الآيات 111 - 123

إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴿111﴾ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴿112﴾ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴿113﴾ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ ﴿114﴾ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴿115﴾ إِنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ﴿116﴾ لَقَد تَّابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ﴿117﴾ وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴿118﴾ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ ﴿119﴾ مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴿120﴾ وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴿121﴾ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴿122﴾ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴿123﴾

بيان:

آيات في أغراض متفرقة يجمعها غرض واحد مرتبط بغرض الآيات السابقة فإنها تتكلم حول القتال فمنها ما يمدح المؤمنين ويعدهم وعدا جميلا على جهادهم في سبيل الله ومنها ما ينهى عن التودد إلى المشركين والاستغفار لهم، ومنها ما يدل على توبته تعالى للثلاثة المخلفين عن غزوة تبوك، ومنها ما يفرض على أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يخرجوا مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا أراد الخروج إلى قتال ولا يتخلفوا عنه، ومنها ما يفرض على الناس أن يلازم بعضهم البيضة للتفقه في الدين ثم تبليغه إلى قومهم إذا رجعوا إليهم ومنها ما يقضي بقتال الكفار ممن يلي بلاد الإسلام.

قوله تعالى: ﴿إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة﴾ إلى آخر الآية، الاشتراء هو قبول العين المبيعة بنقل الثمن في المبايعة.

والله سبحانه يذكر في الآية وعده القطعي للذين يجاهدون في سبيل الله بأنفسهم وأموالهم بالجنة، ويذكر أنه ذكر ذلك في التوراة والإنجيل كما يذكره في القرآن.

وقد قلبه سبحانه في قالب التمثيل فصور ذلك بيعا، وجعل نفسه مشتريا والمؤمنين بائعين، وأنفسهم وأموالهم سلعة ومبيعا، والجنة ثمنا، والتوراة والإنجيل والقرآن سندا للمبايعة، وهو من لطيف التمثيل ثم يبشر المؤمنين ببيعهم ذلك، ويهنئهم بالفوز العظيم.

قوله تعالى: ﴿التائبون العابدون الحامدون السائحون﴾ إلى آخر الآية، يصف سبحانه المؤمنين بأجمل صفاتهم، والصفات مرفوعة بالقطع أي المؤمنون هم التائبون العابدون إلخ، فهم التائبون لرجوعهم من غير الله إلى الله سبحانه العابدون له ويعبدونه بألسنتهم فيحمدونه بجميل الثناء، وبأقدامهم فيسيحون ويجولون من معهد من المعاهد الدينية ومسجد من مساجد الله إلى غيره، وبأبدانهم فيركعون له ويسجدون له.

هذا شأنهم بالنسبة إلى حال الانفراد وأما بالنسبة إلى حال الاجتماع فهم آمرون بالمعروف في السنة الدينية وناهون عن المنكر فيها ثم هم حافظون لحدود الله لا يتعدونه في حالتي انفرادهم واجتماعهم خلوتهم وجلوتهم، ثم يأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن يبشرهم وقد بشرهم تعالى نفسه في الآية السابقة، وفيه من كمال التأكيد ما لا يقدر قدره.

وقد ظهر بما قررنا أولا: وجه الترتيب بين الأوصاف التي عدها لهم فقد بدأ بأوصافهم منفردين وهي التوبة والعبادة والسياحة والركوع والسجود ثم ذكر ما لهم من الوصف الخاص بهم المنبعث عن إيمانهم مجتمعين وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وختم بما لهم من جميل الوصف في حالتي انفرادهم واجتماعهم وهو حفظهم لحدود الله، وفي التعبير بالحفظ مضافا إلى الدلالة على عدم التعدي دلالة على الرقوب والاهتمام.

وثانيا: أن المراد بالسياحة - ومعناه السير في الأرض - على ما هو الأنسب بسياق الترتيب هو السير إلى مساكن ذكر الله وعبادته كالمساجد، وأما القول بأن المراد بالسياحة الصيام أو السياحة في الأرض للاعتبار بعجائب قدرة الله وما جرى على الأمم الماضية مما تحكيه ديارهم وآثارهم أو المسافرة لطلب العلم أو المسافرة لطلب الحديث خاصة فهي وجوه غير سديدة.

أما الأول: فلا دليل عليه من جهة اللفظ البتة، وأما الوجوه الأخر فإنها وإن كانت ربما استفيد الندب من مثل قوله تعالى: ﴿أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم﴾ المؤمنون: 82، وقوله: ﴿فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين﴾ الآية: 122 من السورة إلا أن إرادتها من قوله: ﴿السائحون﴾ تبطل جودة الترتيب بين الصفات المنضودة.

