الآيات 25 - 28

لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ﴿25﴾ ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ ﴿26﴾ ثُمَّ يَتُوبُ اللّهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَن يَشَاء وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿27﴾ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿28﴾

بيان:

تشير الآيات إلى قصة غزوة حنين وتمتن بما نصر الله فيه المؤمنين كسائر المواطن من الغزوات التي نصرهم الله بعجيب نصرته على ضعفهم وقلتهم، وأظهر أعاجيب آياته بتأييد نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) وإنزال جنود لم يروها وإنزال السكينة على رسوله والمؤمنين وتعذيب الكافرين بأيدي المؤمنين.

وفيها الآية التي تحرم على المشركين أن يدخلوا المسجد الحرام بعد عام تسع من الهجرة، وهي العام الذي أذن فيه علي (عليه السلام) ببراءة، ومنع طواف البيت عريانا، ودخول المشركين في المسجد الحرام.

قوله تعالى: ﴿لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين - إلى قوله - ثم وليتم مدبرين﴾ المواطن جمع موطن وهو الموضع الذي يسكنه الإنسان ويتوطن فيه.

وحنين اسم واد بين مكة والطائف وقع فيه غزوة حنين قاتل فيه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هوازن وثقيف وكان يوما شديدا على المسلمين انهزموا أولا ثم أيدهم الله بنصره فغلبوا.

والإعجاب الإسرار والعجب سرور النفس بما يشاهده نادرا، والرحب السعة في المكان وضده الضيق.

وقوله: ﴿لقد نصركم الله في مواطن كثيرة﴾ ذكر لنصرته تعالى لهم في مواطن كثيرة ومواضع متعددة يدل السياق على أنها مواطن الحروب كوقائع بدر وأحد والخندق وخيبر وغيرها، ويدل السياق أيضا أن الجملة كالمقدمة الممهدة لقوله: ﴿ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم﴾ الآية فإن الآيات الثلاث مسوقة لتذكير قصة وقعة حنين، وعجيب ما أفاض الله عليهم من نصرته وخصهم به من تأييده فيها.

وقد استظهر بعض المفسرين كون الآية وما يتلوها إلى تمام الآيات الثلاث تتمة لقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما أمره ربه أن يواجه به المؤمنين في قوله: ﴿قل إن كان آباؤكم﴾ الآية وتكلف في توجيه الفصل الذي في قوله: ﴿لقد نصركم الله في مواطن كثيرة﴾.

ولا دليل من جهة اللفظ على ذلك بل الدليل على خلافه فإن قصة حنين وما يشتمل عليه من الامتنان بنصر الله وإنزال السكينة وإنزال الجنود وتعذيب الكافرين والتوبة على من يشاء أمر مستقل في نفسه ذو أهمية في ذاته وهو أهم هدفا من قوله تعالى: ﴿قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم﴾ الآية أو هو مثله لا يقصر عنه فلا معنى لاتباعه إياه وعطفه عليه في المعنى.

وحينئذ لو كان مما يجب أن يخاطب به القوم لكان من الواجب أن يقال.

وقل لهم لقد نصركم الله في مواطن كثيرة الآية، على ما جرى عليه القرآن في نظائره كقوله تعالى: ﴿قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد - إلى أن قال - قل أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين﴾ حم السجدة: 9 وغيره من الموارد.

على أن سياق الآيات وما يجب أن تشتمل عليه من الالتفات وغيره - لو كانت الآيات مقولة للقول - لا تلائم كونها مقولة للقول السابق.

والخطاب في قوله: ﴿لقد نصركم الله﴾ وما يتلوه من قوله: ﴿إذ أعجبتكم كثرتكم﴾ الآية، للمسلمين وهم الذين يؤلفون مجتمعا إسلاميا واحدا حضروا بوحدتهم هذه الوحدة أمثال وقائع بدر وأحد والخندق وخيبرا وحنينا وغيرها.

وهؤلاء فيهم المنافقون والضعفاء في الإيمان والمؤمنون صدقا على اختلافهم في المنازل إلا أن الخطاب متوجه إلى الجميع باعتبار اشتماله على من يصح أن يخاطب بمثل قوله: ﴿إذ أعجبتكم كثرتكم﴾ إلى آخر الآية.

وقوله: ﴿ويوم حنين﴾ أي ويوما وقعت فيه القتال بينكم وبين أعدائكم بوادي حنين، وإضافة اليوم إلى أمكنة الوقائع العظيمة شائع في العرف كما يقال: يوم بدر ويوم أحد ويوم الخندق نظير إضافته إلى الجماعة المتلبسين بذلك كيوم الأحزاب ويوم تميم، وإضافته إلى نفس الحادثة كيوم فتح مكة.

وقوله: ﴿إذ أعجبتكم كثرتكم﴾ أي أسرتكم الكثرة التي شاهدتموها في أنفسكم فانقطعتم عن الاعتماد بالله والثقة بأيده وقوته واستندتم إلى الكثرة فرجوتم أن ستدفع عنكم كيد العدو وتهزم جمعهم، وإنما هو سبب من الأسباب الظاهرية لا أثر فيها إلا ما شاء الله الذي إليه تسبيب الأسباب.

وبالنظر إلى هذا المعنى أردف قوله: ﴿إذ أعجبتكم كثرتكم﴾ بقوله: ﴿فلم تغن عنكم شيئا﴾ أي اتخذتموها سببا مستقلا دون الله فأنساكم الاعتماد بالله، وركنتم إليها فبان لكم ما في وسع هذا السبب الموهوم وهو أن لا غنى عنده حتى يغنيكم فلم يغن عنكم شيئا لا نصرا ولا شيئا آخر.

وقوله: ﴿وضاقت عليكم الأرض بما رحبت﴾ أي مع ما رحبت، وهو كناية عن إحاطة العدو بهم إحاطة لا يجدون مع ذلك مأمنا من الأرض يستقرون فيه ولا كهفا يأوون إليه فيقيهم من العدو، أي فررتم فرارا لا تلوون على شيء.

