الآيات 4 - 11

وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ ﴿4﴾ فَقَدْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنبَاء مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ ﴿5﴾ أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ ﴿6﴾ وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴿7﴾ وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ ﴿8﴾ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ ﴿9﴾ وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ ﴿10﴾ قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴿11﴾

بيان:

الآيات إشارة إلى تكذيبهم الحق الذي أرسل به الرسول وتماديهم في تكذيب الحق والاستهزاء بآيات الله سبحانه ثم موعظة لهم وتخويف وإنذار، وجواب عن بعض ما لغوا به في إنكار الحق الصريح.

قوله تعالى: ﴿وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين﴾ إشارة إلى أن سجية الاستكبار رسخت في نفوسهم فأنتجت فيهم الإعراض عن الآيات الدالة على الحق فلا يلتفتون إلى آية من الآيات من غير تفاوت بين آية وآية لأنهم كذبوا بالأصل المقصود الذي هو الحق، وهو قوله تعالى: ﴿فقد كذبوا بالحق لما جاءهم﴾ .

قوله تعالى: ﴿فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزءون﴾ تخويف وإنذار فإن الذي يستهزءون به حق، والحق يأبى إلا أن يظهر يوما ويخرج من حد النبأ إلى حد العيان قال تعالى: ﴿ويمحوا الله الباطل ويحق الحق بكلماته﴾ الشورى: 24، وقال: ﴿يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون. هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون﴾ الصف: 9 وقال في مثل ضربه: ﴿كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض﴾ الرعد: 17.

ومن المعلوم أن الحق إذا ظهر لم يستو في مساسه المؤمن والكافر، والخاضع والمستهزىء، قال تعالى: ﴿ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون فتول عنهم حتى حين وأبصرهم فسوف يبصرون أفبعذابنا يستعجلون فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين﴾ الصافات: 177.

قوله تعالى: ﴿ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن﴾ إلى آخر الآية، قال الراغب: القرن القوم المقترنون في زمن واحد وجمعه قرون.

وقال أيضا: قال تعالى: ﴿وأرسلنا السماء عليهم مدرارا﴾ ﴿يرسل السماء عليكم مدرارا﴾ وأصله من الدر - بالفتح - والدرة - بالكسر - أي اللبن، ويستعار ذلك للمطر استعارة أسماء البعير وأوصافه فقيل: لله دره ودر درك، ومنه استعير قولهم غسوق دره أي نفاق - بالفتح - انتهى.

وفي قوله تعالى: ﴿مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم﴾ التفات من الغيبة إلى الحضور، والوجه فيه ظاهرا رفع اللبس من جهة مرجع الضمير فلو لا الالتفات إلى الحضور في قوله: ﴿ما لم نمكن لكم﴾ أوهم السياق رجوعه إلى ما يرجع إليه الضمير في قوله: ﴿مكناهم﴾ وإلا فأصل السياق في مفتتح السورة للغيبة، وقد تقدم الكلام في الالتفات الواقع في قوله: ﴿هو الذي خلقكم من طين﴾.

وفي قوله: ﴿فأهلكناهم بذنوبهم﴾ دلالة على أن للسيئات والذنوب دخلا في البلايا والمحن العامة، وفي هذا المعنى وكذا في معنى دخل الحسنات والطاعات في إفاضات النعم ونزول البركات آيات كثيرة.

قوله تعالى: ﴿ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم﴾ إلى آخر الآية، إشارة إلى أن استكبارهم قد بلغ مبلغا لا ينفع معه حتى لو أنزلنا كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم فناله حسهم بالبصر والسمع، وتأيد بعض حسهم ببعض فإنهم قائلون حينئذ لا محالة: هذا سحر مبين، فلا ينبغي أن يعبأ باللغو من قولهم: ﴿ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه﴾ الإسراء: 93.

