الآيات 1 - 3

الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ ﴿1﴾ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ ﴿2﴾ وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ﴿3﴾

بيان:

غرض السورة هو توحيده تعالى بمعناه الأعم أعني أن للإنسان ربا هو رب العالمين جميعا منه يبدأ كل شيء وإليه ينتهي ويعود كل شيء، أرسل رسلا مبشرين ومنذرين يهدي بهم عباده المربوبين إلى دينه الحق، ولذلك نزلت معظم آياتها في صورة الحجاج على المشركين في التوحيد والمعاد والنبوة، واشتملت على إجمال الوظائف الشرعية والمحرمات الدينية.

وسياقها - على ما يعطيه التدبر - سياق واحد متصل لا دليل فيه على فصل يؤدي إلى نزولها نجوما.

وهذا يدل على نزولها جملة واحدة، وأنها مكية فإن ذلك ظاهر سياقها الذي وجه الكلام في جلها أو كلها إلى المشركين.

وقد اتفق المفسرون والرواة على كونها مكية إلا في ست آيات روي عن بعضهم أنها مدنية.

وهي قوله تعالى: ﴿وما قدروا الله حق قدره﴾ آية: 91 إلى تمام ثلاث آيات، وقوله تعالى: ﴿قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم﴾ آية: 151 إلى تمام ثلاث آيات.

وقيل: إنها كلها مكية إلا آيتان منها نزلتا بالمدينة، وهما قوله تعالى: ﴿قل تعالوا أتل﴾ والتي بعدها.

وقيل: نزلت سورة الأنعام كلها بمكة إلا آيتين نزلتا بالمدينة في رجل من اليهود، وهو الذي قال: ﴿ما أنزل الله على بشر من شيء﴾ الآية.

وقيل: إنها كلها مكية إلا آية واحدة نزلت بالمدينة ﴿عالم الغيب والشهادة﴾ وهو قوله تعالى: ﴿ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة﴾ الآية.

وهذه الأقوال لا دليل على شيء منها من جهة سياق اللفظ على ما تقدم من وحدة السياق واتصال آيات السورة، وسنبينها بما نستطيعه، وقد ورد عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وكذا عن أبي وعكرمة وقتادة: أنها نزلت جملة واحدة بمكة.

قوله تعالى: ﴿الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور﴾ افتتح بالثناء على الله وهو كالمقدمة لما يراد بيانه من معنى التوحيد، وذلك بتضمين الثناء ما هو محصل غرض السورة ليتوسل بذلك إلى الاحتجاج عليه تفصيلا، وتضمينه العجب منهم ولومهم على أن عدلوا به غيره والامتراء في وحدته ليكون كالتمهيد على ما سيورد من جمل الوعظ والإنذار والتخويف.

وقد أشار في هذا الثناء الموضوع في الآيات الثلاث إلى جمل ما تعتمد عليه الدعوة الدينية في المعارف الحقيقية التي هي بمنزلة المادة للشريعة، وتنحل إلى نظامات ثلاث: نظام الكون العام وهو الذي تشير إليه الآية الأولى، ونظام الإنسان بحسب وجوده، وهو الذي تشتمل عليه الآية الثانية، ونظام العمل الإنساني وهو الذي تومىء إليه الآية الثالثة.

فالمتحصل من مجموع الآيات الثلاث هو الثناء عليه تعالى بما خلق العالم الكبير الذي يعيش فيه الإنسان، وبما خلق عالما صغيرا هو وجود الإنسان المحدود من حيث ابتدائه بالطين ومن حيث انتهائه بالأجل المقضي، وبما علم سر الإنسان وجهره وما يكسبه.

وما في الآية الثالثة: ﴿وهو الله في السماوات وفي الأرض﴾ بمنزلة الإيضاح لمضمون الآيتين، السابقتين والتمهيد لبيان علمه بسر الإنسان وجهره وما تكسبه نفسه.

فقوله: ﴿خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور﴾ إشارة إلى نظام الكون العام الذي عليه تدبر الأشياء على كثرتها وتفرقها في عالمنا في نظامه الجاري المحكم إلا عالم الأرض الذي يحيط به عالم السماوات على سعتها ثم يتصرف بها بالنور والظلمات اللذين عليهما يدور رحى العالم المشهود في تحوله وتكامله فلا يزال يتولد شيء من شيء، ويتقلب شيء إلى شيء، ويظهر واحد ويخفى آخر، ويتكون جديد ويفسد قديم، وينتظم من تلاقي هذه الحركات المتنوعة على شتاتها الحركة العالمية الكبرى التي تحمل أثقال الأشياء، وتسير بها إلى مستقرها.

