وما دعاء الكافرين إلا في ضلال﴾ فهو دعاؤهم في جهنم لكشف عذابها وتخفيفه عنهم، ومن المعلوم أن الدعاء مع تحتم الحكم وفصل القضاء لا يتحقق بحقيقته فإن سؤال أن لا يبعث الله الخلق أو لا يعذب أهل جهنم فيها من الله سبحانه بمنزلة أن يسأل الله سبحانه أن لا يكون هو الله سبحانه فإن من لوازم معنى الألوهية أن يرجع إليه الخلق على حسب أعمالهم فلمثل هذه الأدعية صورة الدعاء فقط دون حقيقة معناها، وأما لو تحقق الدعاء بحقيقته بأن يدعى حقيقة ويتعلق ذلك الدعاء بالله حقيقة كما هو ظاهر قوله: ﴿أجيب دعوة الداع إذا دعان﴾ الآية، فإن ذلك لا يرد البتة، والدعاء على هذا النعت لا يدع الكافر كافرا ولو حين الدعاء كما قال تعالى: ﴿فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون﴾ العنكبوت: 65.

فما في قوله: ﴿وما دعاء الكافرين إلا في ضلال﴾ دعاء منهم وهم على الكفر فإن الثابت من ملكة الكفر لا يفارقهم في دار الجزاء وإن كان من الجائز أن يفارقهم في دار العمل بالتوبة والإيمان.

فدعاؤهم لكشف العذاب عنهم يوم القيامة أو في جهنم ككذبهم على الله يوم القيامة بقولهم - كما حكى الله - والله ربنا ما كنا مشركين، ولا ينفع اليوم كذب غير أنهم اعتادوا ذلك في الدنيا ورسخت رذيلتهم في نفوسهم فبرزت عنهم آثاره يوم تبلى السرائر، ونظير أكلهم وشربهم وخصامهم في النار، ولا غنى لهم في شيء من ذلك، كما قال تعالى: ﴿تسقى من عين آنية ليس لهم طعام إلا من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع﴾ الغاشية: 7، وقال تعالى: ﴿ثم إنكم أيها الضالون المكذبون لآكلون من شجر من زقوم فمالئون منها البطون فشاربون عليه من الحميم فشاربون شرب الهيم﴾ الواقعة: 55، وقال تعالى: ﴿إن ذلك لحق تخاصم أهل النار﴾ ص: 64، فهذا كله من قبيل ظهور الملكات فيهم.

وما قبل الآية يؤيد ما ذكرناه من أن دعاءهم ليس على حقيقته وهو قوله تعالى: ﴿وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب، قالوا أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال﴾ المؤمنون: 50، فإن مسألتهم خزنة النار أن يدعوا الله لهم في تخفيف العذاب ظاهر في أنهم آيسون من استجابة دعائهم أنفسهم، والدعاء مع اليأس عن الاستجابة ليس دعاء ومسألة حقيقية إذ لا يتعلق الطلب بما لا يكون البتة.

وثالثا: أن النسيان في قوله: ﴿وتنسون ما تشركون﴾ حقيقة معناه على ما هو المشهود من حال الإنسان عند ما تغشاه الشدائد والخطوب إذ يشتغل بنفسه وينسى كل أمر دونها إلا الله سبحانه فلا موجب للالتزام بما ذكره بعضهم: أن المراد بقوله: ﴿وتنسون ما تشركون﴾ تعرضون عنها إعراض من نسي الشيء عنه.

وإن كان لا مانع من ذلك لكونه من المجازات الشائعة لكلمة النسيان، وقد استعمل في القرآن النسيان بمعنى الإعراض عن الشيء وعدم الاعتناء به كثيرا كما قال تعالى: ﴿وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا﴾ الجاثية: 34 إلى غير ذلك من الآيات.

قوله تعالى: ﴿ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون﴾ البأساء والبأس والبؤس هو الشدة والمكروه إلا أن البؤس يكثر استعماله في الحرب ونحوه والبأس والبأساء في غيره كالفقر والجدب والقحط ونحوها، والضر والضراء هو سوء الحال فيما يرجع إلى النفس كغم وجهل أو ما يرجع إلى البدن كمرض ونقص بدني أو ما يرجع إلى غيرهما كسقوط جاه أو ذهاب مال، ولعل المقصود من الجمع بين البأساء والضراء الدلالة على تحقق الشدائد في الخارج كالجدب والسيل والزلزلة، وما يعود إلى الناس من قبلها من سوء الحال كالخوف والفقر ورثاثة الحال.

والضراعة هي المذلة والتضرع التذلل والمراد به التذلل إلى الله سبحانه لكشف ما نزل عليهم من نوازل الشدة والرزية.

والله سبحانه يذكر لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذه الآية وما يتلوها إلى تمام أربع آيات سنته في الأمم التي من قبله إذ جاءتهم رسلهم بالبينات: أنه كان يرسل إليهم الرسل فيذكرونهم بتوحيد الله سبحانه والتضرع وإخلاص الإنابة إليه ثم يبتليهم بأنواع الشدة والمحن ويأخذهم بالبأساء والضراء ولكن بمقدار لا يلجئهم إلى التضرع ولا يضطرهم إلى الابتهال والاستكانة لعلهم يتضرعون إليه بحسن اختيارهم، ويلين قلوبهم فيعرضوا عن التزيينات الشيطانية وعن الإخلاد إلى الأسباب الظاهرية لكنهم لم يتضرعوا إليه بل أقسى الاشتغال بأعراض الدنيا قلوبهم وزين لهم الشيطان أعمالهم، وأنساهم ذلك ذكر الله.

فلما نسوا ذكر الله سبحانه فتح الله عليهم أبواب كل شيء وصب عليهم نعمه المتنوعة صبا حتى إذا فرحوا بما عندهم من النعم واغتروا واستقلوا بأنفسهم من دون الله أخذهم الله بغتة ومن حيث لا يشعرون به فإذا هم آيسون من النجاة شاهدون سقوط ما عندهم من الأسباب فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين.

وهذه السنة سنة الاستدراج والمكر الذي لخصها الله تعالى في قوله: ﴿والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين﴾ الأعراف: 183.

وبالتأمل فيما تقدم من تقرير معنى الآية والتدبر في سياقها يظهر أن الآية لا تنافي سائر الآيات الناطقة بأن الإنسان مفطور على التوحيد ملجأ باقتضاء من فطرته وجبلته إلى الإقرار به والتوجه إليه عند الانقطاع عن الأسباب الكونية كما قال تعالى: ﴿وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور﴾ لقمان: 32.

وذلك أن الآية لا تريد من البأساء والضراء إلا ما لا يبلغ من الشدة والمهابة مبلغا يذهلون به عن كل سبب وينسون به كل وسيلة عادية، ومن الدليل على ذلك قوله في الآية: ﴿لعلهم يتضرعون﴾ إذ ﴿لعل﴾ كلمة رجاء ولا رجاء مع الإلجاء والاضطرار، وكذا قوله تعالى: ﴿وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون﴾ فإن ظاهره أنهم اغتروا بذلك وتوسلوا في رفع البأساء والضراء إلى أعمالهم التي عملوها بأيديهم ودبروها بتدابيرهم للغلبة على موانع الحياة وأضداد العيش فاشتغلوا بالأسباب الطبيعية الملهية إياهم عن التضرع إلى الله سبحانه والاعتصام به، كقوله تعالى: ﴿فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون، فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين﴾ المؤمنون: 84، فالآية الأولى - كما ترى - تحكي عنهم نظير ما تحكيه الآية التي نحن فيها من الإعراض عن التضرع والاغترار بالأعمال، والآية الثانية تحكي ما تحكيه الآيات الأخرى من التوحيد في حال الاضطرار.

