الآيات 38 - 48

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ ﴿38﴾ إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿39﴾ إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ يَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴿40﴾ انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿41﴾ لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ وَلَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴿42﴾ عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ﴿43﴾ لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ﴿44﴾ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ ﴿45﴾ وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ ﴿46﴾ لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴿47﴾ لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاء الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ ﴿48﴾

بيان:

تعرض للمنافقين وفيه بيان لجمل أوصافهم وعلائمهم، وشرح ما لقي الإسلام والمسلمون من كيدهم ومكرهم وما قاسوه من المصائب من جهة نفاقهم، وفي مقدمها عتاب المؤمنين في تثاقلهم عن الجهاد، وحديث خروج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من مكة وذكر الغار.

قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض﴾ الآية اثاقلتم أصله تثاقلتم على وزان اداركوا وغيره، وكأنه أشرب معنى الميل ونحوه فعدي بإلى وقيل: اثاقلتم إلى الأرض أي ملتم إلى الأرض متثاقلين أو تثاقلتم مائلين إلى الأرض والمراد بالنفر في سبيل الله الخروج إلى الجهاد.

وقوله: ﴿أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة﴾ كان الرضا أشرب معنى القناعة فعدي بمن كما يقال: رضيت من المال بطيبه، ورضيت من القوم بخلة فلان، وعلى هذا ففي الكلام نوع من العناية المجازية كأن الحياة الدنيا نوع حقير من الحياة الآخرة قنعوا بها منها، ويشعر بذلك قوله بعده: ﴿فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل﴾.

فمعنى الآية: يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قال لكم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - لم يصرح باسمه صونا وتعظيما - اخرجوا إلى الجهاد أبطأتم كأنكم لا تريدون الخروج أقنعتم بالحياة الدنيا راضين بها من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا بالنسبة إلى الحياة الآخرة إلا قليل.

وفي الآية وما يتلوها عتاب شديد للمؤمنين وتهديد عنيف وهي تقبل الانطباق على غزوة تبوك كما ورد ذلك في أسباب النزول.

قوله تعالى: ﴿إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم﴾ إلى آخر الآية العذاب الذي أنذروا به مطلق غير مقيد فلا وجه لتخصيصه بعذاب الآخرة بل هو على إبهامه، وربما أيد السياق كون المراد به عذاب الدنيا أو عذاب الدنيا والآخرة جميعا.

وقوله: ﴿يستبدل قوما غيركم﴾ أي يستبدل بكم قوما غيركم لا يتثاقلون في امتثال أوامر الله والنفر في سبيل الله إذا قيل لهم: انفروا، والدليل على هذا المعنى قرينة المقام.

وقوله: ﴿ولا تضروه شيئا﴾ إشارة إلى هوان أمرهم على الله سبحانه لو أراد أن يذهب بهم ويأتي بآخرين فإن الله لا ينتفع بهم بل نفعهم لأنفسهم فضررهم على أنفسهم، وقوله: ﴿والله على كل شيء قدير﴾ تعليل لقوله: ﴿يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم﴾.

قوله تعالى: ﴿إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار﴾ ثاني اثنين أي أحدهما، والغار الثقبة العظيمة في الجبل، والمراد به غار جبل ثور قرب مني وهو غير غار حراء الذي ربما كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يأوي إليه قبل البعثة للأخبار المستفيضة، والمراد بصاحبه هو أبو بكر للنقل القطعي.

وقوله: ﴿إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا﴾ أي لا تحزن خوفا مما تشاهده من الوحدة والغربة وفقد الناصر وتظاهر الأعداء وتعقيبهم إياي فإن الله سبحانه معنا ينصرني عليهم.

وقوله: ﴿فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها﴾ أي أنزل الله سكينته على رسوله وأيد رسوله بجنود لم تروها يصرفون القوم عنهم بوجوه من الصرف بجميع العوامل التي عملت في انصراف القوم عن دخول الغار والظفر به (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد روي في ذلك أشياء ستأتي في البحث الروائي إن شاء الله تعالى.

والدليل على رجوع الضمير في قوله: ﴿فأنزل الله سكينته عليه﴾ إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أولا: رجوع الضمائر التي قبله وبعده إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) كقوله: ﴿إلا تنصروه﴾ و﴿نصره﴾ و﴿أخرجه﴾ و﴿يقول﴾ و﴿لصاحبه﴾ و﴿أيده﴾ فلا سبيل إلى رجوع ضمير ﴿عليه﴾ من بينها وحده إلى غيره من غير قرينة قاطعة تدل عليه.

وثانيا: أن الكلام في الآية مسوق لبيان نصر الله تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث لم يكن معه أحد ممن يتمكن من نصرته إذ يقول تعالى: ﴿إلا تنصروه فقد نصره الله إذ﴾ الآية وإنزال السكينة والتقوية بالجنود من النصر فذاك له (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصة.

ويدل على ذلك تكرار ﴿إذ﴾ وذكرها في الآية ثلاث مرات كل منها بيان لما قبله بوجه فقوله ﴿إذ أخرجه الذين كفروا﴾ بيان لوقت قوله: ﴿فقد نصره الله﴾ وقوله: ﴿إذ هما في الغار﴾ بيان لتشخيص الحال الذي هو قوله: ﴿ثاني اثنين﴾ وقوله: ﴿إذ يقول لصاحبه﴾ بيان لتشخيص الوقت الذي يدل عليه قوله: ﴿إذ هما في الغار﴾ .

وثالثا: أن الآية تجري في سياق واحد حتى يقول: ﴿وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا﴾ ولا ريب أنه بيان لما قبله، وأن المراد بكلمة الذين كفروا هي ما قضوا به في دار الندوة وعزموا عليه من قتله (صلى الله عليه وآله وسلم) وإطفاء نور الله، وبكلمة الله هي ما وعده من نصره وإتمام نوره، وكيف يجوز أن يفرق بين البيان والمبين وجعل البيان راجعا إلى نصره تعالى إياه (صلى الله عليه وآله وسلم)، والمبين راجعا إلى نصره غيره.

فمعنى الآية: إن لم تنصروه أنتم أيها المؤمنون فقد أظهر الله نصره إياه في وقت لم يكن له أحد ينصره ويدفع عنه وقد تظاهرت عليه الأعداء وأحاطوا به من كل جهة وذلك إذ هم المشركون به وعزموا على قتله فاضطر إلى الخروج من مكة في حال لم يكن إلا أحد رجلين اثنين، وذلك إذ هما في الغار إذ يقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لصاحبه وهو أبو بكر: لا تحزن مما تشاهده من الحال إن الله معنا بيده النصر فنصره الله.

حيث أنزل سكينته عليه وأيده بجنود غائبة عن أبصاركم، وجعل كلمة الذين كفروا - وهي قضاؤهم بوجوب قتله وعزيمتهم عليه - كلمة مغلوبة غير نافذة ولا مؤثرة، وكلمة الله - وهي الوعد بالنصر وإظهار الدين وإتمام النور - هي العليا العالية القاهرة والله عزيز لا يغلب حكيم لا يجهل ولا يغلط في ما شاءه وفعله.

وقد تبين مما تقدم أولا أن قوله: ﴿فأنزل الله سكينته عليه﴾ متفرع على قوله: ﴿فقد نصره الله﴾ في عين أنه متفرع على قوله: ﴿إذ يقول لصاحبه لا تحزن﴾ فإن الظرف ظرف للنصرة على ما تقدم، والكلام مسوق لبيان نصره تعالى إياه (صلى الله عليه وآله وسلم) لا غيره فالتفريع تفريع على الظرف بمظروفه الذي هو قوله: ﴿فقد نصره الله﴾ لا على قوله: ﴿يقول لصاحبه لا تحزن﴾.

وربما استدل لذلك بأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يزل على سكينة من ربه فإنزال السكينة في هذا الظرف خاصة يكشف عن نزوله على صاحبه.

ويدفعه أولا قوله تعالى: ﴿ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين﴾ في قصة حنين، والقول بأن نفسه الشريفة اضطربت بعض الاضطراب في وقعة حنين فناسب نزول السكينة بخلاف الحال في الغار.