فهو قريب المعنى من قوله تعالى في قصة الأحزاب: ﴿إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا﴾ الأحزاب: 10.

وقول بعضهم: أي ضاقت عليكم الأرض فلم تجدوا موضعا تفرون إليه.

غير سديد.

وقوله: ﴿ثم وليتم مدبرين﴾ أي جعلتم العدو يلي أدباركم وهو كناية عن الانهزام وهذا هو الفرار من الزحف ساقهم إليه اطمئنانهم بكثرتهم والانقطاع من ربهم، قال تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار ومن يولهم يومئذ دبره - إلى أن قال - فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير:﴾ الأنفال: 16 وقال: ﴿ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسئولا﴾ الأحزاب: 15.

فهذا كله أعني ضيق الأرض عليهم بما رحبت ثم انهزامهم وفرارهم من الزحف على ما فيه من كبير الإثم، ووقوفهم هذا الموقف الذي يستتبع العتاب من ربهم إنما ساقهم إليه اعتمادهم واطمئنانهم إلى هذه الأسباب السرابية التي لا تغني عنهم شيئا.

والله سبحانه بسعة رحمته وعظم منه امتن عليهم بنصره وإنزال سكينته وإنزال جنود لم يروها، وتعذيب الكافرين ووعد مجمل بمغفرته وعدا ليس بالمقطوع وجوده حتى تبطل به صفة الخوف من قلوبهم، ولا بالمقطوع عدمه حتى تزول صفة الرجاء من نفوسهم بل وعدا يحفظ فيهم الاعتدال والتوسط بين صفتي الخوف والرجاء، ويربيهم تربية حسنة تعدهم وتهيئهم للسعادة الواقعية.

وقد أغرب بعض المفسرين في تفسير الآية مستظهرا بما جمع به بين الروايات على اختلافها فأصر على ما ملخصه أن المسلمين لم يفروا على جبن، وإنما انكشفوا عن موضعهم لما فاجأهم من شد كتائب ثقيف وهوازن عليهم شد رجل واحد فاضطربوا اضطرابة زلزلتهم وكشفتهم عن موضعهم دفعة واحدة وهذا أمر طبيعي في الإنسان إذا فاجأه الخطر ودهمته بلية دفعة ومن غير مهل اضطربت نفسه وخلي عن موضعه.

ويشهد به نزول السكينة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعليهم جميعا فقد كان الاضطراب شمله وإياهم جميعا، غير أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أصابه ما أصابه من الاضطراب والقلق حزنا وأسفا مما وقع، والمسلمون شملهم ذلك لما فوجئوا به من حملة الكتائب حملة رجل واحد.

ومن الشواهد أنهم بمجرد ما سمعوا نداء الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ونداء العباس بن عبد المطلب رجعوا من فورهم وهزموا الكفار بالسكينة النازلة عليهم من عند الله تعالى.

ثم ذكر ما نزل من الآيات في صفة الصحابة كآية بيعة الرضوان، وقوله تعالى: ﴿محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار﴾ الآية، وقوله: ﴿إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة﴾ الآية، وما ورد من طريق الرواية في مدح صحابة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

والذي أورده من الخلط بين البحث التفسيري الذي لا هم له إلا الكشف عما يدل عليه الآيات الكريمة، وبين البحث الكلامي الذي يرام به إثبات ما يدعيه المتكلم في شيء من المذاهب من أي طريق أمكن من عقل أو كتاب أو سنة أو إجماع أو المختلط منها والبحث التفسيري لا يبيح لباحثه شيئا من ذلك، ولا تحميل أي نظر من الأنظار العلمية على الكتاب الذي أنزله الله تبيانا.

أما قوله: ﴿إنهم لم يفروا جبنا ولا خذلانا للنبي﴾ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإنما كان انكشافا لأمر فاجأهم فاضطربوا وزلزلوا ففروا ثم كروا فهذا مما لا يندفع به صريح قوله تعالى: ﴿ثم وليتم مدبرين﴾ مع اندراج هذا الفعل منهم تحت كلية قوله تعالى في آية تحريم الفرار من الزحف: ﴿فلا تولوهم الأدبار ومن يولهم يومئذ دبره - إلى أن قال - فقد باء بغضب من الله﴾ الآية.

ولم يقيد سبحانه النهي عن تولية الأدبار بأنه يجب أن يكون عن جبن أو لغرض الخذلان، ولا أستثني من حكم التحريم كون الفرار عن اضطراب مفاجىء، ولا أورد في استثنائه إلا ما ذكره بقوله: ﴿إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة﴾ وليس هذان المستثنيان في الحقيقة من الفرار من الزحف.

ولم يورد تعالى أيضا فيما حكي من عهدهم شيئا من الاستثناء إذ قال: ﴿ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسئولا﴾ الأحزاب: 15.

وأما استشهاده على ذلك بأن الاضطراب كان مشتركا بينهم وبين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، واستدلاله على ذلك بقوله تعالى: ﴿ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين﴾ حيث إن نزول السكينة بعد انكشافهم بزمان - على ما تدل عليه كلمة ثم - يلازم نزول الاضطراب عند ذلك على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وإن كان عن حزن وأسف إذ لا يتصور في حقه (صلى الله عليه وآله وسلم) التزلزل في ثباته وشجاعته.

فلننظر فيما اعتبره للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الحزن والأسف هل كان ذلك حزنا وأسفا على ما وقع من الأمر من انهزام المسلمين وما ابتلاهم الله به من الفتنة والمحنة جزاء لما أعجبوا من كثرة عددهم، وبالجملة حزنا مكروها عند الله؟ فقد نزهه الله عن ذلك وأدبه بما نزل عليه من كتابه وعلمه من علمه، وقد أنزل عليه مثل قوله عز من قائل: ﴿ليس لك من الأمر شيء﴾ آل عمران: 128، وقال: ﴿سنقرئك فلا تنسى﴾ الأعلى: 6.