وثالثا: أن هذه الصفات الشريفة هي التي يتم بها إيمان المؤمن المستوجب للوعد القطعي بالجنة المستتبع للبشارة الإلهية والنبوية وهي الملازمة للقيام بحق الله المستلزمة لقيام الله سبحانه بما جعله من الحق على نفسه.

قوله تعالى: ﴿ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى﴾ إلى آخر الآيتين، معنى الآية ظاهر غير أنه تعالى لما ذكر في الآية الثانية التي تبين سبب استغفار إبراهيم لأبيه مع كونه كافرا أنه تبرأ منه بعد ذلك لما تبين له أنه عدو لله، فدل ذلك على أن تبين كون المشركين أصحاب الجحيم إنما يرشد إلى عدم جواز الاستغفار لكونه ملازما لكونهم أعداء لله فإذا تبين للنبي والذين آمنوا أن المشركين أعداء لله كشف ذلك لهم عن حكم ضروري وهو عدم جواز الاستغفار لكونه لغوا لا يترتب عليه أثر وخضوع الإيمان مانع أن يلغو العبد مع ساحة الكبرياء.

وذلك أنه تارة يفرض الله تعالى عدوا للعبد مبغضا له لتقصير من ناحيته وسوء من عمله فمن الجائز بالنظر إلى سعة رحمة الله أن يستغفر له ويسترحم إذا كان العبد متذللا غير مستكبر، وتارة يفرض العبد عدوا لله محاربا له مستكبرا مستعليا كأرباب الجحود والعناد من المشركين، والعقل الصريح حاكم بأنه لا ينفعه حينئذ شفاعة بمسألة أو استغفار إلا أن يتوب ويرجع إلى الله وينسلخ عن الاستكبار والعناد ويتلبس بلباس الذلة والمسكنة فلا معنى لسؤال الرحمة والمغفرة لمن يأبى عن القبول، ولا للاستعطاء لمن لا يخضع للأخذ والتناول إلا الهزء بمقام الربوبية واللعب بمقام العبودية وهو غير جائز بضرورة من حكم الفطرة.

وفي الآية نفي الجواز بنفي الحق بدليل قوله: ﴿ما كان للنبي والذين آمنوا﴾ أي ما كانوا يملكون الاستغفار بعد ما تبين لهم كذا وكذا، وقد تقدم في ذيل قوله تعالى: ﴿ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله﴾ الآية - 17 من السورة أن حكم الجواز مسبوق في الشرع بجعل الحق.

والمعنى أن النبي والذين آمنوا بعد ما ظهر وتبين بتبيين الله لهم أن المشركين أعداء لله مخلدون في النار لم يكن لهم حق يملكون به أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى منهم، وأما استغفار إبراهيم لأبيه المشرك فإنه ظن أنه ليس بعدو معاند لله وإن كان مشركا فاستعطفه بوعد وعدها إياه فاستغفر له فلما تبين له أنه عدو لله معاند على شركه وضلاله تبرأ منه.

وقوله: ﴿إن إبراهيم لأواه حليم﴾ تعليل لوعد إبراهيم واستغفاره لأبيه بأنه تحمل جفوة أبيه ووعده وعدا حسنا لكونه حليما واستغفر له لكونه أواها، والأواه هو الكثير التأوه خوفا من ربه وطمعا فيه.

قوله تعالى: ﴿وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون﴾ إلى آخر الآيتين الآيتان متصلتان بالآيتين قبلهما المسوقتين للنهي عن الاستغفار للمشركين.

أما الآية الأولى أعني قوله: ﴿وما كان الله ليضل﴾ إلخ ففيه تهديد للمؤمنين بالإضلال بعد الهداية إن لم يتقوا ما بين الله لهم أن يتقوه ويجتنبوا منه، وهو بحسب ما ينطبق على المورد أن المشركين أعداء لله لا يجوز الاستغفار لهم والتودد إليهم فعلى المؤمنين أن يتقوا ذلك وإلا فهو الضلال بعد الهدى، وعليك أن تذكر ما قدمناه في تفسير قوله تعالى: ﴿اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون﴾ المائدة: 3 في الجزء الخامس من الكتاب وفي تفسير آيات ولاية المشركين وأهل الكتاب الواقعة في السور المتقدمة.