ومن هنا يظهر فساد ما يظهر من بعضهم أن ظاهر الآية كون الأمم السابقة مستنكفة عن التوحيد معرضة عن التضرع حتى في الشدائد الملجئة قال في تفسير الآية: أقسم الله تعالى لرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه أرسل رسلا قبله إلى أمم قبل أمته فكانوا أرسخ من قومه في الشرك، وأشد منهم إصرارا على الظلم فإن قومه يدعون الله وحده عند شدة الضيق، وينسون ما اتخذوه من الأولياء والأنداد، وأما تلك الأمم فلم تلن الشدائد قلوبهم، ولم تصلح ما أفسد الشيطان من فطرتهم، انتهى.

ولازم ما ذكره أن لا يكون التوحيد فطريا يظهر عند ارتفاع الأوهام الشاغلة والانقطاع عن الأسباب الظاهرة أو أن يمكن إبطال حكم الفطرة من أصله، وقد قال تعالى: ﴿فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله﴿: الروم: 30 فأفاد أن دين التوحيد فطري، وأن الفطرة لا تقبل التغيير بمغير وأيد ذلك بآيات أخر ناصة على أن الإنسان عند انقطاعه عن الأسباب يتوجه إلى ربه بالدعاء مخلصا له الدين لا محالة.

على أن الإقرار بالإله الواحد عند الشدة والانقطاع مما نجده من أنفسنا وجدانا ضروريا ولا يختلف في ذلك الإنسان الأولي وإنسان اليوم البتة.

قوله تعالى: ﴿فلو لا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم﴾ إلخ، ﴿لو لا﴾ للتحضيض أو للنفي، وعلى أي حال تفيد في المقام فائدة النفي بدليل قوله: ﴿ولكن قست قلوبهم﴾ وقسوة القلب مقابل لينه، وهو كون الإنسان لا يتأثر عن مشاهدة ما يؤثر فيه عادة أو عن استماع كلام شأنه التأثير.

والمعنى: فلم يتضرعوا حين مجيء البأس ولم يرجعوا إلى ربهم بالتذلل بل أبت نفوسهم أن تتأثر عنه، وتلهوا بأعمالهم الشيطانية الصارفة لهم عن ذكر الله سبحانه، وأخلدوا إلى الأسباب الظاهرة التي كانوا يرون استقلالها في إصلاح شأنهم.

قوله تعالى: ﴿فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء﴾ إلخ، المراد بفتح أبواب كل شيء إيتاؤهم من كل نعمة من النعم الدنيوية التي يتنافس فيها الناس للتمتع من مزايا الحياة من المال والبنين وصحة الأبدان والرفاهية والخصب والأمن والطول والقوة، كل ذلك توفيرا من غير تقتير ومنع كما أن خزانة المال إذا أعطي منها أحد بقدر وميزان فتح بابها فأعطي ما أريد ثم سد، وأما إذا أريد الإعطاء من غير تقدير فتح بابها ولم يسد على وجه قاصده بالجملة كناية عن إيتائهم أنواع النعم من غير تقدير على ما يساعده المقام.

على أن فتح الباب إنما يناسب بحسب الطبع الحسنات والنعم وأما السيئات والنقم فإنما تتحقق بالمنع ويناسبها سد الباب كما يلمح إليه قوله تعالى: ﴿ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده﴾ فاطر: 2.

و مبلسون من أبلس إبلاسا، قال الراغب: الإبلاس الحزن المعترض من شدة اليأس - إلى أن قال - ولما كان المبلس كثيرا ما يلزم السكوت وينسى ما يعنيه، قيل: أبلس فلان إذا سكت وإذا انقطعت حجته، انتهى.

وعلى هذا المعنى المناسب لقوله: ﴿فإذا هم مبلسون﴾ أي خامدون منقطعوا الحجة.

ومعنى الآية أنهم لما نسوا ما ذكروا به أو أعرضوا عنه آتيناهم من كل نعمة استدراجا حتى إذا تمت لهم النعم وفرحوا بما أوتوا منها أخذناهم فجأة فانخمدت أنفاسهم ولا حجة لهم لاستحقاقهم ذلك.

قوله تعالى: ﴿فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين﴾ دبر الشيء مقابل قبله وهما الجزءان: المقدم والمؤخر من الشيء، ولذا يكنى بهما عن العضوين المخصوصين، وربما توسع فيهما فأطلقا على ما يلي الجزء المقدم أو المؤخر فينفصلان عن الشيء، وقد اشتق منهما الأفعال بحسب المناسبة نحو أقبل وأدبر وقبل ودبر وتقبل وتدبر واستقبل واستدبر، ومن ذلك اشتقاق دابر بمعنى ما يقع خلف الشيء ويليه من ورائه، ويقال: أمس الدابر أي الواقع خلف اليوم كما يقال: عام قابل، ويطلق الدابر بهذا المعنى على أثر الشيء كدابر الإنسان على أخلافه وسائر آثاره، فقوله: ﴿فقطع دابر القوم الذين ظلموا﴾ أي إن الهلاك استوعبهم فلم يبق منهم عينا ولا أثرا أو أبادهم جميعا فلم يخلص منهم أحد كما قال تعالى: ﴿فهل ترى لهم من باقية﴾ الحاقة: 8.

ووضع الظاهر موضع المضمر في قوله: ﴿دابر القوم الذين ظلموا﴾ دون أن يقال: دابرهم للدلالة على سبب الحكم وهو الظلم الذي أفنى جمعهم وقطع دابرهم، وهو مع ذلك يمهد السبيل إلى إيراد قوله: ﴿والحمد لله رب العالمين﴾.

ومن هذه الآية بما تشتمل على وصفهم بالظلم وعلى حمده تعالى بربوبيته تتحصل الدلالة على أن اللوم والسوء في جميع ما حل بهم من عذاب الاستئصال يرجع إليهم لأنهم القوم الذين ظلموا، وأنه لا يعود إليه تعالى إلا الثناء الجميل لأنه لم يأت في تدبير أمرهم إلا بما تقتضيه الحكمة البالغة، ولم يسقهم في سبيل ما انتهوا إليه إلا إلى ما ارتضوه بسوء اختيارهم فقد تحقق أن الخزي والسوء على الكافرين، وأن الحمد لله رب العالمين.

قوله تعالى: ﴿قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم﴾ إلى آخر الآية، أخذ السمع والأبصار هو سلب قوتي السمع والإبصار وهو الإصمام والإعماء والختم على القلوب إغلاق بابها إغلاقا لا يدخلها معه شيء من خارج حتى تتفكر في أمرها، وتميز الواجب من الأعمال من غير: والخير النافع منها من الشر الضار مع حفظ أصل الخاصية وهو صلاحية التعقل وإلا كان جنونا وخبلا.

وإذ كان هؤلاء المشركون لا يسمعون حق القول في الله سبحانه ولا يبصرون آياته الدالة على أنه واحد لا شريك له فصارت قلوبهم لا يدخلها شيء من واردات السمع والبصر حتى تعرف بذلك الحق من الباطل أقام الحجة بذلك على إبطال مذهبهم في أمر الإله تعالى ووحدته.

وملخصها أن القول بثبوت شركاء لله يستلزم القول ببطلانه وذلك أن القول بالشركاء لإثبات الشفاعة، وهي أن تشفع وتتوسط في جلب المنافع ودفع المضار، وإذ كانت الشركاء شفعاء على الفرض كان لله سبحانه أن يفعل في ملكه ما يشاء من غير مصادفة مانع يمانعه أو ضد يضاده فلو سلب الله عنكم سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم فعل ذلك ولم يعارضه أحد من شركائكم لأنها شفعاء متوسطة لا أضداد معارضة، ولو فعل ذلك وسلب ما سلب لم يقدر أحد منها أن يأتيكم به لأنها شفعاء وسائط لا مصادر للخلق والإيجاد.

