الآيات 175 - 179

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ﴿175﴾ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴿176﴾ سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ ﴿177﴾ مَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴿178﴾ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴿179﴾

بيان:

قصة أخرى من قصص بني إسرائيل وهي نبأ بلعم بن باعوراء أمر الله نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يتلوه عليهم يتبين به أن مجرد الاتصال بالأسباب الظاهرية العادية لا يكفي في فلاح الإنسان وتحتم السعادة له ما لم يشأ الله ذلك، وأن الله لا يشاء ذلك لمن أخلد إلى الأرض واتبع هواه فإن مصيره إلى النار ثم يذكر آية ذلك فيهم وهي أنهم لا يستعملون قلوبهم وأبصارهم وآذانهم فيما ينفعهم، والآية الجامعة أنهم غافلون.

قوله تعالى: ﴿واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها﴾ إلى آخر الآية معنى إيتاء الآيات على ما يعطيه السياق التلبس من الآيات الأنفسية والكرامات الخاصة الباطنية بما يتنور به طريق معرفة الله له، وينكشف له ما لا يبقى له معه ريب في الحق والانسلاخ خروج الشيء وانتزاعه من جلده، وهو كناية استعارية عن أن الآيات كانت لزمتها لزوم الجلد فخرج منها الخبث في ذاته، والإتباع كالتبع والإتباع التعقيب واقتفاء والأثر يقال: تبع وأتبع واتبع، والكل بمعنى واحد، والغي والغواية هي الضلال كأنه خروج من الطريق للقصور عن حفظ المقصد الذي يوصل إليه الطريق ففيه نسيان المقصد والغاية، فالمتحير في أمره وهو في الطريق غوي، والخارج عن الطريق وهو ذاكر لمقصده ضال، وهو الأنسب لمورد الآية فإن صاحب النبإ بعد ما انسلخ عن آيات الله وأتبعه الشيطان غاب عنه سبيل الرشد فلم يتمكن من إنجاء نفسه عن ورطة الهلاك، وربما استعمل كل من الغواية والضلالة في معنى واحد.

وهو الخروج عن الطريق الموصل إلى الغاية.

وقد اختلف المفسرون في تعيين من هو صاحب النبإ في هذه الآية على أقوال مختلفة سنشير إلى جلها أو كلها في البحث الروائي الآتي إن شاء الله.

والآية - كما ترى - أبهمت اسمه واقتصرت على الإشارة إلى إجمال قصته لكنها مع ذلك ظاهرة في أنه نبأ واقع لا مجرد تمثيل فلا وقع لقول من قال: إنها مجرد تمثيل من غير نبإ واقع.

والمعنى: ﴿واتل عليهم﴾ أي على بني إسرائيل أو على الناس خبرا عن أمر عظيم وهو ﴿نبأ﴾ الرجل ﴿الذي آتيناه آياتنا﴾ وكشفنا لباطنه عن علائم وآثار إلهية عظام يتنور له بها حق الأمر ﴿فانسلخ منها﴾ ورفضها بعد لزومها ﴿فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين﴾ فلم يقو على إنجاء نفسه من الهلاك.

قوله تعالى: ﴿ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه﴾ الآية الإخلاد اللزوم على الدوام، والإخلاد إلى الأرض اللصوق بها وهو كناية عن الميل إلى التمتع بالملاذ الدنيوية والتزامها، واللهث من الكلب أن يدلع لسانه من العطش.

فقوله: ﴿ولو شئنا لرفعناه بها﴾ أي لو شئنا لرفعناه بتلك الآيات وقربناه إلينا لأن في القرب إلى الله ارتفاعا عن حضيض هذه الدنيا التي هي بما لها من اشتغال الإنسان بنفسها عن الله وآياته أسفل سافلين، ورفعه بتلك الآيات بما أنها أسباب إلهية ظاهرية تفيد اهتداء من تلبس بها لكنها لا تحتم السعادة للإنسان لأن تمام تأثيرها في ذلك منوط بمشيئة الله، والله سبحانه لا يشاء ذلك لمن أعرض عنه وأقبل إلى غيرها.

