الآيات 97 - 106

الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿97﴾ وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴿98﴾ وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿99﴾ وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴿100﴾ وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ ﴿101﴾ وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿102﴾ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴿103﴾ أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴿104﴾ وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿105﴾ وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿106﴾

بيان:

الكلام جار على الغرض السابق يبين به حال الأعراب في كفرهم ونفاقهم وإيمانهم وفي خلال الآيات آية الصدقة.

قوله تعالى: ﴿الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله﴾ الآية، قال الراغب في المفردات،: العرب ولد إسماعيل، والأعراب جمعه في الأصل، وصار ذلك اسما لسكان البادية: ﴿قالت الأعراب آمنا﴾ والأعراب أشد كفرا ونفاقا.

﴿ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر﴾ وقيل في جمع الأعراب: أعاريب، قال الشاعر: أعاريب ذوو فخر بإفك.

وألسنة لطاف في المقال.

والأعرابي في التعارف صار اسما للمنسوب إلى سكان البادية، والعربي المفصح والإعراب البيان، انتهى موضع الحاجة.

يبين تعالى حال سكان البادية وأنهم أشد كفرا ونفاقا لأنهم لبعدهم عن المدنية والحضارة، وحرمانهم من بركات الإنسانية من العلم والأدب أقسى وأجفى، فهم أجدر وأحرى أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله من المعارف الأصلية والأحكام الشرعية من فرائض وسنن وحلال وحرام.

قوله تعالى: ﴿ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر﴾ الآية، قال في المجمع، المغرم الغرم وهو نزول نائبة بالمال من غير خيانة، وأصله لزوم الأمر، ومنه قوله: ﴿إن عذابها كان غراما﴾ وحب غرام أي لازم والغريم يقال لكل واحد من المتداينين للزوم أحدهما الآخر وغرمته كذا أي ألزمته إياه في ماله، انتهى.

والدائرة الحادثة وتغلب في الحوادث السوء كأن الحوادث السوء تدور بين الناس فتنزل كل يوم بقوم فتربص الدوائر بالمؤمنين انتظار نزول الحوادث السوء عليهم للتخلص من سلطتهم والرجوع إلى رسوم الشرك والضلال.

وقوله: ﴿يتخذ ما ينفق مغرما﴾ أي يفرض الإنفاق غرما أو المال الذي ينفقه مغرما - على أن يكون ما مصدرية أو موصولة - والمراد الإنفاق في الجهاد أو أي سبيل من سبل الخير على ما قيل، ويمكن أن يكون المراد الإنفاق في خصوص الصدقات ليكون الكلام كالتوطئة لما سيجيء بعد عدة آيات من حكم أخذ الصدقة من أموالهم، ويؤيده ما في الآية التالية من قوله: ﴿ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول﴾ فإنه كالتوطئة لقوله في آية الصدقة: ﴿وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم﴾.

فمعنى الآية: ومن سكان البادية من يفرض الإنفاق في سبيل الخير أو في خصوص الصدقات غرما وخسارة وينتظر نزول الحوادث السيئة بكم، عليهم دائرة السوء - قضاء منه تعالى أو دعاء عليهم - والله سميع للأقوال عليم بالقلوب.

قوله تعالى: ﴿ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول﴾ إلخ، الظاهر أن قوله: ﴿صلوات الرسول﴾ عطف على قوله: ﴿ما ينفق﴾ وأن الضمير في قوله: ﴿إلا أنها قربة﴾ عائد إلى ما ينفق وصلوات الرسول.

ومعنى الآية: ومن الأعراب من يؤمن بالله فيوحده من غير شرك ويؤمن باليوم الآخر فيصدق الحساب والجزاء ويتخذ إنفاق المال لله وما يتبعه من صلوات الرسول ودعواته بالخير والبركة، كل ذلك قربات عند الله وتقربات منه إليه إلا أن هذا الإنفاق وصلوات الرسول قربة لهم، والله يعدهم بأنه سيدخلهم في رحمته لأنه غفور للذنوب رحيم بالمؤمنين به والمطيعين له.

قوله تعالى: ﴿والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان﴾ إلخ القراءة المشهورة ﴿والأنصار﴾ بالكسر عطفا على ﴿المهاجرين﴾ والتقدير: السابقون الأولون من المهاجرين والسابقون الأولون من الأنصار والذين اتبعوهم بإحسان وقرأ يعقوب: والأنصار بالرفع فالمراد به جميع الأنصار دون السابقين الأولين منهم فحسب.

وقد اختلفت الكلمة في المراد بالسابقين الأولين فقيل: المراد بهم من صلى إلى القبلتين، وقيل: من بايع بيعة الرضوان وهي بيعة الحديبية، وقيل: هم أهل بدر خاصة، وقيل: هم الذين أسلموا قبل الهجرة، وهذه جميعا وجوه لم يوردوا لها دليلا من جهة اللفظ.

والذي يمكن أن يؤيده لفظ الآية بعض التأييد هو أن بيان الموضوع - السابقون الأولون - بالوصف بعد الوصف من غير ذكر أعيان القوم وأشخاصهم يشعر بأن الهجرة والنصرة هما الجهتان اللتان روعي فيهما السبق والأولية.

ثم الذي عطف عليهم من قوله: ﴿والذين اتبعوهم بإحسان﴾ يذكر قوما ينعتهم بالاتباع ويقيده بأن يكون بإحسان والذي يناسب وصف الاتباع أن يترتب عليه هو وصف السبق دون الأولية فلا يقال: أول وتابع وإنما يقال: سابق وتابع، وتصديق ذلك قوله تعالى: ﴿للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم﴾ إلى أن قال: ﴿والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم﴾ إلى أن قال: ﴿والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان﴾ الحشر: 10.

فالمراد بالسابقين هم السابقون إلى الإيمان من بين المسلمين من لدن طلوع الإسلام إلى يوم القيامة.

ولكون السبق ويقابله اللحوق والاتباع من الأمور النسبية، ولازمه كون مسلمي كل عصر سابقين في الإيمان بالقياس إلى مسلمي ما بعد عصرهم كما أنهم لاحقون بالنسبة إلى من قبلهم قيد ﴿السابقون﴾ بقوله: ﴿الأولون﴾ ليدل على كون المراد بالسابقين هم الطبقة الأولى منهم.