وإذا لم يقدر على إيتاء نفع أو إذهاب ضر فما معنى ألوهيتها فليس الإله إلا من يوجد ويعدم ويتصرف في الكون كيف شاء، وإنما اضطرت الفطرة الإنسانية إلى الإقرار بأن للعالم إلها من جهة الحصول على مبدإ حوادث الخير والشر التي تشاهدها في الوجود، وإذ كان شيء لا يضر ولا ينفع في جنب الحوادث شيئا فليس تسميته إلها إلا لغوا من القول.

وليس لإنسان صحيح العقل والتمييز أن يجوز كون صورة حجرية أو خشبية أو فلزية عملته يد الإنسان وصنعته فكرته خالقا للعالم أو متصرفا فيه بالإيجاد والإعدام وكذا كون رب الصنم ربا معبودا أبدع العالم على غير مثال سابق مع الاعتراف بكونه عبدا مربوبا.

والحجة تعود بتقرير آخر إلى أن معنى الألوهية يأبى عن الصدق على الشريك بمعنى الشفيع المتوسط فإن مبدئية الصنع والإيجاد لازم معناها الاستقلال في التصرف والتعين في استحقاق خضوع المصنوع المربوب، والواسطة المفروضة إن كان لها استقلال في العمل كانت أصلا ومبدأ لا واسطة وشفيعا وإن لم يكن له حظ من الاستقلال كانت أداة آلة لها مبدأ وإلها.

ولذا كانت الأسباب الكونية أيا ما فرضت ليس لها إلا معنى الإله والأداة كسببية الأكل للشبع والشرب للري والوالدين للولد والقلم للكتابة والمشي لانطواء المسافة وهكذا.

وقوله: ﴿انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون﴾ تصريف الآيات تحويلها إلى نحو أفهامهم، والصدوف الإعراض، يقال: صدف يصدف صدوفا إذا مال عن الشيء.

قوله تعالى: ﴿قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة﴾ إلى آخر الآية، الجهرة الظهور التام الذي لا يقبل الارتياب ولذا قابلت البغتة التي هي إتيان الشيء فجأة لا يظهر على من أتاه إلا بعد إتيانه وغشيانه فلا يترك له مجال التحذر.

وهذه حجة بين فيها على وجه العموم أن الظالمين على خطر من عذاب الله عذابا لا يتخطاهم، ولا يغلط في إصابتهم بإصابة من سواهم، ثم بين أنهم هم الظالمون لفسقهم عن الدعوة الإلهية وتكذيبهم بآيات الله تعالى.

وذلك أن معنى العذاب ليس إلا إصابة المجرم بما يسوؤه ويدمره من جزاء إجرامه ولا إجرام إلا مع ظلم فلو أتاهم من قبل الله سبحانه عذاب لم يهلك به إلا الظالمون، فهذا ما يدل عليه الآية ثم بين الآيتين التاليتين أنهم هم الظالمون.

قوله تعالى: ﴿وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين﴾ إلى آخر الآيتين يبين بالآيتين أنهم هم الظالمون، ولا يهلك بعذاب الله إن أتاهم إلا لظلمهم.

ولذا غير سياق الكلام فوجه وجه البيان إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليكون هو المخبر عن شأن عذابه فيكون أقطع للعذر وجيء بلفظ المتكلم ليدل به على صدوره من ساحة العظمة والكبرياء.

فكان ملخص المضمون أمره تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقيم عليهم الحجة أن لو أتاهم عذاب الله لم يهلك إلا الظالمين منهم ثم يقول تعالى لرسوله: إنا نحن الملقين إليك الحجة الآتين بالعذاب نخبرك أن إرسالنا الرسل إنما هو للتبشير والإنذار فمن آمن وأصلح فلا عليه، ومن كذب بآياتنا فهو الذي يمسه عذابنا لفسقه وخروجه عن طور العبودية فلينظروا في أمر أنفسهم من أي الفريقين هم؟.

وقد تقدم في المباحث السابقة استيفاء البحث عن معنى الإيمان والإصلاح والفسق ومعنى نفي الخوف والحزن عن المؤمنين.

قوله تعالى: ﴿قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك﴾ لعل المراد بخزائن الله ما ذكره بقوله تعالى: ﴿قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق﴾ الإسراء: 100 وخزائن الرحمة هذه هي ما يكشف عن أثره، قوله تعالى: ﴿ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك له﴾ فاطر: 2 وهي فائضة الوجود التي تفيض من عنده تعالى على الأشياء من وجودها، وآثار وجودها وقد بين قوله تعالى: ﴿إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون﴾ يس: 82 أن مصدر هذا الأثر الفائض هو قوله، وهو كلمة ﴿كن﴾ الصادرة عن مقام العظمة والكبرياء، وهذا هو الذي يخبر عنه بلفظ آخر في قوله: ﴿وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم﴾ الحجر: 21.

فالمراد بخزائن الله هو المقام الذي يعطي بالصدور عنه ما أريد من شيء من غير أن ينفد بإعطاء وجود أو يعجزه بذل وسماحة، وهذا مما يختص بالله سبحانه، وأما غيره كائنا ما كان ومن كان فهو محدود وما عنده مقدر إذا بذل منه شيئا نقص بمقدار ما بذل، وما هذا شأنه لم يقدر على إغناء أي فقير، وإرضاء أي طالب، وإجابة أي سؤال.

وأما قوله: ﴿ولا أعلم الغيب﴾ فإنما أريد بالعلم الاستقلال به من غير تعليم بوحي وذلك أنه تعالى يثبت الوحي في ذيل الآية بقوله: ﴿إن أتبع إلا ما يوحى إلي﴾ وقد بين في مواضع من كلامه أن بعض ما يوحيه لرسله من الغيب، كقوله تعالى: ﴿عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول﴾ الجن: 26، وكقوله بعد سرد قصة يوسف: ﴿ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون﴾ يوسف: 102، وقوله في قصة مريم: ﴿ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون﴾ آل عمران: 44، وقوله بعد قصة نوح: ﴿تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا﴾ هود: 49.

فالمراد بنفي علم الغيب نفي أن يكون مجهزا في وجوده بحسب الطبع بما لا يخفى عليه معه ما لا سبيل للإنسان بحسب العادة إلى العلم به من خفيات الأمور كائنة ما كانت.

وأما قوله: ﴿ولا أقول لكم إني ملك﴾ فهو كناية عن نفي آثار الملكية من أنهم منزهون عن حوائج الحياة المادية من أكل وشرب ونكاح وما يلحق بذلك، وقد عبر عنه في مواضع أخرى بقوله: ﴿قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي﴾ الكهف: 110، وإنما عبر عن ذلك هاهنا بنفي الملكية دون إثبات البشرية ليحاذي به ما كانوا يقترحونه عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) بمثل قولهم: ﴿ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق﴾ الفرقان: 7.

ومن هنا يظهر أن الآية بما في سياقها من النفي بعد النفي - كأنها - ناظرة إلى الجواب عما كانوا يقترحونه على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من سؤال الآيات المعجزة والاعتراض بما كان يأتي به من أعمال كأعمال المتعارف من الناس كما حكاه عنهم في قوله: ﴿وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لو لا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا، أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها﴾ الفرقان: 8، وقوله: ﴿وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا، أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا، أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا، أو يكون لك بيت من زخرف - إلى أن قال - قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا﴾ الإسراء: 93، وقوله: ﴿فسينغضون إليك رءوسهم ويقولون متى هو﴾ الإسراء: 51، وكقوله: ﴿يسألونك عن الساعة أيان مرساها﴾ الأعراف: 187. فمعنى قوله: ﴿قل لا أقول لكم﴾ إلخ، قل: لم أدع فيما أدعوكم إليه وأبلغكموه أمرا وراء ما أنا عليه من متعارف حال الإنسان حتى تبكتوني بإلزامي بما تقترحونه مني فلم أدع أني أملك خزائن الألوهية حتى تقترحوا أن أفجر أنهارا أو أخلق جنة أو بيتا من زخرف، ولا ادعيت أني أعلم الغيب حتى أجيبكم عن كل ما هو مستور تحت أستار الغيوب كقيام الساعة ولا ادعيت أني ملك حتى تعيبوني وتبطلوا قولي بأكل الطعام والمشي في الأسواق للكسب.