يدفعه أنه من الافتعال بغير علم فالآية لا تذكر منه (صلى الله عليه وآله وسلم) حزنا ولا اضطرابا ولا غير ذلك إلا ما تذكر من فرار المؤمنين.

على أنه يبطل أصل الاستدلال أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يزل على سكينة من ربه لا يتجدد له شيء منها فكيف جاز له أن يضطرب في حنين فتنزل عليه سكينة جديدة اللهم إلا أن يريدوا به أنه لم يزل في الغار كذلك.

ونظيرتها الآية الناطقة بنزول السكينة عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى المؤمنين في سورة الفتح: ﴿إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين﴾ الفتح: 26.

ويدفعه ثانيا: لزوم تفرع قوله: ﴿وأيده بجنود لم تروها﴾ على أثر تفرع قوله: ﴿فأنزل الله سكينته عليه﴾ لأنهما في سياق واحد، ولازمه عدم رجوع التأييد بالجنود إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) أو التفكيك في السياق الواحد من غير مجوز يجوزه.

وربما التزم بعضهم - فرارا من شناعة لزوم التفكيك - أن الضمير في قوله تعالى: ﴿وأيده﴾ أيضا راجع إلى صاحبه، ولازمه كون إنزال السكينة والتأييد بالجنود عائدين إلى أبي بكر دون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

وربما أيده بعض آخر بأن الوقائع التي تذكر الآيات فيها نزول جنود لم يروها كوقعة حنين والأحزاب وكذا نزول الملائكة لوقعة بدر وإن لم تذكر نزولهم على المؤمنين ولم تصرح بتأييدهم بهم لكنهم حيث كانوا إنما نزلوا للنصر وفيه نصر المؤمنين وإمدادهم فلا مانع من القول بأن الجنود التي لم يروها إنما أيدت أبا بكر، وتأييدهم المؤمنين جميعا أو أبا بكر خاصة تأييد منهم في الحقيقة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

والأولى على هذا البيان أن يجعل الفرع الثالث الذي هو قوله: ﴿وجعل كلمة الذين كفروا السفلى﴾ الآية مترتبا على ما تقدمه من الفرعين لئلا يلزم التفكيك في السياق.

ولا يخفى عليك أن هذا الذي التزموا به يخرج الآية عن مستقر معناها الوحداني إلى معنى متهافت الأطراف يدفع آخره أوله، وينقض ذيله صدره فقد بدئت الآية بأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أكرم على الله وأعز من أن يستذله ويحوجه إلى نصرة هؤلاء بل هو تعالى وليه القائم بنصره حيث لم يكن أحد من هؤلاء الحافين حوله المتبعين أثره ثم إذا شرعت في بيان نصره تعالى إياه بين نصره غيره بإنزال السكينة عليه وتأييده بجنود لم يروها إلى آخر الآية.

هب أن نصره تعالى بعض المؤمنين به (صلى الله عليه وآله وسلم) أو جميعهم نصر منه له بالحقيقة لكن الآية في مساق يدفعه البتة فإن الآية السابقة يجمع المؤمنين في خطاب واحد - يا أيها الذين آمنوا - ويعاتبهم ويهددهم على التثاقل عن إجابة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى ما أمرهم به من النفر في سبيل الله والخروج إلى الجهاد ثم الآية الثانية تهددهم بالعذاب والاستبدال إن لم ينفروا وتبين لهم أن الله ورسوله في غنى عنهم ولا يضرونه شيئا، ثم الآية الثالثة توضح أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في غنى عن نصرهم لأن ربه هو وليه الناصر له، وقد نصره حيث لم يكن لأحد منهم صنع فيه وهو نصره إياه إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا.

ومن البين الذي لا مرية فيه أن مقتضى هذا المقام بيان نصره (صلى الله عليه وآله وسلم) الخاص به المتعلق بشخصه من الله سبحانه خاصة من دون صنع لأحد من المؤمنين في ذلك لا بيان نصره إياه بالمؤمنين أو ببعضهم وقد جمعهم في خطاب المعاتبة، ولا بيان نصره بعض المؤمنين به ممن كان معه.

ولا أن المقام مقام يصلح لأن يشار بقوله: ﴿إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين﴾ إشارة إجمالية إلى نصره العزيز لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم يؤخذ في تفصيل ما خص به صاحبه من الخصيصة بإنزال السكينة والتأييد بالجنود فإن المقام على ما تبين لك يأبى ذلك.

ويدفعه ثالثا: أن فيه غفلة عن حقيقة معنى السكينة وقد تقدم الكلام فيها في ذيل قوله تعالى: ﴿ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين﴾ الآية: 26 من السورة.

والأمر الثاني: أن المراد بتأييده (صلى الله عليه وآله وسلم) بجنود لم يروها تأييده بذلك يومئذ على ما يفيده السياق، وأما قول بعضهم: إن المراد به ما أيده بالجنود يوم الأحزاب ويوم حنين على ما نطقت به الآيات فمما لا دليل عليه من اللفظ البتة.

والأمر الثالث: أن المراد بالكلمة في قوله: ﴿وجعل كلمة الذين كفروا السفلى﴾ ، هو ما قضوا به في دار الندوة وعزموا عليه من قتله (صلى الله عليه وآله وسلم) وإبطال دعوته الحقة بذلك، وبقوله: ﴿وكلمة الله هي العليا﴾ هو ما وعد الله نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) من النصر وإظهار دينه على الدين كله.

وذلك أن هذه الآية بما تتضمنه من قوله: ﴿فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا﴾ تشير إلى ما يقصه قوله تعالى: ﴿وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين﴾ الأنفال: 30، والذي في ذيل الآية من إبطال كلمتهم وإحقاق الكلمة الإلهية مرتبط بما في صدر الآية من حديث الإخراج أي الاضطرار إلى الخروج لا محالة، والذي اضطره (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الخروج هو عزمهم على قتله حسب ما اتفقوا عليه من القضاء بقتله فهذه هي الكلمة التي أبطلها الله سبحانه وجعلها السفلى وتقابلها كلمة الله وليست إلا النصر والإظهار.

ومن هنا يظهر أن قول بعضهم إن المراد بكلمة الذين كفروا الشرك والكفر، وبكلمة الله تعالى التوحيد والإيمان غير سديد فإن الشرك وإن كان كلمة لهم، والتوحيد كلمة لله لكنه لا يستلزم كونهما المرادين كلما ذكرت الكلمتان حتى مع وجود القرينة على الخلاف.

قوله تعالى: ﴿انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون﴾ الخفاف والثقال جمعا خفيف وثقيل، والثقل بقرينة المقام كناية عن وجود الموانع الشاغلة الصارفة للإنسان عن الخروج إلى الجهاد نظير كثرة المشاغل المالية وحب الأهل والولد والأقرباء والأصدقاء الذي يوجب كراهة مفارقتهم، وفقد الزاد والراحلة والسلاح ونحو ذلك، والخفة كناية عن خلاف ذلك.

فالأمر بالنفر خفافا وثقالا وهما حالان متقابلان في معنى الأمر بالخروج على أي حال، وعدم اتخاذ شيء من ذلك عذرا يعتذر به لترك الخروج كما أن الجمع بين الأموال والأنفس في الذكر في معنى الأمر بالجهاد بأي وسيلة أمكنت.

وقد ظهر بذلك أن الأمر في الآية مطلق لا يأبى التقييد بالأعذار التي يسقط معها وجوب الجهاد كالمرض والعمى والعرج ونحو ذلك فإن المراد بالخفة والثقل أمر وراء ذلك.

قوله تعالى: ﴿لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك﴾ إلى آخر الآية.

العرض ما يسرع إليه الزوال ويطلق على المال الدنيوي وهو المراد في الآية بقرينة السياق، والمراد بقربه كونه قريبا من التناول، والقاصد من القصد وهو التوسط في الأمر، والمراد بكون السفر قاصدا كونه غير بعيد المقصد سهلا على المسافر، والشقة: المسافة لما في قطعها من المشقة.

والآية كما يلوح من سياقها تعيير وذم للمنافقين المتخلفين عن الخروج مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الجهاد في غزوة تبوك إذ الغزوة التي خرج فيها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتخلف عنه المنافقون وهي على بعد من المسافة هي غزوة تبوك لا غيرها.