والجعل في قوله: ﴿وجعل الظلمات﴾ إلخ بمعنى الخلق غير أن الخلق لما كان مأخوذا في الأصل من خلق الثوب كان التركيب من أجزاء شتى مأخوذا في معناه بخلاف الجعل، ولعل هذا هو السبب في تخصيص الخلق بالسماوات والأرض لما فيها من التركيب بخلاف الظلمة والنور، ولذا خصا باستعمال الجعل.

والله أعلم.

وقد أتى بالظلمات بصيغة الجمع دون النور، ولعله لكون الظلمة متحققة بالقياس إلى النور فإنها عدم النور فيما من شأنه أن يتنور فتتكثر بحسب مراتب قربه من النور وبعده بخلاف النور فإنه أمر وجودي لا يتحقق بمقايسته إلى الظلمة التي هي عدمية، وتكثيره تصورا بحسب قياسه التصوري إلى الظلمة لا يوجب تعدده وتكثره حقيقة.

قوله تعالى: ﴿ثم الذين كفروا بربهم يعدلون﴾ مسوق للتعجب المشوب بلوم أي إن الله سبحانه بخلقه السماوات والأرض وجعله الظلمات والنور متوحد بالألوهية متفرد بالربوبية لا يماثله شيء ولا يشاركه، ومن العجب أن الذين كفروا مع اعترافهم بأن الخلق والتدبير لله بحقيقة معنى الملك دون الأصنام التي اتخذوها آلهة يعدلون بالله غيره من أصنامهم ويسوون به أوثانهم فيجعلون له أندادا تعادله بزعمهم فهم ملومون على ذلك.

وبذلك يظهر وجه الإتيان بثم الدال على التأخير والتراخي فكأن المتكلم لما وصف تفرده بالصنع والإيجاد وتوحده بالألوهية والربوبية ذكر مزعمة المشركين وأصحاب الأوثان أن هذه الحجارة والأخشاب المعمولة أصناما يعدلون بها رب العالمين فشغله التعجب زمانا وكفه عن التكلم ثم جرى في كلامه وأشار إلى وجه سكوته، وأن حيرة التعجب كان هو المانع عن جريه في كلامه فقال: الذين كفروا بربهم يعدلون.

قوله تعالى: ﴿هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا﴾ يشير إلى خلقه العالم الإنساني الصغير بعد الإشارة إلى خلق العالم الكبير فيبين أن الله سبحانه هو الذي خلق الإنسان ودبر أمره بضرب الأجل لبقائه الدنيوي ظاهرا فهو محدود الوجود بين الطين الذي بدأ منه خلق نوعه وإن كان بقاء نسله جاريا على سنة الإزدواج والوقاع كما قال تعالى: ﴿وبدأ خلق الإنسان من طين، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين﴾ السجدة: 8.

وبين الأجل المقضي الذي يقارن الموت كما قال تعالى: ﴿كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا يرجعون﴾ العنكبوت: - 57 ومن الممكن أن يراد بالأجل ما يقارن الرجوع إلى الله سبحانه بالبعث فإن القرآن الكريم كأنه يعد الحياة البرزخية من الدنيا كما يفيده ظاهر قوله تعالى: ﴿قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين، قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين، قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون﴾ المؤمنون: 114، وقال أيضا: ﴿ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون، ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون، وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون﴾ الروم: 56.

وقد أبهم أمر الأجل بإتيانه منكرا في قوله: ﴿ثم قضى أجلا﴾ للدلالة على كونه مجهولا للإنسان لا سبيل له إلى المعرفة به بالتوسل إلى العلوم العادية.

قوله تعالى: ﴿وأجل مسمى عنده﴾ تسمية الأجل تعيينه فإن العادة جرت في العهود والديون ونحو ذلك بذكر الأجل وهو المدة المضروبة أو آخر المدة باسمه، وهو الأجل المسمى، قال تعالى: ﴿إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه﴾ البقرة: 282 وهو الأجل بمعنى آخر المدة المضروبة، وكذا قوله تعالى: ﴿من كان يرجوا لقاء الله فإن أجل الله لآت﴾ العنكبوت: 5 وقال تعالى في قصة موسى وشعيب: ﴿قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك - إلى أن قال - قال ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي﴾ القصص: 28 وهو الأجل بمعنى تمام المدة المضروبة.