والآية بوجه في معنى قوله تعالى: ﴿ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم﴾ الأنفال: 53 وما في معناه من الآيات، وهي جميعا تهتف بأن من السنة الإلهية أن تستمر على العبد نعمته وهدايته حتى يغير هو ما عنده بالكفران والتعدي فيسلب الله منه النعمة والهداية.

وأما الآية الثانية أعني قوله: ﴿إن الله له ملك السموات والأرض يحيي ويميت وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير﴾ فذيلها بيان لعلة الحكم السابق المدلول عليه بالآية السابقة وهو النهي عن تولي أعداء الله أو وجوب التبري منهم إذ لا ولي ولا نصير حقيقة إلا الله سبحانه وقد بينه للمؤمنين فعليهم بدلالة من إيمانهم أن يقصروا التولي عليه تعالى أو من أذن في توليهم له من أوليائه وليس لهم أن تعتدوا ذلك إلى تولي أعدائه كائنين من كانوا.

وصدر الآية بيان لسبب هذا السبب وهو أن الله سبحانه هو الذي يملك كل شيء وبيده الموت والحياة فإليه تدبير كل أمر فهو الولي لا ولي غيره.

وقد ظهر من عموم البيان والعلة في الآيات الأربع أن الحكم عام وهو وجوب التبري أو حرمة التولي لأعداء الله سواء كان التولي بالاستغفار أو بغير ذلك وسواء كان العدو مشركا أو كافرا أو منافقا أو غيرهم من أهل البدع الكافرين بآيات الله أو المصرين على بعض الكبائر كالمرابي المحارب لله ورسوله.

قوله تعالى: ﴿لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين﴾ إلى آخر الآيتين، الساعة مقدار من الزمان فساعة العسرة الزمان الذي تعسر فيه الحياة لابتلاء الإنسان بما تشق معه العيشة عليه كعطش أو جوع أو حر شديد أو غير ذلك، والزيغ هو الخروج من الطريق والميل عن الحق، وإضافة الزيغ إلى القلوب وذكر ساعة العسرة وسائر ما يلوح من سياق الكلام دليل على أن المراد بالزيغ الاستنكاف عن امتثال أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والخروج عن طاعته بالتثاقل عن الخروج إلى الجهاد أو الرجوع إلى الأوطان بقطع السير تحرجا من العسرة والمشقة التي واجهتهم في مسيرهم.

والتخليف - على ما في المجمع، - تأخير الشيء عمن مضى فأما تأخير الشيء عنك في المكان فليس بتخليف، وهو من الخلف الذي هو مقابل لجهة الوجه يقال خلفه أي جعله خلفه فهو مخلف.

والرحب هو السعة التي تقابل الضيق، وبما رحبت أي برحبها فما مصدرية.

والآيتان وإن كانت كل واحدة منهما ناظرة إلى جهة دون جهة الأخرى فالأولى تبين التوبة على النبي والمهاجرين والأنصار والثانية تبين توبة الثلاثة المخلفين مضافا إلى أن نوع التوبة على أهل الآيتين مختلف فأهل الآية الأولى أو بعضهم تاب الله عليهم من غير معصية منهم وأهل الآية الثانية تيب عليهم وهم عاصون مذنبون.

وبالجملة الآيتان مختلفتان غرضا ومدلولا غير أن السياق يدل على أنهما مسوقتان لغرض واحد ومتصلتان كلاما واحدا تبين فيه توبته تعالى للنبي والمهاجرين والأنصار والثلاثة الذين خلفوا، ومن الدليل عليه قوله: ﴿لقد تاب الله على النبي﴾ إلى أن قال: ﴿وعلى الثلاثة﴾ إلخ فالآية الثانية غير مستقلة عن الأولى بحسب اللفظ وإن استقلت عنها في المعنى، وذلك يستدعي نزولهما معا وتعلق غرض خاص بهذا الاتصال والامتزاج.

ولعل الغرض الأصلي بيان توبة الله سبحانه لأولئك الثلاثة المخلفين وقد ضم إليها ذكر توبته تعالى للمهاجرين والأنصار حتى للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لتطيب قلوبهم بخلطهم بغيرهم وزوال تميزهم من سائر الناس وعفو أثر ذلك عنهم حتى يعود الجميع على نعت واحد وهو أن الله تاب عليهم برحمته فهم فيه سواء من غير أن يرتفع بعضهم عن بعض أو ينخفض بعضهم عن بعض.