قوله تعالى: ﴿إن أتبع إلا ما يوحى إلي﴾ بيان لما يدعيه حقيقة بعد رد ما اتهموه به من الدعوى من جهة دعواه الرسالة من الله إليهم أي ليس معنى قولي: إني رسول الله إليكم أن عندي خزائن الله ولا أني أعلم الغيب ولا أني ملك بل إن الله يوحي إلي بما يوحي.

ولم يثبته في صورة الدعوى بل قال: ﴿إن أتبع﴾ إلخ، ليدل على كونه مأمورا بتبليغ ما يوحى إليه ليس له إلا اتباع ذلك فكأنه لما قال: لا أقول لكم كذا ولا كذا ولا كذا قيل له: فإذا كان كذلك وكنت بشرا مثلنا وعاجزا كأحدنا لم تكن لك مزية علينا فما ذا تريد منا؟ فقال: إن أتبع إلا ما يوحى إلي أن أبشركم وأنذركم فأدعوكم إلى دين التوحيد.

والدليل على هذا المعنى قوله بعد ذلك: ﴿قل لا يستوي الأعمى والبصير أ فلا تتفكرون﴾ فإن مدلوله بحسب ما يعطيه السياق: أني وإن ساويتكم في البشرية والعجز لكن ذلك لا يمنعني عن دعوتكم إلى اتباعي فإن ربي جعلني على بصيرة بما أوحى إلي دونكم فأنا وأنتم كالبصير والأعمى ولا يستويان في الحكم وإن كانا متساويين في الإنسانية فإن التفكر في أمرهما يهدي الإنسان إلى القضاء بأن البصير يجب أن يتبعه الأعمى، والعالم يجب أن يتبعه الجاهل.

قوله تعالى: ﴿وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم﴾ إلى آخر الآية الضمير في ﴿به﴾ راجع إلى القرآن وقد دل عليه قوله في الآية السابقة: ﴿إن أتبع إلا ما يوحى إلي﴾ وقوله: ﴿ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع﴾ حال والعامل فيه يخافون أو يحشرون.

والمراد بالخوف معناه المعروف دون العلم وما في معناه إذ لا دليل عليه بحسب ظاهر المعنى المتبادر من السياق، والأمر بإنذار خصوص الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم لا ينافي عموم الإنذار لهم ولغيرهم كما يدل عليه قوله في الآيات السابقة: ﴿وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ﴾ آية: 19 بل لما كان خوف الحشر إلى الله معينا لنفوسهم على القبول ومقربا للدعوة إلى أفهامهم أفاد تخصيص الأمر بالإنذار بهم ووصفهم هذا الوصف تأكيدا لدعوتهم وتحريضا له أن لا يسامح في أمرهم ولا يضعهم موضع غيرهم بل يخصهم بمزيد عناية بدعوتهم لأن موقفهم أقرب من الحق وإيمانهم أرجى فالآية بضميمة سائر آيات الأمر بالإنذار العام تفيد من المعنى: أن أنذر الناس عامة ولا سيما الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم.

وقوله: ﴿ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع﴾ نفي مطلق لولاية غير الله وشفاعته فيقيده الآيات الأخر المقيدة كقوله: ﴿من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه﴾ البقرة: 255 وقوله: ﴿ولا يشفعون إلا لمن ارتضى﴾ الأنبياء: 28 وقوله: ﴿ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون﴾ الزخرف: 86.

وإنما لم يستثن في الآية لأن الكلام يواجه به الوثنيون الذين كانوا يقولون بولاية الأوثان وشفاعتها، ولم يكونوا يقولون بذلك بالإذن والجعل فإن الولاية والشفاعة عن إذن يحتاج القول به إلى العلم به، والعلم إلى الوحي والنبوة، وهم لم يكونوا قائلين بالنبوة، وأما الذي أثبتوه من الولاية والشفاعة فكأنه أمر متهيء لأوليائهم وشركائهم بالضرورة من طبعها لا بإذن من الله كأن أقوياء الوجود من الخليقة لها نوع من التصرف في ضعفائه بالطبع وإن لم يأذن به الله سبحانه، وإن شئت قلت: لازمه أن يكون إيجادها إذنا اضطراريا في التصرف في ما دونها.

وبالجملة قيل: ﴿ما لهم من دونه ولي ولا شفيع﴾ ولم يقل: إلا بإذنه لأن المشركين إنما قالوا إن الأوثان أولياء وشفعاء من غير تقييد فنفي ما ذكروه من الولي والشفيع من دون الله محاذاة بالنفي لإثباتهم، وأما الاستثناء فهو وإن كان صحيحا كما وقع في مواضع من كلامه تعالى لكن لا يتعلق به غرض هاهنا.

وقد تبين مما تقدم أن الآية على إطلاق ظاهرها تأمر بإنذار كل من لا يخلو من استشعار خوف من الحشر في قلبه إذا ذكر بآيات الله سواء كان ممن يؤمن بالحشر كالمؤمنين من أهل الكتاب أو ممن لا يؤمن به كالوثنيين وغيرهم لكنه يحتمله فيغشى الخوف نفسه بالاحتمال أو المظنة فإن الخوف من شيء يتحقق بمجرد احتمال وجوده وإن لم يوقن بتحققه.

وقد اختلفت أنظار المفسرين في الآية فمن قائل: إن الآية نزلت في المؤمنين القائلين بالحشر، وأنهم هم الذين عنوا في الآية التالية بقوله: ﴿ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي﴾.

ومن قائل: إنها نزلت في طائفة من المشركين الوثنيين يجوزون الحشر بعد الموت وإن لم يثبت وجود القائل بهذا القول بين مشركي مكة أو العرب يوم نزول السورة مع كون خطابات السورة متوجهة إلى المشركين من قريش أو العرب بحسب السياق،.

ومن قائل: إن المراد بهم كل معترف بالحشر من مسلم أو كتابي، وإنما خص هؤلاء المعترفون بالأمر بالإنذار مع أن وجوب الإنذار عام لجميع الخلق لأن الحجة أوجب عليهم لاعترافهم بالمعاد.

لكن الآية لم تأخذ في وصفهم إلا الخوف من الحشر، ولا يتوقف الخوف من الشيء على العلم بتحققه ولا الاعتراف بوجوده بل الشك - وهو الاحتمال المتساوي طرفاه - والمظنة وهي الإدراك الراجح على ما له من المراتب يجامع الخوف كالعلم وهو ظاهر.

فالآية إنما تحرض النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على إنذار كل من شاهد في سيماه علائم الخوف من أي طائفة كان لأن بناء الدعوة الدينية على أساس الحشر وإقامة المحاسبة على السيئة والحسنة والمجازاة عليهما، وأدنى ما يرجى من تأثير الدعوة الدينية في واحد أن يجوزه فيخافه، وكلما ازداد احتمال وقوعه ازداد الخوف وقوي التأثير حتى يتلبس باليقين وينتفي احتمال الخلاف بالكلية، فهناك التأثير التام.