ومعنى الآية: لو كان ما أمرتهم به ودعوتهم إليه عرضا قريب التناول وغنيمة حاضرة وسفرا قاصدا قريبا هينا لاتبعوك يا محمد وخرجوا معك طمعا في الغنيمة ولكن بعدت عليهم الشقة والمسافة فاستصعبوا السير وتثاقلوا فيه.

وسيحلفون بالله إذا رجعتم إليهم ولمتموهم على تخلفهم: لو استطعنا الخروج لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم بما أخذوه من الطريقة: من الخروج إلى القتال طمعا في عرض الدنيا إذا استيسروا القبض عليه، والتخلف عنه إذا شق عليهم ثم الاعتذار بالعذر الكاذب على نبيهم والحلف في ذلك بالله كاذبين، أو يهلكون أنفسهم بهذا الحلف الكاذب، والله يعلم إنهم لكاذبون.

قوله تعالى: ﴿عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين﴾ الجملة الأولى دعاء للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالعفو نظير الدعاء على الإنسان بالقتل في قوله: ﴿قتل الإنسان ما أكفره﴾ عبس: 17، وقوله: ﴿فقتل كيف قدر﴾ المدثر: 19 وقوله: ﴿قاتلهم الله أنى يؤفكون﴾ التوبة: 30.

والجملة متعلقة بقوله: ﴿لم أذنت لهم﴾ أي في التخلف والقعود، ولما كان الاستفهام للإنكار أو التوبيخ كان معناه: كان ينبغي أن لا تأذن لهم في التخلف والقعود، ويستقيم به تعلق الغاية التي يشتمل عليها قوله: ﴿حتى يتبين لك الذين صدقوا﴾ الآية.

بقوله: ﴿لم أذنت لهم﴾ فالتعلق إنما هو بالمستفهم عنه دون الاستفهام وإلا أفاد خلاف المقصود، والكلام مسوق لبيان ظهور كذبهم وأن أدنى الامتحان كالكف عن إذنهم في القعود يكشف عن فصاحتهم.

ومعنى الآية: عفا الله عنك لم أذنت لهم في التخلف والقعود؟ ولو شئت لم تأذن لهم - وكانوا أحق به - حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين فيتميز عندك كذبهم ونفاقهم.

والآية - كما ترى وتقدمت الإشارة إليه - في مقام دعوى ظهور كذبهم ونفاقهم وأنهم مفتضحون بأدنى امتحان يمتحنون به، ومن مناسبات هذا المقام إلقاء العتاب إلى المخاطب وتوبيخه والإنكار عليه كأنه هو الذي ستر عليهم فضائح أعمالهم وسوء سريرتهم، وهو نوع من العناية الكلامية يتبين به ظهور الأمر ووضوحه لا يراد أزيد من ذلك فهو من أقسام البيان على طريق: ﴿إياك أعني واسمعي يا جارة﴾.

فالمراد بالكلام إظهار هذه الدعوى لا الكشف عن تقصير النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وسوء تدبيره في إحياء أمر الله، وارتكابه بذلك ذنبا - حاشاه - وأولوية عدم الإذن لهم معناها كون عدم الإذن أنسب لظهور فضيحتهم وأنهم أحق بذلك لما بهم من سوء السريرة وفساد النية لا لأنه كان أولى وأحرى في نفسه وأقرب وأمس بمصلحة الدين.

والدليل على هذا الذي ذكرنا قوله تعالى بعد ثلاث آيات: ﴿لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم﴾ إلى آخر الآيتين، فقد كان الأصلح أن يؤذن لهم في التخلف ليصان الجمع من الخبال وفساد الرأي وتفرق الكلمة، والمتعين أن يقعدوا فلا يفتنوا المؤمنين بإلقاء الخلاف بينهم والتفتين فيهم وفيهم ضعفاء الإيمان ومرضى القلوب وهم سماعون لهم يسرعون إلى المطاوعة لهم ولو لم يؤذن لهم فأظهروا الخلاف كانت الفتنة أشد والتفرق في كلمة الجماعة أوضح وأبين.

ويؤكد ذلك قوله تعالى بعد آيتين: ﴿ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين﴾ فقد كان تخلفهم ونفاقهم ظاهرا لائحا من عدم إعدادهم العدة يتوسمه في وجوههم كل ذي لب، ولا يخفى مثل ذلك على مثل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد نبأه الله بأخبارهم قبل نزول هذه السورة كرارا فكيف يصح أن يعاتب هاهنا عتابا جديا بأنه لم لم يكف عن الإذن ولم يستعلم حالهم حتى يتبين له نفاقهم ويميز المنافقين من المؤمنين، فليس المراد بالعتاب إلا ما ذكرناه.

ومما تقدم يظهر فساد قول من قال: إن الآية تدل على صدور الذنب عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لأن العفو لا يتحقق من غير ذنب، وإن الإذن كان قبيحا منه (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن صغائر الذنوب لأنه لا يقال في المباح لم فعلته؟.

وهذا من لعبهم بكلام الله سبحانه، ولو اعترض معترض على ما يهجون به في مثل المقام الذي سيقت الآية فيه لم يرضوا بذلك، وقد أوضحنا أن الآية مسوقة لغرض غير غرض الجد في العتاب.

على أن قولهم: إن المباح لا يقال فيه: لم فعلت؟ فاسد فإن من الجائز إذا شوهد من رجح غير الأولى على الأولى أن يقال له: لم فعلت ذلك ورجحته على ما هو أولى منه؟ على أنك قد عرفت أن الآية غير مسوقة لعتاب جدي.

ونظيره ما ذكره بعض آخر حيث قال: إن بعض المفسرين ولا سيما الزمخشري قد أساءوا الأدب في التعبير عن عفو الله تعالى عن رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذه الآية، وكان يجب أن يتعلموا أعلى الأدب معه (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ أخبره ربه ومؤدبه بالعفو قبل الذنب، وهو منتهى التكريم واللطف.

وبالغ آخرون كالرازي في الطرف الآخر فأرادوا أن يثبتوا أن العفو لا يدل على الذنب، وغايته أن الإذن الذي عاتبه الله عليه هو خلاف الأولى.

وهو جمود مع الاصطلاحات المحدثة والعرف الخاص في معنى الذنب وهو المعصية، وما كان ينبغي لهم أن يهربوا من إثبات ما أثبته الله في كتابه تمسكا باصطلاحاتهم وعرفهم المخالف له والمدلول اللغة أيضا.

فالذنب في اللغة كل عمل يستتبع ضررا أو فوت منفعة أو مصلحة، مأخوذ من ذنب الدابة، وليس مرادفا للمعصية بل أعم منها.

والإذن المعفو عنه قد استتبع فوت المصلحة المنصوصة في الآية وهي تبين الذين صدقوا والعلم بالكاذبين، وقد قال تعالى: ﴿إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر﴾ الفتح: 2.

ثم ذكر في كلام له طويل أن ذلك كان اجتهادا منه (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما لا وحي فيه من الله وهو جائز وواقع من الأنبياء (عليهم السلام) وليسوا بمعصومين من الخطإ فيه وإنما العصمة المتفق عليها خاصة بتبليغ الوحي ببيانه والعمل به فيستحيل على الرسول أن يكذب أو يخطىء فيما يبلغه عن ربه أو يخالفه بالعمل.

ومنه ما تقدم في سورة الأنفال من عتابه تعالى لرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في أخذ الفدية من أسارى بدر حيث قال: ﴿ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة﴾ الأنفال: 67 ثم بين أنه كان مقتضيا لنزول عذاب أليم لو لا كتاب من الله سبق فكان مانعا انتهى كلامه بنوع من التلخيص.

وليث شعري ما الذي زاد في كلامه على ما تفصى به الرازي وغيره حيث ذكروا أن ذلك من ترك الأولى، ولا يسمونه ذنبا في عرف المتشرعين وهو الذي يستتبع عقابا، وذكر هو أنه من ترك الأصلح وسماه ذنبا لغة.