وبهذا تظهر النكتة في تكرار ذكر التوبة في الآيتين فإن الله سبحانه يبدأ بذكر توبته على النبي والمهاجرين والأنصار ثم يقول: ﴿ثم تاب عليهم﴾ وعلى الثلاثة الذين خلفوا ثم يقول: ﴿ثم تاب عليهم ليتوبوا﴾ فليس إلا أن الكلام مسوق على منهج الإجمال والتفصيل ذكر فيه توبته تعالى على الجميع إجمالا ثم أشير إلى حال كل من الفريقين على حدته فذكرت عند ذلك توبته الخاصة به.

ولو كانت كل واحدة من الآيتين ذات غرض مستقل من غير أن يجمعها غرض جامع لكان ذلك تكرارا من غير نكتة ظاهرة.

على أن في الآية الأولى دلالة واضحة على أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن له في ذلك ذنب ولا زيغ ولا كاد أن يزيغ قلبه فإن في الكلام مدحا للمهاجرين والأنصار باتباع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فلم يزغ قلبه ولا كاد أن يزيغ حتى صار متبعا يقتدى به ولو لا ما ذكرناه من الغرض لم يكن لذكره (صلى الله عليه وآله وسلم) مع سائر المذكورين وجه ظاهر.

فيئول معنى الآية إلى أن الله - أقسم لذلك - تاب ورجع برحمته رجوعا إلى النبي والمهاجرين والأنصار والثلاثة الذين خلفوا فأما توبته ورجوعه بالرحمة على المهاجرين والأنصار فإنهم اتبعوا النبي في ساعة العسرة وزمانها وهو أيام مسيرهم إلى تبوك - اتبعوه من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ويميل عن الحق بترك الخروج أو ترك السير فبعد ما اتبعوه تاب الله عليهم إنه بهم لرءوف رحيم.

وأما الثلاثة الذين خلفوا فإنهم آل أمرهم إلى أن ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ووسعت - وكان ذلك بسبب أن الناس لم يعاشروهم ولا كلموهم حتى أهلهم فلم يجدوا أنيسا يأنسون به - وضاقت عليهم أنفسهم - من دوام الغم عليهم - وأيقنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه بالتوبة والإنابة فلما كان ذلك كله تاب الله عليهم وانعطف ورجع برحمته إليهم ليتوبوا إليه فيقبل توبتهم أنه هو التواب - كثير الرجوع إلى عباده يرجع إليهم بالهداية والتوفيق للتوبة إليه ثم بقبول تلك التوبة - والرحيم بالمؤمنين.

وقد تبين بذلك كله أولا: أن المراد بالتوبة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) محض الرجوع إليه بالرحمة، ومن الرجوع إليه بالرحمة، الرجوع إلى أمته بالرحمة فالتوبة عليهم توبة عليه فهو (صلى الله عليه وآله وسلم) الواسطة في نزول الخيرات والبركات إلى أمته.

وأيضا فإن من فضله تعالى على نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن: كلما ذكر أمته أو الذين معه بخير أفرده من بينهم وصدر الكلام بذكره تشريفا له كما في قوله: ﴿آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون﴾ البقرة: 285 وقوله: ﴿ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين﴾ التوبة: 26، وقوله: ﴿لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا﴾ التوبة: 88 إلى غير ذلك من الموارد.

وثانيا: أن المراد بما ذكر ثانيا وثالثا من التوبة بقوله: ﴿ثم تاب عليهم﴾ في الموضعين هو تفصيل ما ذكره إجمالا بقوله: ﴿لقد تاب الله﴾.

وثالثا: أن المراد بالتوبة في قوله: ﴿ثم تاب عليهم﴾ في الموضعين رجوعه تعالى إليهم بالهداية إلى الخير والتوفيق فقد ذكرنا مرارا في الأبحاث السابقة أن توبة العبد محفوفة بتوبتين من الرب تعالى، وأنه يرجع إليه بالتوفيق وإفاضة رحمة الهداية وهو التوبة الأولى منه فيهتدي العبد إلى الاستغفار وهو توبته فيرجع تعالى إليه بقبول توبته وغفران ذنوبه وهو التوبة الثانية منه تعالى.

والدليل على أن المراد بها في الموضعين ذلك أما في الآية الأولى فلأنه لم يذكر منهم فيها ذنبا يستغفرون له حتى تكون توبته عليهم توبة قبول، وإنما ذكر أنه كان من المتوقع زيغ قلوب بعضهم وهو يناسب التوبة الأولى منه تعالى دون الثانية، وأما في الآية الثانية فلأنه ذكر بعدها قوله: ﴿ليتوبوا﴾ وهو الاستغفار، أخذ غاية لتوبته تعالى فتوبته تعالى قبل توبتهم ليست إلا التوبة الأولى منه.