ولم يرد في شيء من روايات القصة أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) زال عن مكانه يومئذ أو اضطرب اضطرابا مما نزل على المسلمين من الوهن والانهزام.

وإن كان ذلك حزنا وأسفا على المسلمين لما أصابهم من ناحية خطئهم في الاعتماد بغير الله والركون إلى سراب الأسباب الظاهرة، والذهول عن الاعتصام بالله سبحانه حتى أوقعهم في خطيئة الفرار من الزحف لما كان هو (صلى الله عليه وآله وسلم) عليه من الرأفة والرحمة بالمؤمنين فهذا أمر يحبه الله سبحانه وقد مدح رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) به إذ قال: ﴿بالمؤمنين رءوف رحيم﴾ التوبة: 128.

وليس يزول مثل هذا الأسف والحزن بنزول السكينة عليه، ولا أن السكينة لو فرض نزولها لأجله مما حدث بعد وقوع الانهزام حتى يكون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خاليا عنها قبل ذلك بل كان (صلى الله عليه وآله وسلم) على بينة من ربه منذ بعثه الله إلى أن قبضه إليه، وكانت السكينة بهذا المعنى نازلة عليه حينا بعد حين.

ثم السكينة التي نزلت على المؤمنين ما هي؟ وما ذا يحسبها؟ أكانت هي الحالة النفسانية التي تحصل من السكون والطمأنينة كما فسرها بها واستشهد عليه بقول صاحب المصباح: أنها تطلق على الرزانة والمهابة والوقار حتى كانت ثبات الكفار وسكونهم في مواقفهم الحربية عن سكينة نازلة إليهم؟ فإن كانت السكينة هي هذه فقد كانت في أول الوقعة عند كفار هوازن وثقيف خصماء المسلمين ثم تركتهم ونزلت على عامة جيش المسلمين من مؤمن ثبت مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن مؤمن لم يثبت واختار الفرار على القرار، ومن منافق ومن ضعيف الإيمان مريض القلب فإنهم جميعا رجعوا ثانيا إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وثبتوا معه حتى هزموا العدو فهم جميعا أصحاب السكينة أنزلها الله إليهم فما باله تعالى يقصر إنزال السكينة على رسوله وعلى المؤمنين إذ يقول: ﴿ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين﴾.

على أنه إن كانت السكينة هي هذه، وهي مبتذلة مبذولة لكل مؤمن وكافر فما معنى ما امتن الله به على المؤمنين بما ظاهره أنها عطية خاصة غير مبتذلة؟ ولم يذكرها في كلامه إلا في موارد معدودة - بضعة موارد - لا تبلغ تمام العشرة.

وبذلك يظهر أن السكينة أمر وراء السكون والثبات لا أن لها معنى في اللغة أو العرف وراء مفهوم الحالة النفسانية الحاصلة من السكون والطمأنينة بل بمعنى أن الذي يريده تعالى من السكينة في كلامه له مصداق غير المصداق الذي نجده عند كل شجاع باسل له نفس ساكنة وجاش مربوط، وإنما هي نوع خاص من الطمأنينة النفسانية له نعت خاص وصفة مخصوصة.

كيف؟ وكلما ذكرها الله سبحانه في كلامه امتنانا بها على رسوله وعلى المؤمنين خصها بالإنزال من عنده فهي حالة إلهية لا ينسى العبد معها مقام ربه لا كما عليه عامة الشجعان أولوا الشدة والبسالة المعجبون ببسالتهم المعتمدون على أنفسهم.

وقد احتفت في كلامه بأوصاف وآثار لا تعم كل وقار وطمأنينة نفسانية كما قال في حق رسوله: ﴿إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها﴾ التوبة: 40 وقال تعالى في المؤمنين ﴿لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم﴾ الفتح: 18 فذكر أنه إنما أنزل السكينة عليهم لما علمه من قلوبهم فنزولها يحتاج إلى حالة قلبية طاهرة سابقة يدل السياق على أنها الصدق ونزاهة القلب عن إبطان نية الخلاف.

وقال أيضا: ﴿هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ولله جنود السماوات والأرض﴾ الفتح: 4 فذكر أن من أثرها زيادة الإيمان مع الإيمان وقال أيضا: ﴿إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها﴾ الفتح: 26.

والآية - كما ترى - تذكر أن نزول السكينة من عنده تعالى مسبوق باستعداد سابق وأهلية وأحقية قبلية وهو الذي أشير إليه في الآية السابقة بقوله: ﴿فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة﴾.

وتذكر أن من آثارها لزوم كلمة التقوى، وطهارة ساحة الإنسان عن مخالفة الله ورسوله باقتراف المحارم وورود المعاصي.

وهذا كالمفسر يفسر قوله في الآية الأخرى: ﴿ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم﴾ فازدياد الإيمان مع الإيمان بنزول السكينة هو أن يكون الإنسان على وقاية إلهية من اقتراف المعاصي وهتك المحارم مع إيمان صادق بأصل الدعوة الحقة.

وهذا نعم الشاهد يشهد أولا: أن المراد بالمؤمنين في قوله في الآية المبحوث عنها ﴿ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين﴾ غير المنافقين وغير مرضى القلوب وضعفاء الإيمان، ولا يبقى إلا من ثبت من المؤمنين مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهم ثلاثة أو أربعة أو تسعة أو عشرة أو ثمانون أو دون المائة على اختلاف الروايات في إحصائهم، ومن فر وانكشف عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أولا ثم رجع وقاتل ثانيا وفيهم جل أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعدة من خواصهم.

