الآيات 94 - 103

فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴿94﴾ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴿95﴾ إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴿96﴾ وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ ﴿97﴾ فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ﴿98﴾ وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ﴿99﴾ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ ﴿100﴾ قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ ﴿101﴾ فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ ﴿102﴾ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ ﴿103﴾

بيان:

تتضمن الآيات الاستشهاد على حقية ما أنزله الله في السورة من المعارف الراجعة إلى المبدإ والمعاد وما قصة من قصص الأنبياء وأممهم - ومنهم نوح وموسى ومن بينهما من الأنبياء (عليهم السلام) وأممهم - إجمالا بما قرأه أهل الكتب السماوية فيها قبل نزول القرآن على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

ثم تذكر ما هو كالفذلكة والمعنى المحصل من البيانات السابقة وهو أن الناس لن يملكوا من أنفسهم أن يؤمنوا بالله وآياته إلا بإذن الله، وإنما يأذن الله في إيمان من لم يطبع على قلبه ولم يجعل الرجس عليه وإلا فمن حقت عليه كلمة الله لن يؤمن بالله وآياته حتى يرى العذاب.

فالسنة الجارية أن الناس منذ خلقوا واختلفوا بين مكذب بآيات الله ومصدق لها، وقد جرت سنة الله على أن يقضي فيهم بالحق بعد مجيء رسلهم إليهم فينجي الرسل والمؤمنين بهم، ويأخذ غيرهم بالهلاك.

قوله تعالى: ﴿فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك﴾ إلى آخر الآية الشك الريب، والمراد بقوله: ﴿مما أنزلنا إليك﴾ المعارف الراجعة إلى المبدأ والمعاد والسنة الإلهية في القضاء على الأمم مما تقدم في السورة، وقوله: ﴿يقرءون الكتاب من قبلك﴾ ﴿يقرءون﴾ فعل مضارع استعمل في الاستمرار و﴿من قبلك﴾ حال من الكتاب عامله متعلقة المقدر، والتقدير منزلا من قبلك.

كل ذلك على ما يعطيه السياق.

والمعنى ﴿فإن كنت﴾ أيها النبي ﴿في شك﴾ وريب ﴿مما أنزلنا إليك﴾ من المعارف الراجعة إلى المبدأ والمعاد وما قصصنا عليك إجمالا من قصص الأنبياء الحاكية لسنة الله الجارية في خلقه من الدعوة أولا ثم القضاء بالحق ﴿فاسأل﴾ أهل الكتاب ﴿الذين﴾ لا يزالون ﴿يقرءون﴾ جنس ﴿الكتاب﴾ منزلا من السماء ﴿من قبلك﴾ أقسم ﴿لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين﴾ المترددين.

وهذا لا يستلزم وجود ريب في قلب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا تحقق شك منه فإن هذا النوع من الخطاب كما يصح أن يخاطب من يجوز عليه الريب والشك كذلك يصح أن يخاطب به من هو على يقين من القول وبينه من الأمر على نحو التكنية عن كون المعنى الذي أخبر به المخبر مما تعاضدت عليه الحجج وتجمعت عليه الآيات فإن فرض من المخاطب أو السامع شك في واحدة منها كان له أن يأخذ بالأخرى.

وهذه طريقة شائعة في عرف التخاطب والتفاهم يأخذ بها العقلاء فيما بينهم جريا على ما تدعوهم إليه قرائحهم ترى الواحد منهم يقيم الحجة على أمر من الأمور ثم يقول: فإن شككت في ذلك أو سلمنا أنها لا توجب المطلوب فهناك حجة أخرى على ذلك وهي أن كذا كذا وذلك كناية عن أن الحجج متوفرة متعاضدة كالدعائم المضروبة على ما لا يحتاج إلى أزيد من واحد منها لكن الغرض من تكثيرها هو أن تكون العريشة قائمة عليها على تقدير قيام الكل والبعض.

فيئول معنى الكلام إلى أن هذه معارف بينها الله لك بحجج تضطر العقول إلى قبولها وقصص تحكي سنة الله في خلقه والآثار تدل عليها، بينها في كتاب لا ريب فيه، فعلى ما بينه حجة وهناك حجة أخرى وهي أن أهل الكتب السماوية الموفين لها حق قراءتها يجدون ذلك فيما يقرءونه من الكتاب فهناك مبدأ ومعاد، وهناك دين إلهي بعث به رسله يدعون إليه، ولم يدعوا أمة من الأمم إلا انقسموا قبيلين مؤمن ومكذب فأنزل الله آية فاصلة بين الحق والباطل وقضى بينهم.

وهذا أمر لا يسع أهل الكتاب أن ينكروه، وإنما كانوا ينكرون بشارات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعض ما يختص به الإسلام من المعارف وما غيروه في الكتب من الجزئيات، ومن لطيف الإشارة أن الله سبحانه لم يذكر في القصص المذكورة في هذه السورة قصة هود وصالح لعدم تعرض التوراة الموجودة عندهم لقصتهما وكذا قصة شعيب وقصة المسيح لعدم توافق أهل الكتاب عليها وليس إلا لمكان أن يستشهد في هذه الآية بما لا يمتنعون من تصديقه.

فهذه الآية في إلقاء الحجة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وزانها وزان قوله تعالى: ﴿أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل﴾ الشعراء: 197 في إلقاء الحجة إلى الناس.

على أن السورة من أوائل السور النازلة بمكة، ولم تشتد الخصومة يومئذ بين المسلمين وأهل الكتاب وخاصة اليهود اشتدادها بالمدينة، ولم يركبوا بعد من العناد واللجاج ذاك المركب الصعب الذي ركبوه بعد هجرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ونشوب الحروب بينهم وبين المسلمين حتى بلغوا المبلغ الذي قالوا: ﴿ما أنزل الله على بشر من شيء﴾ الأنعام: 91.