وإذ ذكر الله سبحانه ثالث الأصناف الثلاثة بقوله: ﴿والذين اتبعوهم بإحسان﴾ ولم يقيده بتابعي عصر دون عصر ولا وصفهم بتقدم وأولية ونحوهما وكان شاملا لجميع من يتبع السابقين الأولين كان لازم ذلك أن يصنف المؤمنون غير المنافقين من يوم البعثة إلى يوم البعث في الآية ثلاثة أصناف: السابقون الأولون من المهاجرين، والسابقون الأولون من الأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، والصنفان الأولان فاقدان لوصف التبعية وإنما هما إمامان متبوعان لغيرهما والصنف الثالث ليس متبوعا إلا بالقياس.

وهذا نعم الشاهد على أن المراد بالسابقين الأولين هم الذين أسسوا أساس الدين ورفعوا قواعده قبل أن يشيد بنيانه ويهتز راياته صنف منهم بالإيمان واللحوق بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والصبر على الفتنة والتعذيب، والخروج من ديارهم وأموالهم بالهجرة إلى الحبشة والمدينة، وصنف بالإيمان ونصرة الرسول وإيوائه وإيواء من هاجر إليهم من المؤمنين والدفاع عن الدين قبل وقوع الوقائع.

وهذا ينطبق على من آمن بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل الهجرة ثم هاجر قبل وقعة بدر التي منها ابتدأ ظهور الإسلام على الكفر أو آمن بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وآواه وتهيأ لنصرته عند ما هاجر إلى المدينة.

ثم إن قوله: ﴿والذين اتبعوهم بإحسان﴾ قيد فيه اتباعهم بإحسان ولم يرد الاتباع في الإحسان بأن يكون المتبوعون محسنين ثم يتبعهم التابعون في إحسانهم ويقتدوا بهم فيه - على أن يكون الباء بمعنى في - ولم يرد الاتباع بواسطة الإحسان - على أن يكون الباء للسببية أو الآلية - بل جيء بالإحسان منكرا، والأنسب له كون الباء بمعنى المصاحبة فالمراد أن يكون الاتباع مقارنا لنوع ما من الإحسان مصاحبا له، وبعبارة أخرى يكون الإحسان وصفا للاتباع.

وإنا نجده تعالى في كتابه لا يذم من الاتباع إلا ما كان عن جهل وهوى كاتباع المشركين آباءهم، واتباع أهل الكتاب أحبارهم ورهبانهم وأسلافهم عن هوى واتباع الهوى واتباع الشيطان فمن اتبع شيئا من هؤلاء فقد أساء في الاتباع ومن اتبع الحق لا لهوى متعلق بالأشخاص وغيرهم فقد أحسن في الاتباع، قال تعالى: ﴿الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله﴾ الزمر: 18 ومن الإحسان في الاتباع كمال مطابقة عمل التابع لعمل المتبوع ويقابله الإساءة فيه.

فالظاهر أن المراد بالذين اتبعوهم بإحسان أن يتبعوهم بنوع من الإحسان في الاتباع وهو أن يكون الاتباع بالحق - وهو اتباعهم لكون الحق معهم - ويرجع إلى اتباع الحق بالحقيقة بخلاف اتباعهم لهوى فيهم أو في اتباعهم، وكذا مراقبة التطابق.

هذا ما يظهر من معنى الاتباع بإحسان، وأما ما ذكروه من أن المراد كون الاتباع مقارنا لإحسان في المتبع عملا بأن يأتي بالأعمال الصالحة والأفعال الحسنة فهو لا يلائم كل الملاءمة التنكير الدال على النوع في الإحسان، وعلى تقدير التسليم لا مفر فيه من التقييد بما ذكرنا فإن الاتباع للحق وفي الحق يستلزم الإتيان بالأعمال الحسنة الصالحة دون العكس وهو ظاهر.

فقد تلخص أن الآية تقسم المؤمنين من الأمة إلى ثلاثة أصناف: صنفان هما السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، والصنف الثالث هم الذين اتبعوهم بإحسان.

وظهر مما تقدم أولا: أن الآية تمدح الصنفين الأولين، بالسبق إلى الإيمان والتقدم في إقامة صلب الدين ورفع قاعدته، وتفضيلهم على غيرهم على ما يفيده السياق.

وثانيا: أن ﴿من﴾ في قوله: ﴿من المهاجرين والأنصار﴾ تبعيضية لا بيانية لما تقدم من وجه فضلهم، ولما أن الآية تذكر أن الله رضي عنهم ورضوا عنه، والقرآن نفسه يذكر أن منهم من في قلبه مرض ومنهم سماعون للمنافقين، ومنهم من يسميه فاسقا، ومنهم من تبرأ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من عمله ولا معنى لرضى الله عنهم، والله لا يرضى عن القوم الفاسقين.

وثالثا: أن الحكم بالفضل ورضى الله سبحانه في الآية مقيد بالإيمان والعمل الصالح على ما يعطيه السياق فإن الآية تمدح المؤمنين في سياق تذم فيه المنافقين بكفرهم وسيئات أعمالهم ويدل على ذلك سائر المواضع التي مدحهم الله فيها أو ذكرهم بخير ووعدهم وعدا جميلا فقد قيد جميع ذلك بالإيمان والعمل الصالح كقوله تعالى: ﴿للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله﴾ إلى آخر الآيات الثلاث: الحشر: 8.

وقوله فيما حكاه من دعاء الملائكة لهم: ﴿ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم﴾ المؤمنون: 8.

وقوله: ﴿محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم - إلى أن قال - وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما﴾ الفتح: 29.

وقوله: ﴿والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرىء بما كسب رهين﴾ الطور: 21 انظر إلى موضع قوله: ﴿بإيمان﴾ وقوله: كل امرىء إلخ.