فهل المراد بالمؤمنين الذين نزلت عليهم، جميع من ثبت مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن فر أولا ثم رجع ثانيا، أو أنهم هم الذين ثبتوا معه من المؤمنين حتى نزل النصر؟.

الذي يستفاد من آيات السكينة أن نزولها متوقف على طهارة قلبية وصفاء نفسي سابق حتى يقرها الله تعالى بالسكينة، وهؤلاء كانوا مقترفين لكبيرة الفرار من الزحف آثمين قلوبا، ولا محل لنزول السكينة على من هذا شأنه فإن كانوا ممن نزلت عليهم السكينة كان من الواجب أن يندموا على ما فعلوا، ويتوبوا إلى ربهم توبة نصوحا بقلوب صادقة حتى يعلم الله ما في قلوبهم فينزل السكينة عليهم فيكونون أذنبوا أولا ثم تابوا ورجعوا ثانيا، فأنزل الله سكينته عليهم ونصرهم على عدوهم، ولعل هذا هو الذي يشير إليه التراخي المفهوم من قوله تعالى ﴿ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين﴾ حيث عبر بثم.

لكن يبقى عليه أولا: أنه كان من اللازم على هذا أن يتعرض في الكلام لتوبتهم فيختص حينئذ قوله: ﴿ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم﴾ على الكفار الذين أسلموا بعد منهم، ولا أثر من ذلك في الكلام ولا قرينة تخص قوله: ﴿ثم يتوب الله﴾ إلخ بالكافرين الذين أسلموا بعد، فافهم ذلك.

وثانيا: أن في ذلك غمضا عن جميل المسعى والمحنة الحسنة التي امتحن بها أولئك النفر القليل الذين ثبتوا مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حين تركه جموع المسلمين بين الأعداء وانهزموا فارين لا يلوون على شيء، ومن المستبعد من دأب القرآن أن يهمل أمر من تحمل محنة في ذات الله، وألقى نفسه في أشق المهالك ابتغاء مرضاته - وهو شاكر عليم - فلا يحمده ولا يشكر سعيه.

والمعهود من دأب القرآن أنه إذا عم قوما بعتاب أو توبيخ وذم، وفيهم من هو بريء من استحقاق اللوم أو العتاب أو طاهر من دنس الإثم والخطيئة أن يستثنيه منهم ويخصه بجميل الذكر، ويحمده على عمله وإحسانه كما نراه كثيرا في الخطابات التي تعمم اليهود أو النصارى عتابا أو ذما وتوبيخا فإنه تعالى يخاطبهم بما يخاطب ويوبخهم وينسب إليهم الكفر بآياته والتخلف عن أوامره ونواهيه، ثم يمدح منهم الأقلين الذين آمنوا به وبآياته وأطاعوه فيما أراد منهم.

وأوضح من ذلك ما يتعرض من الآيات لوقعة أحد، وتمتن على المؤمنين بما أنزل الله عليهم من النصرة والكرامة، ويعاتبهم على ما أظهروه من الوهن والفشل ثم يستثني الثابتين منهم على أقدام الصدق، ويعدهم وعدا حسنا إذ قال مرة بعد مرة: ﴿وسيجزي الله الشاكرين﴾ آل عمران: 144، ﴿وسنجزي الشاكرين﴾ آل عمران: 145.

ونجد مثله في ما يذكره الله سبحانه من أمر وقعة الأحزاب فإن في كلامه عتابا شديدا لجمع من المؤمنين، وتوبيخا وذما للمنافقين والذين في قلوبهم مرض حتى قال فيما قال: ﴿ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسئولا﴾ الأحزاب: 15، ثم إنه تعالى ختم القصة بمثل قوله: ﴿من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا﴾ الأحزاب: 23.

فما باله تعالى لم يتعرض لحالهم في قصة حنين، وليست بأهون من غيرها، ولا خصهم بشيء من الشكر، ولا حمدهم بما يمتنون به من لطيف حمده تعالى كغيرهم في غيرها.

فهذا الذي ذكرناه مما يقرب إلى الاعتبار أن يكون المراد بالمؤمنين الذين ذكر نزول السكينة عليهم هم الذين ثبتوا مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأما سائر المؤمنين ممن رجع بعد الانكشاف فهم تحت شمول قوله: ﴿ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم﴾ يشمل من شملته العناية منهم كما يشمل من شملته العناية والتوفيق من كفار هوازن وثقيف ومن الطلقاء والذين في قلوبهم مرض.

هذا ما يهدي إليه البحث التفسيري، وأما الروايات فلها شأنها وسيأتي طرف منها.

وأما ما ذكره من شهادة رجوعهم من فورهم حين سمعوا نداء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ونداء العباس فذلك مما لا يبطل ما قدمناه من ظهور قوله تعالى: ﴿ثم وليتم مدبرين﴾ إذا انضم إلى قوله: ﴿إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار﴾ الآية في أن ما ظهر منهم في الوقعة من الفعل كان فرارا من الزحف فعلوه عن جبن أو تعمد في خذلان أو عن قلق واضطراب وتزلزل.

وأما ما ذكره من الآيات التي تمدحهم وتذكر رضى الرب عنهم واستحقاقهم جزيل الأجر من ربهم.

ففيه أن هذه المحامد مقيدة فيها بقيود لا يتحتم معها لهم الأمر فإن الآيات إنما تحمد من تحمده منهم لما به من نعوت العبودية كالإيمان والإخلاص والصدق والنصيحة والمجاهدة الدينية فالحمد باق ما بقيت الصفات، والوعد الحسن على اعتباره ما لبثت فيهم النعوت والأحوال الموجبة له فإذا زالت لحادثة أو خطيئة زال بتبعه.