على أنك قد عرفت فيما تقدم أنه لم يكن ذنبا لا عرفا ولا لغة بدلالة ناصة من الآيات على أن عدم خروجهم كان هو الأصلح لحال جيش المسلمين لتخلصهم بذلك عن غائلة وقوع الفتنة واختلاف الكلمة، وكانت هذه العلة بعينها موجودة لو لم يأذن لهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وظهر منهم ما كانوا أبطنوه من الكفر والخلاف وأن الذي ذكره الله بقوله: ﴿ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة﴾ إن عدم إعدادهم العدة كان يدل على عدم إرادتهم الخروج، كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أجل من أن يخفى عليه ذلك وهم بمرأى منه ومسمع.

مضافا إلى أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يعرفهم في لحن القول كما قال تعالى: ﴿ولتعرفنهم في لحن القول﴾ محمد: 30 وكيف يخفى على من سمع من أحدهم مثل قوله: ﴿ائذن لي ولا تفتني﴾ أو يقول للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ﴿هو أذن﴾ أو يلمزه في الصدقات ولا ينصح له (صلى الله عليه وآله وسلم) إن ذلك من طلائع النفاق يطلع منهم وما وراءه إلا كفر وخلاف.

فقد كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يتوسم منهم النفاق والخلاف ويعلم بما في نفوسهم، ومع ذلك فعتابه (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنه لم لم يكف عن الإذن ولم يستعلم حالهم ولم يميزهم من غيرهم؟ ليس إلا عتابا غير جدي للغرض الذي ذكرناه.

وأما قوله: ﴿إن الإذن المعفو عنه قد استتبع فوت المصلحة المنصوصة في الآية وهي تبين الذين صدقوا والعلم بالكاذبين﴾ ففيه أن الذي تشتمل عليه الآية من المصلحة هو تبين الذين صدقوا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلمه هو بالكاذبين لا مطلق تبينهم ولا مطلق العلم بالكاذبين، وقد ظهر مما تقدم أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن يخفى عليه ذلك، وأن حقيقة المصلحة إنما كانت في الإذن وهي سد باب الفتنة واختلاف الكلمة فإنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يعلم من حالهم أنهم غير خارجين البتة سواء أذن لهم في القعود أم لم يأذن فبادر إلى الإذن حفظا على ظاهر الطاعة ووحدة الكلمة.

وليس لك أن تتصور أنه لو بان نفاقهم يومئذ وظهر خلافهم بعدم إذن النبي لهم بالقعود لتخلص الناس من تفتينهم وإلقائهم الخلاف لما في الإسلام يومئذ - وهو يوم خروج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى غزوة تبوك - من الشوكة والقوة، وله (صلى الله عليه وآله وسلم) من نفوذ الكلمة.

فإن الإسلام يومئذ إنما كان يملك القوة والمهابة في أعين الناس من غير المسلمين كانوا يرتاعون شوكته ويعظمون سواد أهله ويخافون حد سيوفهم، وأما المسلمون في داخل مجتمعهم وبين أنفسهم فلم يخلصوا بعد من النفاق ومرض القلوب، ولم يستول عليهم بعد وحدة الكلمة وجد الهمة والعزيمة، والدليل على ذلك نفس هذه الآيات وما يتلوها إلى آخر السورة تقريبا.

وقد كانوا تظاهروا بمثل ذلك يوم أحد وقد هجم عليهم العدو في عقر دارهم فرجع ثلث الجيش الإسلامي من المعركة ولم يؤثر فيهم عظة ولا إلحاح حتى قالوا: لو نعلم قتالا لاتبعناكم، فكان ذلك أحد الأسباب العاملة في انهزام المسلمين.

وأما قوله: ومن عتابه تعالى لرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في خطئه في اجتهاده ما تقدم في سورة الأنفال من عتابه في أخذ الفدية من أسارى بدر حيث قال: ﴿ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض﴾ الآية.

ففيه أولا: أنه من سوء الفهم فمن البين الذي لا يرتاب فيه أن الآية بلفظها لا تعاتب على أخذ الفدية من الأسرى وإنما تعاتب على نفس أخذ الأسرى - ما كان لنبي أن يكون له أسرى - ولم تنزل آية ولا وردت رواية في أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان أمرهم بالأسر بل روايات القصة تدل على أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لما أمر بقتل بعض الأسرى خاف الناس أن يقتلهم عن آخرهم فكلموه وألحوا عليه في أخذ الفدية منهم ليتقووا بذلك على أعداء الدين وقد رد الله عليهم ذلك بقوله: ﴿تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة﴾.

وهذا من أحسن الشواهد على أن العتاب في الآية متوجه إلى المؤمنين خاصة من غير أن يختص به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو يشاركهم فيه وأن أكثر ما ورد من الأخبار في هذا المعنى موضوعة أو مدسوسة.

وثانيا: أن العتاب في الآية لو اختص بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو شمله وغيره لم يكن من العتاب على ما ذكره على الذنب بمعناه اللغوي وهو تفويت المصلحة بوجه فإن هذا العتاب مذيل بقوله تعالى في الآية التالية: ﴿لو لا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم﴾ الأنفال: 68 فلا يرتاب ذو لب في أن التهديد بالعذاب العظيم لا يتأتى إلا مع كون المهدد عليه من المعصية المصطلحة بل ومن كبائر المعاصي، وهذا أيضا من الشواهد على أن العتاب في الآية متوجه إلى غير النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

قوله تعالى: ﴿لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر﴾ إلى آخر الآيتين تذكر الآيتان أحد ما يعرف به المنافق ويتميز به من المؤمن وهو الاستيذان في التخلف عن الجهاد في سبيل الله.

وقد بين الله سبحانه ذلك بأن الجهاد في سبيل الله بالأموال والأنفس من لوازم الإيمان بالله واليوم الآخر بحقيقة الإيمان لما يورثه هذا الإيمان من صفة التقوى، والمؤمن لما كان على تقوى من قبل الإيمان بالله واليوم الآخر كان على بصيرة من وجوب الجهاد في سبيل الله بماله ونفسه.

ولا يدعه ذلك أن يتثاقل عنه فيستأذن في القعود لكن المنافق لعدم الإيمان بالله واليوم الآخر فقد صفة التقوى فارتاب قلبه ولا يزال يتردد في ريبة فيحب التطرف، ويستأذن في التخلف والقعود عن الجهاد.

قوله تعالى: ﴿ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة﴾ إلى آخر الآية، العدة الأهبة، والانبعاث - على ما في المجمع، - الانطلاق بسرعة في الأمر، والتثبيط التوقيف عن الأمر بالتزهيد فيه.

والآية معطوفة على ما تقدم من قوله: ﴿والله يعلم إنهم لكاذبون﴾ بحسب المعنى أي هم كاذبون في دعواهم عدم استطاعتهم الخروج بل ما كانوا يريدونه ولو أرادوه لأعدوا له عدة لأن من آثار من يريد أمرا من الأمور أن يتأهب له بما يناسبه من العدة والأهبة ولم يظهر منهم شيء من ذلك.

وقوله: ﴿ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم﴾ أي جزاء بنفاقهم وامتنانا عليك وعلى المؤمنين لئلا يفسدوا جمعكم، ويفرقوا كلمتكم بالتفتين وإلقاء الخلاف.

وقوله: ﴿وقيل اقعدوا مع القاعدين﴾ أمر غير تشريعي لا ينافي الأمر التشريعي بالنفر والخروج، فقد أمرهم الله بلسان نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالنفر والخروج - وهو أمر تشريعي - وأمرهم من ناحية سريرتهم الفاسدة والريب المتردد في قلوبهم وسجاياهم الباطنية الخبيثة بالقعود - وهو أمر غير تشريعي - ولا تنافي بينهما.

ولم ينسب قول: ﴿اقعدوا مع القاعدين﴾ إلى نفسه تنزيها لنفسه عن الأمر بما لا يرتضيه وهناك أسباب متخللة آمرة بذلك كالشيطان والنفس، وإنما ينسب إليه تعالى بالواسطة لانطباق معنى الجزاء والامتنان على المؤمنين عليه.

وليتوافق الأمران المتخالفان صورة في السياق أعني قوله: ﴿قيل لكم انفروا في سبيل الله﴾ وقوله: ﴿قيل اقعدوا مع القاعدين﴾ .

