الآيات 64 - 74

يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ ﴿64﴾ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ ﴿65﴾ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ ﴿66﴾ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴿67﴾ وَعَدَ اللهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ﴿68﴾ كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَدًا فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الُّدنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴿69﴾ أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴿70﴾ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴿71﴾ وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴿72﴾ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴿73﴾ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ﴿74﴾

بيان:

تذكر الآيات شأنا آخر من شئون المنافقين، وتكشف عن سوأة أخرى من سوءاتهم ستروا عليها بالنفاق، وكانوا يحذرون أن تظهر عليهم وتنزل فيها سورة تقص ما هموا به منها.

والآيات تنبىء عن أنهم كانوا جماعة ذوي عدد كما يدل عليه قوله: ﴿إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة﴾ وأنه كان لهم بعض الاتصال والتوافق مع جماعة آخرين من المنافقين كما في قوله: ﴿المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض﴾ الآية وأنهم كانوا على ظاهر الإسلام والإيمان حتى اليوم وإنما نافقوا يومئذ أي تفوهوا بكلمة الكفر فيما بينهم وأسروا بها يومئذ كما في قوله: ﴿قد كفرتم بعد إيمانكم﴾ .

وأنهم تواطئوا على أمر دبروه فيما بينهم فأظهروا عند ذلك كلمة الكفر وهموا على أمر عظيم فحال الله بينهم وبينه فخاب سعيهم ولم يؤثر كيدهم كما في قوله: ﴿ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا﴾.

وأنه ظهر مما هموا به بعض ما يستدل عليه من الآثار والقرائن فسألوا عن ذلك فاعتذروا بما هو مثله قبحا وشناعة كما في قوله: ﴿ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب﴾ والآيات التالية لهذه الآيات في سياق متصل منسجم تدل على أن هذه الوقعة أيا ما كانت وقعت بعد خروج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى غزوة تبوك ولما يرجع إلى المدينة كما يدل عليه قوله: ﴿فإن رجعك الله إلى طائفة منهم﴾ آية: 83 من السورة، وقوله: ﴿سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم﴾ آية: 95 من السورة.

فيتلخص من الآيات أن جماعة ممن خرج مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تواطئوا على أن يمكروا بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأسروا عند ذلك فيما بينهم بكلمات كفروا بها بعد إسلامهم ثم هموا أن يفعلوا ما اتفقوا عليه بفتك أو نحوه فأبطل الله كيدهم وفضحهم وكشف عنهم فلما سئلوا عن ذلك قالوا: إنما كنا نخوض ونلعب فعاتبهم الله بلسان رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنه استهزاء بالله وآياته ورسوله، وهددهم بالعذاب إن لم يتوبوا، وأمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجاهدهم ويجاهد الكافرين.

فالآيات - كما ترى - أوضح انطباقا على حديث العقبة منها على غيره من القصص التي تتضمنها الروايات الآخر الواردة في بيان سبب نزول الآيات، وسنورد جلها في البحث الروائي الآتي إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: ﴿يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم﴾ إلى آخر الآية.

كان المنافقون يشاهدون أن جل ما يستسرون به من شئون النفاق ويناجي به بعضهم بعضا من كلمة الكفر ووجوه الهمز واللمز والاستهزاء أو جميع ذلك لا يخفى على الرسول، ويتلى على الناس في آيات من القرآن يذكر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه من وحي الله، ولا محالة كانوا لا يؤمنون بأنه وحي نزل به الروح الأمين على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويقدرون أن ذلك مما يتجسسه المؤمنون فيخبرون به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيخرجه لهم في صورة كتاب سماوي نازل عليهم وهم مع ذلك كانوا يخافون ظهور نفاقهم وخروج ما خبوه في سرائرهم الخبيثة لأن السلطنة والظهور كانت للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عليهم يجري فيهم ما يأمر به ويحكم عليه.

فهم كانوا يحذرون نزول سورة يظهر بها ما أضمروه من الكفر وهموا به من تقليب الأمور على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقصده بما يبطل به نجاح دعوته وتمام كلمته فأمر الله نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يبلغهم أن الله عالم بما في صدورهم مخرج ما يحذرون خروجه وظهوره بنزول سورة من عنده أي يخبرهم بأن الله منزل سورة هذا نعتها.

وبهذا يستنير معنى الآية فقوله: ﴿يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة﴾ الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ووجه الكلام إليه، وهو يعلم بتعليم الله أن هذا الكلام الذي يتلوه على الناس كلام إلهي وقرآن منزل من عنده فيصف سبحانه الكلام الذي يخاف منه المنافقون بما له من الوصف عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو أنه سورة منزلة من الله على الناس ومنهم المنافقون لا على ما يراه المنافقون أنه كلام بشري يدعى كونه كلام الله.

فهم كانوا يحذرون أن يتلو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عليهم وعلى الناس كلاما هذا نعته الواقعي وهو أنه سورة منزلة عليهم بما أنها متوجهة بمضمونها إليهم قاصدة نحوهم ينبئهم هذه السورة النازلة بما في قلوبهم فيظهر على الناس ويفشو بينهم ما كانوا يسرونه من كفرهم وسوء نياتهم، وهذا الظهور في الحقيقة هو الذي كانوا يحذرونه من نزول السورة.

وقوله: ﴿قل استهزءوا إن الله مخرج ما تحذرون﴾ كأن المراد بالاستهزاء هو نفاقهم وما يلحق به من الآثار فإن الله سمى نفاقهم استهزاء حاكيا في ذلك قولهم حيث قال: ﴿وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزءون﴾ البقرة: 14 فالمراد بالاستهزاء هو ستر ما يحذرون ظهوره، والأمر تعجيزي أي دوموا على نفاقكم وستركم ما تحذرون خروجه من عندكم إلى مرأى الناس ومسمعهم فإن الله مخرج ذلك وكاشف عن وجهه الغطاء، ومظهر ما أخفيتموه في صدوركم.

فصدر الآية وإن كان يذكر أنهم يحذرون تنزيل سورة كذا وكذا لكنهم إنما كانوا يحذرونها لما فيها من الأنباء التي يحذرون أن يطلع عليها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتنجلي للناس، وهذا هو الذي يذكر ذيلها أنهم يحذرونه فالكلام بمنزلة أن يقال: يحذر المنافقون تنزيل سورة قل إن الله منزلها، أو يقال: يحذر المنافقون انكشاف باطن أمرهم وما في قلوبهم قل استهزءوا إن الله سيكشف ذلك وينبىء عما في قلوبكم.

وبما تقدم يظهر سقوط ما أشكل على الآية أولا: بأن المنافقين لكفرهم في الحقيقة لم يكونوا يرون أن القرآن كلام منزل من عند الله فكيف يصح القول أ يحذرون أن تنزل عليهم سورة؟.

وثانيا: أنهم لما لم يكونوا مؤمنين في الواقع فكيف يصح أن يطلق أن سورة قرآنية نزلت عليهم ولا تنزل السورة إلا على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو على المؤمنين؟.

وثالثا: أن حذرهم نزول السورة وهو حال داخلي جدي فيهم لا يجامع كونه استهزاء.

ورابعا: أن صدر الآية يذكر أنهم يحذرون أن تنزل سورة وذيلها يقول: إن الله مخرج ما تحذرون فهو في معنى أن يقال: إن الله مخرج سورة أو مخرج تنزيل سورة.

وقد يجاب عن الإشكال الأول بأن قوله: يحذر المنافقون إلخ إنشاء في صورة خبر أي ليحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة إلخ.