قوله تعالى: ﴿ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه﴾ إلى آخر الآية ظاهر السياق على ما يؤيده ما في الآية التالية: ﴿وكذلك فتنا بعضهم ببعض﴾ إلخ، أن المشركين من قومه (صلى الله عليه وآله وسلم) اقترحوا عليه أن يطرد عن نفسه الضعفاء المؤمنين به فنهاه الله تعالى في هذه الآية عن ذلك.

و ذلك منهم نظير ما اقترحه المستكبرون من سائر الأمم من رسلهم أن يطردوا عن أنفسهم الضعفاء والفقراء من المؤمنين استكبارا وتعززا، وقد حكى الله تعالى ذلك عن قوم نوح فيما حكاه من محاجته (عليه السلام) حجاجا يشبه ما في هذه الآيات من الحجاج قال تعالى: ﴿فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين. قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون - إلى أن قال - وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم - إلى أن قال - ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم إني إذا لمن الظالمين﴾ هود: 31.

و التطبيق بين هذه الآيات والآيات التي نحن فيها يقضي أن يكون المراد بالذين يدعون ربهم بالغداة والعشي ويريدون وجهه هم المؤمنين، وإنما ذكر دعاءهم بالغداة والعشي وهو صلاتهم أو مطلق دعائهم ربهم للدلالة على ارتباطهم بربهم بما لا يداخله غيره تعالى وليوضح ما سيذكره من قوله: ﴿أليس الله بأعلم بالشاكرين﴾ .

و قوله: ﴿يريدون وجهه﴾ أي وجه الله، قال الراغب في مفرداته:، أصل الوجه الجارحة قال: فاغسلوا وجوهكم وأيديكم، وتغشى وجوههم النار، ولما كان الوجه أول ما يستقبلك وأشرف ما في ظاهر البدن استعمل في مستقبل كل شيء وفي أشرفه ومبدئه فقيل: وجه كذا ووجه النهار، وربما عبر عن الذات بالوجه في قول الله: ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام، قيل: ذاته وقيل أراد بالوجه هاهنا التوجه إلى الله بالأعمال الصالحة.

و قال: فأينما تولوا فثم وجه الله، كل شيء هالك إلا وجهه، يريدون وجه الله، إنما نطعمكم لوجه الله، قيل: إن الوجه في كل هذا ذاته ويعني بذلك كل شيء هالك إلا هو وكذا في أخواته، وروي أنه قيل ذلك لأبي عبد الله بن الرضا فقال: سبحان الله لقد قالوا قولا عظيما إنما عنى الوجه الذي يؤتى منه ومعناه: كل شيء من أعمال العباد هالك وباطل إلا ما أريد به الله، وعلى هذا الآيات الأخر، وعلى هذا قوله: يريدون وجهه، يريدون وجه الله.

أقول: أما الانتقال الاستعمالي من الوجه بمعنى الجارحة إلى مطلق ما يستقبل به الشيء غيره توسعا فلا ريب فيه على ما هو المعهود من تطور الألفاظ في معانيها لكن النظر الدقيق لا يسوغ إرادة الذات من الوجه فإن الشيء أيا ما كان إنما يستقبل غيره بشيء من ظواهر نفسه من صفاته وأسمائه، وهي التي تتعلق بها المعرفة فإنا إنما نعرف ما نعرف بوصف من أوصافه أو اسم من أسمائه ثم نستدل بذلك على ذاته من غير أن نماس ذاته مساسا على الاستقامة.

فإنا إنما ننال معرفة الأشياء أولا بأدوات الحس التي لا تنال إلا الصفات من أشكال وتخاطيط وكيفيات وغير ذلك من دون أن ننال ذاتا جوهرية ثم نستدل بذلك على أن لها ذوات جوهرية هي القيمة لأعراضها وأوصافها التابعة لما أنها تحتاج إلى ما يقيم أودها ويحفظها ففي الحقيقة قولنا: ذات زيد مثلا معناه الشيء الذي نسبته إلى أوصاف زيد وخواصه كنسبتنا إلى أوصافنا وخواصنا فإدراك الذوات إدراكا فكريا يكون دائما بضرب من القياس والنسبة.

و إذا لم يمكن إدراك الذوات الماهوية بإدراك تام فكري إلا من طريق أوصافها وآثارها بضرب من القياس والنسبة فالأمر في الله سبحانه ولا حد لذاته ولا نهاية لوجوده أوضح وأبين، ولا يقع العلم على شيء إلا مع تحديد ما له فلا مطمع في الإحاطة العلمية به تعالى قال: ﴿وعنت الوجوه للحي القيوم﴾ طه: 111 وقال: ﴿ولا يحيطون به علما﴾ طه: 110.

لكن وجه الشيء لما كان ما يستقبل به غيره كانت الجهة بمعنى الناحية أعني ما ينتهي إليه الإشارة وجها فإنها بالنسبة إلى الشيء الذي يحد الإشارة كالوجه بالنسبة إلى الإنسان يستقبل غيره به، وبهذه العناية تصير الأعمال الصالحة وجها لله تعالى كما أن الأعمال الطالحة وجه للشيطان وهذا بعض ما يمكن أن ينطبق عليه أمثال قوله: ﴿يريدون وجه الله﴾ وقوله: ﴿إنما نطعمكم لوجه الله﴾ وغير ذلك، وكذا الصفات التي يستقبل بها الله سبحانه خلقه كالرحمة والخلق والرزق والهداية ونحوها من الصفات الفعلية بل الصفات الذاتية التي نعرفه تعالى بها نوعا من المعرفة كالحياة والعلم والقدرة كل ذلك وجهه تعالى يستقبل خلقه بها ويتوجه إليه من جهتها كما يشعر به بعض الأشعار أو الدلالة قوله تعالى: ﴿ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام﴾ الرحمن: 27 فإن ظاهر الآية أن قوله: ﴿ذو الجلال والإكرام﴾ نعت للوجه دون الرب فافهم ذلك.

وإذا صح أن ناحيته تعالى جهته ووجهه صح بالجملة أن كل ما ينسب إليه تعالى نوعا من نسبة القرب كأسمائه وصفاته وكدينه، وكالأعمال الصالحة وكذا كل من يحل في ساحة قربه كالأنبياء والملائكة والشهداء وكل مغفور له من المؤمنين وجه له تعالى.

وبذلك يتبين أولا: معنى قوله سبحانه: ﴿وما عند الله باق﴾ النحل: 96، وقوله: ﴿ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته﴾ الأنبياء: 19، وقوله: ﴿إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه﴾ الأعراف: 206، وقوله فيمن يقتل في سبيل الله: ﴿بل أحياء عند ربهم يرزقون﴾ آل عمران: 169، وقوله: ﴿وإن من شيء إلا عندنا خزائنه:﴾ الحجر: 21، فالآيات تدل بانضمام الآية الأولى إليهن أن هذه الأمور كلها باقية ببقائه تعالى لا سبيل للهلاك والبوار إليها، ثم قال تعالى: ﴿كل شيء هالك إلا وجهه﴾ القصص: 88 فدل الحصر الذي في الآية على أن ذلك كله وجه لله سبحانه وبعبارة أخرى كلها واقعة في جهته تعالى مستقرة مطمئنة في جانبه وناحيته.

وثانيا: أن ما تتعلق به إرادة العبد من ربه هو وجهه كما في قوله: ﴿يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا﴾ المائدة: 2، وقوله: ﴿ابتغاء رحمة من ربك﴾ الإسراء: 28 وقوله: ﴿وابتغوا إليه الوسيلة﴾ المائدة: 35 فكل ذلك وجهه تعالى لأن صفات فعله تعالى كالرحمة والمرضاة والفضل ونحو ذلك من وجهه، وكذلك سبيله تعالى من وجهه على ما تقدم، وقال تعالى: ﴿إلا ابتغاء وجه الله﴾ البقرة: 272.