وليس ما عندهم من مبادىء الخير والبركات بأعظم ولا أهم مما عند الأنبياء من صفة العصمة يستحيل معها صدور الذنب منهم، وقد قال الله تعالى بعد ثناء طويل عليهم: ﴿ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون﴾ الأنعام: 88 وقد قال تعالى قبال ما ظنوا أنهم مصونون عن ما يكرهونه من أقسام المجازاة كرامة لإسلامهم كما ظن نظيره أهل الكتاب: ﴿ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوء يجز به﴾ النساء: 123.

والذي ورد في بيعة الرضوان من قوله: ﴿لقد رضي الله﴾ فإنما رضاه تعالى من صفاته الفعلية التي هي عين أفعاله الخارجية منتزعة منها فهو عين ما أفاض عليهم من الحالات الطاهرة النفسية التي تستعقب بطباعها جزيل الجزاء وخير الثواب إن بقيت أعمالهم على ما هي عليها وإن تغيرت تغير الرضى سخطا والنعمة نقمة ولم يأخذ أحد عليه تعالى عهدا أن لا يخلف عهده فيحمله على السعادة والكرامة أحسن أو أساء، أطاع أو عصى، آمن أو كفر.

وليس رضى الرب من صفاته الذاتية التي يتصف بها في ذاته فلا يعرضه تغير أو تبدل ولا يطرأ عليه زوال أو دثور.

قوله تعالى: ﴿ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين﴾ إلى آخر الآية السكينة - كما تقدم - حالة قلبية توجب سكون النفس وثبات القلب ملازمة لازدياد الإيمان مع الإيمان ولكلمة التقوى التي تهدي إلى الورع عن محارم الله على ما تفسرها الآيات.

وهي غير العدالة التي هي ملكة نفسانية تردع عن ركوب الكبائر والإصرار على الصغائر فإن السكينة تردع عن الصغائر والكبائر جميعا.

وقد نسب الله السكينة في كتابه إلى نفسه نسبة تشعر بنوع من الاختصاص كما نسب الروح إلى نفسه دون العدالة ووصفها بالإنزال فلها اختصاص عندي به تعالى بل ربما يشعر بعض الآيات بأنه عدها من جنوده كقوله تعالى: ﴿هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ولله جنود السماوات والأرض﴾ الفتح: 4.

وفي غير واحد من الآيات المشتملة على ذكر السكينة ذكر الجنود كقوله: ﴿فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها﴾ التوبة: 40، وكما في الآية المبحوث عنها: ﴿ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها﴾ .

والذي يفهم من السياق أن هذه الجنود هي الملائكة النازلة إلى المعركة، أو أن يقال من جملتها الملائكة النازلة والذي ينتسب إلى السكينة والملائكة أن يعذب بهم الكفار ويسدد ويسعد بهم المؤمنون كما اشتملت عليه آيات آل عمران القاصة قصة أحد، وآيات في أول سورة الفتح فراجعها حتى يتبين لك حقيقة الحال إن شاء الله تعالى.

وقد تقدم في قوله تعالى: ﴿فيه سكينة من ربكم﴾ البقرة: 248 في الجزء الثاني من الكتاب بعض ما يتعلق بالسكينة الإلهية من الكلام مما لا يخلو من نفع في هذا المقام.

قوله تعالى: ﴿ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم﴾ قد تقدم مرارا أن التوبة من الله سبحانه هي الرجوع إلى عبده بالعناية والتوفيق أولا ثم بالعفو والمغفرة ثانيا، ومن العبد الرجوع إلى ربه بالندامة والاستغفار، ولا يتوب الله على من لا يتوب إليه.

والإشارة في قوله: ﴿من بعد ذلك﴾ على ما يعطيه السياق إلى ما ذكره في الآيتين السابقتين من خطيئتهم بالركون إلى غير الله سبحانه ومعصيتهم بالفرار والتولي ثم إنزال السكينة وإنزال الجنود وتعذيب الذين كفروا.

والملائم لذلك أن يكون الموصول في ﴿من يشاء﴾ شاملا للمسلمين والكافرين جميعا فقد ذكر من الفريقين جميعا ما يصلح لأن يتوب الله عليهم فيه إن تابوا وهو من الكفار كفرهم ومن المسلمين خطيئتهم ومعصيتهم، ولا وجه لتخصيص التوبة على بعضهم مع ما في آيات التوبة من عموم الحكم وسعته ولم يقيد في هذه الآية المبحوث عنها بما يوجب اختصاصها بأحد الفريقين: المسلمين أو الكافرين مع وجود المقتضي فيهما جميعا.

ومما ذكرنا يظهر فساد ما فسر به بعضهم الآية مع قصر الإشارة على التعذيب إذ قال: إن معناها ثم يتوب الله تعالى بعد هذا التعذيب الذي يكون في الدنيا على من يشاء من الكافرين فيهديهم إلى الإسلام وهم الذين لم يحط بهم خطيئات جهالة الشرك وخرافاته من جميع جوانب أنفسهم، ولم يختم على نفوسهم بالإصرار على الجحود والتكذيب أو الجمود على ما ألفوا بمحض التقليد.

وقد عرفت أن تخصيص الآية بما ذكر والتصرف في سائر قيوده كقصر الإشارة على التعذيب وغير ذلك مما لا دليل عليه البتة.

والوجه في التعبير بالاستقبال في قوله: ﴿ثم يتوب الله﴾ الإشارة إلى انفتاح باب التوبة دائما، وجريان العناية وفيضان العفو والمغفرة الإلهية مستمرا بخلاف ما يشير إليه قوله: ﴿ثم أنزل الله سكينته﴾ الآية، فإن ذلك أمور محدودة غير جارية.

قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا﴾ قال في المجمع،: كل مستقذر نجس يقال: رجل نجس وامرأة نجس وقوم نجس لأنه مصدر، وإذا استعملت هذه اللفظة مع الرجس قيل: رجس نجس - بكسر النون - قال: والعيلة الفقر يقال عال يعيل إذا افتقر.