والظاهر أن الأجل بمعنى آخر المدة فرع الأجل بمعنى تمام المدة استعمالا أي أنه استعمل كثيرا (الأجل المقضي) ثم حذف الوصف واكتفي بالموصوف فأفاد الأجل معنى الأجل المقضي، قال الراغب في مفرداته: يقال للمدة المضروبة لحياة الإنسان (أجل) فيقال: دنا أجله عبارة عن دنو الموت، وأصله استيفاء الأجل.

وكيف كان فظاهر كلامه تعالى أن المراد بالأجل والأجل المسمى هو آخر مدة الحياة لإتمام المدة كما يفيده قوله: ﴿فإن أجل الله لآت﴾ الآية.

فتبين بذلك أن الأجل أجلان: الأجل على إبهامه، والأجل المسمى عند الله تعالى.

وهذا هو الذي لا يقع فيه تغير لمكان تقييده بقوله ﴿عنده﴾ وقد قال تعالى: ﴿وما عند الله باق﴾ النحل: 96 وهو الأجل المحتوم الذي لا يتغير ولا يتبدل قال تعالى: ﴿إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون﴾ يونس: 49.

فنسبة الأجل المسمى إلى الأجل غير المسمى نسبة المطلق المنجز إلى المشروط المعلق فمن الممكن أن يتخلف المشروط المعلق عن التحقق لعدم تحقق شرطه الذي علق عليه بخلاف المطلق المنجز فإنه لا سبيل إلى عدم تحققه البتة.

والتدبر في الآيات السابقة منضمة إلى قوله تعالى: ﴿لكل أجل كتاب، يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب﴾ الرعد: 39 يفيد أن الأجل المسمى هو الذي وضع في أم الكتاب، وغير المسمى من الأجل هو المكتوب فيما نسميه بلوح المحو والإثبات، وسيأتي إن شاء الله تعالى أن أم الكتاب قابل الانطباق على الحوادث الثابتة في العين أي الحوادث من جهة استنادها إلى الأسباب العامة التي لا تتخلف عن تأثيرها، ولوح المحو والإثبات قابل الانطباق على الحوادث من جهة استنادها إلى الأسباب الناقصة التي ربما نسميها بالمقتضيات التي يمكن اقترانها بموانع تمنع من تأثيرها.

واعتبر ما ذكر من أمر السبب التام والناقص بمثال إضاءة الشمس فإنا نعلم أن هذه الليلة ستنقضي بعد ساعات وتطلع علينا الشمس فتضيء وجه الأرض لكن يمكن أن يقارن ذلك بحيلولة سحابة أو حيلولة القمر أو أي مانع آخر فتمنع من الإضاءة، وأما إذا كانت الشمس فوق الأفق ولم يتحقق أي مانع مفروض بين الأرض وبينها فإنها تضيء وجه الأرض لا محالة.

فطلوع الشمس وحده بالنسبة إلى الإضاءة بمنزلة لوح المحو والإثبات، وطلوعها مع حلول وقته وعدم أي حائل مفروض بينها وبين الأرض بالنسبة إلى الإضاءة بمنزلة أم الكتاب المسمى باللوح المحفوظ.

فالتركيب الخاص الذي لبنية هذا الشخص الإنساني مع ما في أركانه من الاقتضاء المحدود يقتضي أن يعمر العمر الطبيعي الذي ربما حددوه بمائة أو بمائة وعشرين سنة وهذا هو المكتوب في لوح المحو والإثبات مثلا غير أن لجميع أجزاء الكون ارتباطا وتأثيرا في الوجود الإنساني فربما تفاعلت الأسباب والموانع التي لا نحصيها تفاعلا لا نحيط به فأدى إلى حلول أجله قبل أن ينقضي الأمد الطبيعي، وهو المسمى بالموت الاخترامي.

وبهذا يسهل تصور وقوع الحاجة بحسب ما نظم الله الوجود إلى الأجل المسمى وغير المسمى جميعا، وأن الإبهام الذي بحسب الأجل غير المسمى لا ينافي التعين بحسب الأجل المسمى، وأن الأجل غير المسمى والمسمى ربما توافقا وربما تخالفا والواقع حينئذ هو الأجل المسمى البتة.

هذا ما يعطيه التدبر في قوله: ﴿ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده﴾ وللمفسرين تفسيرات غريبة للأجلين الواقعين في الآية: منها: أن المراد بالأجل الأول ما بين الخلق والموت والثاني ما بين الموت والبعث،، ذكره عدة من الأقدمين وربما روي عن ابن عباس.