وقوله: ﴿ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء﴾ الحساب هو استعمال العدد بالجمع والطرح ونحو ذلك، ولما كان تمحيص الأعمال وتقديرها لتوفية الأجر أو أخذ النتيجة ونحوهما لا يخلو بحسب العادة من استعمال العدد بجمع أو طرح سمي ذلك حسابا للأعمال.

وإذ كان حساب الأعمال لتوفية الجزاء، والجزاء إنما هو من الله سبحانه فالحساب على الله تعالى أي في عهدته وكفايته كما قال: ﴿إن حسابهم إلا على ربي﴾ الشعراء: 113، وقال: ﴿ثم إن علينا حسابهم﴾ الغاشية: 26 وعكس في قوله: ﴿إن الله كان على كل شيء حسيبا﴾ النساء: 86 للدلالة على سلطانه تعالى وهيمنته على كل شيء.

وعلى هذا فالمراد من نفي كون حسابهم عليه أو حسابه عليهم نفي أن يكون هو الذي يحاسب أعمالهم ليجازيهم حتى إذا لم يرتض أمرهم وكره مجاورتهم طردهم عن نفسه أو يكونوا هم الذين يحاسبون أعماله حتى إذا خاف مناقشتهم أو سوء مجازاتهم أو كرههم استكبارا واستعلاء عليهم طردهم، وعلى هذا فكل من الجملتين: ﴿ما عليك﴾ إلخ، ﴿وما عليهم﴾ إلخ، مقصودة في الكلام مستقلة.

وربما أمكن أن يستفاد من قوله: ﴿ما عليك من حسابهم من شيء﴾ نفي أن يحمل عليه حسابهم أي أعمالهم المحاسبة حتى يستثقله وذلك بإيهام أن للعمل ثقلا على عامله أو من يحمل عليه فالمعنى ليس شيء من ثقل أعمالهم عليك، وعلى هذا فاستتباعه بقوله: ﴿وما من حسابك عليهم من شيء﴾ - ولا حاجة إليه لتمام الكلام بدونه - إنما هو لتتميم أطراف الاحتمال وتأكيد مطابقة الكلام، ومن الممكن أيضا أن يقال: إن مجموع الجملتين أعني قوله: ﴿ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء﴾ كناية عن نفي الارتباط بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبينهم من حيث الحساب.

وربما قيل: إن المراد بالحساب حساب الرزق دون حساب الأعمال والمراد: ليس عليك حساب رزقهم، وإنما الله يرزقهم وعليه حساب رزقهم، وقوله: ﴿وما من حسابك عليهم﴾ إلخ، جيء به تأكيدا لمطابقة الكلام على ما تقدم في الوجه السابق، والوجهان وإن أمكن توجيههما بوجه لكن الوجه هو الأول.

وقوله: ﴿فتطردهم فتكون من الظالمين﴾ الدخول في جماعة الظالمين متفرع على طردهم أي طرد الذين يدعون ربهم فنظم الكلام بحسب طبعه يقتضي أن يفرع قوله: ﴿فتكون من الظالمين﴾ على قوله في أول الآية: ﴿ولا تطرد الذين﴾ إلخ، إلا أن الكلام لما طال بتخلل جمل بين المتفرع والمتفرع عليه أعيد لفظ الطرد ثانيا في صورة الفرع ليتفرع عليه قوله: ﴿فتكون من الظالمين﴾ بنحو الاتصال ويرتفع اللبس.

فلا يرد عليه أن الكلام مشتمل على تفريع الشيء على نفسه فإن ملخصه: ولا تطرد الذين يدعون ربهم فتطردهم، وذلك أن إعادة الطرد ثانيا لإيصال الفرع أعني قوله: ﴿فتكون من الظالمين﴾ ، إلى أصله كما عرفت.

قوله تعالى: ﴿وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا﴾ إلى آخر الآية، الفتنة هي الامتحان، والسياق يدل على أن الاستفهام في قوله: ﴿أهؤلاء من الله عليهم من بيننا﴾ للتهكم والاستهزاء، ومعلوم أنهم لا يسخرون إلا ممن يستحقرون أمره ويستهينون موقعه من المجتمع، ولم يكن ذلك إلا لفقرهم ومسكنتهم وانحطاط قدرهم عند الأقوياء والكبرياء منهم.

فالله سبحانه يخبر نبيه أن هذا التفاوت والاختلاف إنما هو محنة إلهية يمتحن بها الناس ليميز به الكافرين من الشاكرين، فيقول أهل الكفران والاستكبار في الفقراء المؤمنين: أ هؤلاء من الله عليهم من بيننا فإن السنن الاجتماعية عند الناس توصف بما عند المستن بها من الشرافة والخسة، وكذا العمل يوزن بما لعامله من الوزن الاجتماعي فالطريقة المسلوكة عند الفقراء والأذلاء والعبيد يستذلها الأغنياء والأعزة، والعمل الذي أتى به مسكين أو الكلام الذي تكلم به عبد أو أسير مستذلا لا يعتني به أولو الطول والقوة.

فانتحال الفقراء والأجراء والعبيد بالدين، واعتناء النبي بهم وتقريبه إياهم من نفسه كالدليل عند الطغاة المستكبرين من أهل الاجتماع على هوان أمر الدين وأنه دون أن يلتفت إليه من يعتني بأمره من الشرفاء والأعزة.

وقوله تعالى: ﴿أليس الله بأعلم بالشاكرين﴾ جواب عن استهزائهم المبني على الاستبعاد، بقولهم: ﴿أهؤلاء من الله عليهم من بيننا﴾ ومحصله أن هؤلاء شاكرون لله دونهم ولذلك قدم هؤلاء لمنه وأخرهم فكنى سبحانه عن ذلك بأن الله أعلم بالشاكرين لنعمته أي إنهم شاكرون، ومن المسلم أن المنعم إنما يمن وينعم على من يشكر نعمته وقد سمى الله تعالى توحيده ونفي الشريك عنه شكرا في قوله حكاية عن قول يوسف (عليه السلام): ﴿ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون﴾ يوسف: 38.

فالآية تبين أنهم بجهالتهم يبنون الكرامة والعزة على التقدم في زخارف الدنيا من مال وبنين وجاه، ولا قدر لها عند الله ولا كرامة، وإنما الأمر يدور مدار صفة الشكر والنعمة بالحقيقة هي الولاية الإلهية.

قوله تعالى: ﴿وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم﴾ إلى آخر الآية، قد تقدم معنى السلام، والمراد بكتابته الرحمة على نفسه إيجابها على نفسه أي استحالة انفكاك فعله عن كونه معنونا بعنوان الرحمة، والإصلاح هو التلبس بالصلاح فهو لازم وإن كان بحسب الحقيقة متعديا وأصله إصلاح النفس أو إصلاح العمل.

والآية ظاهرة الاتصال بالآية التي قبلها يأمر الله سبحانه فيها نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) - بعد ما نهاه عن طرد المؤمنين عن نفسه - أن يتلطف بهم ويسلم عليهم ويبشر من تاب منهم عن سيئة توبة نصوحا بمغفرة الله ورحمته فتطيب بذلك نفوسهم ويسكن طيش قلوبهم.

ويتبين بذلك أولا: أن الآية - وهي من آيات التوبة - إنما تتعرض للتوبة عن المعاصي والسيئات دون الكفر والشرك بدليل قوله: ﴿من عمل منكم﴾ أي المؤمنين بآيات الله.

ثانيا: أن المراد بالجهالة ما يقابل الجحود والعناد اللذين هما من التعمد المقابل للجهالة فإن من يدعو ربه بالغداة والعشي يريد وجهه وهو مؤمن بآيات الله لا يعصيه تعالى استكبارا واستعلاء عليه بل لجهالة غشيته باتباع هوى في شهوة أو غضب.