وهو ضعيف إذ لا دليل عليه أصلا على أن ذيل الآية لا يلائم ذلك إذ لا معنى لقولنا: ليحذر المنافقون كذا قل استهزءوا إن الله مخرج ما تحذرون أي ما يجب عليكم حذره.

وهو ظاهر.

وقد يجاب عنه بأنهم إنما كانوا يظهرون الحذر استهزاء لا جدا وحقيقة.

وفيه أن لازمه أنهم كانوا على ثقة بأن ما في قلوبهم من الأنباء وما أبطنوه من الكفر والفسوق لا سبيل للظهور والانجلاء إليه، ولا طريق لأحد إلى الاطلاع عليه، ويكذبه آيات كثيرة في القرآن الكريم تقص ما عقدوا عليه القلوب من الكفر والفسوق وهموا به من الخدعة والمكيدة كالآيات من سورة البقرة وسورة المنافقين وغيرهما، وإذ كانوا شاهدوا ظهور أنبائهم ومطويات قلوبهم عيانا مرة بعد مرة فلا معنى لثقتهم بأنها لا تنكشف أصلا وإظهارهم الحذر استهزاء لا جدا، وقد قال تعالى: ﴿يحسبون كل صيحة عليهم﴾ المنافقون: 4.

وقد يجاب عنه بأن أكثر المنافقين كانوا على شك من صدق الدعوة النبوية من غير أن يستيقنوا كذبه، وهؤلاء كانوا يجوزون تنزيل سورة تنبئهم بما في قلوبهم احتمالا عقليا، وهذا الحذر والإشفاق كما ذكروه أثر طبيعي للشك والارتياب فلو كانوا موقنين بكذب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لما خطر لهم هذا الخوف على بال، ولو كانوا موقنين بصدقه لما كان هناك محل لهذا الخوف والحذر لأن قلوبهم مطمئنة بالإيمان.

وهذا الجواب - وهو الذي اعتمد عليه جمهور المفسرين - وإن كان بظاهره لا يخلو عن وجه غير أن فيه أنه إنما يحسم مادة الإشكال لو كان الواقع من التعبير في الآية نحوا من قولنا: يخاف المنافقون أن تنزل عليهم سورة، ولذا قرروا الجواب بأن الخوف يناسب الشك دون اليقين.

لكن الآية تعبر عن شأنهم بالحذر، ويخبر أنهم يحذرون أن تنزل عليهم سورة ﴿إلخ﴾ والحذر فيه شيء من معنى الاحتراز والاتقاء، ولا يتم ذلك إلا بالتوسل إلى أسباب ووسائل تحفظ الحاذر مما يحذره ويحترز منه، وتصونه من شر مقبل إليه من ناحية ما يخافه.

ولو كان مجرد شك من غير مشاهدة أثر من الآثار وإصابة شيء مما يتقونه إياهم لما صح الاحتراز والاتقاء، فحذرهم يشهد أنهم كانوا يخافون أن يقع بهم هذه المرة نظير ما وقع بهم قبل ذلك من جهة آيات البقرة وغيرها، فهذا هو الوجه لحذرهم دون الشك والارتياب فالمعتمد في الجواب ما قدمناه.

وقد يجاب عن الإشكال الثاني بأن ﴿على﴾ في قوله: ﴿أن تنزل عليهم﴾ بمعنى: في كما في قوله: ﴿واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان﴾ البقرة: 102، والمعنى: يحذر المنافقون أن تنزل فيهم أي في شأنهم وبيان حالهم سورة تكشف عما في ضمائرهم.

وفيه أنه لا بأس به لو لا قوله بعده: ﴿تنبئهم بما في قلوبهم﴾ على ما سنوضحه.

وقد يجاب عنه بأن الضمير في قوله: ﴿عليهم﴾ راجع إلى المؤمنين دون المنافقين والمعنى: يحذر المنافقون أن تنزل على المؤمنين سورة تنبىء المنافقين بما في قلوب المنافقين أو تنبىء المؤمنين بما في قلوب المنافقين.

ورد عليه بأنه يستلزم تفكيك الضمائر.

ودفع بأن تفكيك الضمائر غير ممنوع ولا أنه مناف للبلاغة إلا إذا كان المعنى معه غير مفهوم، وربما أيد بعضهم هذا الجواب بأنه ليس هاهنا تفكيك للضمائر فإنه قد سبق أن المنافقين يحلفون للمؤمنين ليرضوهم ثم وبخهم الله بأن الله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين فقد بين هاهنا بطريقة الاستئناف أنهم يحذرون أن تنزل على المؤمنين سورة تنبئهم بما في قلوبهم فتبطل ثقتهم بهم فأعيد الضمير إلى المؤمنين لأن سياق الكلام فيهم فلا أثر من التفكيك.

وفيه أن من الواضح الذي لا يرتاب فيه أن موضوع الكلام في هذه الآيات وآيات كثيرة مما يتصل بها من قبل ومن بعد، هم المنافقون، والسياق سياق الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا غيره، وإنما كان خطاب المؤمنين في قوله: ﴿يحلفون بالله لكم ليرضوكم﴾ خطابا التفاتيا للتنبيه على غرض خاص أومأنا إليه ثم عاد الكلام إلى سياقها الأصلي من خطاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بتبدل خطابهم إلى خطابه فلا معنى لقوله: إن سياق الكلام في المؤمنين.

ولو كان السياق هو الذي ذكره لكان من حق الكلام أن يقال: أن تنزل عليكم سورة تنبئكم بما في قلوبهم، فما معنى العدول إلى ضمير الغيبة، ولم يتقدم في سابق الكلام ذكر لهم على هذا النعت؟.

على أن قوله: إن الآية - يحذر المنافقون - بيان من طريق الاستئناف لسبب حلفهم للمؤمنين ليرضوهم، إخراج لهذه الطائفة من الآيات من استقلال غرضها الأصلي الذي بحثنا عنه في أول الكلام، ويختل بذلك ما يتراءى من فقرات الآيات من الاتصال والارتباط.

فالآية - يحذر المنافقون إلخ - ليست بيانا لسبب حلفهم المذكور سابقا بل استئناف مسوق لغرض آخر يهدي إليه مجموع الآيات الإحدى عشرة.

وبالجملة الآيات السابقة على هذه الآية خالية عن ذكر المؤمنين ذكرا يوجب انعطاف الذهن إليه حينما يلقي ضميرا يمكن عوده إليهم وهذا هو التفكيك المذكور، وهو مع ذلك تفكيك ممنوع لإيجابه إبهاما في البيان ينافي بلاغته.

والحق أن الضمير في قوله: ﴿أن تنزل عليهم﴾ للمنافقين - كما تقدمت الإشارة إليه - ولا بأس بأن يسمى تنزيل سورة لبيان حالهم وذكر مثالبهم وتوبيخهم على نفاقهم تنزيلا للسورة عليهم وهم في جماعة المؤمنين غير متميزين منهم كما عبر بنظير التعبير في مورد المؤمنين حيث قال: ﴿واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به﴾ البقرة: 231.

وقد أتى سبحانه بنظير هذا التعبير في أهل الكتاب حيث قال: ﴿يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء﴾ النساء: 153، وفي المشركين حيث حكى عنهم قولهم: ﴿ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه﴾ الإسراء: 93، وليست نسبة المنافقين وهم في المؤمنين إلى نزول القرآن عليهم بأبعد من نسبة المشركين وأهل الكتاب إلى نزوله عليهم، والنزول والإنزال والتنزيل يقبل التعدي بإلى بعناية الانتهاء وبعلى بعناية الاستعلاء والإتيان من العلو، والتعدية بكل واحد منهما كثير في تعبيرات القرآن، والمراد بنزول الكتاب إلى قوم وعلى قوم تعرضه لشئونهم وبيانه لما ينفعهم في دنياهم وأخراهم.