وربما أيد ذلك قوله تعالى في مقام تعليل توبته عليهم: ﴿إنه بهم رءوف رحيم﴾ حيث لم يذكر من أسمائه ما يدل بلفظه على قبول توبتهم كما لم يذكر منهم توبة بمعنى الاستغفار.

ورابعا: أن المراد بقوله في الآية الثانية: ﴿ليتوبوا﴾ توبة الثلاثة الذين خلفوا المترتب على توبته تعالى الأولى عليهم، فالمعنى ثم تاب الله على الثلاثة ليتوب الثلاثة فيتوب عليهم ويغفر لهم إنه هو التواب الرحيم.

فإن قلت: فالآية لم تدل على قبول توبتهم وهذا مخالف للضرورة الثابتة من جهة النقل أن الآية نزلت في توبتهم.

قلت: القصة ثابتة نقلا غير أنه لا توجد دلالة في لفظ الآية إلا أن الآية تدل بسياقها على ذلك فقد قال تعالى في مقام الإجمال: ﴿لقد تاب الله﴾ وهو أعم بإطلاقه من التوبة بمعنى التوفيق وبمعنى القبول، وكذا قوله بعد: ﴿إن الله هو التواب الرحيم﴾ وخاصة بالنظر إلى ما في الجملة من سياق الحصر الناظر إلى قوله: ﴿وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه﴾ فإذا كانوا أقدموا على التوبة ليأخذوا ملجأ من الله يأمنون فيه وقد هداهم الله إليه بالتوبة فتابوا فمن المحال أن يردهم الله من بابه خائبين وهو التواب الرحيم، وكيف يستقيم ذلك؟ وهو القائل عز من قائل: ﴿إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم﴾ النساء: 17.

وربما قيل: إن معنى ﴿ثم تاب عليهم ليتوبوا﴾ ثم سهل الله عليهم التوبة ليتوبوا.

وهو سخيف، وأسخف منه قول من قال: إن المراد بالتوبة في ﴿ليتوبوا﴾ الرجوع إلى حالتهم الأولى قبل المعصية.

وأسخف منه قول آخرين: إن الضمير في ﴿ليتوبوا﴾ راجع إلى المؤمنين والمعنى ثم تاب على الثلاثة وأنزل توبتهم على نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) ليتوب المؤمنون من ذنوبهم لعلمهم بأن الله قابل التوب.

وخامسا: أن الظن يفيد في الآية مفاد العلم لا لدلالة لفظية بل لخصوص المورد.

قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين﴾ الصدق بحسب الأصل مطابقة القول والخبر للخارج، ويوصف به الإنسان إذا طابق خبره الخارج ثم لما عد كل من الاعتقاد والعزم - الإرادة - قولا توسع في معنى الصدق فعد الإنسان صادقا إذا طابق خبره الخارج وصادقا إذا عمل بما اعتقده وصادقا إذا أتى بما يريده ويعزم عليه على الجد.

وما في الآية من إطلاق الأمر بالتقوى وإطلاق الصادقين وإطلاق الأمر بالكون معهم - والمعية هي المصاحبة في العمل وهو الاتباع - يدل على أن المراد بالصدق هو معناه الوسيع العام دون الخاص.

فالآية تأمر المؤمنين بالتقوى واتباع الصادقين في أقوالهم وأفعالهم وهو غير الأمر بالاتصاف بصفتهم فإنه الكون منهم لا الكون معهم وهو ظاهر.

قوله تعالى: ﴿ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب﴾ إلى آخر الآيتين الرغبة ميل خاص نفساني والرغبة في الشيء الميل إليه لطلب منفعة فيه، والرغبة عن الشيء الميل عنه بتركه والباء للسببية فقوله: ﴿ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه﴾ معناه وليس لهم أن يشتغلوا بأنفسهم عن نفسه فيتركوه عند مخاطر المغازي وفي تعب الأسفار ودعثائها ويقعدوا للتمتع من لذائذ الحياة، والظمأ العطش، والنصب التعب والمخمصة المجاعة، والغيظ أشد الغضب، والموطأ الأرض التي توطأ بالأقدام.

والآية تسلب حق التخلف عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من أهل المدينة والأعراب الذين حولها ثم تذكر أن الله قابل هذا السلب منهم بأنه يكتب لهم في كل مصيبة تصيبهم في الجهاد من جوع وعطش وتعب وفي كل أرض يطئونها فيغيطون به الكفار أو نيل نالوه منهم عملا صالحا فإنهم محسنون والله لا يضيع أجر المحسنين، وهذا معنى قوله: ﴿ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ﴾ إلخ.