وهي الحياة الأرضية اللاهية عن الله ودار كرامته فإن الإعراض عن الله سبحانه وتكذيب آياته ظلم، وقد حق القول منه سبحانه أنه لا يهدي القوم الظالمين، وأن الذين كفروا وكذبوا بآياته أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.

ولذلك عقب تعالى قوله: ﴿ولو شئنا لرفعناه بها﴾ بقوله: ﴿لكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه﴾ فالتقدير: لكنا لم نشأ ذلك لأنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه وكان ذلك موردا لإضلالنا لا لهدايتنا كما قال تعالى: ﴿ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء﴾ إبراهيم: 27.

وقوله: ﴿فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث﴾ أي إنه ذو هذه السجية لا يتركها سواء زجرته ومنعته أو تركته و﴿تحمل﴾ من الحملة لا من الحمل ﴿ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا﴾ فالتكذيب منهم سجية وهيئة نفسانية خبيثة لازمة فلا تزال آياتنا تتكرر على حواسهم ويتكرر التكذيب بها منهم ﴿فاقصص القصص﴾ وهو مصدر أي اقصص قصصا أو اسم مصدر أي اقصص القصة ﴿لعلهم يتفكرون﴾ فينقادوا للحق وينتزعوا عن الباطل.

قوله تعالى: ﴿ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون﴾ ذم لهم من حيث وصفهم، وإعلام لهم أنهم لا يضرون شيئا في تكذيب آياته بل ذلك ظلم منهم لأنفسهم إذ يستضر بذلك غيرهم.

قوله تعالى: ﴿من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون﴾ اللام في ﴿المهتدي﴾ و﴿الخاسرون﴾ يفيد الكمال دون الحصر ظاهرا، ومفاد الآية أن مجرد الاهتداء إلى شيء لا ينفع شيئا ولا يؤثر أثر الاهتداء إلا إذا كانت معه هداية الله سبحانه فهي التي يكمل بها الاهتداء، وتتحتم معها السعادة، وكذلك مجرد الضلال لا يضر ضررا قطعيا إلا بانضمام إضلال الله سبحانه إليه فعند ذلك يتم أثره، ويتحتم الخسران.

فمجرد اتصال الأنسال بأسباب السعادة كظاهر الإيمان والتقوى وتلبسه بذلك لا يورده مورد النجاة، وكذلك اتصاله وتلبسه بأسباب الضلال لا يورده مورد الهلاك والخسران إلا أن يشاء الله ذلك فيهدي بمشيئته من هدى، ويضل بها من أضل فيئول المعنى إلى أن الهداية إنما تكون هداية حقيقية تترتب عليها آثارها إذا كانت لله فيها مشية، وإلا فهي صورة هداية وليست بها حقيقة، وكذلك الأمر في الإضلال، وإن شئت فقل: إن الكلام يدل على حصر الهداية الحقيقية في الله سبحانه وكذلك الإضلال ولا يضل به إلا الفاسقين.

قوله تعالى: ﴿ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس﴾ إلى آخر الآية.

الذرء هو الخلق، وقد عرف الله سبحانه جهنم غاية لخلق كثير من الجن والإنس، ولا ينافي ذلك ما عرف في موضع آخر أن الغاية لخلق الخلق هي الرحمة وهي الجنة في الآخرة كقوله تعالى: ﴿إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم﴾ هود: 119 فإن الغرض يختلف معناه بحسب كمال الفعل ونهاية الفعل التي ينتهي إليها.

بيان ذلك أن النجار إذا أراد أن يصنع بابا عمد إلى أخشاب يهيئها له ثم هندسه فيها ثم شرع في النشر والنحت والخرط حتى أتم الباب فكمال غرضه من إيقاع الفعل على تلك الخشبات هو حصول الباب لا غير، هذا من جهة ومن جهة أخرى هو يعلم من أول الأمر أن جميع أجزاء تلك الخشبات ليست تصلح لأن تكون أجزاء للباب فإن للباب هيئة خاصة لا تجامع هيئة الخشبات، ولا بد في تغيير هيئتها من ضيعة بعض الأجزاء لخروجها عن هندسة العمل فصيرورة هذه الأبعاض فضلة يرمى بها داخلة في قصد الصانع مرادة له بإرادة تسمى قصدا ضروريا فللنجار في صنع الباب بالنسبة إلى الأخشاب التي بين يديه نوعان من الغاية: أحدهما الغاية الكمالية وهي أن يصنع منها بابا، والثاني الغاية التابعة وهي أن يصنع بعضها بابا ويجعل بعضها فضلة لا ينتفع بها وضيعة يرمى بها، وذلك لعدم استعدادها لتلبس صورة الباب.