وقد يجاب عن الإشكال الثالث بأن قوله تعالى: ﴿قل استهزءوا﴾ دليل على أنهم كانوا يستهزءون بالحذر ولم يكن من جد الحذر في شيء.

و فيه أن الآيات الكثيرة النازلة في سورة البقرة والنساء وغيرها - وكل ذلك قبل هذه الآيات نزولا - المخرجة لكثير من خبايا قلوبهم الكاشفة عن أسرارهم تدل على أن هذا الحذر كان منهم على حقيقته من غير استهزاء وسخرية.

على أنه تعالى وصفهم في سورة المنافقون بمثل قوله: ﴿يحسبون كل صيحة عليهم﴾ المنافقون: 4، وقال في مثل ضربه لهم وفيهم: ﴿يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت﴾ البقرة: 19 وقد ذكر في الآية التالية.

والحق أن استهزاءهم إنما هو نفاقهم وقولهم في الظاهر خلاف ما في باطنهم كما يؤيده قوله تعالى: ﴿وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزءون﴾ البقرة: 14.

والجواب عن الإشكال الرابع أن الشيء الذي كانوا يحذرونه في الحقيقة هو ظهور نفاقهم وانكشاف ما في قلوبهم، وإنما كانوا يحذرون نزول السورة لأجل ذلك فالمحذور الذي ذكر في صدر الآية والذي في ذيل الآية أمر واحد، ومعنى قوله ﴿إن الله مخرج ما تحذرون﴾ إنه مظهر لما أخفيتموه من النفاق ومنبىء لما في قلوبكم.

قوله تعالى: ﴿ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون﴾ الخوض - على ما في المجمع - دخول القدم فيما كان مائعا من الماء والطين ثم كثر حتى استعمل في غيره.

وقال الراغب في المفردات، الخوض هو الشروع في الماء والمرور فيه، ويستعار في الأمور، وأكثر ما ورد في القرآن ورد فيما يذم الشروع فيه.

ولم يذكر الله سبحانه متعلق السؤال وأن المسئول عنه الذي إن سأل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سأل عنه ما هو؟ غير أن قوله: ﴿ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب﴾ بما له من السياق المصدر بأن ما يدل على أنه كان فعلا صادرا منهم له نوع تعلق بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكان أمرا مرئيا يسيء الظن بهم، ولم يكن في وسعهم أن يعتذروا منه بعد ما تبين وانكشف للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا بأنه إنما كان منهم خوضا ولعبا لم يريدوا به غير ذلك.

والخوض واللعب الذين اعتذروا بهما من الأعمال السيئة التي لا يعترف بهما الناس في حالهم العادي وخاصة المؤمنون وسائر المتظاهرين بالإيمان وخاصة إذا كان ذلك في أمر يرجع إلى الله ورسوله غير أنهم لم يجدوا وصفا يصفون به فعلهم لإخراجه عن ظاهر ما يدل عليه، دون أن يعنونوه بأنه كان خوضا ولعبا.

ولذا أمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يوبخهم على ما اعتذروا به فقال: ﴿قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون﴾ ثم فسر عملهم في آخر الآيات بقوله: ﴿يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا﴾ الآية.

ويتحصل من مجموع هذه القرائن أن المنافقين كانوا أرادوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بسوء كالفتك به ومفاجأته بما يهلكه وأقدموا على ما قصدوه وتكلموا عند ذلك بشيء من الكلام الردي لكنهم أخطئوا في ما أوقعوه عليه واندفع الشر عنه، ولم يصب السهم هدفه فلما خاب سعيهم وبان أمرهم سألهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن ذلك وما تصدوه به اعتذروا بأنهم كانوا يخوضون ويلعبون فوبخهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: ﴿أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون﴾ ورد الله سبحانه إليهم عذرهم الذي اعتذروا به وبين حقيقة ما قصدوا بذلك.

وبالجملة معنى الآية: وأقسم لئن سألتهم عن فعلهم الذي شوهد منهم: ما الذي أرادوا به؟ وكان ظاهره أنهم هموا بأمر فيك ليقولن: لم يكن قصد سوء ولا بالذي ظننت فأسأت الظن بنا، وإنما كنا نخوض ونلعب خوض الركب في الطريق لا على سبيل الجد ولكن لعبا.

وهذا اعتذار منهم بالاستهزاء بالله وآياته ورسوله فإنهم يعترفون بأنهم فعلوا فيك ما فعلوه خوضا ولعبا فقد استهزءوا بالله ورسوله فقل: أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون أي أتعتذرون عن سيىء فعلكم بسيئة أخرى هي الاستهزاء بالله وآياته ورسوله، وهو كفر؟.

وليس من البعيد أن يكون الغرض الأصيل بيان كونه استهزاء بالرسول، وإنما ذكر الله وآياته للدلالة على معنى الاستهزاء بالرسول، وأنه لما كان من آيات الله كان الاستهزاء به استهزاء بآيات الله، والاستهزاء بآيات الله استهزاء بالله العظيم فالاستهزاء برسول الله استهزاء بالله وآياته ورسوله.

قوله تعالى: ﴿لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم أن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة﴾ الآية، قال الراغب في المفردات: الطوف المشي حول الشيء ومنه الطائف لمن يدور حول البيوت حافظا - إلى أن قال - والطائفة من الناس جماعة منهم ومن الشيء القطعة منه.

وقوله تعالى: ﴿فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين﴾ قال بعضهم: قد يقع ذلك على الواحد فصاعدا، وعلى ذلك قوله: ﴿وإن طائفتان من المؤمنين إذ همت طائفتان منكم﴾.

﴿والطائفة إذا أريد بها الجمع فجمع طائف﴾ وإذا أريد بها الواحد فيصح أن يكون جمعا ويكنى به عن الواحد، ويصح أن يجعل كراوية وعلامة ونحو ذلك.

وقد خطأ بعضهم القول بجواز صدق الطائفة على الواحد والاثنين من الناس كما تصدق على الثلاثة فصاعدا، وبالغ في ذلك حتى عده غلطا ولا دليل له على ما ذكره، ومادة اللفظ لا يستوجب شيئا معينا من العدد، وإطلاقها على القطعة من الشيء يؤيد استعمالها في الواحد.

وقوله: ﴿لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم﴾ نهي عن الاعتذار بدعوى أنه لغو كما يدل عليه قوله: ﴿قد كفرتم بعد إيمانكم﴾ فإن الاعتذار لا فائدة تترتب عليه بعد الحكم بكفرهم بعد إيمانهم.

والمراد بإيمانهم هو ظاهر الإيمان الذي كانوا يتظاهرون به لا حقيقة الإيمان الذي هو من الهداية الإلهية التي لا يعقبها ضلال، ويؤيده قوله تعالى في آخر هذه الآيات: ﴿ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم﴾ فبدل الإيمان إسلاما وهو ظاهر الشهادتين.

ويمكن أن يقال: إن من مراتب الإيمان ما هو اعتقاد وإذعان ضعيف غير آب عن الزوال كإيمان الذين في قلوبهم مرض وقد عدهم الله من المؤمنين وذكرهم مع المنافقين لأمنهم، ولا مانع من أن ينسلخوا هذا الإيمان.

وكيف لا؟ وقد سلخ الله الإيمان ممن هو أرسخ إيمانا منهم كالذي يقصه في قوله: ﴿واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه﴾ الأعراف: 176.

وقال أيضا: ﴿إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا﴾ النساء: 137 وقد أكثر القرآن الكريم من ذكر الكفر بعد الإيمان فلا مانع من زوال الاعتقاد القلبي قبل رسوخه وهو اعتقاد.