والنهي عن دخول المشركين المسجد الحرام بحسب المتفاهم العرفي يفيد أمر المؤمنين بمنعهم عن دخول المسجد الحرام، وفي تعليله تعالى منع دخولهم المسجد بكونهم نجسا اعتبار نوع من القذارة لهم كاعتبار نوع من الطهارة والنزاهة للمسجد الحرام، وهي كيف كانت أمر آخر وراء الحكم باجتناب ملاقاتهم بالرطوبة وغير ذلك.

والمراد بقوله: ﴿عامهم هذا﴾ سنة تسع من الهجرة، وهي السنة التي أذن فيها علي (عليه السلام) بالبراءة، ومنع طواف البيت عريانا، وحج المشركين البيت.

وقوله: ﴿وإن خفتم عيلة﴾ الآية، أي وإن خفتم في إجراء هذا الحكم أن ينقطعوا عن الحج، ويتعطل أسواقكم، وتذهب تجارتكم فتفتقروا وتعيلوا فلا تخافوا فسوف يغنيكم الله من فضله، ويؤمنكم من الفقر الذي تخافونه.

وهذا وعد حسن منه تعالى فيه تطييب نفوس أهل مكة ومن كان له تجارة هناك بالموسم، وكان حاضر العالم الإسلامي يبشرهم يومئذ بمضمون هذا الوعد فقد كان الإسلام تعلو كلمته، وينتشر صيته حالا بعد حال، وكانت عامة المشركين في عتبة الاستئصال بعد إيذان براءة لم يبق لهم إلا أربعة أشهر إلا شرذمة قليلة من العرب كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عاهدهم عند المسجد الحرام إلى أجل ما بعده من مهل فالجميع كانوا في معرض قبول الإسلام.

بحث روائي:

في الكافي، عن علي بن إبراهيم عن بعض أصحابه ذكره قال: لما سم المتوكل نذر إن عوفي أن يتصدق بمال كثير فلما عوفي سأل الفقهاء عن حد المال الكثير فاختلفوا عليه فقال بعضهم: مائة ألف، وقال بعضهم: عشرة آلاف فقالوا فيه أقاويل مختلفة فاشتبه عليه الأمر. فقال رجل من ندمائه يقال له صفوان: ألا تبعث إلى هذا الأسود فتسأله عنه؟. فقال له المتوكل: من تعني ويحك؟ فقال: ابن الرضا. فقال له: وهو يحسن من هذا شيئا؟ فقال: إن أخرجك من هذا فلي عليك كذا وكذا وإلا فاضربني مائة مقرعة فقال المتوكل: رضيت، يا جعفر بن محمود اذهب إلى أبي الحسن علي بن محمد فاسأله عن حد المال الكثير، فسأله فقال له: الكثير ثمانون.

فقال له جعفر بن محمود: يا سيدي إنه يسألني عن العلة فيه فقال له أبو الحسن (عليه السلام): إن الله عز وجل يقول: ﴿لقد نصركم الله في مواطن كثيرة﴾ فعددنا تلك المواطن فكان ثمانين: أقول: ورواه القمي أيضا في تفسيره وبعض أصحابه الذي ذكر في الرواية أنه سماه هو محمد بن عمرو على ما ذكره في التفسير.

ومعنى الرواية أن الثمانين من مصاديق الكثير بدلالة من الكتاب لا أن الكثير معناه الثمانون وهو ظاهر.

وفي المجمع، ذكر أهل التفسير وأصحاب السير: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما فتح مكة خرج منها متوجها إلى حنين لقتال هوازن وثقيف في آخر شهر رمضان أو في شوال في سنة ثمان من الهجرة، وقد اجتمع رؤساء هوازن إلى مالك بن عوف النصري، وساقوا معهم أموالهم ونساءهم وذراريهم ونزلوا بأوطاس. قال: وكان دريد بن الصمة في القوم، وكان رئيس جشم، وكان شيخا كبيرا قد ذهب بصره من الكبر فقال: بأي واد أنتم؟ قالوا: بأوطاس.

قال: نعم مجال الخيل، لا حزن ضرس، ولا سهل دهس، ما لي أسمع رغاء البعير ونهيق الحمير وخوار البقر وثغاء الشاة وبكاء الصبيان؟ فقالوا: إن مالك بن عوف ساق مع الناس أبناءهم وأموالهم ونساءهم ليقاتل كل منهم عن أهله وماله فقال دريد: راعي ضأن ورب الكعبة. ثم قال: ائتوني بمالك فلما جاءه قال: يا مالك إنك أصبحت رئيس قومك، وهذا يوم له ما بعده، رد قومك إلى عليا بلادهم، وألق الرجال على متون الخيل فإنه لا ينفعك إلا رجل بسيفه وفرسه فإن كانت لك لحق بك من وراءك، وإن كانت عليك لا تكون قد فضحت في أهلك وعيالك فقال له مالك: إنك قد كبرت وذهب علمك وعقلك.

وعقد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لواءه الأكبر ودفعه إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وكل من دخل مكة براية أمره أن يحملها، وخرج بعد أن أقام بمكة خمسة عشر يوما وبعث إلى صفوان بن أمية فاستعار منه مائة درع فقال صفوان: عارية أم غصب؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): عارية مضمونة مؤداة، فأعاره صفوان مائة درع وخرج معه، وخرج من مسلمة الفتح ألفا رجل، وكان (صلى الله عليه وآله وسلم) دخل مكة في عشرة آلاف رجل وخرج منها في اثني عشر ألفا. وبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رجلا من أصحابه فانتهى إلى مالك بن عوف وهو يقول لقومه: ليصير كل رجل منكم أهله وماله خلف ظهره، واكسروا جفون سيوفكم، وأكمنوا في شعاب هذا الوادي وفي السحر فإذا كان في غبش الصبح فاحملوا حملة رجل واحد فهدوا القوم فإن محمدا لم يلق أحدا يحسن الحرب. ولما صلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأصحابه الغداة انحدر في وادي حنين فخرجت عليهم كتائب هوازن من كل ناحية، وانهزمت بنو سليم وكانوا على المقدمة وانهزم ما وراءهم، وخلى الله تعالى بينهم وبين عدوهم لإعجابهم بكثرتهم وبقي علي (عليه السلام) ومعه الراية يقاتلهم في نفر قليل ومر المنهزمون برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يلوون على شيء. وكان العباس بن عبد المطلب أخذ بلجام بغلة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والفضل عن يمينه، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب عن يساره، ونوفل بن الحارث وربيعة بن الحارث في تسعة من بني هاشم، وعاشرهم أيمن بن أم أيمن، وفي ذلك يقول العباس: نصرنا رسول الله في الحرب تسعة. وقد فر من قد فر عنه فأقشعوا.