ولو كان الحكم في الآية غير مقيد بقيد الإيمان والعمل الصالح وكانوا مرضيين عند الله مغفورا لهم أحسنوا أو أساءوا واتقوا أو فسقوا كان ذلك تكذيبا صريحا لقوله تعالى: ﴿فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين﴾ التوبة: 96، وقوله: ﴿والله لا يهدي القوم الفاسقين﴾ التوبة: 80، وقوله: ﴿والله لا يحب الظالمين﴾ آل عمران: 57 إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الدالة مطابقة أو التزاما أن الله لا يرضى عن الظالم والفاسق وكل من لا يطيعه في أمر أو نهي، وليست الآيات مما يقبل التقييد أو النسخ وكذا أمثال قوله تعالى خطابا للمؤمنين: ﴿ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوء يجز به﴾ النساء: 123.

على أن لازم عدم تقييد الحكم في هذه الآية تقييد جميع الآيات الدالة على الجزاء والمشتملة على الوعيد والتهديد، وهي آيات جمة في تقييدها اختلال نظام الوعد والوعيد وإلغاء معظم الأحكام والشرائع، وبطلان الحكمة، ولا فرق في ذلك بين أن نقول بكون ﴿من﴾ تبعيضية والفضل لبعض المهاجرين والأنصار أو بيانية والفضل للجميع والرضى الإلهي للكل، وهو ظاهر.

وقوله تعالى: ﴿رضي الله عنهم ورضوا عنه﴾ الرضى منا موافقة النفس لفعل من الأفعال من غير تضاد وتدافع يقال: رضي بكذا أي وافقه ولم يمتنع منه، ويتحقق بعدم كراهته إياه سواء أحبه أو لم يحبه ولم يكرهه فرضى العبد عن الله هو أن لا يكره بعض ما يريده الله ولا يحب بعض ما يبغضه ولا يتحقق إلا إذا رضي بقضائه تعالى وما يظهر من أفعاله التكوينية، وكذا بحكمه وما أراده منه تشريعا، وبعبارة أخرى إذا سلم له في التكوين والتشريع وهو الإسلام والتسليم لله سبحانه.

وهذا بعينه شاهد آخر على ما تقدم أن الحكم في الآية مقيد بالإيمان والعمل الصالح بمعنى أن الله سبحانه إنما يمدح من المهاجرين والأنصار والتابعين من آمن به وعمل صالحا، ويخبر عن رضاه عنه وإعداده له جنات تجري تحتها الأنهار.

وليس مدلول الآية أن من صدق عليه أنه مهاجر أو أنصاري أو تابع فإن الله قد رضي عنه رضا لا سخط بعده أبدا وأوجب في حقه المغفرة والجنة سواء أحسن بعد ذلك أو أساء، اتقى أو فسق.

وأما رضاه تعالى فإنما هو من أوصافه الفعلية دون الذاتية فإنه تعالى لا يوصف لذاته بما يصير معه معرضا للتغيير والتبدل كأن يعرضه حال السخط إذا عصاه ثم الرضى إذا تاب إليه، وإنما يرضى ويسخط بمعنى أنه يعامل عبده معاملة الراضي من إنزال الرحمة وإيتاء النعمة أو معاملة الساخط من منع الرحمة وتسليط النقمة والعقوبة.

ولذلك كان من الممكن أن يحدث له الرضى ثم يتبدل إلى السخط أو بالعكس غير أن الظاهر من سياق الآية أن المراد بالرضى هو الرضى الذي لا سخط بعده فإنه حكم محمول على طبيعة أخيار الأمة من سابقيهم وتابعيهم في الإيمان والعمل الصالح، وهذا أمر لا مداخلة للزمان فيه حتى يصح فرض سخط بعد رضى وهو بخلاف قوله تعالى: ﴿لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة﴾ الفتح: 18 فإنه رضى مقيد بزمان خاص يصلح لنفسه لأن يفرض بعده سخط.

قوله تعالى: ﴿وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة﴾ الآية حول الشيء ما يجاوره من المكان من أطرافه وهو ظرف، والمرد العتو والخروج عن الطاعة، والممارسة والتمرين على الشر وهو المعنى المناسب لقوله في الآية: ﴿مردوا على النفاق﴾ أي مرنوا عليه ومارسوا حتى اعتادوه.

ومعنى الآية: وممن في حولكم أو حول المدينة من الأعراب الساكنين في البوادي منافقون مرنوا على النفاق ومن أهل المدينة أيضا منافقون معتادون على النفاق لا تعلمهم أنت يا محمد نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم.

وقد اختلفت كلماتهم في المراد من تعذيبهم مرتين ما هما المرتان؟ فقيل: يعني مرة في الدنيا بالسبي والقتل ونحوهما ومرة بعذاب القبر، وقيل: في الدنيا بأخذ الزكاة وفي الآخرة بعذاب القبر، وقيل بالجوع مرتين وقيل مرة عند الاحتضار ومرة في القبر وقيل: بإقامة الحدود وعذاب القبر، وقيل: مرة بالفضيحة في الدنيا ومرة بالعذاب في القبر، وقيل غير ذلك، ولا دليل على شيء من هذه الأقوال، وإن كان ولا بد فأولها أولاها.

قوله تعالى: ﴿وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا﴾ الآية، أي ومن الأعراب جماعة آخرون مذنبون لا ينافقون مثل غيرهم بل اعترفوا بذنوبهم لهم عمل صالح وعمل آخر سيىء خلطوا هذا بذلك من المرجو أن يتوب الله عليهم إن الله غفور رحيم.

وفي قوله: ﴿عسى الله أن يتوب عليهم﴾ إيجاد الرجاء في نفوسهم لتكون نفوسهم واقعة بين الخوف والرجاء من غير أن يحيط بها اليأس والقنوط، وفي قوله: ﴿إن الله غفور رحيم﴾ ترجيح جانب الرجاء.

قوله تعالى: ﴿خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم﴾ التطهير إزالة الأوساخ والقذارات من الشيء ليصفى وجوده ويستعد للنشوء والنماء وظهور آثاره وبركاته، والتزكية إنماؤه وإعطاء الرشد له بلحوق الخيرات وظهور البركات كالشجر يقطع الزوائد من فروعها فتزيد في حسن نموها وجودة ثمرتها فالجمع بين التطهير والتزكية في الآية من لطيف التعبير.