نعم الإيمان المستقر والاعتقاد الراسخ لا سبيل إلى عروض الزوال له قال تعالى: ﴿من يهد الله فهو المهتدي﴾ الأعراف: 178 وقال: ﴿فإن الله لا يهدي من يضل﴾ النحل: 37.

وقوله: ﴿إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة﴾ يدل على أن هؤلاء المنافقين المذكورين في الآيات كانوا ذوي عدد وكثرة، وأن كلمة العذاب وقعت عليهم لا بد لهم من العذاب فلو شمل بعضهم عفو إلهي لمصلحة في ذلك وقع العذاب على الباقين فهذا معنى الجملة: ﴿إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة﴾ بحسب ما يفهم من نظمه وسياقه.

وبعبارة أخرى رابطة اللزوم بين الشرط والجزاء بترتب الجزاء وتفرعه على الشرط إنما هي بالتبع وأصله ترتب الجزاء هاهنا على أمر يتعلق به الشرط وهو أن العذاب وجب على جماعتهم فإن عفي عن بعضهم تعين الباقون من غير تخلف.

وقد ظهر بما قدمناه أولا: وجه ترتب قوله: ﴿نعذب طائفة﴾ على قوله: ﴿إن نعف عن طائفة﴾ واندفع ما استشكله بعضهم على الآية أنه لا ملازمة بين العفو عن البعض وعذاب البعض فما معنى الاشتراط؟.

والجواب: أن اللزوم بحسب الأصل بين وجوب نزول العذاب على الجماعة وبين نزوله على بعضهم ثم انتقل إلى ما بين العفو عن البعض وبين نزوله على بعضهم كما قررناه.

وثانيا: أن المراد بالعفو هو ترك العذاب لمصلحة من مصالح الدين دون العفو بمعنى المغفرة المستندة إلى التوبة إذ لا وجه ظاهرا لمثل قولنا: إن غفرنا لطائفة منكم لتوبتهم نعذب طائفة لجرمهم مع أنهم لو تابوا جميعا لم يعذبوا قطعا.

وقد ندب الله إليهم جميعا أن يتوبوا حيث قال في آخر الآيات: ﴿فإن يتوبوا يك خيرا لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة﴾.

وثالثا: أن العفو في الآية بل والعذاب المذكور فيها هو العفو عن العذاب الدنيوي وتركها وكذا القول في العذاب فإن العفو من العذاب الأخروي على ما تنص عليه الآيات القرآنية إنما يكون لتوبة أو شفاعة، ولا تحقق لواحد منهما فيما نحن فيه أما التوبة فلما تبين أنها غير مرادة في الآية، وأما الشفاعة فلما ثبت بآيات الشفاعة أن الشفاعة لا ينالها في الآخرة إلا مؤمن مرضي الإيمان، وقد استوفينا البحث عنها في الجزء الأول من الكتاب.

ورابعا: أنه لا مانع من كون الآية أعني قوله: ﴿لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم أن نعف عن طائفة﴾ الآية من تتمة كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فإن المراد بالعفو والعذاب هو العذاب الدنيوي بالسياسة وتركه، ولا مانع من نسبتهما إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

لكن ظاهر الآيات التالية هو كونه من قول الله سبحانه خطابا للمنافقين فيكون التفاتا من خطاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى خطابهم والنكتة فيه إظهار كمال الغضب واشتداد السخط من صنعهم حتى كأنه لا يفي بإيذانه وإعلامه الرسالة فواجههم بنفسه وخاطبهم بشخصه فهددهم بعذاب واقع لا مرد له ولا مفر منه.

قوله تعالى: ﴿المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض﴾ إلى آخر الآيتين، ذكروا أنه استئناف يتعرض لحال عامة المنافقين بذكر أوصافهم العامة الجامعة وتعريفهم بها وما يجازيهم الله في عاقبة أمرهم ثم يتعرض لحال عامة المؤمنين ويعرفهم بصفاتهم الجامعة ويذكر ما ينبئهم الله به على سبيل المقابلة استتماما للقسمة، ومن الدليل على هذا الاستيفاء ذكر جزاء الكفار مع المنافقين في قوله: ﴿وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار﴾ الآية.

والظاهر أن الآية في مقام التعليل لقوله في الآية السابقة: ﴿إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة﴾ وسياق مخاطبة المنافقين جار لم ينقطع بعد.

فالآية السابقة لما دلت على أنه تعالى لا يترك المنافقين حتى يعذبهم بأجرامهم فإن ترك بعضا منهم لحكمة ومصلحة أخذ آخرين منهم بالعذاب كان هناك مظنة أن يسأل فيقال: ما وجه أخذ البعض إذا ترك غيره؟ وهل هو إلا كأخذ الجار بجرم الجار فأجيب ببيان السبب وهو أن المنافقين جميعا بعضهم من بعض لاشتراكهم في خبائث الصفات والأعمال، واشتراكهم في جزاء أعمالهم وعاقبة حالهم.

ولعله ذكر المنافقات مع المنافقين مع عدم سبق لذكرهن للدلالة على كمال الاتحاد والاتفاق بينهم في نفسيتهم، وليكون تلويحا على أن من النساء أيضا أجزاء مؤثرة في هذا المجتمع النفاقي الفاسد المفسد.

فمعنى الآية لا ينبغي أن يستغرب أخذ بعض المنافقين إذا ترك البعض الآخر لأن المنافقين والمنافقات يحكم عليهم نوع من الوحدة النفسية يوحد كثرتهم فيرجع بعضهم إلى بعض، فيشركهم في الأوصاف والأعمال وما يجازون به بوعد من الله تعالى.

فهم يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويمسكون عن الإنفاق في سبيل الله وبعبارة أخرى نسوا الله تعالى بالإعراض عن ذكره لأنهم فاسقون خارجون عن زي العبودية فنسيهم الله فلم يثبهم بما أثاب عباده الذاكرين مقام ربهم.

ثم ذكر ما وعدهم على ذلك فقال: ﴿وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار - وعطف عليهم الكفار لأنهم جميعا سواء - نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم﴾ من الجزاء لا يتعدى فيهم إلى غيرها ﴿ولعنهم الله﴾ وأبعدهم ﴿ولهم عذاب مقيم﴾ ثابت لا يزول عنهم البتة.

وقد ظهر بذلك أن قوله تعالى: ﴿نسوا الله فنسيهم﴾ إلخ بيان لما تقدمه من قوله: ﴿يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم﴾ .

ويتفرع على ذلك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإنفاق في سبيل الله من الذكر.

قوله تعالى: ﴿كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم﴾ إلخ، قال الراغب: الخلاق ما اكتسبه الإنسان من الفضيلة بخلقه قال تعالى: ﴿وما له في الآخرة من خلاق﴾ انتهى وفسره غيره بمطلق النصيب.

والآية من تتمة مخاطبة المنافقين التي في قوله: ﴿لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم﴾ الآية في سياق واحد متصل وفي الآية تشبيه حال المنافقين بحال من كان قبلهم من الكفار والمنافقين وقياسهم إليهم ليستشهد بذلك على ما قيل: إن المنافقين والمنافقات بعضهم من بعض وأنهم جميعا والكفار ذوو طبيعة واحدة في الإعراض عن ذكر الله والإقبال على الاستمتاع بما أوتوا من أعراض الدنيا من أموال وأولاد والخوض في آيات الله ثم في حبط أعمالهم في الدنيا والآخرة والخسران.