وقولي إذا ما الفضل كر بسيفه. على القوم أخرى يا بني ليرجعوا.

وعاشرنا لاقى الحمام بنفسه. لما ناله في الله لا يتوجع. ولما رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هزيمة القوم عنه قال للعباس وكان جهوريا صيتا اصعد هذا الظرب فناد: يا معشر المهاجرين والأنصار يا أصحاب سورة البقرة يا أهل بيعة الشجرة إلى أين تفرون؟ هذا رسول الله. فلما سمع المسلمون صوت العباس تراجعوا وقالوا: لبيك لبيك، وتبادر الأنصار خاصة وقاتلوا المشركين حتى قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الآن حمي الوطيس. أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب، ونزل النصر من عند الله، وانهزمت هوازن هزيمة قبيحة ففروا في كل وجه، ولم يزل المسلمون في آثارهم.

وفر مالك بن عوف فدخل حصن الطائف، وقتل منهم زهاء مائة رجل، وأغنم الله المسلمين أموالهم ونساءهم، وأمر رسول الله بالذراري والأموال أن تحدر إلى الجعرانة، وولى على الغنائم بديل بن ورقاء الخزاعي. ومضى (صلى الله عليه وآله وسلم) في أثر القوم فوافى الطائف في طلب مالك بن عوف فحاصر أهل الطائف بقية الشهر فلما دخل ذو القعدة انصرف وأتى الجعرانة، وقسم بها غنائم حنين وأوطاس. قال سعيد بن المسيب: حدثني رجل كان في المشركين يوم حنين قال: لما التقينا نحن وأصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يقفوا لنا حلب شاة فلما كشفناهم جعلنا نسوقهم حتى إذ انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء يعني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فتلقانا رجال بيض الوجوه فقالوا لنا: شاهت الوجوه ارجعوا فرجعنا فركبوا أكتافنا فكانوا إياها يعني الملائكة. قال الزهري: وبلغني أن شيبة بن عثمان قال: استدبرت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنا أريد أن أقتله بطلحة بن عثمان وعثمان بن طلحة وكانا قد قتلا يوم أحد فأطلع الله رسوله على ما في نفسي فالتفت إلي وضرب في صدري، وقال: أعيذك بالله يا شيبة فأرعدت فرائصي فنظرت إليه وهو أحب إلي من سمعي وبصري فقلت: أشهد أنك رسول الله، وأن الله أطلعك على ما في نفسي.

وقسم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الغنائم بالجعرانة وكان معه من سبي هوازن ستة آلاف من الذراري والنساء، ومن الإبل والشاة ما لا يدرى عدته. قال أبو سعيد الخدري: قسم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للمتألفين من قريش ومن سائر العرب ما قسم، ولم يكن في الأنصار منها شيء قليل ولا كثير فمشى سعد بن عبادة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول الله إن هذا الحي من الأنصار وجدوا عليك في قسمك هذه الغنائم في قومك وفي سائر العرب ولم يكن فيهم من ذلك شيء فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): فأين أنت من ذلك يا سعد؟ فقال: ما أنا إلا امرؤ من قومي فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة فجمعهم فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقام فيهم خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا معشر الأنصار أولم آتكم ضلالا فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله وأعداء فألف بين قلوبكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله. ثم قال: ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟ فقالوا: وما نقول؟ وبما ذا نجيبك؟ المن لله ولرسوله. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أما والله لو شئتم لقلتم فصدقتم: جئتنا طريدا فآويناك، وعائلا فآسيناك، وخائفا فآمناك، ومخذولا فنصرناك.

فقالوا: المن لله ولرسوله. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): وجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا ووكلتكم إلى ما قسم الله لكم من الإسلام. أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن تذهب الناس إلى رحالهم بالشاة والبعير، وتذهبون برسول الله إلى رحالكم؟ فوالذي نفسي بيده لو أن الناس سلكوا شعبا وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار ولو لا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار فبكى القوم حتى اخضلت لحاهم، وقالوا: رضينا بالله ورسوله قسما ثم تفرقوا. وقال أنس بن مالك: وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر مناديا فنادى يوم أوطاس: ألا لا توطأ الحبالى حتى يضعن، ولا غير الحبالى حتى يستبرأن بحيضة.

ثم أقبلت وفود هوازن وقدمت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالجعرانة مسلمين فقام خطيبهم وقال: يا رسول الله إنما في الحظائر من السبايا خالاتك وحواضنك اللاتي كن يكفلنك فلو أنا ملحنا ابن أبي شمر أو النعمان بن المنذر ثم أصابنا منهما مثل الذي أصابنا منك رجونا عائدتهما وعطفهما وأنت خير المكفولين ثم أنشد أبياتا. فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): أي الأمرين أحب إليكم: السبي أو الأموال؟ قالوا: يا رسول الله خيرتنا بين الحسب وبين الأموال، والحسب أحب إلينا ولا نتكلم في شاة ولا بعير فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أما الذي لبني هاشم فهو لكم وسأكلم لكم المسلمين وأشفع لكم فكلموهم وأظهروا إسلامكم. فلما صلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الهاجرة قاموا فتكلموا فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): قد رددت الذي لبني هاشم والذي بيدي عليهم فمن أحب منكم أن يعطي غير مكره فليفعل ومن كره أن يعطي فليأخذ الفداء وعلي فداؤهم فأعطى الناس ما كان بأيديهم منهم إلا قليلا من الناس سألوا الفداء. وأرسل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى مالك بن عوف وقال: إن جئتني مسلما رددت إليك أهلك ومالك ولك عندي مائة ناقة فخرج إليه من الطائف فرد عليه أهله وماله وأعطاه مائة من الإبل واستعمله على من أسلم من قومه.