ومنها: أن الأجل الأول أجل أهل الدنيا حتى يموتوا، والثاني أجل الآخرة الذي لا آخر له، ونسب إلى المجاهد والجبائي وغيرهما.

ومنها: أن الأجل الأول أجل من مضى، والثاني أجل من بقي من سيأتي، ونسب إلى أبي مسلم.

ومنها: أن الأجل الأول النوم، والثاني الموت.

ومنها: أن المراد بالأجلين واحد، وتقدير الآية الشريفة: ثم قضى أجلا وهذا أجل مسمى عنده.

ولا أرى الاشتغال بالبحث عن صحة هذه الوجوه وأشباهها وسقمها يسوغه الوقت على ضيقه، ولا يسمح بإباحته العمر على قصره.

قوله تعالى: ﴿ثم أنتم تمترون﴾ من المرية بمعنى الشك والريب، وقد وقع في الآية التفات من الغيبة إلى الحضور، وكأن الوجه فيه أن الآية الأولى تذكر خلقا وتدبيرا عاما ينتج من ذلك أن الكفار ما كان ينبغي لهم أن يعدلوا بالله سبحانه غيره، وكان يكفي في ذلك ذكرهم بنحو الغيبة لكن الآية الثانية تذكر الخلق والتدبير الواقعين في الإنسان خاصة فكان من الحري الذي يهيج المتكلم المتعجب اللائم أن يواجههم بالخطاب ويلومهم بالتجبيه كأنه يقول: هذا خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور عذرناكم في الغفلة عن حكمه لكون ذلك أمرا عاما ربما أمكن الذهول عما يقتضيه فما عذركم أنتم في امترائكم فيه وهو الذي خلقكم وقضى فيكم أجلا وأجل مسمى عنده؟.

قوله تعالى: ﴿وهو الله في السماوات وفي الأرض﴾ الآيتان السابقتان تذكران الخلق والتدبير في العوالم عامة وفي الإنسان خاصة، ويكفي ذلك في التنبه على أن الله سبحانه هو الإله الواحد الذي لا شريك له في خلقه وتدبيره.

لكنهم مع ذلك أثبتوا آلهة أخرى وشفعاء مختلفة لوجوه التدبير المختلفة كإله الحياة وإله الرزق وإله البر وإله البحر وغير ذلك، وكذا للأنواع والأقوام والأمم المتشتتة كإله السماء وإله هذه الطائفة وإله تلك الطائفة فنفى ذلك بقوله: ﴿وهو الله في السماوات وفي الأرض﴾.

فالآية نظيرة قوله: ﴿وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم﴾ الزخرف: 84 مفادها انبساط حكم ألوهيته تعالى في السماوات وفي الأرض من غير تفاوت أو تحديد، وهي إيضاح لما تقدم وتمهيد لما يتلوها من الكلام.

قوله تعالى: ﴿يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون﴾ السر والجهر متقابلان وهما وصفان للأعمال، فسرهم ما عملوه سرا وجهرهم ما عملوه جهرا من غير ستر.

وأما ما يكسبون فهو الحال النفساني الذي يكسبه الإنسان بعمله السري والجهري من حسنة أو سيئة فالسر والجهر المذكوران - كما عرفت - وصفان صوريان لمتون الأعمال الخارجية، وما يكسبونه حال روحي معنوي قائم بالنفوس فهما مختلفان بالصورية والمعنوية، ولعل اختلاف المعلومين من حيث نفسهما هو الموجب لتكرار ذكر العلم في قوله: ﴿يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون﴾ .

والآية كالتمهيد لما ستتعرض له من أمر الرسالة والمعاد فإن الله سبحانه لما كان عالما بما يأتي به الإنسان من عمل سرا أو جهرا، وكان عالما بما يكسبه لنفسه بعمله من خير أو شر، وكان إليه زمام التربية والتدبير كان له أن يرسل رسولا بدين يشرعه لهداية الناس على الرغم مما يصر عليه الوثنيون من الاستغناء عن النبوة كما قال تعالى: ﴿إن علينا للهدى﴾ الليل: 12.

وكذا هو تعالى لما كان عالما بالأعمال وبتبعاتها في نفس الإنسان كان عليه أن يحاسبهم في يوم لا يغادر منهم أحدا كما قال تعالى: ﴿أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار﴾ ص: 28.