ومعنى الآية - والله أعلم - أنتم كالذين من قبلكم كانت لهم قوة وأموال وأولاد بل أشد وأكثر في ذلك منكم، فاستمتعوا بنصيبهم وقد تفرع على هذه المماثلة أنكم استمتعتم كما استمتعوا وخضتم كما خاضوا أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون وأنتم أيضا أمثالهم في الحبط والخسران ولذا وعدكم النار الخالدة ولعنكم.

وذكر كون قوة من قبلهم أشد وأموالهم وأولادهم أكثر للإيماء إلى أنهم لم يعجزوا الله بذلك، ولم يدفع ذلك عنهم غائلة الحبط والخسران فكيف بكم وأنتم أضعف قوة وأقل أموالا وأولادا؟.

قوله تعالى: ﴿ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات﴾ الآية رجوع إلى السياق الأول وهو سياق مخاطبة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع افتراض الغيبة في المنافقين، وتذكير لهم بما قص عليهم القرآن من قصص الأمم الماضين.

فذاك قوم نوح عمهم الله سبحانه بالغرق، وعاد وهم قوم هود أهلكهم بريح صرصر عاتية، وثمود وهم قوم صالح عذبهم بالرجفة، وقوم إبراهيم أهلك ملكهم نمرود وسلب عنهم النعمة، والمؤتفكات وهي القرى المنقلبات على وجهها - من ائتفكت الأرض إذا انقلبت - قرى قوم لوط جعل عاليها سافلها.

وقوله: ﴿أتتهم رسلهم بالبينات﴾ أي بالواضحات من الآيات والحجج والبراهين وهو بيان إجمالي لنبئهم أي كان نبؤهم أن أتتهم رسلهم بالآيات البينة فكذبوها فانتهى أمرهم إلى الهلاك، ولم يكن من شأن السنة الإلهية أن يظلمهم لأنه بين لهم الحق والباطل، وميز الرشد من الغي، والهدى من الضلال، ولكن كان أولئك الأقوام والأمم أنفسهم يظلمون بالاستمتاع من نصيب الدنيا والخوض في آيات الله وتكذيب رسله.

قوله تعالى: ﴿والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض﴾ إلى آخر الآية.

ثم وصف الله سبحانه حال المؤمنين عامة محاذاة لما وصف به المنافقين فقال: ﴿والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض﴾ ليدل بذلك على أنهم مع كثرتهم وتفرقهم من حيث العدد ومن الذكورة والأنوثة ذوو كينونة واحدة متفقة لا تشعب فيها ولذلك يتولى بعضهم أمر بعض ويدبره.

ولذلك كان يأمر بعضهم بعضا بالمعروف وينهى بعضهم بعضا عن المنكر فلولاية بعض المجتمع على بعض ولاية سارية في جميع الأبعاض دخل في تصديهم الأمر بالمعروفة والنهي عن المنكر فيما بينهم أنفسهم.

ثم وصفهم بقوله: ﴿ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة﴾ وهما الركنان الوثيقان في الشريعة فالصلاة ركن العبادات التي هن الرابطة بين الله وبين خلقه، والزكاة في المعاملات التي هي رابطة بين الناس أنفسهم.

ثم وصفهم بقوله: ﴿ويطيعون الله ورسوله﴾ فجمع في إطاعة الله جميع الأحكام الشرعية الإلهية وجمع في إطاعة رسوله جميع الأحكام الولائية التي يصدرها رسوله في إدارة أمور الأمة وإصلاح شئونهم كفرامينه في الغزوات، وأحكامه في القضايا وإجراء الحدود وغير ذلك.

على أن إطاعة شرائع الله النازلة من السماء من جهة أخرى منطوية في إطاعة الرسول فإن الرسول هو الصادع بالحق القائم بالدعوة إلى أصول الدين وفروعه.

وقوله: ﴿أولئك سيرحمهم الله﴾ إخبار عما في القضاء الإلهي من شمول الرحمة الإلهية لهؤلاء القوم الموصوفين بما ذكر، وكان في هذه الجملة محاذاة لما سرد في المنافقين من قوله تعالى: ﴿نسوا الله فنسيهم﴾ والظاهر أيضا أن قوله: ﴿إن الله عزيز حكيم﴾ تعليل لما ذكر من الرحمة فلا مانع من رحمته لعزته، ولا اختلال أو وهنا وجزافا في حكمته.

قوله تعالى: ﴿وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار﴾ إلى آخر الآية، العدن مصدر بمعنى الإقامة والاستقرار يقال: عدن بالمكان أي أقام فيه واستقر ومنه المعدن للأرض التي تستقر فيه الجواهر والفلزات المعدنية، وعلى هذا فمعنى جنات عدن جنات إقامة واستقرار وخلود.

وقوله: ﴿ورضوان من الله أكبر﴾ أي رضى الله سبحانه عنهم أكبر من ذلك كله - على ما يفيده السياق - وقد نكر ﴿رضوان﴾ إيماء إلى أنه لا يقدر بقدر ولا يحيط به وهم بشر أو لأن رضوانا ما منه ولو كان يسيرا أكبر من ذلك كله لا لأن ذلك كله مما يتفرع على رضاه تعالى ويترشح منه وإن كان كذلك في نفسه - بل لأن حقيقة العبودية التي يندب إليها كتاب الله هي عبوديته تعالى حبا له: لا طمعا في جنة، أو خوفا من نار، وأعظم السعادة والفوز عند المحب أن يستجلب رضى محبوبه دون أن يسعى لإرضاء نفسه.

وكأنه للإشارة إلى ذلك ختم الآية بقوله: ﴿ذلك هو الفوز العظيم﴾ وتكون في الجملة دلالة على معنى الحصر أي إن هذا الرضوان هو حقيقة كل فوز عظيم حتى الفوز العظيم بالجنة الخالدة إذ لو لا شيء من حقيقة الرضى الإلهي في نعيم الجنة كان نقمة لا نعمة.

قوله تعالى: ﴿يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير﴾ جهاد القوم ومجاهدتهم بذل غاية الجهد في مقاومتهم وهو يكون باللسان وباليد حتى ينتهي إلى القتال، وشاع استعماله في الكتاب في القتال وإن كان ربما استعمل في غيره كما في قوله: ﴿والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا﴾ الآية.

واستعماله في قتال الكفار على رسله لكونهم متجاهرين بالخلاف والشقاق، وأما المنافقون فهم الذين لا يتظاهرون بكفر ولا يتجاهرون بخلاف، وإنما يبطنون الكفر ويقلبون الأمور كيدا ومكرا ولا معنى للجهاد معهم بمعنى قتالهم ومحاربتهم؟ ولذلك ربما يسبق إلى الذهن أن المراد بجهادهم مطلق ما تقتضيه المصلحة من بذل غاية الجهد في مقاومتهم فإن اقتضت المصلحة هجروا ولم يخالطوا ولم يعاشروا، وإن اقتضت وعظوا باللسان، وإن اقتضت أخرجوا وشردوا إلى غير الأرض أو قتلوا إذا أخذ عليهم الردة، أو غير ذلك.

وربما شهد لهذا المعنى أعني كون المراد بالجهاد في الآية مطلق بذل الجهد تعقيب قوله: ﴿جاهد الكفار والمنافقين﴾ بقوله: ﴿وأغلظ عليهم﴾ أي شدد عليهم وعاملهم بالخشونة.

وأما قوله: ﴿ومأواهم جهنم وبئس المصير﴾ فهو عطف على ما قبله من الأمر، ولعل الذي هون الأمر في عطف الإخبار على الإنشاء هو كون الجملة السابقة في معنى قولنا: ﴿إن هؤلاء الكفار والمنافقين مستوجبون للجهاد﴾.

والله أعلم.