وقد نكر الكتاب في قوله: ﴿كتابا في قرطاس﴾ لأن هذا الكتاب نزل نوع تنزيل لا يقبل إلا التنزيل نجوما وتدريجا، وقيده بكونه في قرطاس ليكون أقرب إلى ما اقترحوه، وأبعد مما يختلج في صدورهم أن الآيات النازلة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من منشآت نفسه من غير أن ينزل به الروح الأمين على ما يذكره الله سبحانه: ﴿نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين﴾ الشعراء: 195.

قوله تعالى: ﴿وقالوا لو لا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون﴾ قولهم ﴿لو لا أنزل عليه ملك﴾ تحضيض للتعجيز، وقد أخبرهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بما كان يتلو عليهم من آيات الله النازلة عليه أن الذي جاء به إليه ملك كريم نازل من عند الله كقوله تعالى: ﴿إنه لقول رسول كريم، ذي قوة عند ذي العرش مكين، مطاع ثم أمين﴾ الشمس: 21 إلى غيرها من الآيات.

فسؤالهم إنزال الملك إنما كان لأحد أمرين على ما يحكيه الله عنهم في كلامه: أحدهما: أن يأتيهم بما يعدهم النبي من العذاب كما قال تعالى: ﴿فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود﴾ حم السجدة: 13 وقال: ﴿قل هو نبأ عظيم - إلى أن قال - إن يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين﴾ ص: 70.

ولما كان نزول الملك انقلابا للغيب إلى الشهادة، ولا مرمى بعده استعقب إن لم يؤمنوا - ولن يؤمنوا بما استحكم فيهم من قريحة الاستكبار - القضاء بينهم بالقسط، ولا محيص حينئذ عن إهلاكهم كما قال تعالى: ﴿ولو أنزلنا ملكا لقضي بينهم ثم لا ينظرون﴾.

على أن نفوس الناس المتوغلين في عالم المادة القاطنين في دار الطبيعة لا تطيق مشاهدة الملائكة لو نزلوا عليهم واختلطوا بهم لكون ظرفهم غير ظرفهم فلو وقع الناس في ظرفهم لم يكن ذلك إلا انتقالا منهم من حضيض المادة إلى ذروة ما وراها وهو الموت كما قال تعالى: ﴿وقال الذين لا يرجون لقاءنا لو لا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا، يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا﴾ الفرقان: 22 وهذا هو يوم الموت أو ما هو بعده بدليل قوله بعده ﴿أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا﴾ الفرقان: 24.

وقال تعالى بعده - وظاهر السياق أنه يوم آخر - ﴿ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة، تنزيلا الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا﴾ الفرقان: 26 ولعلهم إياه كانوا يعنون بقولهم: ﴿أو تأتي بالله والملائكة قبيلا﴾ الإسراء: 92.

وبالجملة فقوله تعالى: ﴿ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر﴾ إلخ، جواب عن اقتراحهم نزول الملك ليعذبهم، وعلى هذا ينبغي أن يضم إليه ما وعده الله هذه الأمة أن يؤخر عنهم العذاب كما تشير إليه الآيات من سورة يونس: ﴿ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون، ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين، قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله لكل أمة أجل - إلى أن قال - ويستنبؤنك أ حق هو قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين﴾ يونس: 53 وفي هذا المعنى آيات أخرى كثيرة سنستوفي البحث عنها في سورة أخرى إن شاء الله.

وقال تعالى: ﴿وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون﴾ الأنفال: 33.

فالمتحصل من الآية أنهم يسألون نزول الملك، ولا نجيبهم إلى ما سألوه لأنه لو نزل الملك لقضي بينهم ولم ينظروا وقد شاء الله أن ينظرهم إلى حين فليخوضوا فيما يخوضون حتى يلاقوا يومهم، وسيوافيهم ما سألوه فيقضي الله بينهم.

ويمكن أن يقرر معنى الآية على نحو آخر وهو أن يكون مرادهم أن ينزل الملك ليكون آية لا ليأتيهم بالعذاب، ويكون المراد من الجواب أنه لو نزل عليهم لم يؤمنوا به لما تمكن فيهم من رذيلة العناد والاستكبار وحينئذ قضي بينهم وهم لا ينظرون، وهم لا يريدون ذلك.