فقوله: ﴿خذ من أموالهم صدقة﴾ أمر للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأخذ الصدقة من أموال الناس ولم يقل: من مالهم ليكون إشارة إلى أنها مأخوذة من أصناف المال، وهي النقدان: الذهب والفضة، والأنعام الثلاثة: الإبل والبقر والغنم، والغلات الأربع: الحنطة والشعير والتمر والزبيب.

وقوله: ﴿تطهرهم وتزكيهم بها﴾ خطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وليس وصفا لحال الصدقة، والدليل عليه ضمير بها الراجع إلى الصدقة أي خذ يا محمد من أصناف أموالهم صدقة تطهرهم أنت وتزكيهم بتلك الصدقة أي أخذها.

وقوله: ﴿وصل عليهم﴾ الصلاة عليهم هي الدعاء لهم والسياق يفيد أنه دعاء لهم ولأموالهم بالخير والبركة وهو المحفوظ من سنة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فكان يدعو لمعطي الزكاة ولماله بالخير والبركة.

وقوله: ﴿إن صلاتك سكن لهم﴾ السكن ما يسكن إليه الشيء والمراد به أن نفوسهم تسكن إلى دعائك وتثق به وهو نوع شكر لسعيهم في الله كما أن قوله تعالى في ذيل الآية: ﴿والله سميع عليم﴾ سكن يسكن إليه نفوس المكلفين ممن يسمع الآية أو يتلوها.

والآية تتضمن حكم الزكاة المالية التي هي من أركان الشريعة والملة على ما هو ظاهر الآية في نفسها، وقد فسرتها بذلك أخبار متكاثرة من طرق أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وغيرهم.

قوله تعالى: ﴿ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وإن الله هو التواب الرحيم﴾ استفهام إنكاري بداعي تشويق الناس إلى إيتاء الزكاة، وذلك أنهم إنما يؤتون الصدقة لله وإنما يسلمونها إلى الرسول أو إلى عامله وجابيه بما أنه مأمور من قبل الله في أخذها فإيتاؤه إيتاء لله، وأخذه أخذ من الله فالله سبحانه هو الأخذ لها بالحقيقة، وقد قال تعالى في أمثاله: ﴿إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم﴾ الفتح: 10 وقال: ﴿وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى﴾ الأنفال: 13 وقال قولا عاما: ﴿من يطع الرسول فقد أطاع الله﴾ النساء: 80.

فإذا ذكر الناس بمثل قوله: ﴿ألم يعلموا أن الله﴾ الآية، انبعثت رغباتهم واشتاقوا أن يعاملوا ربهم فيصافحوه ويمسوا بأيديهم يده تنزه عن عوارض الأجسام وتعالى عن ملابسة الحدثان.

ومقارنته الصدقة بالتوبة لما أن التوبة تطهر وإيتاء الصدقة تطهر فالتصدق بصدقة توبة مالية كما أن التوبة بمنزلة الصدقة في الأعمال والحركات، ولذلك عطف على صدر الآية قوله ذيلا: ﴿وإن الله هو التواب الرحيم﴾ فذكر عباده باسميه التواب والرحيم، وجمع فيهما التوبة والتصدق.

وقد بان من الآية أن التصدق وإيتاء الزكاة نوع من التوبة.

قوله تعالى: ﴿وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون﴾ الآية، الآية على ظاهر اتصالها بما قبلها كأنها تخاطب المؤمنين وتسوقهم وتحرضهم إلى إيتاء الصدقات.

غير أن لفظها مطلق لا دليل على تخصيص خطابها بالمتصدقين من المؤمنين ولا بعامة المؤمنين بل هي تشمل كل ذي عمل من الناس من الكفار والمنافقين والمؤمنين ولا أقل من شمولها للمنافقين والمؤمنين جميعا.

إلا أن نظير الآية الذي مر أعني قوله في سياق الكلام على المنافقين: ﴿وسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون﴾ التوبة: 94 حيث ذكر الله ورسوله في رؤية عملهم ولم يذكر المؤمنين لا يخلو من إيماء إلى أن الخطاب في الآية التي نحن فيها للمؤمنين خاصة فإن ضم إحدى الآيتين إلى الأخرى يخطر بالبال أن حقيقة أعمال المنافقين أعني مقاصدهم من أعمالهم لما كانت خفية على ملإ الناس فإنما يعلم بها الله ورسوله بوحي من الله تعالى، وأما المؤمنون فحقائق أعمالهم أعني مقاصدهم منها وآثارها وفوائدها التي تتفرع عليها وهي شيوع التقوى وإصلاح شئون المجتمع الإسلامي وإمداد الفقراء في معايشهم وزكاة الأموال ونماؤها يعلمها الله تعالى ورسوله ويشاهدها المؤمنون فيما بينهم.

لكن ظهور الأعمال بحقائق آثارها وعامة فوائدها أو مضراتها في محيط كينونتها وتبدلها بأمثالها وتصورها في أطوارها زمانا بعد زمان وعصرا بعد عصر مما لا يختص بعمل قوم دون عمل قوم، ولا مشاهدتها والتأثر بها بقوم دون قوم.

فلو كان المراد من رؤية المؤمنين أعمالا لعاملين ظهور آثارها ونتائجها وبعبارة أخرى ظهور أنفسها في ألبسة نتائجها لهم لم يختص المشاهدة بقوم دون قوم ولا بعمل قوم دون عمل قوم فما بال الأعمال يراها المؤمنون ولا يراها المنافقون وهم أهل مجتمع واحد؟ وما بال أعمال المنافقين لا يشاهدها المؤمنون وقد كونت في مجتمعهم وداخلت أعمالهم؟.

وهذا مع ما في الآية من خصوص السياق مما يقرب الذهن أن يفهم من الآية معنى آخر فإنه قوله: ﴿وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون﴾ يدل أولا على أن قوله: ﴿فسيرى الله عملكم﴾ الآية ناظر إلى ما قبل البعث وهي الدنيا لمكان قوله: ﴿وستردون﴾ فإنه يشير إلى يوم البعث وما قبله هو الدنيا.