قوله تعالى: ﴿يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا﴾ الآية.

سياق الآية يشعر بأنهم أتوا بعمل سيىء وشفعوه بقول تفوهوا به عند ذلك، وأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عاتبهم على قولهم مؤاخذا لهم فحلفوا بالله ما قالوا كما تقدم في قوله: ﴿ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب﴾ إلى آخر الآية إنهم كانوا يعتذرون بذلك عن عملهم أنه كان خوضا ولعبا لا غير ذلك.

والله سبحانه يكذبهم في الأمرين جميعا: أما في إنكارهم القول فبقوله: ﴿ولقد قالوا كلمة الكفر﴾ وفسره ثانيا بقوله: ﴿وكفروا بعد إسلامهم﴾ للدلالة على جد القول فيتفرع عليه الكفر بعد الإسلام.

ولعله قال هاهنا: ﴿وكفروا بعد إسلامهم﴾ وقد قيل سابقا: ﴿قد كفرتم بعد إيمانكم﴾ لأن القول السابق للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الجاري على ظاهر حالهم وهو الإيمان الذي كانوا يدعونه ويتظاهرون به، والقول الثاني لله العالم بالغيب والشهادة فيشهد بأنهم لم يكونوا مؤمنين ولم يتعدوا الشهادتين بلسانهم فهم كانوا مسلمين لا مؤمنين، وقد كفروا بقولهم وخرجوا عن الإسلام إلى الكفر، وفي هذا إيماء إلى أن قولهم كان كلمة فيه الرد على الشهادتين أو إحداهما.

أو لأن القول الأول في قبال عملهم الذي أرادوا إيقاع الشر بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، والعمل الخالي من القول وهو لم يصب الغرض لا يضر بالإسلام الذي هو نصيب اللفظ والشهادة، وإنما يضر بالإيمان الذي هو نصيب الاعتقاد، والقول الثاني في قبال قولهم الذي تفوهوا به، وهو ينافي الإسلام الذي يكتسب باللفظ دون الإيمان الذي هو نوع من الاعتقاد القلبي.

وأما في إنكارهم العمل السيىء الذي أتوا به وتأويلهم إياه إلى الخوض واللعب فبقوله: ﴿وهموا بما لم ينالوا﴾.

ثم قال في مقام ذمهم وتعييرهم: ﴿وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله﴾ أي بسبب أن أغناهم الله ورسوله، أي كان سبب نقمتهم هذه أن الله أغناهم من فضله بما رزقهم من الغنائم وبسط عليهم الأمن والرفاهية فمكنهم من توليد الثروة وإنماء المال من كل جهة، وكذا رسوله حيث هداهم إلى عيشة صالحة تفتح عليهم أبواب بركات السماء والأرض، وقسم بينهم الغنائم وبسط عليهم العدل.

فهو من قبيل وضع الشيء موضع ضده: وضع فيه الإغناء وهو بحسب الطبع سبب للرضى والشكر موضع سبب النقمة والسخطة كالظلم والغضب وإن شئت قلت: وضع فيه الإحسان موضع الإساءة، ففيه نوع من التهكم المشوب بالذم نظير ما في قوله تعالى: ﴿وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون﴾ الواقعة: 82 أي تجعلون رزقكم سببا للتكذيب بآيات الله وهو سبب بحسب الطبع لشكر النعمة والرضا بالموهبة على ما قيل: إن المعنى: وتجعلون بدل شكر رزقكم أنكم تكذبون.

والضمير في قوله: ﴿من فضله﴾ راجع إلى الله سبحانه، قال في المجمع،: وإنما لم يقل: من فضلهما لأنه لا يجمع بين اسم الله واسم غيره في الكناية تعظيما لله، ولذلك قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لمن سمعه يقول: ﴿من أطاع الله ورسوله فقد اهتدى ومن عصاهما فقد غوى﴾ بئس خطيب القوم أنت فقال: كيف أقول يا رسول الله؟ قال: قل: ومن يعص الله ورسوله، وهكذا القول في قوله سبحانه: ﴿والله ورسوله أحق أن يرضوه﴾ وقيل: إنما لم يقل من فضلهما لأن فضل الله منه وفضل رسوله من فضله، انتهى كلامه.

وهناك وراء التعظيم أمر آخر قدمنا القول فيه في تفسير قوله تعالى: ﴿لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة﴾ المائدة: 73 في الجزء السادس من الكتاب، وهو أن وحدته تعالى ليست من سنخ الوحدة العددية حتى يصح بذلك تأليفها مع وحدة غيره واستنتاج عدد من الأعداد منه.

ثم بين الله سبحانه لهؤلاء المنافقين أن لهم مع هذه الذنوب المهلكة وصريح كفرهم بالله وهمهم بما لم ينالوا أن يرجعوا إلى ربهم، وبين عاقبة أمر هذه التوبة وعاقبة التولي والإعراض عنها فقال: ﴿فإن يتوبوا يك خيرا لهم﴾ لأدائه إلى المغفرة والجنة ﴿وإن يتولوا﴾ ويعرضوا عن التوبة ﴿يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا﴾ بالسياسة والنكال أو بإغراء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عليهم أو بالمكر والاستدراج، ولو لم يكن من عذابهم إلا أنهم مخالفون بنفاقهم نظام الأسباب المبني على الصدق والإيمان فتقادمهم سلسلة الأسباب وتحطمهم وتفضحهم لكان فيه كفاية، وقد قال الله: ﴿والله لا يهدي القوم الفاسقين﴾ التوبة: 24 ﴿والآخرة﴾ بعذاب النار.

وقوله تعالى: ﴿وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير﴾ معناه أن هؤلاء لا ولي لهم في الأرض يتولى أمرهم ويصرف العذاب عنهم، ولا نصير ينصرهم ويمدهم بما يدفعون به العذاب الموعود عن أنفسهم لأن سائر المنافقين أيضا منهم وكلمة الفساد يجمعهم وأصلهم الفاسد منقطع عن سائر الأسباب الكونية فلا ولي لهم يتولى أمرهم ولا ناصر لهم ينصرهم ولعل هذه الجملة من الآية إشارة إلى ما أومأنا إليه في معنى عذاب الدنيا.

بحث روائي:

في المجمع، في قوله تعالى: ﴿يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة﴾ الآية، قيل: نزلت في اثني عشر رجلا وقفوا على العقبة ليفتكوا برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عند رجوعه من تبوك فأخبر جبرئيل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك، وأمره أن يرسل إليهم ويضرب وجوه رواحلهم. وعمار كان يقود دابة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وحذيفة يسوقها فقال لحذيفة: اضرب وجوه رواحلهم، فضربها حتى نحاهم فلما نزل قال لحذيفة: من عرفت من القوم؟ قال: لم أعرف منهم أحدا فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إنه فلان وفلان حتى عدهم كلهم فقال حذيفة: ألا تبعث إليهم فتقتلهم؟ فقال: أكره أن تقول العرب: لما ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم: عن ابن كيسان. وروي عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام): مثله إلا أنه قال: ائتمروا بينهم ليقتلوه وقال بعضهم لبعض: إن فطن نقول: إنما كنا نخوض ونلعب، وإن لم يفطن نقتله.

وقيل: إن جماعة من المنافقين قالوا في غزوة تبوك: يظن هذا الرجل أن يفتح قصور الشام وحصونها هيهات هيهات، فأطلع الله نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) على ذلك فقال: احبسوا على الركب، فدعاهم فقال لهم: قلتم كذا وكذا.

فقالوا: يا نبي الله إنما كنا نخوض ونلعب وحلفوا على ذلك فنزلت الآية: ﴿ولئن سألتهم ليقولن﴾ إلخ، عن الحسن وقتادة.