وثانيهما: أن ينزل عليهم الملك ليكون حاملا لأعباء الرسالة داعيا إلى الله مكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو يكون معه رسولا مثله مصدقا لدعوته شاهدا على صدقه كما في قولهم فيما حكى الله: ﴿وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لو لا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا﴾ الفرقان: 7. فإنهم يريدون أن الذي هو رسول من جانب الله لا يناسب شأنه أن يشارك الناس في عادياتهم من أكل الطعام واكتساب الرزق بالمشي في الأسواق بل يجب أن يختص بحياة سماوية وعيشة ملكوتية لا يخالطه تعب السعي وشقاء الحياة المادية فيكون على أمر بارز من الدعوة أو ينزل معه ملك سماوي فيكون معه نذيرا فلا يك في حقية دعوته وواقعية رسالته.

وهذا هو الذي تجيب عنه الآية التالية: ﴿ولو جعلناه ملكا﴾ الخ.

قوله تعالى: ﴿ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون﴾ اللبس بالفتح الستر بساتر لما يجب ستره لقبحه أو لحاجته إلى ذلك واللبس بالضم التغطية على الحق، وكأن المعنى استعاري والأصل واحد.

قال الراغب في المفردات: لبس الثوب استتر به وألبسه غيره - إلى أن قال - وأصل اللبس بضم اللام ستر الشيء ويقال ذلك في المعاني يقال: لبست عليه أمره قال: وللبسنا عليهم ما يلبسون وقال: ولا تلبسوا الحق بالباطل، لم تلبسون الحق بالباطل، الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم و، يقال: في الأمر لبسه أي التباس.

ومعمول يلبسون محذوف، وربما استفيد من ذلك العموم والتقدير يلبس الكفار على أنفسهم أعم من لبس البعض على نفسه، ولبس البعض على البعض الآخر.

أما لبسهم على غيرهم فكما يلبس علماء السوء الحق بالباطل لجهلة مقلديهم وكما يلبس الطواغيت المتبعون لضعفة أتباعهم الحق بالباطل كقول فرعون فيما حكى الله لقومه: ﴿يا قوم أ ليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أ فلا تبصرون أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين، فلو لا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين، فاستخف قومه فأطاعوه﴾ الزخرف: 54 وقوله: ﴿ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد﴾ المؤمنون: 29.

وأما لبسهم على أنفسهم فهو بتخييلهم إلى أنفسهم أن الحق باطل وأن الباطل حق ثم تماديهم على الباطل فإن الإنسان وإن كان يميز الحق من الباطل فطرة الله التي فطر الناس عليها، وكان تلهم نفسه فجورها وتقواها غير أن تقويته جانب الهوى وتأييده روح الشهوة والغضب من نفسه تولد في نفسه ملكة الاستكبار عن الحق، والاستعلاء على الحقيقة فتنجذب نفسه إليه، وتغتر بعمله، ولا تدعه يلتفت إلى الحق ويسمع دعوته، وعند ذاك يزين له عمله، ويلبس الحق بالباطل وهو يعلم كما قال تعالى: ﴿أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة﴾ الجاثية: 23 وقال: ﴿قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا﴾ الكهف: 104.

وهذا هو المصحح لتصوير ضلال الإنسان في أمر مع علمه به فلا يرد عليه أن لبس الإنسان على نفسه الحق بالباطل إقدام منه على الضرر المقطوع وهو غير معقول.

على أنا لو تعمقنا في أحوال أنفسنا ثم أخذنا بالنصفة عثرنا على عادات سوء نقضي بمساءتها لكنا لسنا نتركها لرسوخ العادة وليس ذلك إلا من الضلال على علم، ولبس الحق بالباطل على النفس والتلهي باللذة الخيالية والتوله إليها عن التثبت على الحق والعمل به، أعاننا الله تعالى على مرضاته.

وعلى أي حال فقوله تعالى: ﴿ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا﴾ إلخ، الجواب عن مسألتهم نزول الملك ليكون نذيرا فيؤمنوا به.