أقول: وروى القمي في تفسيره مثله ولم يرو ما نسب من الرجز إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) وكذا ما أسنده إلى راو معين كالمسيب والزهري وأنس وأبي سعيد، وروي هذه المعاني بطرق كثيرة من طرق أهل السنة.

وفي رواية علي بن إبراهيم القمي زيادة يسيرة هي ما يأتي: قال علي بن إبراهيم: فلما رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الهزيمة ركض يحوم على بغلته قد شهر سيفه فقال: يا عباس اصعد هذا الظرب وناد: يا أصحاب (سورة) البقرة يا أصحاب الشجرة إلى أين تفرون؟ هذا رسول الله. ثم رفع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يده وقال: اللهم لك الحمد ولك الشكر وإليك المشتكى وأنت المستعان فنزل إليه جبرئيل فقال: يا رسول الله دعوت بما دعا به موسى بن عمران حين فلق الله له البحر ونجاه من فرعون.

ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأبي سفيان بن الحارث: ناولني كفا من حصى فناوله فرماه في وجوه المشركين ثم قال: شاهت الوجوه.

ثم رفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم إن تهلك هذه العصابة لم تعبد وإن شئت أن لا تعبد لا تعبد. فلما سمعت الأنصار نداء العباس عطفوا وكسروا جفون سيوفهم وهم ينادون: لبيك ومروا برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) واستحيوا أن يرجعوا إليه ولحقوا بالراية فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للعباس: من هؤلاء يا أبا الفضل؟ فقال: يا رسول الله هؤلاء الأنصار فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الآن حمي الوطيس فنزل النصر من السماء وانهزمت هوازن. وفي الدر المنثور، أخرج أبو الشيخ عن محمد بن عبيد الله بن عمير الليثي قال: كان مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أربعة آلاف من الأنصار وألف من جهينة، وألف من مزينة وألف من أسلم وألف من غفار وألف من أشجع وألف من المهاجرين وغيرهم فكان معه عشرة آلاف وخرج باثني عشر ألفا وفيها قال الله تعالى في كتابه: ﴿ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا﴾ وفي سيرة ابن هشام، عن ابن إسحاق قال: فلما انهزم الناس، ورأى من كان مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من جفاة أهل مكة الهزيمة تكلم رجال منهم بما في أنفسهم من الضغن: فقال أبو سفيان بن حرب: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر. وإن الأزلام لمعه في كنانته وصرخ جبلة بن الحنبل قال ابن هشام: كلدة بن الحنبل وهو مع أخيه صفوان بن أمية مشرك في المدة التي جعل له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ألا بطل السحر اليوم، فقال له صفوان اسكت فض الله فاك فوالله لأن يربني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن. قال ابن إسحاق: وقال شيبة بن عثمان بن أبي طلحة أخو بني عبد الدار: قلت: اليوم أدرك ثاري وكان أبوه قتل يوم أحد اليوم أقتل محمدا قال: فأدرت برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأقتله فأقبل شيء حتى تغشى فؤادي فلم أطق ذاك فعلمت أنه ممنوع مني.

فهرس أسماء شهداء حنين:

في سيرة ابن هشام، قال ابن إسحاق: وهذه تسمية من استشهد يوم حنين من المسلمين: من قريش ثم من بني هاشم أيمن بن عبيد ومن بني أسد بن عبد العزى يزيد بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد جمح به فرس يقال له الجناح فقتل. ومن الأنصار سراقة بن الحارث بن عدي من بني العجلان ومن الأشعريين أبو عامر الأشعري.

أقول: وأما الثباة مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد عدوا في بعض الروايات ثلاثة وفي بعضها أربعة وفي بعضها تسعة عاشرهم أيمن بن عبيد - وهو ابن أم أيمن - وفي بعضها ثمانين وفي بعضها: دون المائة.

والمتعمد من بينها ما روي عن العباس أنهم كانوا تسعة عاشرهم أيمن وله في ذلك شعر تقدم نقله وذلك أنه كان ممن ثبت مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) طول الوقعة وشاهد ما كان من الأمر وهو الذي كان ينادي المنهزمين ويستلحقهم بأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد باهى بما قاله من الشعر.

ومن الممكن أن يثبت جمع بعد انهزام الناس هنيئة ثم يلحقوا بالمنهزمين أو يرجع جمع قبل رجوع غيرهم فيلحقوا بالراية فيعدوا ممن ثبت وقاتل فالحرب العوان لا يجري على ما يجري عليه السلم من النظم.

ومن هنا يعلم ما في قول بعضهم: إن الأرجح رواية الثمانين كما عن عبد الله بن مسعود وإليها يرجع ما رواه ابن عمر أنهم كانوا دون المائة فإن الحجة لمن حفظ على من لم يحفظ، انتهى ملخصا.

وذلك أن كون الحجة لمن حفظ على من لم يحفظ حق لكن الحفظ في حال الحرب على ما فيه من التحول السريع في الأوضاع الحاضرة غير الحفظ في غيره فلا يعتمد إلا على ما شهدت القرائن لصحته وأيد الاعتبار وثاقة حفظه وقد كان العباس مأمورا بما من شأنه حفظ هذا الشأن وما يرتبط به.