وثالثا: أن تقييد قوله: ﴿تاب﴾ بقوله: ﴿وأصلح﴾ للدلالة على تحقق التوبة بحقيقتها فإن الرجوع حقيقة إلى الله سبحانه واللواذ بجنابه لا يجامع لطهارة موقفه التقذر بقذارة الذنب الذي تطهر منه التائب الراجع، وليست التوبة قول: ﴿أتوب إلى الله﴾ قولا لا يتعدى من اللسان إلى الجنان، وقد قال تعالى: ﴿وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله﴾ البقرة: 284.

ورابعا: أن صفاته الفعلية كالغفور والرحيم يصح تقييدها بالزمان حقيقة فإن الله سبحانه وإن كتب على نفسه الرحمة لكنها لا تظهر ولا تؤثر أثرها إلا إذا عمل بعض عباده سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح.

وقد تقدم في الكلام على قوله تعالى: ﴿إنما التوبة على الله﴾ إلى آخر الآيتين النساء: 17 في الجزء الرابع من الكتاب ما له تعلق بالمقام.

قوله تعالى: ﴿وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين﴾ تفصيل الآيات بقرينة المقام شرح المعارف الإلهية وتخليصها من الإبهام والاندماج، وقوله: ﴿ولتستبين سبيل المجرمين﴾ اللام فيه للغاية، وهو معطوف على مقدر طوي عن ذكره تعظيما وتفخيما لأمره وهو شائع في كلامه تعالى، كقوله: ﴿وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا﴾ آل عمران: 140، وقوله: ﴿وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين﴾ الآية: 75.

فالمعنى: وكذلك نشرح ونميز المعارف الإلهية بعضها من بعض ونزيل ما يطرأ عليها من الإبهام لأغراض هامة منها أن تستبين سبيل المجرمين فيتجنبها الذين يؤمنون بآياتنا، وعلى هذا فالمراد بسبيل المجرمين السبيل التي يسلكها المجرمون قبال الآيات الناطقة بتوحيد الله سبحانه والمعارف الحقة التي تتعلق به وهي سبيل الجحود والعناد والإعراض عن الآيات وكفران النعمة.

وربما قيل إن المراد بسبيل المجرمين السبيل التي تسلك في المجرمين، وهي سنة الله فيهم من لعنهم في الدنيا وإنزال العذاب إليه بالآخرة، وسوء الحساب وأليم العقاب في الآخرة، والمعنى الأول أوفق بسياق الآيات المسرودة في السورة.

بحث روائي:

في الكافي، بإسناده فيه رفع عن الرضا (عليه السلام) قال: إن الله عز وجل لم يقبض نبينا حتى أكمل له الدين، وأنزل عليه القرآن فيه تبيان كل شيء بين فيه الحلال والحرام والحدود والأحكام، وجميع ما يحتاج إليه الناس كملا، وقال عز وجل: ما فرطنا في الكتاب من شيء.

وفي تفسير القمي، حدثني أحمد بن محمد قال حدثني جعفر بن محمد قال حدثنا كثير بن عياش عن أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: ﴿والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم﴾ يقول: صم عن الهدى بكم لا يتكلمون بخير ﴿في الظلمات﴾ يعني ظلمات الكفر ﴿من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم﴾ وهو رد على قدرية هذه الأمة يحشرهم الله يوم القيامة من الصابئين والنصارى والمجوس فيقولون ﴿ربنا ما كنا مشركين﴾ يقول الله: ﴿انظر كيف كذبوا على أنفسهم - وضل عنهم ما كانوا يفترون﴾ قال: فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ألا إن لكل أمة مجوسا ومجوس هذه الأمة الذين يقولون: لا قدر ويزعمون أن المشية والقدرة إليهم ولهم.

قال في البرهان، عند نقل الحديث: وفي نسخة أخرى من تفسير علي بن إبراهيم في الحديث هكذا: قال: فقال: ألا إن لكل أمة مجوسا، ومجوس هذه الأمة الذين يقولون: لا قدر ويزعمون أن المشية والقدرة ليست لهم ولا عليهم، وفي نسخة ثالثة، يقولون: لا قدر ويزعمون أن المشية والقدرة ليست إليهم ولا لهم، انتهى.

أقول: مسألة القدر من المسائل التي وقع الكلام فيها في الصدر الأول فأنكر القدر - وهو أن لإرادة الله سبحانه تعلقا ما بأعمال العباد - قوم وأثبتوا المشية والقدرة المستقلتين للإنسان في فعله وأنه هو الخالق له المستقل به، وسموا بالقدرية أي المتكلمين في القدر، وقد روى الفريقان عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: القدرية مجوس هذه الأمة، وانطباقه عليهم واضح فإنهم يثبتون للأعمال خالقا هو الإنسان ولغيرها خالقا هو الله سبحانه وهو قول الثنوية وهم المجوس بإلهين اثنين: خالق للخير، وخالق للشر.

و هناك روايات أخر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعن أئمة أهل بيته (عليهم السلام) تفسر الرواية بالمعنى الذي تقدم، وتثبت أن هناك قدرا وأن لله مشية في أفعال عباده كما يثبته القرآن.

وقد أول المعتزلة وهم النافون للقدر الرواية بأن المراد بالقدرية المثبتون للقدر، وهم كالمجوس في إسنادهم الخير والشر كله إلى خالق غير الإنسان، وقد تقدم بعض الكلام في ذلك، وسيجيء استيفاؤه إن شاء الله تعالى.

ومما ذكرنا يظهر أن الجمع بين القول بأنه لا قدر، والقول بأنه ليست المشية والقدرة للإنسان ولا إليه جمع بين المتنافيين فإن القول بنفي القدر يلازم القول باستقلال الإنسان بالمشية والاستطاعة، والقول بالقدر يلازم القول بنفي استقلاله بالمشية والقدرة.

وعلى هذا فما وقع في النسختين من الجمع بين قولهم: لا قدر، وقولهم: إن المشية والقدرة ليست لهم ولا إليهم ليس إلا من تحريف بعض النساخ، وقد اختلط عليه المعنى حيث حفظ قوله ﴿لا قدر﴾ وغير الباقي.

وفي الدر المنثور، أخرج أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر والطبراني في الكبير وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن عقبة بن عامر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إذا رأيت الله يعطي العبد في الدنيا وهو مقيم على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج ثم تلا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء. الآية والآية التي بعدها.

وفيه، أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن عبادة بن الصامت: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إن الله تبارك وتعالى إذا أراد بقوم بقاء أو نماء رزقهم القصد والعفاف وإذا أراد بقوم اقتطاعا فتح لهم أو فتح عليهم باب خيانة حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين.

وفيه، أخرج ابن المنذر عن جعفر قال: أوحى الله إلى داود: خفني على كل حال، وأخوف ما تكون عند تظاهر النعم عليك لا أصرعك عندها ثم لا أنظر إليك.

أقول: قوله: لا أصرعك نهي يفيد التحذير، وقوله: ثم لا أنظر إلخ منصوب للتفريع على النهي.

وفي تفسير القمي،: في قوله تعالى: ﴿قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة﴾ الآية، قال: إنها نزلت لما هاجر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة، وأصاب أصحابه الجهد والعلل والمرض فشكوا ذلك إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأنزل الله: قل لهم يا محمد أ رأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة - أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون أي لا يصيبكم إلا الجهد والضر في الدنيا فأما العذاب الأليم الذي فيه الهلاك فلا يصيب إلا القوم الظالمين.

أقول: الرواية على ضعفها تنافي ما استفاض أن سورة الأنعام نزلت بمكة دفعة.