قوله تعالى: ﴿لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم﴾ الآية الخبال هو الفساد واضطراب الرأي، والإيضاح: الإسراع في الشر، والخلال: البين! والبغي هو الطلب فمعنى يبغونكم الفتنة أي يطلبون لكم أو فيكم الفتنة على ما قيل، والفتنة هي المحنة كالفرقة واختلاف الكلمة على ما يناسب الآية من معانيها، والسماع السريع الإجابة والقبول.

والآية في مقام التعليل لقوله: ﴿ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم﴾ امتنانا، ولذا جيء بالفصل من غير عطف، والمعنى ظاهر.

قوله تعالى: ﴿لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون﴾ أي أقسم لقد طلبوا المحنة واختلاف الكلمة وتفرق الجماعة من قبل هذه الغزوة - وهي غزوة تبوك - كما في غزوة أحد حين رجع عبد الله بن أبي بن سلول بثلث القوم وخذل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقلبوا لك الأمور بدعوة الناس إلى الخلاف وتحريضهم على المعصية وخذلانهم عن الجهاد وبعث اليهود والمشركين على قتال المؤمنين والتجسس وغير ذلك حتى جاء الحق - وهو الحق الذي يجب أن يتبع - وظهر أمر الله - وهو الذي يريده من الدين - وهم كارهون لجميع ذلك.

والآية تستشهد على الآية السابقة بذكر الأمثال كما يستدل على الأمر بمثله، وتوجيه الخطاب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصة بعد عمومه في الآية السابقة لاختصاص الأمر فيه بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أعني تقليب الأمور عليه بخلاف ما في الآية السابقة من خروجهم في الناس.

بحث روائي:

في الدر المنثور، في قوله تعالى: ﴿إلا تنصروه فقد نصره الله﴾ الآية: أخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس قال: لما خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من الليل لحق بغار ثور قال: وتبعه أبو بكر فلما سمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حسه خلفه خاف أن يكون الطلب فلما رأى ذلك أبو بكر تنحنح فلما سمع ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عرفه فقام له حتى تبعه فأتيا الغار. فأصبحت قريش في طلبه فبعثوا إلى رجل من قافة بني مدلج فتبع الأثر حتى انتهى إلى الغار وعلى بابه شجرة فبال في أصلها القائف ثم قال: ما جاز صاحبكم الذي تطلبون هذا المكان قال فعند ذلك حزن أبو بكر فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا تحزن إن الله معنا. قال: فمكث هو وأبو بكر في الغار ثلاثة أيام يختلف إليهم بالطعام عامر بن فهيرة وعلي يجهزهم فاشتروا ثلاثة أباعر من إبل البحرين واستأجر لهم دليلا فلما كان بعض الليل من الليلة الثالثة أتاهم علي بالإبل والدليل فركب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) راحلته وركب أبو بكر أخرى فتوجهوا نحو المدينة، وقد بعثت قريش في طلبه. وفيه، أخرج ابن سعد عن ابن عباس وعلي وعائشة بنت أبي بكر وعائشة بنت قدامة وسراقة بن جعشم دخل حديث بعضهم في بعض قالوا: خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والقوم جلوس على بابه فأخذ حفنة من البطحاء فجعل يذرها على رءوسهم ويتلو: ﴿يس والقرآن الحكيم﴾ الآيات ومضى. فقال لهم قائل ما تنتظرون؟ قالوا: محمدا. قال: قد والله مر بكم قالوا: والله ما أبصرناه وقاموا ينفضون التراب من رءوسهم، وخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبو بكر إلى غار ثور فدخلاه وضربت العنكبوت على بابه بعشاش بعضها على بعض. وطلبته قريش أشد الطلب حتى انتهوا إلى باب الغار فقال بعضهم: إن عليه لعنكبوتا قبل ميلاد محمد. وفي إعلام الورى، في حديث سراقة بن جعشم مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: الذي اشتهر في العرب يتقاولون فيه الأشعار ويتفاوضونه في الديار أنه تبعه وهو متوجه إلى المدينة طالبا لغرته (صلى الله عليه وآله وسلم) ليحظى بذلك عند قريش، حتى إذا أمكنته الفرصة في نفسه وأيقن أن قد ظفر ببغيته ساخت قوائم فرسه حتى تغيبت بأجمعها في الأرض وهو بموضع جدب وقاع صفصف فعلم أن الذي أصابه أمر سماوي فنادى يا محمد: ادع ربك يطلق لي فرسي وذمة الله أن لا أدل عليك أحدا، فدعا له فوثب جواده كأنه أفلت من أنشوطة وكان رجلا داهية، وعلم بما رأى أنه سيكون له نبأ فقال: اكتب لي أمانا فكتب له وانصرف. قال محمد بن إسحاق: إن أبا جهل قال في أمر سراقة أبياتا فأجابه سراقة نظما: أبا حكم واللات لو كنت شاهدا. لأمر جوادي إذ تسيخ قوائمه. عجبت ولم تشكك بأن محمدا.

نبي ببرهان فمن ذا يكاتمه؟.

عليك بكف الناس عنه فإنني.

أرى أمره يوما ستبدو معالمه: أقول: ورواه في الكافي، بإسناده عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام)، وفي الدر المنثور، بعدة طرق، وأورده الزمخشري في ربيع الأبرار. وفي الدر المنثور، أخرج ابن سعد وابن مردويه عن ابن مصعب قال: أدركت أنس بن مالك وزيد بن أرقم والمغيرة بن شعبة فسمعتهم يتحدثون: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليلة الغار أمر الله شجرة فنبتت في وجه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فسترته، وأمر الله العنكبوت فنسجت في وجه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فسترته وأمر الله حمامتين وحشيتين فوقفتا بفم الغار.

وأقبل فتيان قريش من كل بطن رجل بعصيهم وأسيافهم وهراويهم حتى إذا كانوا من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قدر أربعين ذراعا فعجل بعضهم فنظر في الغار فرجع إلى أصحابه فقالوا: ما لك لم تنظر في الغار؟ فقال: رأيت حمامتين بفم الغار فعرفت أن ليس فيه أحد.

وفي الدر المنثور، أخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن الزهري: في قوله: ﴿إذ هما في الغار﴾ قال: الغار الذي في الجبل الذي يسمى ثورا.

أقول: وقد استفاضت الروايات بكون الغار المذكور في القرآن الكريم هو غار جبل ثور، وهو على أربعة فراسخ من مكة تقريبا.

وفي إعلام الورى، وقصص الأنبياء،: وبقي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الغار ثلاثة أيام ثم أذن الله تعالى له بالهجرة، وقال: اخرج من مكة يا محمد فليس لك بها ناصر بعد أبي طالب فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). وأقبل راع لبعض قريش يقال له: ابن أريقط فدعاه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال له: يا ابن أريقط آتمنك على دمي؟ فقال: إذن والله أحرسك وأحفظك ولا أدل عليك، فأين تريد يا محمد؟ قال: يثرب.

قال: لأسلكن بك مسلكا لا يهتدي فيها أحد فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ائت عليا وبشره بأن الله قد أذن لي في الهجرة فهيىء لي زادا وراحلة. وقال له أبو بكر: ائت أسماء ابنتي وقل لها: تهيئي لي زادا وراحلتين، وأعلم عامر بن فهيرة أمرنا، وكان من موالي أبي بكر وكان قد أسلم، وقل له: ائتنا بالزاد والراحلتين. فجاء ابن أريقط إلى علي (عليه السلام) فأخبره بذلك فبعث علي بن أبي طالب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بزاد وراحلة، وبعث ابن فهيرة بزاد وراحلتين، وخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من الغار وأخذ به ابن أريقط على طريق نخلة بين الجبال فلم يرجعوا إلى الطريق إلا بقديد فنزلوا على أم معبد هناك. قال: وقد كانت الأنصار بلغهم خروج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إليهم وكانوا يتوقعون قدومه إلى أن وافى مسجد قبا ونزل فخرج الرجال والنساء يستبشرون بقدومه.