ثم ذكر أن نفقاتهم صغيرة يسيرة كانت أو كبيرة خطيرة وكذا كل واد قطعوه فإنه مكتوب لهم محفوظ لأجلهم ليجزوا به أحسن الجزاء.

وقوله: ﴿ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون﴾ غاية متعلقه بقوله: ﴿كتب لهم﴾ أي غاية هذه الكتابة هي أن يجزيهم بأحسن أعمالهم، وإنما خص جزاء أحسن الأعمال بالذكر لأن رغبة العامل عاكفة عليه، أو لأن الجزاء بأحسنها يستلزم الجزاء بغيره، أو لأن المراد بأحسن الأعمال الجهاد في سبيل الله لكونه أشقها وقيام الدعوة الدينية به.

وهاهنا معنى آخر وهو أن جزاء العمل في الحقيقة إنما هو نفس العمل عائدا إلى الله فأحسن الجزاء هو أحسن العمل فالجزاء بأحسن الأعمال في معنى الجزاء بأحسن الجزاء ومعنى آخر وهو أن يغفر الله سبحانه سيئاتهم المشوبة بأعمالهم الحسنة ويستر جهات نقصها فيكون العمل أحسن بعد ما كان حسنا ثم يجزيهم بأحسن ما كانوا يعملون فافهم ذلك وربما رجع المعنيان إلى معنى واحد.

قوله تعالى: ﴿وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين﴾ السياق يدل على أن المراد بقوله: ﴿لينفروا كافة﴾ لينفروا وليخرجوا إلى الجهاد جميعا، وقوله: ﴿فرقة منهم﴾ الضمير للمؤمنين الذين ليس لهم أن ينفروا كافة، ولازمه أن يكون النفر إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) منهم.

فالآية تنهى مؤمني سائر البلاد غير مدينة الرسول أن ينفروا إلى الجهاد كافة بل يحضضهم أن ينفر طائفة منهم إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للتفقه في الدين وينفر إلى الجهاد غيرهم.

والأنسب بهذا المعنى أن يكون الضمير في قوله ﴿رجعوا﴾ للطائفة المتفقهين، وفي قوله: ﴿إليهم﴾ لقومهم والمراد إذا رجع هؤلاء المتفقهون إلى قومهم، ويمكن العكس بأن يكون المعنى: إذا رجع قومهم من الجهاد إلى هؤلاء الطائفة بعد تفقههم ورجوعهم إلى أوطانهم.

ومعنى الآية لا يجوز لمؤمني البلاد أن يخرجوا إلى الجهاد جميعا فهلا نفر وخرج إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) طائفة من كل فرقة من فرق المؤمنين ليتحققوا الفقه والفهم في الدين فيعملوا به لأنفسهم ولينذروا بنشر معارف الدين وذكر آثار المخالفة لأصوله وفروعه قومهم إذا رجعت هذه الطائفة إليهم لعلهم يحذرون ويتقون.

ومن هنا يظهر أولا: أن المراد بالتفقه تفهم جميع المعارف الدينية من أصول وفروع لا خصوص الأحكام العملية وهو الفقه المصطلح عليه عند المتشرعة، والدليل عليه قوله: ﴿لينذروا قومهم﴾ فإن ذلك أمر إنما يتم بالتفقه في جميع الدين وهو ظاهر.

وثانيا: أن النفر إلى الجهاد موضوع عن طلبة العلم الديني بدلالة من الآية.

وثالثا: أن سائر المعاني المحتملة التي ذكروها في الآية بعيدة عن السياق كقول بعضهم: إن المراد بقوله: ﴿لينفروا كافة﴾ نفرهم إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للتفقه، وقول بعضهم في ﴿فلو لا نفر﴾ أي إلى الجهاد، والمراد بقوله: ﴿ليتفقهوا﴾ أي الباقون المتخلفون فينذروا قومهم النافرين إلى الجهاد إذا رجعوا إلى أولئك المتخلفين.

فهذه ونظائرها معان بعيدة لا جدوى في التعرض لها والإطناب في البحث عنها.

قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين﴾ أمر بالجهاد العام الذي فيه توسع الإسلام حتى يشيع في الدنيا فإن قتال كل طائفة من المؤمنين من يليهم من الكفار لا ينتهي إلا باتساع الإسلام اتساعا باستقرار سلطنته على الدنيا وإحاطته بالناس جميعا.