وثانيا: أنهم إنما يوقفون على حقيقة أعمالهم يوم البعث وأما قبل ذلك فإنما يرون ظاهرها، وقد نبهنا على هذا المعنى كرارا في أبحاثنا السابقة، وإذ قصر علمهم بحقائق أعمالهم على إنبائه تعالى إياهم بها يوم القيامة وذكر رؤية الله ورسوله والمؤمنين أعمالهم قبل يوم البعث في الدنيا وقد ذكر الله مع رسوله وغيره وهو عالم بحقائقها وله أن يوحي إلى نبيه بها كان المراد بها مشاهدة الله سبحانه ورسوله والمؤمنون حقيقة أعمالهم، وكان المراد بالمؤمنين شهداء الأعمال منهم لا عامة المؤمنين كما يدل عليه أمثال قوله تعالى ﴿وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا﴾ البقرة: 143 وقد مر الكلام فيه في الجزء الأول من الكتاب.

وعلى هذا فمعنى الآية: وقل يا محمد اعملوا ما شئتم من عمل خيرا أو شرا فسيشاهد الله سبحانه حقيقة عملكم ويشاهدها رسوله والمؤمنون - وهم شهداء الأعمال - ثم تردون إلى الله عالم الغيب والشهادة يوم القيامة فيريكم حقيقة عملكم.

وبعبارة أخرى: ما عملتم من عمل خير أو شر فإن حقيقته مرئية مشهودة لله عالم الغيب والشهادة ثم لرسوله والمؤمنين في الدنيا ثم لكم أنفسكم معاشر العاملين يوم القيامة.

فالآية مسوقة لندب الناس إلى مراقبة أعمالهم بتذكيرهم أن لأعمالهم من خير أو شر حقائق غير مستورة بستر، وإن لها رقباء شهداء سيطلعون عليها ويرون حقائقها وهم رسول الله وشهداء الأعمال من المؤمنين والله من ورائهم محيط فهو تعالى يراها وهم يرونها، ثم إن الله سبحانه سيكشف عنها الغطاء يوم القيامة للعاملين أنفسهم كما قال: ﴿لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد﴾ ق: 22 ففرق عظيم بين أن يأتي الإنسان بعمل في الخلوة لا يطلع عليه أحد، وبين أن يعمل ذلك العمل بعينه بين ملإ من الناظرين جلوة وهو يرى أنه كذلك.

هذا في الآية التي نحن فيها، وأما الآية السابقة: ﴿يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون﴾ فإن وجه الكلام فيها إلى أشخاص من المنافقين بأعيانهم يأمر الله فيها نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يرد إليهم اعتذارهم، ويذكر لهم أولا أن الله قد نبأهم أي النبي والذين معه من المؤمنين في جيش الإسلام أخبارهم بنزول هذه الآيات التي تقص أخبار المنافقين وتكشف عن مساوي أعمالهم.

ثم يذكر لهم أن حقيقة أعمالهم غير مستورة عن الله سبحانه ولا خفية عليه وكذلك رسوله وحده ولم يكن معه أحد من شهداء الأعمال ثم الله يكشف لهم أنفسهم عن حقيقة أعمالهم يوم القيامة.

فهذا هو الفرق بين الآيتين مع اتحادهما في ظاهر السياق حيث ذكر في الآية التي نحن فيها: الله ورسوله والمؤمنون، وفي الآية السابقة: الله ورسوله، واقتصر على ذلك.

فهذا ما يعطيه التدبر في معنى الآية ومن لم يقنع بذلك ولم يرض دون أن يصور للآية معنى ظاهريا فليقل إن ذكره تعالى ﴿الله ورسوله﴾ في خطاب المنافقين إنما هو لأجل أنهم إنما يريدون أن يكيدوا الله ورسوله ولا هم لهم في المؤمنون، وأما ذكره تعالى: ﴿الله ورسوله والمؤمنين﴾ في الخطاب العام فإنما الغرض فيه تحريضهم على العمل الصالح في مشهد من الملإ الصالح ولم يعبأ بحال غيرهم من الكفار والمنافقين.

فتدبر، قوله تعالى: ﴿وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم﴾ الإرجاء التأخير، والآية معطوفة على قوله: ﴿وآخرون اعترفوا بذنوبهم﴾ ومعنى إرجائهم إلى أمر الله أنهم لا سبب عندهم يرجح لهم جانب العذاب أو جانب المغفرة فأمرهم يئول إلى أمر الله ما شاء وأراد فيهم فهو النافذ في حقهم.

وهذه الآية تنطبق بحسب نفسها على المستضعفين الذين هم كالبرزخ بين المحسنين والمسيئين، وإن ورد في أسباب النزول أن الآية نازلة في الثلاثة الذين خلفوا ثم تابوا فأنزل الله توبتهم على رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وسيجيء إن شاء الله تعالى.

وكيف كان فالآية تخفي ما يئول إليه عاقبة أمرهم وتبقيها على إبهامها حتى فيما ذيلت به من الاسمين الكريمين: العليم والحكيم الدالين على أن الله سبحانه يحكم فيهم بما يقتضيه علمه وحكمته، وهذا بخلاف ما ذيل قوله: ﴿وآخرون اعترفوا بذنوبهم﴾ حيث قال: ﴿عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم﴾.

بحث روائي:

في تفسير العياشي، عن داود بن الحصين عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله: ﴿ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر - ويتخذ ما ينفق قربات عند الله﴾ أيثيبهم عليه؟ قال: نعم. وفيه، عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله سبق بين المؤمنين كما سبق بين الخيل يوم الرهان. قلت: أخبرني عما ندب الله المؤمن من الإسباق إلى الإيمان. قال: قول الله تعالى: ﴿سابقوا إلى مغفرة من ربكم - وجنة عرضها كعرض السماء والأرض - أعدت للذين آمنوا بالله ورسله﴾ وقال: ﴿السابقون السابقون أولئك المقربون﴾.