أقول: والأخبار في تفاصيل قصص الهجرة بالغة في الكثرة رواها أصحاب النقل وأرباب السير من الشيعة وأهل السنة، وهي على كثرتها متدافعة مضطربة لا يسع نقدها واستخراج الصافي منها مجال هذا الكتاب، وللدلالة على إجمال القصة فيما أوردناه كفاية وهو كالمتفق عليه بين أخبار الفريقين.

وفي الدر المنثور، أخرج خيثمة بن سليمان الطرابلسي في فضائل الصحابة وابن عساكر عن علي بن أبي طالب قال: إن الله ذم الناس كلهم ومدح أبا بكر فقال: إلا تنصروه فقد نصره الله - إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار - إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا.

أقول: نقد البحث في مضامين الآيات الحافة بالقصة وما ينضم إليها من النقل الصحيح يوجب سوء الظن بهذه الرواية فإن الآيات التي تذم المؤمنين - أو الناس كلهم كما في الرواية - وإليها تشير آية الغار بما فيها من قوله: ﴿إلا تنصروه﴾ هي قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض﴾ الآية، والنقل القطعي يدل على أن التثاقل المذكور لم يكن من عامة المؤمنين وجميعهم، وإن كثيرا منهم سارع إلى إجابة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما أمر به من النفر، وإنما تثاقل جماعة من الناس من مؤمن ومنافق.

فخطاب ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ الشامل لجميع المؤمنين، والذم المتعقب له إنما هو من خطاب الجماعة بشأن بعضهم كخطاب اليهود بقوله: ﴿فلم تقتلون أنبياء الله﴾ البقرة: 91 وغيره، وهو كثير في القرآن غير أن ديدن القرآن في مثل هذه الموارد أن لا يضيع حق الصالحين ولا أجر المحسنين أعني الأقلين الذين تعمهم أمثال هذه الخطابات العامة بالذم والتوبيخ فيتدارك أمرهم ويستثنيهم ويذكرهم بالجميل كما فعل ذلك فيما سيأتي في هذه السورة من الآيات المادحة للمؤمنين الشاكرة لجميل مساعيهم بقوله: ﴿والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض﴾ الآية، وغيره.

وإذا كانت الآيات - وقد نزلت في غزوة تبوك - تعم المؤمنين جميعا المسارعين في الخروج والمتثاقلين فيه من غير استثناء فهي تشمل عامة الصحابة والمؤمنين وفيهم أبو بكر نفسه غير أنه تعالى تدارك ما لحق بالمسارعين في الطاعة والإجابة منهم في آيات تالية وشكر سعيهم.

فلو كان قوله في الآية: ﴿إلا تنصروه﴾ وهو يشير إلى ما تقدم من حديث التثاقل ويومىء إليه ذما للناس كلهم كان ذما لأبي بكر كما هو ذم لغيره بعدم نصرتهم للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو تثاقلهم في نصره، ومع ذلك لا تسمح الآية بالدلالة على نصر أبي بكر له (صلى الله عليه وآله وسلم) بما فيها من قوله: ﴿فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا﴾ بل لو دل لدل على نصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأبي بكر حيث طيب قلبه وسلاه بقوله: ﴿لا تحزن إن الله معنا﴾.

على أنك قد عرفت في البيان السابق أن الآية بمقتضى المقام لا تتعرض إلا لنصر الله سبحانه وحده نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بعينه وشخصه، قبال ما يفرض من عدم نصر كافة المؤمنين له وخذلانهم إياه فدلالة الآية على أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم الغار لم ينصره إلا الله سبحانه وحده دلالة قطعية.

وهذا المعنى في نفسه أدل شاهد على أن الضمائر في تتمة جمل الآية: ﴿فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا﴾ للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، والجمل مسوقة لبيان قيامه تعالى وحده بنصره نصرا عزيزا غيبيا لا صنع فيه لأحد من الناس، وهو إنزال السكينة عليه وتأييده بجنود غائبة عن الأبصار، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وإعلاء كلمة الحق والله عزيز حكيم.

وأما غير نصره النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من المناقب التي يمدح الإنسان عليها فلو كان هناك شيء من ذلك لكان هو ما في قوله: ﴿ثاني اثنين﴾ وما في قوله: ﴿لصاحبه﴾ فلنسلم أن كون الإنسان ثانيا لاثنين أحدهما النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكونه صاحبا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مذكورا في القرآن بالصحبة من المفاخر التي يتنفس لها لكنها من المناقب الاجتماعية التي تقدر لها في المجتمعات قيمة ونفاسة، وأما القرآن الكريم فللقيمة فيه ملاك آخر، وللفضل والشرف في منطقه معنى آخر متكىء على حقيقة هي أعلى من المقاصد الوضعية الاجتماعية، وهي كرامة العبودية ودرجات القرب والزلفى.

ومجرد الصحابة الجسمانية والدخول في العدد لا يدل على شيء من ذلك، وقد تكرر في كلامه تعالى أن التسمي بمختلف الأسماء والتلبس بما يتنفس فيه عامة الناس ويستعظمه النظر الاجتماعي لا قيمة له عند الله سبحانه، وأن الحساب على ما في القلوب دون ما يتراءى من ظواهر الأعمال وتقدمة الأحساب والأنساب.

وقد أفصح عنه في مورد أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وملازميه خاصة بأبلغ الإفصاح قوله تعالى: ﴿محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا - إلى أن قال - وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما﴾ الفتح: 29 فانظر إلى ما في صدر الآية من المدح وما في ذيله من القيد وتدبر.

هذه نبذة مما يتعلق بالآية والرواية من البحث، والزائد على هذا المقدار يخرجنا من البحث التفسيري إلى البحث الكلامي الذي هو خارج عن غرضنا.

وفي الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الدلائل وابن عساكر في تاريخه عن ابن عباس: في قوله: ﴿فأنزل الله سكينته عليه﴾ قال: على أبي بكر لأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يزل السكينة معه. وفيه، أخرج الخطيب في تاريخه عن حبيب بن أبي ثابت: ﴿فأنزل الله سكينته عليه﴾ قال: على أبي بكر فأما النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد كانت عليه السكينة.

أقول: قد حقق فيما تقدم أن الضمير راجع إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على ما يهدي إليه السياق، والروايتان على ما بهما من الوقف ضعيفتان، ولا حجية لقول ابن عباس ولا حبيب لغيرهما.

وأما الحجة التي أورداهما فيهما وهي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم تزل السكينة معه فمدخولة يدفعها قوله تعالى في قصة حنين: ﴿ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين﴾ التوبة: 26 ونظيرته آية سورة الفتح المشيرة إلى قصة الحديبية وهما تصرحان بنزول السكينة عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) في خصوص المورد فليكن الأمر على تلك الوتيرة في الغار.

وكان بعضهم أحس بالإشكال فحمل قولهما في الروايتين: أن السكينة لم تزل مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على معنى آخر وهو كون السكينة ملازمة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الغار فيكون قرينة على كون التي نزلت فيه إنما نزلت على صاحبه دونه، ولعل رواية حبيب أقرب دلالة على ما ذكره.

قال بعد إيراد رواية ابن عباس ثم رواية حبيب: وقد أخذ بهذه الرواية بعض مفسري اللغة والمعقول ووضحوا ما فيها من التعليل بأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يحدث له وقتئذ اضطراب ولا خوف ولا حزن، وقواها بعضهم بأن الأصل في الضمير أن يعود إلى أقرب مذكور.

وليس هذا بشيء.

وذهب آخرون إلى أن الضمير يعود إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأن إنزال السكينة عليه لا يقتضي أن يكون خائفا أو مضطربا أو منزعجا.

وهذا ضعيف لعطف إنزال السكينة على ما قبلها الدال على وقوعه بعده وترتبه عليه، وأن نزولها وقع بعد قوله لصاحبه: لا تحزن.

أما ما ذكروه من عدم طرو خوف واضطراب عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) وقتئذ فإن كانوا استفادوه من عدم ذكر شيء من ذلك في الآية أو في رواية معتمد عليها فكلامه تعالى في قصة حنين والحديبية أيضا خال عن ذكر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بخوف أو حزن أو اضطراب، ولم ترد رواية معتمد عليها تدل على ذلك فكيف استقام ذكر نزول السكينة عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) فيهما؟.