وقيل: كان ذلك عند منصرفه من غزوة تبوك إلى المدينة وكان بين يديه أربعة نفر أو ثلاثة يستهزءون ويضحكون، وأحدهم يضحك ولا يتكلم فنزل جبرئيل وأخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك فدعا عمار بن ياسر وقال: إن هؤلاء يستهزءون بي وبالقرآن أخبرني جبرئيل بذلك، ولئن سألتهم ليقولن: كنا نتحدث بحديث الركب فاتبعهم عمار وقال: مم تضحكون؟ قالوا: نتحدث بحديث الركب فقال عمار: صدق الله ورسوله احترقتم أحرقكم الله، فأقبلوا إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يعتذرون فأنزل الله تعالى الآيات.

عن الكلبي وعلي بن إبراهيم وأبي حمزة.

وقيل: إن رجلا قال في غزوة تبوك: ما رأيت أكذب لسانا ولا أجبن عند اللقاء من هؤلاء يعني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه، فقال له عوف بن مالك: كذبت ولكنك منافق، وأراد أن يخبر رسول الله بذلك فجاء وقد سبقه الوحي فجاء الرجل معتذرا، وقال: إنما كنا نخوض ونلعب ففيه نزلت الآية، عن ابن عمر وزيد بن أسلم ومحمد بن كعب.

وقيل: إن رجلا من المنافقين قال: يحدثنا محمد أن ناقة فلان بوادي كذا وكذا وما يدريه ما الغيب؟ فنزلت الآية، عن مجاهد.

وقيل: نزلت في عبد الله بن أبي ورهطه، عن الضحاك.

وفي المجمع، أيضا: في قوله تعالى: ﴿يحلفون بالله ما قالوا﴾ الآية، اختلف في من نزلت فيه هذه الآية فقيل: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان جالسا في ظل شجرة فقال: إنه سيأتيكم إنسان فينظر إليكم بعيني الشيطان، فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق فدعاه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فانطلق الرجل فجاء بأصحابه فحلفوا بالله: ما قالوا فأنزل الله هذه الآية: عن ابن عباس.

وقيل: خرج المنافقون مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى تبوك فكانوا إذا خلا بعضهم ببعض سبوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه وطعنوا في الدين فنقل ذلك حذيفة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال لهم: ما هذا الذي بلغني عنكم فحلفوا بالله: ما قالوا شيئا من ذلك.

عن الضحاك.

وقيل: نزلت في جلاس بن سويد بن الصامت، وذلك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خطب ذات يوم بتبوك وذكر المنافقين فسماهم رجسا وعابهم، فقال الجلاس: والله لئن كان محمد صادقا فيما يقول فنحن شر من الحمير فسمعه عامر بن قيس فقال: أجل والله إن محمدا لصادق وأنتم شر من الحمير، فلما انصرف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة أتاه عامر بن قيس فأخبره بما قال الجلاس، فقال الجلاس: كذب يا رسول الله.

فأمرهما رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يحلفا عند المنبر فقام الجلاس عند المنبر فحلف بالله ما قال ثم قام عامر فحلف بالله: لقد قال، ثم قال: اللهم أنزل على نبيك الصادق منا الصدق، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنون: آمين، فنزل جبرئيل (عليه السلام) قبل أن يتفرقا بهذه الآية حتى بلغ: ﴿فإن يتوبوا يك خيرا لهم﴾ .

فقام الجلاس فقال: يا رسول الله أسمع الله قد عرض علي التوبة صدق عامر بن قيس فيما قال لك لقد قلته وأنا أستغفر الله وأتوب إليه، فقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك منه.

عن الكلبي ومحمد بن إسحاق ومجاهد.

وقيل: نزلت في عبد الله بن أبي بن سلول حين قال: ﴿لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل﴾ عن قتادة.

وقيل: نزلت في أهل العقبة فإنهم ائتمروا في أن يغتالوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في عقبة عند مرجعهم من تبوك، وأرادوا أن يقطعوا أنساع راحلته ثم ينخسوا به فأطلعه الله على ذلك، وكان من جملة معجزاته لأنه لا يمكن معرفة مثل ذلك إلا بوحي من الله تعالى.

فسار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في العقبة، وعمار وحذيفة معه، أحدهما يقود ناقته والآخر يسوقها وأمر الناس كلهم بسلوك بطن الوادي، وكان الذين هموا بقتله اثني عشر رجلا أو خمسة عشر رجلا على الخلاف فيه عرفهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وسماهم واحدا واحدا، عن الزجاج والواقدي والكلبي، والقصة مشروحة في كتاب الواقدي.

وقال الباقر (عليه السلام): كانت ثمانية منهم من قريش وأربعة من العرب.

أقول: والذي ذكره رحمه الله مما جمعه واختاره من الروايات مروية في كتب التفسير بالمأثور وجوامع الحديث من كتب الفريقين وهناك روايات أخرى تركها وأحرى بها أن تترك فتركنا أكثرها كما ترك.

وأما الذي أورده من الروايات فشيء منها لا ينطبق على الآيات غير حديث العقبة الذي أورده تارة في تفسير الآية الأولى: ﴿يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة﴾ الآية، وتارة في تفسير الآية: ﴿يحلفون بالله ما قالوا﴾ الآية.

وأما سائر الروايات الواردة فإنما هي روايات تتضمن من متفرقات القصص والوقائع ما لو صحت وثبتت كانت من قصص المنافقين من غير أن ترتبط بهذه الآيات وهي كما عرفت في البيان السابق إحدى عشرة آية متصل بعضها ببعض مسرودة لغرض واحد، وهو الإشارة إلى قصة من قصص المنافقين هموا فيها باغتيال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتكلموا عند ذلك بكلمة الكفر فحال الله سبحانه بينهم وبين أن ينالوا ما هموا به فسألهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن أمرهم وما تفوهوا به فأولوا فعلهم وأنكروا قولهم وحلفوا على ذلك فكذبهم الله تعالى فيه.

فهذا إجمال ما يلوح من خلال الآيات، ولا ينطبق من بين الروايات إلا على الروايات المشتملة على قصة العقبة في الجملة دون سائرها.

ولا مسوغ للاستناد إليها في تفسير الآيات إلا على مسلك القوم من تحكيم الروايات بحسب مضمونها على الآيات سواء ساعدت على ذلك ألفاظ الآيات أو لم تساعد على ما فيها - أعني الروايات - من الاختلاف الفاحش الذي يوجب سوء الظن بها كما يظهر لمن راجعها.

على أن في الروايات مغمزا آخر وهو ظهورها في تقطع الآيات وتشتت بعضها وانفصاله عن بعض بنزول كل لسبب آخر وتعقيبه غرضا آخر، وقد عرفت أن الآيات ذات سياق واحد متصل ليس من شأنه إلا أن يعقب غرضا واحدا.

وفي الدر المنثور، أخرج عبد الرزاق وابن المنذر وأبو الشيخ عن الكلبي: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما أقبل من غزوة تبوك وبين يديه ثلاثة رهط استهزءوا بالله ورسوله وبالقرآن قال: كان رجل منهم لم يمالئهم في الحديث يسير مجانبا لهم يقال له: يزيد بن وديعة فنزلت: ﴿إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة﴾ فسمى طائفة وهو واحد.

أقول: وهذا هو منشأ قول بعضهم: إن الطائفة تطلق على الواحد كما تطلق على الكثير مع أن الآية جارية مجرى الكناية دون التسمية ونظير ذلك كثير في الآيات القرآنية كما تقدمت الإشارة إليه.