وقال: ﴿والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار - والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه﴾ فبدأ بالمهاجرين الأولين على درجة سبقهم ثم ثنى بالأنصار ثم ثلث بالتابعين وأمرهم بإحسان فوضع كل قوم على قدر درجاتهم ومنازلهم عنده. وفي تفسير البرهان، عن مالك بن أنس عن أبي صالح عن ابن عباس قال: ﴿والسابقون الأولون﴾ نزلت في أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو أسبق الناس كلهم بالإيمان وصلى على القبلتين، وبايع البيعتين بيعة بدر وبيعة الرضوان، وهاجر الهجرتين مع جعفر من مكة إلى الحبشة ومن الحبشة إلى المدينة.

أقول: وفي معناها روايات أخر.

وفي الدر المنثور، أخرج ابن مردويه من طريق الأوزاعي حدثني يحيى بن كثير والقاسم ومكحول وعبدة بن أبي لبابة وحسان بن عطية أنهم سمعوا جماعة من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقولون: لما أنزلت هذه الآية: ﴿والسابقون الأولون -إلى قوله- ورضوا عنه﴾ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): هذا لأمتي كلهم، وليس بعد الرضا سخط.

أقول: معناه أن من رضي الله عنهم ورضوا عنه هم الذين جمعتهم الآية لا أن الآية تدل على رضاه تعالى عن الأمة كلهم فهذا مما يدفعه الكتاب بالمخالفة القطعية، وكذا قوله: (وليس بعد الرضا سخط) مراده ليس بعد الرضا المذكور في الآية سخط، وقد قررناه فيما تقدم لا أنه ليس بعد مطلق رضى الله سخط فهو مما لا يستقيم البتة.

وفيه، أخرج أبو الشيخ وابن عساكر عن أبي صخر حميد بن زياد قال: قلت لمحمد بن كعب القرظي: أخبرني عن أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وإنما أريد الفتن: فقال: إن الله قد غفر لجميع أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأوجب لهم الجنة في كتابه محسنهم ومسيئهم. قلت: وفي أي موضع أوجب الله لهم الجنة في كتابه؟ قال: ألا تقرأ: ﴿والسابقون الأولون﴾ الآية أوجب لجميع أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الجنة والرضوان، وشرط على التابعين شرطا لم يشترطه فيهم. قلت: وما أشترط عليهم؟ قال: اشترط عليهم أن يتبعوهم بإحسان يقول: يقتدوا بهم في أعمالهم الحسنة، ولا يقتدون بهم في غير ذلك. قال أبو صخر: فوالله لكأني لم أقرأها قبل ذلك، وما عرفت تفسيرها حتى قرأها علي محمد بن كعب.

أقول: هو - كما ترى - يسلم أن في أعمالهم حسنة وسيئة وطاعة وفسقا غير أن الله رضي عنهم في جميع ذلك وغفرها لهم فلا يجازيهم بالسيئة سيئة، وهو الذي ذكرنا في البيان المتقدم أن مقتضاه تكذيب آيات كثيرة قرآنية تدل على أن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين والظالمين وأنه لا يحبهم ولا يهديهم، وتقيد آيات أكثر من ذلك وهي أكثر الآيات القرآنية الدالة على عموم جزاء الحسنة بالحسنة والسيئة بالسيئة من غير مقيد وعليها تعتمد آيات الأمر والنهي وهي آيات الأحكام بجملتها.

ولو كان مدلول الآية هذا الذي ذكره لكانت الصحابة على عربيتهم المحضة واتصالهم بزمان النبوة ونزول الوحي أحق أن يفهموا من الآية ذلك، ولو كانوا فهموا منها ذلك لما عامل بعضهم بعضا بما ضبطه النقل الصحيح.

وكيف يمكن أن يتحقق كلهم بمضمون قوله: ﴿رضي الله عنهم ورضوا عنه﴾ ويفهموا ذلك منه ثم لا يرضى بعضهم عن بعض وقد رضي الله عنه، والراضي عن الله راض عما رضي الله عنه، ولا يندفع هذا الإشكال بحديث اجتهادهم فإن ذلك لو سلم يكون عذرا في مقام العمل لا مصححا للجمع بين صفتين متضادتين وجدانا وهما الرضا عن الله وعدم الرضا عما رضي الله عنه والكلام طويل.

وفيه، أخرج أبو عبيد وسنيد وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن حبيب الشهيد عن عمرو بن عامر الأنصاري: أن عمر بن الخطاب قرأ ﴿والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين اتبعوهم بإحسان﴾ فرفع الأنصار ولم يلحق الواو في الذين فقال له زيد بن ثابت: والذين فقال عمر: الذين فقال زيد: أمير المؤمنين أعلم فقال عمر: ائتوني بأبي بن كعب فأتاه فسأله عن ذلك فقال أبي: والذين فقال عمر: فنعم إذن نتابع أبيا.

أقول: ومقتضى قراءة عمر اختصاص المهاجرين بما يتضمنه قوله: ﴿والسابقون الأولون﴾ من المنقبة ومنقبة أخرى وهي كونهم متبوعين للأنصار كما يشير إليه الحديث الآتي.

وفيه، أخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن محمد بن كعب القرظي قال: مر عمر برجل يقرأ ﴿والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار﴾ فأخذ عمر بيده فقال: من أقرأك هذا؟ قال: أبي بن كعب. قال: لا تفارقني حتى أذهب بك إليه فلما جاءه قال عمر: أنت أقرأت هذا هذه الآية هكذا؟ قال: نعم قال: وسمعتها من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ قال: نعم. قال: كنت أرى أنا رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا. فقال أبي: تصديق ذلك في أول سورة الجمعة: ﴿وآخرين منهم لما يلحقوا بهم﴾ وفي سورة الحشر: ﴿والذين جاءوا من بعدهم - يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان﴾ وفي الأنفال: ﴿والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم﴿. وفي الكافي، بإسناده عن موسى بن بكر عن رجل قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): ﴿الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا﴾ فأولئك قوم مؤمنون يحدثون في إيمانهم من الذنوب التي يعيبها المؤمنون ويكرهونها فأولئك عسى الله أن يتوب عليهم.