وإن قالوا باستلزام إنزال السكينة الاضطراب والخوف والحزن فهو ممنوع كما تقدم كيف؟ ونزول نعمة من النعم الإلهية لا يتوقف على سبق الاتصاف بحالة مضادة لها ونقمة مقابلة لها كنزول الرحمة بعد الرحمة والنعمة بعد النعمة والإيمان والهداية بعد الإيمان والهداية وغير ذلك، وقد نص القرآن الكريم بأمور كثيرة من هذا القبيل.

وأما قوله: إن رجوع الضمير إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ضعيف لعطف إنزال السكينة على ما قبلها الدال على وقوعه بعده وترتبه عليه وأن نزولها وقع بعد قوله لصاحبه: لا تحزن.

ففيه: أنه لا ريب أن فاء التفريع تدل على ترتب ما بعدها على ما قبلها ووقوعه بعده لكن بعدية رتبية لا بعدية زمانية ولم يقل أحد بوجوب كونها زمانية دائما.

فمن الواجب فيما نحن فيه أن يترتب قوله: ﴿فأنزل الله سكينته عليه وأيده﴾ على ما تقدم عليه من الكلام لا على ما هو أقرب إليه من غيره إلا على القول بأن الأصل في الضمير أن يعود إلى أقرب مذكور، وقد ضعفه في سابق كلامه.

والذي يصلح من سابق ليتعلق به التفريع المذكور هو قوله: فقد نصره الله في كذا وكذا وقتا وتفرع هذه الفروع عليه من قبيل تفرع التفصيل على الإجمال والسياق على استقامته: ﴿فقد نصره الله في وقت كذا فأنزل سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى﴾.

فظهر أن ما أجاب به أخيرا هو عين ما ضعفه أولا من حديث أصل قرب المرجع من الضمير - ذاك الأصل الذي لا أصل له - كرره ثانيا بتغيير ما في اللفظ.

ومن هنا يظهر جهة المناقشة في رواية أخرى رواها في الدر المنثور، عن ابن مردويه عن أنس بن مالك قال: دخل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبو بكر غار حراء فقال أبو بكر للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لو أن أحدهم يبصر موضع قدمه لأبصرني وإياك فقال: ما ظنك باثنين الله ثالثهما إن الله أنزل سكينته عليك وأيدني بجنود لم تروها.

على أن الرواية تذكر غار حراء وقد ثبت بالمستفيض المتكاثر من الأخبار أن الغار كان غار ثور لا غار حراء.

على أن الرواية مشتملة على تفكيك السياق صريحا بما فيها من قوله: أنزل سكينته عليك وأيدني بجنود، إلخ.

وقد أورد الآلوسي في روح المعاني، الرواية هكذا: ﴿إن الله أنزل سكينته عليك وأيدك بجنود لم تروها﴾ فأرجع الضميرين إلى أبي بكر دون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

ولا ندري أي اللفظين هو الأصل وأيهما المحرف غير أنه يضاف على رواية ﴿وأيدك بجنود لم تروها﴾ إلى ما ذكر من الإشكال آنفا إشكالات أخرى تقدمت في البيان السابق مضافا إلى إشكال آخر جديد من جهة قوله: ﴿لم تروها﴾ بخطاب الجمع ولا مخاطب يومئذ جمعا.

وفي تفسير القمي، في قوله تعالى: ﴿لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا﴿: في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: ﴿لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا﴾ يقول: غنيمة قريبة ﴿لاتبعوك﴾.

وفي تفسير العياشي، عن زرارة وحمران ومحمد بن مسلم، عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله: ﴿لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك﴾ الآية إنهم يستطيعون وقد كان في علم الله أنه لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لفعلوا: أقول: ورواه الصدوق في المعاني، بإسناده عن عبد الأعلى بن أعين عن أبي عبد الله (عليه السلام) مثله.

وفي تفسير القمي، في قوله تعالى: ﴿ولكن بعدت عليهم الشقة﴾ يعني إلى تبوك وسبب ذلك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يسافر سفرا أبعد منه ولا أشد منه. وكان سبب ذلك أن الصيافة كانوا يقدمون المدينة من الشام ومعهم الدرموك والطعام. وهم الأنباط فأشاعوا بالمدينة أن الروم قد اجتمعوا يريدون غزو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في عسكر عظيم، وأن هرقل قد سار في جمع جنوده، وجلب معهم غسان وجذام وبهراء وعاملة، وقد قدم عساكره البلقاء ونزل هو حمص.

فأرسل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أصحابه إلى تبوك وهي من بلاد البلقاء، وبعث إلى القبائل حوله، وإلى مكة، وإلى من أسلم من خزاعة ومزينة وجهينة فحثهم على الجهاد. وأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعسكره فضرب في ثنية الوداع، وأمر أهل الجدة أن يعينوا من لا قوة به، ومن كان عنده شيء أخرجه، وحملوا وقووا وحثوا على ذلك. وخطب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال بعد حمد الله والثناء عليه: أيها الناس إن أصدق الحديث كتاب الله. وأولى القول كلمة التقوى، وخير الملل ملة إبراهيم، وخير السنن سنة محمد، وأشرف الحديث ذكر الله، وأحسن القصص هذا القرآن، وخير الأمور عزائمها وشر الأمور محدثاتها، وأحسن الهدى هدى الأنبياء، وأشرف القتلى الشهداء، وأعمى العمى الضلالة بعد الهدى، وخير الأعمال ما نفع، وخير الهدى ما اتبع، وشر العمى عمى القلب واليد العليا خير من اليد السفلى، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وشر المعذرة محضر الموت، وشر الندامة يوم القيامة، ومن الناس من لا يأتي الجمعة إلا نزرا. ومنهم من لا يذكر الله إلا هجرا، ومن أعظم الخطايا اللسان الكذب، وخير الغنى غنى النفس، وخير الزاد التقوى، ورأس الحكمة مخافة الله، وخير ما ألقي في القلب اليقين، والارتياب من الكفر، والتباعد من عمل الجاهلية، والغلول من قيح جهنم، والسكر جمر النار، والشعر من إبليس، والخمر جماع الإثم، والنساء حبائل إبليس، والشباب شعبة من الجنون، وشر المكاسب كسب الربا، وشر الأكل أكل مال اليتيم، والسعيد من وعظ بغيره، والشقي من شقي في بطن أمه، وإنما يصير أحدكم إلى موضع أربعة أذرع، والأمر إلى آخره وملاك الأمر خواتيمه، وأربى الربا الكذب، وكلما هو آت قريب، وسباب المؤمن فسوق، وقتال المؤمن كفر، وأكل لحمه من معصية الله، وحرمة ماله كحرمة دمه، ومن توكل على الله كفاه، ومن صبر ظفر، ومن يعف يعف الله عنه، ومن كظم الغيظ آجره الله، ومن يصبر على الرزية يعوضه الله، ومن تبع السمعة يسمع الله به، ومن يصم يضاعف الله له، ومن يعص الله يعذبه، اللهم اغفر لي ولأمتي. اللهم اغفر لي ولأمتي أستغفر الله لي ولكم.

قال: فرغب الناس في الجهاد لما سمعوا هذا من رسول الله، وقدمت القبائل من العرب ممن استنفرهم، وقعد عنه قوم من المنافقين وغيرهم، ولقي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الجد بن قيس فقال له: يا أبا وهب ألا تنفر معنا في هذه الغزاة؟ لعلك إن تحتفد من بنات الأصفر فقال يا رسول الله: والله إن قومي ليعلمون أن ليس فيهم أشد عجبا بالنساء مني وأخاف إن خرجت معك أن لا أصبر إذا رأيت بنات الأصفر فلا تفتني وائذن لي أن أقيم.

وقال للجماعة من قومه: لا تخرجوا في الحر. فقال ابنه: ترد على رسول الله وتقول له ما تقول ثم تقول لقومك: لا تنفروا في الحر والله لينزلن الله في هذا قرآنا يقرؤه الناس إلى يوم القيامة فأنزل الله على رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في ذلك: ﴿ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني - ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين﴾ .

