الآيات 104 - 109

قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴿104﴾ وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿105﴾ وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ ﴿106﴾ وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴿107﴾ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ ﴿108﴾ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ﴿109﴾

بيان:

الآيات، ختام السورة تفرغ المحصل من بياناتها فتشير إجمالا إلى التوحيد والمعاد والنبوة، وتأمر باتباع القرآن والصبر في انتظار حكم الله بينه وبين أمته.

قوله تعالى: ﴿قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني﴾ إلخ، قد تقدم غير مرة أن الدين هو السنة المعمول بها في الحياة لنيل سعادتها وفيه معنى الطاعة كما في قوله تعالى: ﴿وأخلصوا دينهم لله﴾ النساء: 146 وربما استعمل بمعنى الجزاء.

وقوله: ﴿إن كنتم في شك من ديني﴾ أي في طريقتي التي أسلكها وأثبت عليها وشك الإنسان في دين غيره وطريقته المعمولة له إنما يكون في ثباته عليه هل يستقر عليه ويستقيم؟ وقد كان المشركون يطمعون في دينه (صلى الله عليه وآله وسلم) وربما رجوا أن يحولوه عنه فينجوا من دعوته إلى التوحيد ورفض الشرك بالآلهة.

فالمعنى: إن كنتم تشكون فيما أدين به وأدعو إليه هل أستقيم عليه؟ أو شككتم في ديني ما هو؟ ولم تحصلوا الأصل الذي يبتني عليه فإني أصرح لكم القول فيه وأبينه لكم وهو أني لا أعبد آلهتكم وأعبد الله وحده.

وقد أخذ في قوله: ﴿ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم﴾ له تعالى وصف توفيهم دون غيره من أوصافه تعالى لأنهم إنما كانوا يعبدون الإله لزعمهم الحاجة إليه في دفع الضرر وجلب النفع، والتوفي أمر لا يشكون أنه سيصيبهم وأنه لله وحده فمساس الحاجة إلى الأمن من ضرره يوجب عبادة الله سبحانه.

على أن اختيار التوفي للذكر ليكون في الكلام تلويح إلى تهديدهم فإن الآيات.

السابقة وعدتهم العذاب وعدا قطعيا، ووفاة المشركين ميعاد عذابهم، ويؤيد ذلك اتباع قوله: ﴿ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم﴾ بقوله: ﴿أمرت أن أكون من المؤمنين﴾ فإن نجاتهم من العذاب جزء الوعد الذي ذكره الله في الآيتين السابقتين على هذه الآية: ﴿فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم - إلى قوله- ننج المؤمنين﴾.

والمعنى: فاعلموا واستيقنوا أني لا أعبد آلهتكم ولكن أعبد الله الذي وعد عذاب المكذبين منكم وإنجاء المؤمنين وأمرني أن أكون منهم كما أمرني أن أجتنب عبادة الآلهة.

قوله تعالى: ﴿وأن أقم وجهك للدين حنيفا﴾ عطف على موضع قوله: ﴿وأمرت أن﴾ إلخ، فإنه في معنى وكن من المؤمنين، وقد مر الكلام في معنى إقامة الوجه للدين الحنيف غير مرة.

قوله تعالى: ﴿ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك﴾ نهي بعد نهي عن الشرك، وبيان أن الشرك يدخل الإنسان في زمرة الظالمين فيحق عليه ما أوعد الله به الظالمين في كلامه.

ومن لطيف التعبير قوله حين ذكر الدعاء: ﴿ما لا ينفعك ولا يضرك﴾ وحين ذكر العبادة: ﴿الذين تعبدون من دون الله﴾ فإن العبادة بالطبع يعطي للمعبود شعورا وعقلا فناسب أن يعبر عنه بنحو ﴿الذين﴾ المستعمل في ذوي العلم والعقل، والدعاء وإن كان كذلك لمساوقته العبادة غير أنه لما وصف المدعو بما لا ينفع ولا يضر، وربما توهم أن ذوي العلم والعقل يصح أن تنفع وتضر، عبر بلفظة ﴿ما﴾ ليلوح إلى أنها جماد لا يتخيل في حقهم إرادة نفع أو ضرر.

وفي التعبير نفسه أعني قوله: ﴿ما لا ينفعك ولا يضرك﴾ إعطاء الحجة على النهي عن الدعاء.

قوله تعالى: ﴿إن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو﴾ إلخ، الجملة حالية وهي تتمة البيان في الآية السابقة، والمعنى: ولا تدع من دون الله ما لا نفع لك عنده ولا ضرر، والحال أن ما مسك الله به من ضر لا يكشفه غيره وما أرادك به من خير لا يرده غيره فهو القاهر دون غيره يصيب بالخير عباده بمشيئته وإرادته، وهو مع ذلك غفور رحيم يغفر ذنوب عباده ويرحمهم، واتصافه بهذه الصفات الكريمة وكون غيره صفر الكف منها يقتضي تخصيص العبادة والدعوة به.

قوله تعالى: ﴿قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم﴾ وهو القرآن أو ما يشتمل عليه من الدعوة الحقة، وقوله: ﴿فمن اهتدى﴾ إلى آخر الآية، إعلام لهم بكونهم مختارين فيما ينتخبونه لأنفسهم من غير أن يسلبوا الخيرة ببيان حقيقة هي أن الحق - وقد جاءهم - من حكمه أن من اهتدى إليه فإنما يهتدي ونفعه عائد إليه، ومن ضل عنه فإنما يضل وضرره على نفسه فلهم أن يختاروا لأنفسهم ما يحبونه من نفع أو ضرر، وليس هو (صلى الله عليه وآله وسلم) وكيلا لهم يتصدى من الفعل ما هو لهم فالآية كناية عن وجوب اهتدائهم إلى الحق لأن فيه نفعهم.

قوله تعالى: ﴿واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين﴾ أمر باتباع ما يوحى إليه والصبر على ما يصيبه في جنب هذا الاتباع من المصائب والمحن، ووعد بأن الله سبحانه سيحكم بينه وبين القوم، ولا يحكم إلا بما فيه قرة عينه فالآية تشتمل على أمره بالاستقامة في الدعوة وتسليته فيما يصيبه، ووعده بأن العاقبة الحسنى له.

وقد اختتمت الآية بحكمه تعالى، وهو الذي عليه يعتمد معظم آيات السورة في بيانها.