أقول: ورواه العياشي عن زرارة عنه (عليه السلام) إلا أن فيه (مذنبون) (مكان مؤمنون).

وفي المجمع، في قوله تعالى: ﴿وآخرون اعترفوا بذنوبهم﴾ الآية قال: أبو حمزة الثمالي: بلغنا أنهم ثلاثة نفر من الأنصار: أبو كنانة بن عبد المنذر وثعلبة بن وديعة وأوس بن حذام تخلفوا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عند مخرجه إلى تبوك فلما بلغهم ما أنزل الله فيمن تخلف عن نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أيقنوا بالهلاك وأوثقوا أنفسهم بسواري المسجد فلم يزالوا كذلك حتى قدم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فسأل عنهم فذكر له أنهم أقسموا أن لا يحلون أنفسهم حتى يكون رسول الله يحلهم، وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): وأنا أقسم لا أكون أول من حلهم إلا أن أومر فيهم بأمر. فلما نزل: ﴿عسى الله أن يتوب عليهم﴾ عمد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إليهم فحلهم فانطلقوا فجاءوا بأموالهم إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا: هذه أموالنا التي خلفتنا عنك فخذها وتصدق بها عنا. قال: ما أمرت فيها، فنزل: ﴿خذ من أموالهم صدقة﴾ الآيات.

أقول: وفي هذا المعنى روايات أخرى رواها في الدر المنثور بينها اختلاف في أسامي الرجال، وفيها نزول آية الصدقة في خصوص أموالهم، ويضعفها تظافر الروايات في نزول الآية في الزكاة الواجبة.

وفيه، وروي عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام): أنها نزلت في أبي لبابة ولم يذكر غيره معه وسبب نزولها فيه ما جرى منه في بني قريظة حين قال: إن نزلتم على حكمه فهو الذبح. وفي الكافي، بإسناده عن عبد الله بن سنان قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): لما نزلت هذه الآية: ﴿خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها﴾ وأنزلت في شهر رمضان فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مناديه فنادى في الناس: أن الله فرض عليكم الزكاة كما فرض عليكم الصلاة ففرض الله عز وجل عليهم من الذهب والفضة وفرض الصدقة من الإبل والبقر والغنم، ومن الحنطة والشعير والتمر والزبيب فنادى بهم بذلك في شهر رمضان، وعفا لهم عما سوى ذلك. قال: ثم لم يفرض لشيء من أموالهم حتى حال عليه الحول من قابل فصاموا وأفطروا فأمر مناديه فنادى في المسلمين: أيها المسلمون زكوا أموالكم تقبل صلاتكم. قال: ثم وجه عمال الصدقة وعمال الطسوق. وفي الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة وابن المنذر وابن مردويه عن عبد الله بن أبي أوفى قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا أتي بصدقة قال: اللهم صل على آل فلان فأتاه أبي بصدقته فقال: اللهم صل على آل أبي أوفى. وفي تفسير البرهان، عن الصدوق بإسناده عن سليمان بن مهران عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله تعالى: ﴿ويأخذ الصدقات﴾ قال: يقبلها من أهلها ويثيب عليها. وفي تفسير العياشي، عن مالك بن عطية عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال علي بن الحسين (عليهما السلام): ضمنت على ربي أن الصدقة لا تقع في يد العبد حتى تقع في يد الرب، وهو قوله: ﴿هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات﴾.

أقول: وفي معناه روايات أخرى مروية عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي وأبي جعفر وأبي عبد الله (عليه السلام).

وفي بصائر الدرجات، بإسناده عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألت عن الأعمال هل تعرض على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ قال: ما فيه شك. قال: أ رأيت قول الله ﴿اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون﴾ فقال: لله شهداء في خلقه.

أقول: وفي معناه روايات متظافرة متكاثرة مروية في جوامع الشيعة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، وفي أكثرها: أن ﴿المؤمنون﴾ في الآية هم الأئمة، وانطباقها على ما قدمناه من التفسير ظاهر.

وفي الكافي، بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): في قول الله ﴿وآخرون مرجون لأمر الله﴾ قال: قوم كانوا مشركين فقتلوا مثل حمزة وجعفرا وأشباههما من المسلمين ثم إنهم دخلوا في الإسلام فوحدوا الله وتركوا الشرك، ولم يعرفوا الإيمان بقلوبهم فيكونوا من المؤمنين فيجب لهم الجنة، ولم يكونوا على جحودهم فيكفروا فيجب لهم النار فهم على تلك الحال مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم: أقول: ورواه العياشي في تفسيره عن زرارة عنه (عليه السلام) وفي معناه روايات أخر.

وفي تفسير العياشي، عن حمران قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن المستضعفين قال: هم ليسوا بالمؤمنين ولا بالكفار فهم المرجون لأمر الله. وفي الدر المنثور، أخرج ابن المنذر عن عكرمة: في قوله: ﴿وآخرون مرجون لأمر الله﴾ قال: هم الثلاثة الذين خلفوا: أقول: وروي مثله عن مجاهد وقتادة وأن أسماءهم هلال بن أمية، ومرارة بن الربيع وكعب بن مالك من الأوس والخزرج، ولا تنطبق قصتهم على هذه الآية وسيجيء إن شاء الله تعالى.

كلام في الزكاة وسائر الصدقة:

الأبحاث الاجتماعية والاقتصادية وسائر الأبحاث المرتبطة بها جعلت اليوم حاجة المجتمع من حيث إنه مجتمع إلى مال يختص به ويصرف لرفع حوائجه العامة في صف البديهيات التي لا يشك فيها شاك ولا يداخلها ريب فكثير من المسائل الاجتماعية والاقتصادية - ومنها هذه المسألة - كانت في الأعصار السالفة مما يغفل عنها عامة الناس ولا يشعرون بها إلا شعورا فطريا إجماليا وهي اليوم من الأبجديات التي يعرفها العامة والخاصة.

غير أن الإسلام بحسب ما بين من نفسية الاجتماع وهويته وشرع من الأحكام المالية الراجعة إليها، والأنظمة والقوانين التي رتبها في أطرافها ومتونها له اليد العليا في ذلك.