بحث روائي:

في الكافي، بإسناده عن الحسن بن علي بن أبي حمزة قال قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن سورة الأنعام نزلت جملة، شيعها سبعون ألف ملك حتى أنزلت على محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فعظموها وبجلوها فإن اسم الله عز وجل فيها في سبعين موضعا، ولو يعلم الناس ما في قراءتها ما تركوها: أقول: ورواه العياشي عنه (عليه السلام) مرسلا.

وفي تفسير القمي، قال حدثني أبي عن الحسين بن خالد عن الرضا (عليه السلام) قال: نزلت الأنعام جملة واحدة، يشيعها سبعون ألف ملك لهم زجل بالتسبيح والتهليل والتكبير فمن قرأها استغفروا له إلى يوم القيامة.

أقول: ورواه في المجمع، أيضا عن الحسين بن خالد عنه (عليه السلام): إلا أنه قال سبحوا له إلى يوم القيامة.

وفي تفسير العياشي، عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن سورة الأنعام نزلت جملة واحدة وشيعها سبعون ألف ملك حين أنزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فعظموها وبجلوها فإن اسم الله عز وجل فيها سبعين موضعا، ولو يعلم الناس ما في قراءتها من الفضل ما تركوها، الحديث.

وفي جوامع الجامع، للطبرسي قال: في حديث أبي بن كعب عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: أنزلت علي الأنعام جملة واحدة يشيعها سبعون ألف ملك لهم زجل بالتسبيح والتحميد فمن قرأها صلى عليه أولئك السبعون ألف ملك بعدد كل آية من الأنعام يوما وليلة.

أقول: ورواه في الدر المنثور، عنه بعدة طرق.

وفي الكافي، بإسناده عن ابن محبوب عن أبي جعفر الأحول عن سلام بن المستنير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن الله خلق الجنة قبل أن يخلق النار، وخلق الطاعة قبل أن يخلق المعصية، وخلق الرحمة قبل الغضب، وخلق الخير قبل الشر وخلق الأرض قبل السماء، وخلق الحياة قبل الموت، وخلق الشمس قبل القمر، وخلق النور قبل الظلمة.

أقول: خلق النور قبل الظلمة بالنظر إلى كون الظلمة عدميا مضافا إلى النور ظاهر المعنى، وأما نسبة الخلق إلى الطاعة والمعصية فليس يلزم منها بطلان الاختيار فإن بطلانه يستلزم بطلان نفس الطاعة والمعصية فلا تبقى لنسبتهما إلى الخلق وجه صحة بل المراد كونه تعالى يملكهما كما يملك كل ما وقع في ملكه، وكيف يمكن أن يقع في ملكه ما هو خارج عن إحاطته وسلطانه ومنعزل عن مشيته وإذنه؟.

ولا دليل على انحصار الخلق في الإيجاد والصنع الذي لا واسطة فيه حتى يكون تعالى مستقلا بإيجاد كل ما نسب خلقه إليه فيكون إذا قيل: إن الله خلق العدل أو القتل مثلا أنه أبطل إرادة الإنسان العادل أو القاتل، واستقل هو بالعدل والقتل بإذهاب الواسطة من البين فافهم ذلك، وقد تقدم استيفاء البحث عن هذا المعنى في الجزء الأول من الكتاب.

وبنظير البيان يتبين معنى نسبة الخلق إلى الخير والشر أيضا، سواء كانا خيرا وشرا في الأمور التكوينية أو في الأفعال.

وأما كون الطاعة مخلوق قبل المعصية، وكذا الخير قبل الشر فيجري أيضا في بيانه نظير ما تقدم من بيان كون النور قبل الظلمة من أن النسبة بينهما نسبة العدم والملكة، والعدم يتوقف في تحققه على الملكة ويظهر به أن خلق الحياة قبل الموت.

وبذلك يتبين أن خلق الرحمة قبل الغضب فإن الرحمة متعلقة بالطاعة والخير والغضب متعلق بالمعصية والشر، والطاعة والخير قبل المعصية والشر.

وأما خلق الأرض قبل السماء فيدل عليه قوله تعالى: ﴿خلق الأرض في يومين - إلى أن قال - ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين، فقضاهن سبع سماوات في يومين﴾ السجدة: 12.

وأما كون خلق الشمس قبل القمر فليس كل البعيد أن يستفاد من قوله تعالى: ﴿والشمس وضحاها، والقمر إذا تلاها﴾ الشمس: 2 وقد رجحت الأبحاث الطبيعية اليوم أن الأرض مشتقة من الشمس والقمر مشتق من الأرض.