ثم قال الجد بن قيس: أيطمع محمد أن حرب الروم مثل حرب غيرهم. لا يرجع من هؤلاء أحد أبدا.

أقول: وقد روي هذه المعاني في روايات أخرى كثيرة من طرق الشيعة وأهل السنة.

وفي العيون، بإسناده عن علي بن محمد بن الجهم قال: حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا علي بن موسى (عليهما السلام) فقال له: يا ابن رسول الله أ ليس من قولك: إن الأنبياء معصومون؟ قال: بلى، فقال له المأمون فيما سأله يا أبا الحسن فأخبرني عن قول الله تعالى: ﴿عفا الله عنك لم أذنت لهم﴿. قال الرضا (عليه السلام): هذا مما نزل: إياك أعني واسمعي يا جارة، خاطب الله تعالى بذلك نبيه وأراد به أمته، وكذلك قوله عز وجل: ﴿لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين﴿، وقوله تعالى: ﴿ولو لا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا﴾.

قال: صدقت يا ابن رسول الله.

أقول: ومضمون الرواية ينطبق على ما قدمناه في بيان الآية، دون ما ذكروه من كون إذنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لهم في القعود من قبيل ترك الأولى فإنه لا يستقيم معه كون الآية من قبيل (إياك أعني واسمعي يا جارة).

وفي الدر المنثور، أخرج عبد الرزاق في المصنف وابن جرير، عن عمرو بن ميمون الأودي قال: اثنتان فعلهما رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يؤمر فيهما بشيء: إذنه للمنافقين، وأخذه من الأسارى فأنزل الله: ﴿عفا الله عنك لم أذنت لهم﴾ الآية.

أقول: وقد تقدم الكلام على مضمون الرواية.

وفي تفسير القمي، في قوله تعالى: ﴿ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة﴾ الآية وما بعدها قال: وتخلف عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أهل نيات وبصائر لم يكن يلحقهم شك ولا ارتياب ولكنهم قالوا: نلحق برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). منهم أبو خيثمة وكان قويا وكان له زوجتان وعريشان، وكانتا زوجتاه قد رشتا عريشتيه، وبردتا له الماء، وهيأتا له طعاما فأشرف على عريشتيه فلما نظر إليهما قال: لا والله ما هذا بإنصاف، رسول الله قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر قد خرج في الفيح والريح، وقد حمل السلاح يجاهد في سبيل الله، وأبو خيثمة قوي قاعد في عريشه وامرأتين حسناوين لا والله ما هذا بإنصاف.

ثم أخذ ناقته فشد عليها رحله ولحق برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فنظر الناس إلى راكب على الطريق فأخبروا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): كن أبا خيثمة فأقبل، وأخبر النبي بما كان منه فجزاه خيرا ودعا له.

وكان أبو ذر تخلف عن رسول الله ثلاثة أيام وذلك أن جمله كان أعجف، فلحق بعد ثلاثة أيام به ووقف عليه جمله في بعض الطريق فتركه وحمل ثيابه على ظهره فلما ارتفع النهار نظر المسلمون إلى شخص مقبل فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): كن أبا ذر فقالوا: هو أبو ذر فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أدركوه فإنه عطشان فأدركوه بالماء.

ووافى أبو ذر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومعه إداوة فيها ماء فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا أبا ذر معك ماء وعطشت؟ قال: نعم يا رسول الله بأبي أنت وأمي انتهيت إلى صخرة عليها ماء السماء فذقته فإذا هو عذب بارد فقلت: لا أشربه حتى يشرب رسول الله. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا أبا ذر رحمك الله، تعيش وحدك، وتموت وحدك، وتبعث وحدك، وتدخل الجنة وحدك، يسعد بك قوم من أهل العراق يتولون غسلك وتجهيزك والصلاة عليك ودفنك.

ثم قال: وقد كان تخلف عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قوم من المنافقين وقوم من المؤمنين مستبصرين لم يعثر عليهم في نفاق: منهم كعب بن مالك الشاعر ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية الرافعي فلما تاب الله عليهم قال كعب.

ما كنت قط أقوى مني في ذلك الوقت الذي خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى تبوك، وما اجتمعت لي راحلتان قط إلا في ذلك اليوم، وكنت أقول: أخرج غدا بعد غد فإني مقوى، وتوانيت وثقلت بعد خروج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أياما أدخل السوق ولا أقضي حاجة فلقيت هلال بن أمية ومرارة بن الربيع وقد كانا تخلفا أيضا فتوافقنا أن نبكر إلى السوق فلم نقض حاجة فما زلنا نقول: نخرج غدا وبعد غد حتى بلغنا إقبال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فندمنا. فلما وافى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) استقبلناه نهنئه السلامة فسلمنا عليه فلم يرد علينا السلام وأعرض عنا، وسلمنا على إخواننا فلم يردوا علينا السلام فبلغ ذلك أهلونا فقطعوا كلامنا وكنا نحضر المسجد فلا يسلم علينا أحد ولا يكلمنا فجاءت نساؤنا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقلن: قد بلغنا سخطك على أزواجنا أ فنعتزلهم؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا تعتزلنهم ولكن لا يقربوكن.

فلما رأى كعب بن مالك وصاحباه ما قد حل بهم قالوا: ما يقعدنا بالمدينة ولا يكلمنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا إخواننا ولا أهلونا؟ فهلموا نخرج إلى هذا الجبل فلا نزال فيه حتى يتوب الله علينا أو نموت. فخرجوا إلى ذباب جبل بالمدينة فكانوا يصومون وكان أهلوهم يأتونهم بالطعام فيضعونه ناحية ثم يولون عنهم ولا يكلمونهم. فبقوا على هذا أياما كثيرة يبكون بالليل والنهار ويدعون الله أن يغفر لهم فلما طال عليهم الأمر قال لهم كعب: يا قوم قد سخط الله علينا ورسوله، وقد سخط علينا أهلونا، وإخواننا قد سخطوا علينا فلا يكلمنا أحد فلم لا يسخط بعضنا على بعض؟ فتفرقوا في الجبل وحلفوا أن لا يكلم أحد منهم صاحبه حتى يموت أو يتوب الله عليه فبقوا على ذلك ثلاثة أيام، وكل واحد منهم في ناحية من الجبل لا يرى أحد منهم صاحبه ولا يكلمه. فلما كان في الليلة الثالثة، ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في بيت أم سلمة نزلت توبتهم على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: ﴿لقد تاب الله بالنبي على المهاجرين والأنصار - الذين اتبعوه في ساعة العسرة﴾ قال الصادق (عليه السلام): هكذا نزلت وهو أبو ذر وأبو خيثمة وعمير بن وهب الذين تخلفوا ثم لحقوا برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

ثم قال في هؤلاء الثلاثة: ﴿وعلى الثلاثة الذين خلفوا﴾ فقال العالم (عليه السلام): إنما أنزل: على الثلاثة الذين خالفوا ولو خلفوا لم يكن عليهم عيب ﴿حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت﴾ حيث لا يكلمهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا إخوانهم ولا أهلوهم فضاقت عليهم المدينة حتى خرجوا منها ﴿وضاقت عليهم أنفسهم﴾ حيث حلفوا أن لا يكلم بعضهم بعضا فتفرقوا وتاب الله عليهم لما عرف من صدق نياتهم.

أقول: وسيأتي الكلام في الآيتين وما ورد فيهما من الروايات.

وفي تفسير العياشي، عن المغيرة قال: سمعته يقول: في قول الله عز وجل: ﴿ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة﴾ قال: يعني بالعدة النية يقول: ﴿لو كان لهم نية لخرجوا﴿.

أقول: الرواية على ضعفها وإرسالها وإضمارها لا تنطبق على لفظ الآية والله أعلم.

وفي الدر المنثور، أخرج ابن إسحاق وابن المنذر عن الحسن البصري قال: كان عبد الله بن أبي وعبد الله بن نبتل ورفاعة بن زيد بن تابوت من عظماء المنافقين، وكانوا ممن يكيد الإسلام وأهله، وفيهم أنزل الله: ﴿لقد ابتغوا الفتنة من قبل - وقلبوا لك الأمور﴾ إلى آخر الآية.