على أن الآية بمضمونها لا تنطبق على القصة والذي تمحل به في تفسيرها بعيد عن نظم القرآن.

وفي المجمع،: في قوله تعالى: وأنذر به الذين يخافون الآية قال قال الصادق (عليه السلام): أنذر بالقرآن من يخافون الوصول إلى ربهم ترغبهم فيما عنده فإن القرآن شافع مشفع لهم.

أقول: وظاهر الحديث رجوع الضمير في قوله: ﴿من دونه﴾ إلى القرآن، وهو معنى صحيح وإن لم يعهد في القرآن أن يسمى وليا كما سمي إماما.

وفي الدر المنثور، أخرج أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية عن عبد الله بن مسعود قال: مر الملأ من قريش على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعنده صهيب وعمار وبلال وخباب ونحوهم من ضعفاء المسلمين فقالوا: يا محمد أرضيت بهؤلاء من قومك؟ أهؤلاء من الله عليهم من بيننا؟ أنحن نكون تبعا لهؤلاء: اطردهم عنك فلعلك إن طردتهم أن نتبعك، فأنزل فيهم القرآن: ﴿وأنذر به - الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم﴾ إلخ. أقول: ورواه في المجمع، عن الثعلبي بإسناده عن عبد الله بن مسعود مختصرا.

وفيه، أخرج ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة قال: مشى عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وقرظة بن عبد عمرو بن نوفل والحارث بن عامر بن نوفل ومطعم بن عدي بن خيار بن نوفل في أشراف الكفار من عبد مناف إلى أبي طالب فقالوا: لو أن ابن أخيك طرد عنا هؤلاء الأعبد فإنهم عبيدنا وعسفاؤنا كان أعظم له في صدورنا وأطوع له عندنا وأدنى لاتباعنا إياه وتصديقه. فذكر ذلك أبو طالب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال عمر: لو فعلت يا رسول الله حتى ننظر ما يريدون بقولهم؟ وما تصيرون إليه من أمرهم؟ فأنزل الله: ﴿وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم إلى قوله أ ليس الله بأعلم بالشاكرين﴿. قال: وكانوا بلالا وعمار بن ياسر وسالما مولى أبي حذيفة وصبحا مولى أسيد، ومن الحلفاء ابن مسعود والمقداد بن عمرو وواقد بن عبد الله الحنظلي وعمرو بن عبد عمرو ذو الشمالين ومرثد بن أبي مرثد وأشباههم. ونزلت في أئمة الكفر من قريش والموالي والحلفاء: ﴿وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا﴾ الآية فلما نزلت أقبل عمر فاعتذر من مقالته فأنزل الله: ﴿وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا﴾ الآية.

وفيه، أخرج ابن أبي شيبة وابن ماجة وأبو يعلى وأبو نعيم في الحلية وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن خباب قال: جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصين الفزاري فوجدا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قاعدا مع بلال وصهيب وعمار وخباب في أناس ضعفاء من المؤمنين فلما رأوهم حوله حقروهم فأتوه فخلوا به فقالوا: إنا نحب أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف لنا العرب به فضلنا فإن وفود العرب ستأتيك فنستحيي أن ترانا العرب قعودا مع هؤلاء الأعبد فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا فإذا نحن فرغنا فلتقعد معهم إن شئت قال: نعم، قالوا فاكتب لنا عليك بذلك كتابا، فدعا بالصحيفة ودعا عليا ليكتب، ونحن قعود في ناحية إذ نزل جبرئيل بهذه الآية: و لا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي - إلى قوله فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة فألقى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الصحيفة من يده ثم دعانا فأتيناه وهو يقول: سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة، فكنا نقعد معه فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا فأنزل الله: واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم - بالغداة والعشي يريدون وجهه الآية. قال: فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقعد معنا بعد فإذا بلغ الساعة التي يقوم فيها قمنا وتركناه حتى يقوم. أقول: ورواه في المجمع، عن سلمان وخباب وفي معنى هذه الروايات الثلاث المتقدمة بعض روايات أخر، والرجوع إلى ما تقدم في أول السورة من استفاضة الروايات على نزول سورة الأنعام دفعة ثم التأمل في سياق الآيات لا يبقي ريبا أن هذه الروايات إنما هي من قبيل ما نسميه تطبيقا بمعنى أنهم وجدوا مضامين بعض الآيات تقبل الانطباق على بعض القصص الواقعة في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فعدوا القصة سببا لنزول الآية لا بمعنى أن الآية إنما نزلت وحدها ودفعة لحدوث تلك الواقعة ورفع الشبهة الطارئة من قبلها بل بمعنى أن الآية يرتفع بها ما يطرأ من قبل تلك الواقعة من الشبهة كما ترتفع بها الشبه الطارئة من قبل سائر الوقائع من أشباه الواقعة ونظائرها كما يشهد بذلك ما ترى في هذه الروايات الثلاث الواردة في سبب نزول قوله: ولا تطرد الذين يدعون الآية فإن الغرض فيها واحد لكن القصص مختلفة في عين أنها متشابهة فكأنهم جاءوا إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) واقترحوا عليه أن يطرد عنه الضعفاء كرة بعد كرة وعنده في كل مرة عدة من ضعفاء المؤمنين وفي مضمون الآية انعطاف إلى هذه الاقتراحات أو بعضها.

وعلى هذه الوتيرة كانوا يذكرون أسباب نزول الآيات بمعنى القصص والحوادث الواقعة في زمنه (صلى الله عليه وآله وسلم) مما لها مناسبة ما مع مضامين الآيات الكريمة من غير أن تكون للآية مثلا نظر إلى خصوص القصة والواقعة المذكورة، ثم شيوع النقل بالمعنى في الأحاديث والتوسع البالغ في كيفية النقل أوهم أن الآيات نزلت في خصوص الوقائع الخاصة على أن تكون أسبابا منحصرة، فلا اعتماد في أمثال هذه الروايات الناقلة لأسباب النزول وخاصة في أمثال هذه السورة من السور التي نزلت دفعة على أزيد من أنها تكشف عن نوع ارتباط للآيات بالوقائع التي كانت في زمنه (صلى الله عليه وآله وسلم).

ولا سيما بالنظر إلى شيوع الوضع والدس في هذه الروايات والضعف الذي فيها وما سامح به القدماء في أخذها ونقلها.

وقد روى في الدر المنثور، عن الزبير بن بكار في أخبار المدينة عن عمر بن عبد الله ابن المهاجر: أن الآية نزلت في اقتراح بعض الناس أن يطرد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الضعفاء من أصحاب الصفة عن نفسه في نظير من القصة، ويضعفه ما تقدم في نظيره أن السورة إنما نزلت دفعة وفي مكة قبل الهجرة.

وفي تفسير العياشي، عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: رحم الله عبدا تاب إلى الله قبل الموت فإن التوبة مطهرة من دنس الخطيئة ومنقذة من شقاء الهلكة فرض الله بها على نفسه لعباده الصالحين فقال: كتب ربكم على نفسه الرحمة - أنه من عمل منكم سوءا بجهالة - ثم تاب من بعده وأصلح - فإنه غفور رحيم، ومن يعمل سوءا - أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله - يجد الله توابا رحيما.

وفي تفسير البرهان، روي عن ابن عباس: في قوله تعالى: وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا الآية نزلت في علي وحمزة وزيد.

أقول: وفي عدة من الروايات أن الآيات السابقة نزلت في أعداء آل البيت (عليهم السلام) والظاهر أنها جميعا من قبيل الجري والتطبيق أو الأخذ بباطن المعنى فإن نزول السورة بمكة دفعة يأبى أن يجعل أمثال هذه الروايات من أسباب النزول ولذلك طوينا عن إيرادها، والله أعلم.