وكذا الزارع يزرع أرضا ليحصد قمحا فلا يخلص لذلك إلى يوم الحصاد إلا بعض ما صرفه من البذر، ويذهب غيره سدى يضيع في الأرض أو تفسده الهوام أو يخصفه المواشي والجميع مقصودة للزراع من وجه، والمحصول من القمح مقصود من وجه آخر.

وقد تعلقت المشية الإلهية أن يخلق من الأرض إنسانا سويا يعبده ويدخل بذلك في رحمته، واختلاف الاستعدادات المكتسبة من الحياة الدنيوية على ما لها من مختلف التأثيرات لا يدع كل فرد من أفراد هذا النوع أن يجري في مجراه الحقيقي ويسلك سبيل النجاة إلا من وفق له، وعند ذلك تختلف الغايات وصح أن لله سبحانه غاية في خلقة الإنسان مثلا وهو أن يشملهم برحمته ويدخلهم جنته، وصح أن لله غاية في أهل الخسران والشقاوة من هذا النوع وهو أن يدخلهم النار وقد كان خلقهم للجنة غير أن الغاية الأولى غاية أصلية كمالية، والغاية الثانية غاية تبعية ضرورية، والقضاء الإلهي المتعلق بسعادة من سعد وشقاوة من شقى ناظر إلى هذا النوع الثاني من الغاية فإنه تعالى يعلم ما يئول إليه حال الخلق من سعادة أو شقاء فهو مريد لذلك بإرادة تبعية لا أصلية.

وعلى هذا النوع من الغاية ينزل قوله تعالى: ﴿ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس﴾ وما في هذا المساق من الآيات الكريمة وهي كثيرة.

وقوله: ﴿لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها﴾ إشارة إلى بطلان استعدادهم للوقوع في مجرى الرحمة الإلهية، والوقوف في مهب النفحات الربانية، فلا ينفعهم ما يشاهدونه من آيات الله، وما يسمعونه من مواعظ أهل الحق، وما تلقنه لهم فطرتهم من الحجة والبينة.

ولا يفسد عقل ولا عين ولا أذن في عمله وقد خلقها الله لذلك، وقد قال: ﴿لا تبديل لخلق الله﴾ الروم: 30 إلا أن يكون الذي يغيره هو الله سبحانه فيكون من جملة الخلق لكنه سبحانه لا يغير ما أنعمه على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، قال تعالى ﴿ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم﴾ الأنفال: 53.

فالذي أبطل ما عندهم من الاستعداد، وأفسد أعمال قلوبهم وأعينهم وآذانهم هو الله سبحانه فعل بهم ما فعل جزاء بما كسبوا نكالا فهم غيروا نعمة الله بتغيير طريق العبودية فجازاهم الله بالطبع على قلوبهم فلا يفقهون بها، وجعل الغشاوة على أبصارهم فلا يبصرون بها، والوقر على آذانهم فلا يسمعون بها فهذه آية أنهم مسيرون إلى النار.

وقوله: ﴿أولئك كالأنعام بل هم أضل﴾ نتيجة ما تقدم، وبيان لحالهم فإنهم فقدوا ما يتميز به الإنسان من سائر الحيوان، وهو تمييز الخير والشر والنافع والضار بالنسبة إلى الحياة الإنسانية السعيدة من طريق السمع والبصر والفؤاد.

وإنما شبهوا من بين الحيوان العجم بالأنعام مع أن فيهم خصال السباع الضارية وخصائصها كخصال الأنعام الراعية، لأن التمتع بالأكل والسفاد أقدم وأسبق بالنسبة إلى الطبع الحيواني فجلب النفع أقدم من دفع الضر، وما في الإنسان من القوى الدافعة الغضبية مقصودة لأجل ما فيه من القوى الجاذبة الشهوية، وغرض النوع بحسب حياته الحيوانية يتعلق أولا بالتغذي والتوليد، ويتحفظ على ذلك بإعمال القوى الدافعة فالآية تجري مجرى قوله تعالى: ﴿والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما يأكل الأنعام والنار مثوى لهم﴾ محمد: 12.