فقد بين القرآن الكريم أن الاجتماع يصيغ من عناصر الأفراد المجتمعين صيغة جديدة فيكون منهم هوية جديدة حية هي المجتمع، وله من الوجود والعمر والحياة والموت والشعور والإرادة والضعف والقوة والتكليف والإحسان والإساءة والسعادة والشقاوة أمثال أو نظائر ما للإنسان الفرد وقد نزلت في بيان ذلك كله آيات كثيرة قرآنية كررنا الإشارة إليها في خلال الأبحاث السابقة.

وقد عزلت الشريعة الإسلامية سهما من منافع الأموال وفوائدها للمجتمع كالصدقة الواجبة التي هي الزكاة وكالخمس من الغنيمة ونحوها ولم يأت في ذلك ببدع فإن القوانين والشرائع السابقة عليها كشريعة حمورابي وقوانين الروم القديم يوجد فيها أشياء من ذلك بل سائر السنن القومية في أي عصر، وبين أية طائفة دارت لا يخلو عن اعتبار جهة مالية لمجتمعها فالمجتمع كيفما كان يحس بالحاجة المالية في سبيل قيامه ورشده.

غير أن الشريعة الإسلامية تمتاز في ذلك من سائر السنن والشرائع بأمور يجب إمعان النظر فيها للحصول على غرضها الحقيقي ونظرها المصيب في تشريعها وهي: أولا: أنها اقتصرت في وضع هذا النوع من الجهات المالية على كينونة الملك وحدوثه موجودا ولم يتعد ذلك، وبعبارة أخرى إذا حدثت مالية في ظرف من الظروف كغلة حاصلة عن زراعة أو ربح عائد من تجارة أو نحو ذلك بادرت فوضعت سهما منها ملكا للمجتمع وبقية السهام ملكا لمن له رأس المال أو العمل مثلا، وليس عليه إلا أن يرد مال المجتمع وهو السهم إليه.

بل ربما كان المستفاد من أمثال قوله تعالى: ﴿خلق لكم ما في الأرض جميعا﴾ البقرة: 29 وقوله: ﴿ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما﴾ النساء: 5 أن الثروة الحادثة عند حدوثها للمجتمع بأجمعها ثم اختص سهم منها للفرد الذي نسميه المالك أو العامل، وبقي سهم أعني سهم الزكاة أو سهم الخمس في ملك المجتمع كما كان فالمالك الفرد مالك في طول مالك وهو المجتمع، وقد تقدم بعض البحث عن ذلك في تفسير الآيتين.

وبالجملة فالذي وضعته الشريعة من الحقوق المالية كالزكاة والخمس مثلا إنما وضعته في الثروة الحادثة عند حدوثها فشركت المجتمع مع الفرد من رأس ثم الفرد في حرية من ماله المختص به يضعه حيث يشاء من أغراضه المشروعة من غير أن يعترضه في ذلك معترض إلا أن يدهم المجتمع من المخاطر العامة ما يجب معه صرف شيء من رءوس الأموال في سبيل حفظ حياته كعدو هاجم يريد أن يهلك الحرث والنسل، والمخمصة العامة التي لا تبقي ولا تذر.

وأما الوجوه المالية المتعلقة بالنفوس أو الضياع والعقار أو الأموال التجارية عند حصول شرائط أو في أحوال خاصة كالعشر المأخوذ في الثغور ونحو ذلك فإن الإسلام لا يرى ذلك بل يعده نوعا من الغصب وظلما يوجب تحديدا في حرية المالك في ملكه.

ففي الحقيقة لا يأخذ المجتمع من الفرد إلا مال نفسه الذي يتعلق بالغنيمة والفائدة عند أول حدوثه ويشارك الفرد في ملكه على نحو يبينه الفقه الإسلامي مشروحا، وأما إذا انعقد الملك واستقر لمالكه فلا اعتراض لمعترض على مالك في حال أو عند شرط، يوجب قصور يده وزوال حريته.

وثانيا: أن الإسلام يعتبر حال الأفراد في الأموال الخاصة بالمجتمع كما يعتبر حال المجتمع بل الغلبة في ما يظهر من نظره لحالهم على حاله فإنه يجعل السهام في الزكاة ثمانية لا يختص بسبيل الله منها إلا سهم واحد وباقي السهام للأفراد كالفقراء والمساكين والعاملين والمؤلفة قلوبهم وغيرهم، وفي الخمس ستة لم يجعل لله سبحانه إلا سهم واحد والباقي للرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل.

وذلك أن الفرد هو العنصر الوحيد لتكون المجتمع، ورفع اختلاف الطبقات الذي هو من أصول برنامج الإسلام، وإلقاء التعادل والتوازن بين قوى المجتمع المختلفة وتثبيت الاعتدال في مسيره بأركانه وأجزائه لا يتم إلا بإصلاح حال الأجزاء أعني الأفراد وتقريب أحوالهم بعضهم من بعض.

وأما قصر مال المجتمع في صرفه في إيجاد الشوكة العامة والتزيينات المشتركة ورفع القصور المشيدة العالية والأبنية الرفيعة الفاخرة وتخلية القوي والضعيف أو الغني والفقير على حالهما لا يزيدان كل يوم إلا ابتعادا فلتدل التجربة الطويلة القطعية أنه لا يدفع غائلا ولا يغني طائلا.

وثالثا: أن للفرد من المسلمين أن يصرف ما عليه من الحق المالي الواجب كالزكاة مثلا في بعض أرباب السهام كالفقير والمسكين من دون أنه يؤديه إلى ولي الأمر أو عامله في الجملة فيرده هو إلى مستحقيه.

وهذا نوع من الاحترام الاستقلالي الذي اعتبره الإسلام لأفراد مجتمعه نظير إعطاء الذمة الذي لكل فرد من المسلمين أن يقوم به لمن شاء من الكفار المحاربين وليس للمسلمين ولا لولي أمرهم أن ينقض ذلك.

نعم لولي الأمر إذا رأى في مورد أن مصلحة الإسلام والمسلمين في خلاف ذلك أن ينهى عن ذلك فيجب الكف عنه لوجوب طاعته.