والمراد بقوله: ﴿وليجدوا فيكم غلظة﴾ أي الشدة في ذات الله وليس يعني بها الخشونة والفظاظة وسوء الخلق والقساوة والجفاء فجميع الأصول الدينية تذم ذلك وتستقبحه، ولحن آيات الجهاد ينهى عن كل تعد واعتداء وجفاء كما مر في سورة البقرة.

وفي قوله: ﴿واعلموا أن الله مع المتقين﴾ وعد إلهي بالنصر بشرط التقوى، ويئول معناه إلى إرشادهم إلى أن يكونوا دائما مراقبين لأنفسهم ذاكرين مقام ربهم منهم، وهو أنه معهم ومولاهم فهم الأعلون إن كانوا يتقون.

بحث روائي:

في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال: نزلت هذه الآية على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو في المسجد: ﴿إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم﴾ الآية فكبر الناس في المسجد فأقبل رجل من الأنصار ثانيا طرفي ردائه على عاتقه فقال: يا رسول الله أ نزلت هذه الآية؟ قال: نعم. فقال الأنصاري: بيع ربيح لا نقيل ولا نستقيل. وفي الكافي، بإسناده عن سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لقي عباد البصري علي بن الحسين (عليهما السلام) في طريق مكة فقال له: يا علي بن الحسين تركت الجهاد وصعوبته وأقبلت على الحج ولينته إن الله يقول: ﴿إن الله اشترى﴾ إلخ، فقال علي بن الحسين (عليهما السلام) إذا رأينا هؤلاء الذين هذه صفتهم فالجهاد معهم أفضل من الحج.

أقول: يريد (عليه السلام) ما في الآية الثانية: ﴿التائبون العابدون﴾ الآية من الأوصاف.

وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: سياحة أمتي في المساجد.

أقول: وروي عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أن السائحين هم الصائمون. وعن أبي أمامة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله، وقد تقدم الكلام فيه.

وفي المجمع، ﴿التائبين العابدين﴾ إلى آخرها بالياء عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليه السلام).

وفي الدر المنثور، في قوله: ﴿ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين﴾ أخرج ابن أبي شيبة وأحمد والبخاري ومسلم والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أي عم قل لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الله فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب أ ترغب عن ملة عبد المطلب؟ وجعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يعرضها عليه وأبو جهل وعبد الله يعانوانه بتلك المقالة فقال أبو طالب آخر ما كلمهم هو: على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله. فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): لأستغفرن لك ما لم أنه عنك فنزلت: ﴿ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين﴾ الآية، وأنزل الله في أبي طالب فقال لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ﴿إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء﴾.

أقول: وفي معناه روايات أخرى من طرق أهل السنة، وفي بعضها أن المسلمين لما رأوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يستغفر لعمه وهو مشرك استغفروا لآبائهم المشركين فنزلت الآية، وقد اتفقت الرواية عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أنه كان مسلما غير متظاهر بإسلامه ليتمكن بذلك من حماية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وفيما روي بالنقل الصحيح من أشعاره شيء كثير يدل على توحيده وتصديقه النبوة، وقد قدمنا نبذة منها.

وفي الكافي، بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر قال: الأواه الدعاء. وفي المجمع،: في قوله تعالى: ﴿وما كان الله ليضل قوما﴾ الآية قيل: مات قوم من المسلمين على الإسلام قبل أن تنزل الفرائض فقال المسلمون: يا رسول الله إخواننا المسلمون ماتوا قبل الفرائض ما منزلتهم؟ فنزل: ﴿وما كان الله ليضل قوما﴾ الآية: عن الحسن. وفي الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس: في الآية قال: نزلت حين أخذوا الفداء من المشركين يوم الأسارى قال: لم يكن لكم أن تأخذوه حتى يؤذن لكم ولكن ما كان الله ليعذب قوما بذنب أذنبوه حتى يبين لهم ما يتقون.

قال: حتى ينهاهم قبل ذلك.

أقول: ظاهر الروايتين أنهما من التطبيق دون النزول بمعناه المصطلح عليه، واتصال الآية بالآيتين قبلها ودخولها في سياقهما ظاهر، وقد تقدم توضيحه.

وفي الكافي، بإسناده عن حمزة بن محمد الطيار عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله: ﴿وما كان الله ليضل قوما - بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون﴾ قال: يعرفهم ما يرضيه وما يسخطه.