وأما كونهم أكثر أو أشد ضلالا من الأنعام، ولازمه ثبوت ضلال ما في الأنعام فلأن الضلال في الأنعام نسبي غير حقيقي فإنها مهتدية بحسب ما لها من القوى المركبة الباعثة لها إلى قصر الهمة في الأكل والتمتع غير ضالة فيما هيئت لها من سعادة الحياة ولا مستحقة للذم فيما أخذت إليه، وإنما تعد ضالة بقياسها إلى السعادة الإنسانية التي ليست لها ولا جهزت بما تتوسل به إليها.

وأما هؤلاء المطبوع على قلوبهم وأعينهم وآذانهم فالسعادة سعادتهم وهم مجهزون بما يوصلهم إليها ويدلهم عليها من السمع والبصر والفؤاد لكنهم أفسدوها وضيعوا أعمالها.

ونزلوها منزلة السمع والبصر والقلب التي في الأنعام، واستعملوها فيما تستعملها فيه الأنعام وهو التمتع من لذائذ البطن والفرج فهم أكثر أو أشد ضلالا من الأنعام، وإليهم يعود الذم.

وقوله: ﴿أولئك هم الغافلون﴾ نتيجة وبيان حال أخرى لهم وهو أن حقيقة الغفلة هي التي توجد عندهم فإنها بمشية الله سبحانه، ألبسها إياهم بالطبع الذي طبع به على قلوبهم وأعينهم وآذانهم والغفلة مادة كل ضلال وباطل.

بحث روائي:

في تفسير القمي،: في قوله تعالى: ﴿واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا﴾ الآية: قال: حدثني أبي عن الحسين بن خالد عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام): أنه أعطي بلعم بن باعوراء الاسم الأعظم، وكان يدعو به فيستجيب له فمال إلى فرعون فلما مر فرعون في طلب موسى وأصحابه قال فرعون لبلعم: ادع الله على موسى وأصحابه ليحبسه علينا فركب حمارته ليمر في طلب موسى فامتنعت عليه حمارته فأقبل يضربها فأنطقها الله عز وجل فقالت ويلك على ما ذا تضربني؟ أ تريد أن أجيء معك لتدعو على نبي الله وقوم مؤمنين؟ ولم يزل يضربها حتى قتلها فانسلخ الاسم من لسانه، وهو قوله: ﴿فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين، ولو شئنا لرفعناه بها - ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه - فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث﴾ وهو مثل ضربه الله. أقول: قوله (عليه السلام): ﴿وهو مثل ضربه الله﴾ الظاهر أنه يشير إلى نبإ بلعم، وسيجيء الكلام في معنى الاسم الأعظم في الكلام على الأسماء الحسنى إن شاء الله.

وفي الدر المنثور، أخرج الفرياني وعبد الرزاق وعبد بن حميد والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والطبراني وابن مردويه عن عبد الله بن مسعود في قوله: ﴿واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها﴾ قال هو رجل من بني إسرائيل يقال له: بلعم بن أبر. وفيه، أخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه من طرق عن ابن عباس قال: هو بلعم بن باعوراء وفي لفظ: بلعام بن عامر الذي أوتي الاسم كان في بني إسرائيل. أقول: وقد روي كون اسمه بلعم وكونه من بني إسرائيل عن غير ابن عباس وروي عنه غير ذلك.

وفي روح المعاني، عند ذكر القول بأن الآية نزلت في أمية بن أبي الصلت الثقفي الشاعر: أنه كان قرأ الكتب القديمة وعلم أن الله تعالى يرسل رسولا، فرجا أن يكون هو ذلك الرسول فاتفق أن خرج إلى البحرين وتنبأ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأقام هناك ثماني سنين ثم قدم فلقي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في جماعة من أصحابه فدعاه إلى الإسلام، وقرأ عليه سورة يس حتى إذا فرغ منها وثب أمية يجر رجليه فتبعته قريش تقول: ما تقول يا أمية؟ قال: حتى أنظر في أمره.