وفي تفسير العياشي، عن جعفر بن أحمد عن العمركي بن علي عن العبيدي عن يونس بن عبد الرحمن عن علي بن جعفر عن أبي إبراهيم (عليه السلام) قال: لكل صلاة وقتان، ووقت يوم الجمعة زوال الشمس ثم تلا هذه الآية: ﴿الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض - وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون﴾ قال: يعدلون بين الظلمات والنور وبين الجور والعدل.

أقول: وهذا معنى آخر للآية، وبناؤه على جعل قوله: ﴿بربهم﴾ متعلقا بقوله ﴿كفروا﴾ دون ﴿يعدلون﴿.

وفي الكافي، عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن ابن فضال عن ابن بكير عن زرارة عن حمران عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألت عن قول الله عز وجل ﴿قضى أجلا وأجل مسمى عنده﴾ قال: هما أجلان أجل محتوم وأجل موقوف.

وفي تفسير العياشي، عن حمران قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله: ﴿قضى أجلا وأجل مسمى﴾ قال: فقال هما أجلان أجل موقوف يصنع الله ما يشاء، وأجل محتوم.

وفي تفسير العياشي، عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله: ﴿ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده﴾ قال: الأجل الذي غير مسمى موقوف يقدم منه ما شاء، وأما الأجل المسمى فهو الذي ينزل مما يريد أن يكون من ليلة القدر إلى مثلها قال: فذلك قول الله: ﴿إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون﴾.

وفيه، عن حمران عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله: ﴿أجلا وأجل مسمى عنده﴾ قال: المسمى ما سمي لملك الموت في تلك الليلة، وهو الذي قال الله ﴿فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون﴾ وهو الذي سمي لملك الموت في ليلة القدر، والآخر له فيه المشية إن شاء قدمه، وإن شاء أخره.

أقول: وفي هذا المعنى غيرها من الروايات المأثورة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، والذي يدل عليه من معنى الأجل المسمى وغيره هو الذي تقدمت استفادته من الآيات الكريمة.

وفي تفسير علي بن إبراهيم، قال: حدثني أبي عن النضر بن سويد عن الحلبي عن عبد الله بن مسكان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: الأجل المقضي هو المحتوم الذي قضاه الله وحتمه، والمسمى هو الذي فيه البداء يقدم ما يشاء ويؤخر ما شاء، والمحتوم ليس فيه تقديم ولا تأخير.

أقول: وقد غلط بعض من في طريق الرواية فعكس المعنى وفسر كلا من المسمى وغيره بمعنى الآخر.

على أن الرواية لا تتعرض لتفسير الآية فلا كثير ضير في قبولها.

وفي تفسير العياشي، عن الحصين عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله: ﴿قضى أجلا وأجل مسمى عنده﴾ قال: ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): الأجل الأول هو ما نبذه إلى الملائكة والرسل والأنبياء، والأجل المسمى عنده هو الذي ستره الله عن الخلائق.

أقول: ومضمون الرواية ينافي ما تقدمت من الروايات ظاهرا، ولكن من الممكن أن يستفاد من قوله: ﴿نبذه﴾ أن المراد أنه تعالى أعطاهم الأصل الذي تستنبط منه الآجال غير المسماة وأما الأجل المسمى فلم يسلط أحدا على علمه بمعنى أن ينبذ إليه نورا يكشف به كل أجل مسمى إذا أريد ذلك، وإن كان تعالى يسميه لملك الموت أو لأنبيائه ورسله إذا شاء، وذلك كالغيب يختص علمه به تعالى، وهو مع ذلك يكشف عن شيء منه لمن ارتضاه من رسول إذا شاء ذلك.

وفي تفسير البرهان، عن ابن بابويه بإسناده عن مثنى الحناط عن أبي جعفر أظنه محمد بن النعمان قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: ﴿وهو الله في السماوات وفي الأرض﴾ قال: كذلك هو في كل مكان، قلت: بذاته؟ قال: ويحك إن الأماكن أقدار فإذا قلت: في مكان بذاته لزمك أن تقول: في أقدار وغير ذلك.

ولكن هو بائن من خلقه محيط بما خلق علما - وقدرة وإحاطة وسلطانا - وليس علمه بما في الأرض بأقل مما في السماء، ولا يبعد منه شيء، والأشياء له سواء علما وقدرة وسلطانا وملكا وإرادة.