ومحصله أن الدار دار اختيار لا تتم فيها للإنسان سعادته الحقيقية إلا بسلوكه مسلك الاختيار، واكتسابه لنفسه أو على نفسه ما ينفعه في سعادته أو يضره، وسلوك أي الطريقين رضي لنفسه أمضى الله سبحانه له ذلك.

قال تعالى: ﴿إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا﴾ الدهر: 3 فإنما هي هداية وإراءة للطريق ليختار ما يختاره لنفسه من التطرق والتمرد من غير أن يضطر إلى شيء من الطريقين ويلجأ إلى سلوكه بل يحرث لنفسه ثم يحصد ما حرث، قال تعالى: ﴿وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى﴾ النجم: 41 فليس للإنسان إلا مقتضى سعيه فإن كان خيرا أراه الله ذلك وإن كان شرا أمضاه له، قال تعالى: ﴿من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب﴾ الشورى: 20.

وبالجملة هذه الدعوة الإلهية لا يستقيم أمرها إلا أن توضع على الاختيار الإنساني من غير اضطرار وإلجاء، فلا محيص عن أن يكون الرسول الحامل لرسالات الله أحدا من الناس يكلمهم بلسانهم فيختاروا لأنفسهم السعادة بالطاعة أو الشقاء بالمخالفة والمعصية من غير أن يضطرهم الله إلى قبول الدعوة بآية سماوية يلجئهم إليه وإن قدر على ذلك كما قال: ﴿لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين، إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين﴾ الشعراء: 4.

فلو أنزل الله إليهم ملكا رسولا لكان من واجب الحكمة أن يجعله رجلا مثلهم فيربح الرابحون باكتسابهم ويخسر الخاسرون فيلبسوا الحق بالباطل على أنفسهم وعلى أتباعهم كما يلبسون مع الرسول البشري فيمضي الله ذلك ويلبس عليهم كما لبسوا، قال تعالى: ﴿فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم﴾ الصف: 5.

فإنزال الملك رسولا لا يترتب عليه من النفع والأثر أكثر مما يترتب على إرسال الرسول البشري، ويكون حينئذ لغوا فقول الذين كفروا: لو لا أنزل عليه ملك ليس إلا سؤالا لأمر لغو لا يترتب عليه بخصوصه أثر خاص جديد كما رجوا، فهذا معنى قوله: ﴿ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون﴾.

فظهر مما تقدم من التوجيه أولا أن الملازمة بين جعل الرسول ملكا وجعله رجلا إنما هي من جهة إيجاب الحكمة حفظ الاختيار الإنساني في الدعوة الدينية الإلهية إذ لو أنزل الملك على صورته السماوية وبدل الغيب شهادة كان من الإلجاء الذي لا تستقيم معه الدعوة الاختيارية.

وثانيا: أن الذي تدل عليه الآية هو صيرورة الملك رجلا مع السكوت عن كون ذلك هل هو بقلب ماهية الملكية إلى الماهية الإنسانية - الذي ربما يحيله عدة من الباحثين - أو بتمثيله مثالا إنسانيا كتمثل الروح لمريم بشرا سويا، وتمثل الملائكة الكرام لإبراهيم ولوط (عليهما السلام) في صورة الضيفين من الآدميين.

وجل الآيات الواردة في مورد الملائكة وإن كان يؤيد الثاني من الوجهين لكن قوله تعالى: ﴿ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون﴾ الزخرف: 60 لا يخلو عن دلالة ما على الوجه الأول، وللبحث ذيل ينبغي أن يطلب من محل آخر.

وثالثا: أن قوله تعالى: ﴿وللبسنا عليهم ما يلبسون﴾ من قبيل قوله تعالى: ﴿فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم﴾ الصف: 5 فهو إضلال إلهي لهم بعد ما استحبوا الضلال لأنفسهم من غير أن يكون إضلالا ابتدائيا غير لائق بساحة قدسه سبحانه.

ورابعا: أن متعلق يلبسون المحذوف أعم يشمل لبسهم على أنفسهم ولبس بعضهم على بعض.