فخرج إلى الشام وقدم بعد وقعة بدر يريد أن يسلم فلما أخبر بها ترك الإسلام وقال: لو كان نبيا ما قتل ذوي قرابته فذهب إلى الطائف ومات به. فأتت أخته الفارعة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فسألها عن وفاته فذكرت له أنه أنشد عند موته. كل عيش وإن تطاول دهرا. صائر مرة إلى أن يزولا. ليتني كنت قبل ما قد بدا لي. في قلال الجبال أرعى الوعولا. إن يوم الحساب يوم عظيم. شاب فيه الصغير يوما ثقيلا. ثم قال (صلى الله عليه وآله وسلم) لها أنشديني من شعر أخيك فأنشدت: لك الحمد والنعماء والفضل ربنا. ولا شيء أعلى منك جدا وأمجد. مليك على عرش السماء مهيمن. لعزته تعنو الوجوه وتسجد. من قصيدة طويلة أتت على آخرها. ثم أنشدته قصيدته التي يقول فيها: وقف الناس للحساب جميعا. فشقي معذب وسعيد. والتي فيها: عند ذي العرش يعرضون عليه. يعلم الجهر والسرار الخفيا. يوم يأتي الرحمن وهو رحيم. إنه كان وعده مأتيا. رب إن تعف فالمعافاة ظني. أو تعاقب فلم تعاقب بريا. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن أخاك آمن شعره، وكفر قلبه وأنزل الله تعالى الآية. أقول: والقصة مجموعة من عدة روايات، وقد ذكر في المجمع، إجمال القصة وذكر أن نزول الآية فيه مروي عن عبد الله بن عمر وسعيد بن المسيب وزيد بن أسلم وأبي روق، والظاهر أن الآيات مكية نزلت بنزول السورة بمكة، وما ذكروه من باب التطبيق.

وفي المجمع، وقيل: إنه أبو عامر بن النعمان بن صيفي الراهب الذي سماه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ﴿الفاسق﴾ وكان قد ترهب في الجاهلية ولبس المسموح فقدم المدينة فقال للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ما هذا الذي جئت به؟ قال: جئت بالحنيفية دين إبراهيم قال: فأنا عليها فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): لست عليها، ولكنك أدخلت فيها ما ليس منها فقال أبو عامر: أمات الله الكاذب منا وحيدا طريدا. فخرج إلى أهل الشام، وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا السلاح ثم أتى قيصر وأتى بجند ليخرج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من المدينة فمات بالشام وحيدا طريدا. عن سعيد بن المسيب. أقول: وإشكال كون السورة مكية في محله، وقد روي في ذلك قصص لا جدوى في استقصائها.

وفيه، قال أبو جعفر (عليه السلام): الأصل في ذلك بلعم ثم ضربه الله مثلا لكل مؤثر هواه على هدى الله من أهل القبلة. وفي تفسير القمي،: في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: ﴿لهم قلوب لا يفقهون بها﴾ يقول: طبع الله عليها فلا تعقل ﴿ولهم أعين﴾ عليها غطاء عن الهدى ﴿لا يبصرون بها - ولهم آذان لا يسمعون بها﴾ أي جعل في آذانهم وقرا فلن يسمعوا الهدى. وفي الدر المنثور، أخرج البيهقي في الأسماء والصفات عن عبد الله بن عمر بن العاصي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله خلق خلقه في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور يومئذ شيء اهتدى. ومن أخطأ ضل.

وفيه، أخرج الحكيم الترمذي وابن أبي الدنيا في مكايد الشيطان وأبو يعلى وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي الدرداء قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): خلق الله الجن ثلاثة أصناف: صنف حيات وعقارب وخشاش الأرض، وصنف كالريح في الهواء، وصنف عليهم الحساب والعقاب، وخلق الله الإنس ثلاثة أصناف: صنف كالبهائم قال الله: ﴿لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها - ولهم آذان لا يسمعون بها - أولئك كالأنعام بل هم أضل﴾ وجنس أجسادهم أجساد بني آدم وأرواحهم أرواح الشياطين، وصنف في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله. أقول: وسيأتي الكلام في الجن والشياطين من الإنس في مقام يناسبه إن شاء الله تعالى.