وفيه، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في رهط من المنافقين من بني عمرو بن عوف فيهم وديعة بن ثابت، ورجل من أشجع حليف لهم يقال له: مخشي بن حمير كانوا يسيرون مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو منطلق إلى تبوك فقال بعضهم لبعض: أ تحسبون قتال بني الأصفر كقتال غيرهم والله لكأنا بكم غدا تقادون في الحبال. قال مخشي بن حمير لوددت أني أقاضي على أن يضرب كل رجل منكم مائة على أن ينجو من أن ينزل فينا قرآن فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعمار بن ياسر: أدرك القوم فإنهم قد احترقوا فسلهم عما قالوا فإن هم أنكروا وكتموا فقل: بلى قد قلتم كذا وكذا فأدركهم فقال لهم فجاءوا يعتذرون فأنزل الله: ﴿لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم أن نعف عن طائفة منكم﴾ الآية فكان الذي عفا الله عنه مخشي بن حمير فتسمى عبد الرحمن، وسأل الله أن يقتل شهيدا لا يعلم بمقتله فقتل باليمامة لا يعلم مقتله ولا من قتله ولا يرى له أثر ولا عين.

أقول: وقصة مخشي بن حمير وردت في عدة روايات غير أنها على تقدير صحتها لا تستلزم نزول الآيات فيها على ما بينها وبين مضامين الآيات من البون البعيد.

وليس من الواجب علينا إذا عثرنا على شيء من القصص الواقعة في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أي قصة كانت أن نلجم بها آية من آيات القرآن الكريم ثم نعود فنفسر الآية بالقصة ونحكمها عليها.

وفي الدر المنثور، أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: ما أشبه الليلة بالبارحة: ﴿كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة إلى قوله وخضتم كالذي خاضوا﴾ هؤلاء بنو إسرائيل أشبهناهم، والذي نفسي بيده لتتبعنهم حتى لو دخل رجل جحر ضب لدخلتموه: أقول: ورواه في المجمع، أيضا عنه. وفي المجمع، عن تفسير الثعلبي عن أبي هريرة عن أبي سعيد الخدري عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: لتأخذن كما أخذت الأمم من قبلكم ذراعا بذراع وشبرا بشبر وباعا بباع حتى لو أن أحدا من أولئك دخل جحر ضب لدخلتموه. قالوا: يا رسول الله كما صنعت فارس والروم وأهل الكتاب؟ قال: فهل الناس إلا هم؟ وفيه، أيضا عن تفسير الثعلبي عن حذيفة قال: المنافقون الذين فيكم اليوم شر من المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). قلنا: وكيف؟ قال: أولئك كانوا يخفون نفاقهم وهؤلاء أعلنوه. وفي العيون، بإسناده عن القاسم بن مسلم عن أخيه عبد العزيز بن مسلم قال: سألت الرضا (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: ﴿نسوا الله فنسيهم﴾ فقال: إن الله تبارك وتعالى لا ينسى ولا يسهو، وإنما ينسى ويسهو المخلوق المحدث أ لا تسمعه عز وجل يقول: ﴿وما كان ربك نسيا﴿، وإنما يجازي من نسيه ونسي لقاء يومه أن ينسيهم أنفسهم كما قال عز وجل: ﴿ولا تكونوا كالذين نسوا الله - فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون﴾ وقوله عز وجل ﴿فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا﴾ أي نتركهم كما تركوا الاستعداد للقاء يومهم هذا.

وفي تفسير العياشي، عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام): ﴿نسوا الله﴾ قال: تركوا طاعة الله ﴿فنسيهم﴾ قال: فتركهم. وفيه، عن أبي معمر السعداني قال: قال علي (عليه السلام): في قوله: ﴿نسوا الله فنسيهم﴾ فإنما يعني أنهم نسوا الله في دار الدنيا فلم يعملوا له بالطاعة ولم يؤمنوا به وبرسوله فنسيهم في الآخرة أي لم يجعل لهم في ثوابه نصيبا فصاروا منسيين من الخير: أقول: ورواه الصدوق في المعاني، بإسناده عن أبي معمر عنه (عليه السلام). وفي الكافي، بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): في حديث قلت: ﴿والمؤتفكات أتتهم رسلهم بالبينات﴾ قال: أولئك قوم لوط ائتفكت عليهم أي انقلبت وصارت عاليها سافلها. وفي التهذيب، بإسناده عن صفوان بن مهران قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) تأتيني المرأة المسلمة قد عرفتني بعملي وأعرفها بإسلامها ليس لها محرم فأحملها، قال: فاحملها فإن المؤمن محرم للمؤمنة.

ثم تلا هذه الآية: ﴿والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض﴾ أقول: ورواه العياشي في تفسيره عن صفوان الجمال عنه (عليه السلام).

وفي تفسير العياشي، عن ثوير عن علي بن الحسين (عليهما السلام) قال: إذا صار أهل الجنة في الجنة ودخل ولي الله إلى جناته ومساكنه، واتكأ، كل مؤمن على أريكته حفته خدامه، وتهدلت عليه الأثمار، وتفجرت حوله العيون، وجرت من تحته الأنهار، وبسطت له الزرابي، ووضعت له النمارق، وأتته الخدام بما شاءت هواه من قبل أن يسألهم ذلك قال: وتخرج عليه الحور العين من الجنان فيمكثون بذلك ما شاء الله. ثم إن الجبار يشرف عليهم فيقول لهم: أوليائي وأهل طاعتي وسكان جنتي في جواري الأهل أنبئكم بخير مما أنتم فيه؟ فيقولون: ربنا وأي شيء خير مما نحن فيه: فيما اشتهت أنفسنا ولذت أعيننا من النعم في جوار الكريم؟.

قال: فيعود عليهم القول فيقولون ربنا نعم فأتنا بخير مما نحن فيه فيقول تبارك وتعالى لهم: رضاي عنكم ومحبتي لكم خير وأعظم مما أنتم فيه قال: فيقولون: نعم يا ربنا رضاك عنا ومحبتك لنا خير وأطيب لأنفسنا. ثم قرأ علي بن الحسين (عليهما السلام) هذه الآية: ﴿وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار - خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن - ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم﴾.

وفي الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن جابر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إذا دخل أهل الجنة الجنة قال الله: هل تشتهون شيئا فأزيدكم؟ قالوا: يا ربنا وهل بقي شيء؟ إلا قد أنلتناه؟ فيقول: نعم رضائي فلا أسخط عليكم أبدا.

أقول: وهذا المعنى وارد في روايات كثيرة من طرق الفريقين.

وفي جامع الجوامع، عن أبي الدرداء عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): عدن دار الله التي لم ترها عين ولم تخطر على قلب بشر لا يسكنها غير ثلاثة: النبيون والصديقون والشهداء يقول الله: طوبى لمن دخلك.

أقول: ولا ينافي خصوص سكنة الجنة في الرواية عمومهم في الآية لدلالة قوله تعالى: ﴿والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم﴾ الحديد: 19 على أن الله سبحانه سيلحق عامة المؤمنين بالصديقين والشهداء.

وفي تفسير القمي، في قوله تعالى: ﴿يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين﴾ الآية: قال حدثني أبي عن أبي عمير عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: جاهد الكفار والمنافقين بإلزام الفرائض. وفي الدر المنثور، أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود قال: لما نزلت: ﴿يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين﴾ أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجاهد بيده فإن لم يستطع فبقلبه فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فليلقه بوجه مكفهر.

أقول: وفي الرواية تشويش من حيث ترتب أجزائها فالجهاد بالقلب بعد الجميع وقد تخلل بينها.