أقول: ورواه أيضا عن عبد الأعلى عنه (عليه السلام)، ورواه البرقي أيضا في المحاسن.

وفي تفسير القمي: ﴿لقد تاب الله بالنبي على المهاجرين والأنصار - الذين اتبعوه في ساعة العسرة﴾ قال الصادق (عليه السلام): هكذا نزلت وهم أبو ذر وأبو خيثمة وعمير بن وهب الذين تخلفوا ثم لحقوا برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

أقول: وقد استخرجناه من حديث طويل أورده القمي في تفسيره في قوله تعالى: ﴿ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة﴾ الآية: 46 من السورة، وروى قراءة ﴿بالنبي﴾ في المجمع، عنه وعن الرضا (عليه السلام).

وفي المجمع، في قوله: ﴿وعلى الثلاثة الذين خلفوا﴾ وقرأ علي بن الحسين زين العابدين ومحمد بن علي الباقر وجعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) وأبو عبد الرحمن السلمي. خالفوا. وفيه، في قوله: ﴿لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار﴾ الآية نزلت في غزاة تبوك وما لحق المسلمين فيها من العسرة حتى هم قوم بالرجوع ثم تداركهم لطف الله سبحانه قال الحسن: كان العشرة من المسلمين يخرجون على بعير يعتقبونه بينهم يركب الرجل ساعة ثم ينزل فيركب صاحبه كذلك، وكان زادهم الشعير المسوس والتمر المدود والإهالة السنخة وكان النفر منهم يخرجون ما معهم من التميرات بينهم فإذا بلغ الجوع من أحدهم أخذ التمرة فلاكها حتى يجد طعمها ثم يعطيها صاحبه فيمصها ثم يشرب عليها جرعة من ماء كذلك حتى يأتي على آخرهم فلا يبقى من التمرة إلا النواة. وفيه،: في قوله: ﴿وعلى الثلاثة الذين خلفوا﴾ الآية نزلت في شأن كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية، وذلك أنهم تخلفوا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يخرجوا معه لا عن نفاق ولكن عن توان ثم ندموا فلما قدم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المدينة جاءوا إليه واعتذروا فلم يكلمهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتقدم إلى المسلمين بأن لا يكلمهم أحد منهم فهجرهم الناس حتى الصبيان، وجاءت نساؤهم إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقلن له: يا رسول الله نعتزلهم؟ فقال: ولكن لا يقربوكن. فضاقت عليهم المدينة فخرجوا إلى رءوس الجبال، وكان أهاليهم يجيئون لهم بالطعام ولا يكلمونهم فقال بعضهم لبعض: قد هجرنا الناس ولا يكلمنا أحد منهم فهلا نتهاجر نحن أيضا؟ فتفرقوا ولم يجتمع منهم اثنان، وبقوا على ذلك خمسين يوما يتضرعون إلى الله تعالى ويتوبون إليه، فقبل الله تعالى توبتهم وأنزل فيهم هذه الآية.

أقول: وقد تقدمت القصة في حديث طويل نقلناه من تفسير القمي في الآية 46 من السورة، ورويت القصة بطرق كثيرة.

وفي تفسير البرهان، عن ابن شهرآشوب من تفسير أبي يوسف بن يعقوب بن سفيان حدثنا مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر قال: ﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله﴾ قال: أمر الله الصحابة أن يخافوا الله. ثم قال: ﴿وكونوا مع الصادقين﴾ يعني مع محمد وأهل بيته (عليهم السلام).

أقول: وفي هذا المعنى روايات كثيرة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وقد روي في الدر المنثور، عن ابن مردويه عن ابن عباس، وأيضا عن ابن عساكر عن أبي جعفر: في قوله: ﴿وكونوا مع الصادقين﴾ قالا: مع علي بن أبي طالب.

وفي الكافي، بإسناده عن يعقوب بن شعيب قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) إذا حدث على الإمام حدث كيف يصنع الناس؟ قال: أين قول الله عز وجل: ﴿فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين - ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون﴾ قال: هم في عذر ما داموا في الطلب، وهؤلاء الذين ينتظرونهم في عذر حتى يرجع إليهم أصحابهم.

أقول: وفي هذا المعنى روايات كثيرة عن الأئمة (عليهم السلام)، وهو مما يدل على أن المراد بالتفقه في الآية أعم من تعلم الفقه بالمعنى المصطلح عليه اليوم.

واعلم أن هناك أقوالا أخرى في أسباب نزول بعض الآيات السابقة تركناها لظهور ضعفها ووهنها.