وخامسا: أن محصل الآية احتجاج عليهم بأنه لو أنزل عليهم ملك بالرسالة لم ينفعهم ذلك في رفع حيرتهم فإن الله جاعل الملك عندئذ رجلا يماثل الرسول البشري وهم لابسون على أنفسهم معه متشككون فإنهم لا يريدون بهذه المسألة إلا أن يتخلصوا من الرسول البشري الذي هو في صورة رجل ليبدلوا بذلك شكهم يقينا وإذا صار الملك على هذا النعت - ولا محالة - فهم لا ينتفعون بذلك شيئا.

وسادسا: أن في التعبير: ﴿لجعلناه رجلا﴾ ولم يقل: لجعلناه بشرا ليشمل الرجل والمرأة جميعا إشعارا - كما قيل - بأن الرسول لا يكون إلا رجلا كما أن التعبير لا يخلو من إشعار بأن هذا الجعل إنما هو بتمثل الملك في صورة الإنسان دون انقلاب هويته إلى هوية الإنسان كما قيل.

وغالب المفسرين وجهوا الآية بأن المراد: أنهم لما كانوا لا يطيقون رؤية الملك في صورته الأصلية لتوغلهم في عالم المادة فلو أرسل إليهم ملك لم يكن بد من تمثله لهم بشرا سويا، وحينئذ كان يبدو لهم من اللبس والشبهة ما يبدو مع الرسول من البشر ولم ينتفعوا به شيئا.

وهذا التوجيه لا يفي باستقامة الجواب، وإن سلمنا أن الإنسان العادي لا تسعه مشاهدة الملائكة في صورهم الأصلية بالاستناد إلى أمثال قوله تعالى: ﴿يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين﴾ الفرقان: 22.

وذلك أن شهود الملك في صورته الأصلية لو كان محالا على الإنسان لم يختلف فيه حال الأفراد الإنسانية بالجواز والامتناع، وقد ورد في روايات الفريقين أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رأى جبرئيل في صورته الأصلية مرتين، ومن المقدور لله أن يقوي سائر الناس على ما قوى عليه نبيه فيعاينوهم ويؤمنوا بهم، ولا محذور فيه بحسب الحكمة إلا محذور الإلجاء فهو المحذور الذي يجب أن يدفع بالآية كما تقدم.

وكذا مشاهدة الملك في صورة الآدميين لا تلازم جواز الشك واللبس فإن الله سبحانه يخبر عن إبراهيم ولوط (عليهما السلام) أنهما عاينا الملائكة في صورة الآدميين ثم عرفهم ولم يشكا في أمرهم، وكذا أخبر عن مريم أنها شاهدت الروح ثم عرفته ولم تشك فيه ولا التبس عليها أمره فلم لم يكن من الجائز أن يكون حال سائر الناس حالهم (عليهم السلام) في معاينة الملك في صورة الإنسان ثم معرفته واليقين بأمره؟ لو لا أن جعل نفوس الناس جميعا كنفس إبراهيم ولوط ومريم يستلزم إمحاء غرائزهم وفطرهم، وتبديلها نفوسا طاهرة قادسة، وفيه محذور الإلجاء، فالإلجاء هو المحذور الذي لا يبقى معه موضوع الامتحان، وهو الذي يجب دفعه بالآية كما تقدم.

قوله تعالى: ﴿ولقد استهزىء برسل من قبلك﴾ إلى آخر الآيتين، الحيق الحلول والإصابة، وفي مفردات الراغب:، قيل وأصله حق فقلب نحو زل وزال، وقد قرىء: ﴿فأزلهما الشيطان﴾ فأزالهما، وعلى هذا ذمه وذامه.

وقد كان استهزاؤهم بالرسل بالاستهزاء بالعذاب الذي كانوا ينذرونهم بنزوله وحلوله فحاق بهم عين ما استهزءوا به، وفي الآية الأولى تطييب لنفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإنذار للمشركين، وفي الآية الثانية أمر بالاعتبار وعظة.