فهذا ما يعطيه سياق الآية من المعنى، وأظنك إن أمعنت في تدبر الآية وسائر الآيات التي تناسبها مما يخاطب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بحقية ما نزل إليه من ربه، ويتحدى على البشر بعجزهم عن إتيان مثله، وما يصف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه على بصيرة من أمره، وأنه على بينه من ربه أقنعك ذلك فيما قدمناه من المعنى، وأغناك عن التمحلات التي ارتكبوها في تفسير الآية بما لا جدوى في نقلها والبحث عنها.

قوله تعالى: ﴿ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين﴾ نهى عن الارتياب والامتراء أولا ثم ترقى إلى النهي عن التكذيب بآيات الله وهو العناد مع الحق استكبارا على الله فإن الآية لا تكون آية إلا مع وضوح دلالتها وظهور بيانها وتكذيب ما هذا شأنه لا يكون مبينا إلا على العناد واللجاج.

وقوله: ﴿فتكون من الخاسرين﴾ تفريع على التكذيب بآيات الله فهو نتيجته وعاقبته فهو المنهي عنه بالحقيقة.

والمعنى: ولا تكن من الخاسرين، والخسران زوال رأس المال بانتقاصه أو ذهاب جميعه، وهو الإيمان بالله وآياته الذي هو رأس مال الإنسان في سعادة حياته في الدنيا والآخرة على ما يستفاد من الآية التالية حيث يعلل خسرانهم بأنهم لا يؤمنون.

قوله تعالى: ﴿إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية﴾ إلخ، تعليل للنهي السابق ببيان ما للمنهي عنه من الشأن فإن أصل النظم بحسب المعنى المستفاد من السياق أن يقال: لا تكونن من المكذبين لأن المكذبين لا يؤمنون فيكونون خاسرين لأن رأس مال السعادة هو الإيمان فوضع قوله ﴿الذين حقت عليهم كلمة ربك﴾ موضع ﴿المكذبين﴾ للأدلة على سبب الحكم وأن المكذبين إنما يخسرون لأن كلمة الله سبحانه تحق عليهم فالأمر على كل حال إلى الله سبحانه.

والكلمة الإلهية التي حقت على المكذبين بآيات الله هي قوله يوم شرع الشريعة العامة لآدم وزوجته فمن بعدهما من ذريتهما: ﴿قلنا اهبطوا منها جميعا - إلى قوله - والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون﴾ البقرة: 39.

وهذا هو الذي يريده بقوله في مقام بيان سبب خسران المكذبين: ﴿إن الذين حقت عليهم كلمة ربك﴾ وهم المكذبون حقت عليهم كلمة العذاب فهم ﴿لا يؤمنون﴾ ولذلك كانوا خاسرين لأنهم ضيعوا رأس مال سعادتهم وهو الإيمان فحرموه وحرموا بركاته في الدنيا والآخرة، وإذ حق عليهم أنهم لا يؤمنون فلا سبيل لهم إلى الإيمان ولو جاءتهم كل آية ﴿حتى يروا العذاب الأليم﴾ ولا فائدة في الإيمان الاضطراري.

وقد كرر الله سبحانه في كلامه هذا القول واستتباعه للخسران وعدم الإيمان كقوله: ﴿لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون﴾ يس: 7، وقوله: ﴿لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين﴾ يس: 70 أي بتكذيبهم بالآيات المستتبع لعدم إيمانهم فخسرانهم، وقوله: ﴿وحق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس أنهم كانوا خاسرين﴾ حم السجدة: 25 إلى غير ذلك.

وقد ظهر من الآيات أولا أن العناد مع الحق والتكذيب بآيات الله يحق كلمة العذاب الخالد على الإنسان.

وثانيا: أن رأس مال سعادة الحياة للإنسان هو الإيمان.

وثالثا: أن كل إنسان فهو مؤمن لا محالة إما إيمانا اختياريا مقبولا يسوقه إلى سعادة الحياة الدنيا والآخرة، وإما إيمانا اضطراريا غير مقبول حيثما يرى العذاب الأليم.

قوله تعالى: ﴿فلو لا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي﴾ إلخ، ظاهر السياق أن لو لا للتحضيض، وأن المراد بقوله: ﴿آمنت﴾ الإيمان الاختياري الصحيح كما يشعر به قوله بعده: ﴿فنفعها إيمانها﴾ ولوقوع التحضيض على أمر ماض لم يتحقق أفادت الجملة معنى اليأس المساوق للنفي فاستقام الاستثناء الذي في قوله: ﴿إلا قوم يونس﴾.

و المعنى: هلا كانت قرية - من هذه القرى التي جاءتهم رسلنا فكذبوهم - آمنت قبل نزول العذاب إيمانا اختياريا فنفعها إيمانها.

لا ولم يؤمن إلا قوم يونس لما آمنت كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم بالحياة إلى حين آجالهم العادية الطبيعية.

ومنه يعلم أن الاستثناء متصل.

وذكر بعضهم أن المعنى لم يكن فيما خلا أن يؤمن أهل قرية بأجمعهم حتى لا يشذ منهم أحد إلا قوم يونس فهلا كانت القرى كلها هكذا.

وفيه أنه في نفسه معنى لا بأس فيه إلا أن الآية بلفظها لا تنطبق عليه بما فيه من الخصوصيات وهو ظاهر.

وذكر بعض آخر: أن المعنى لم يكن معهودا من حال قرية من القرى أن يكفر ثم يؤمن فينفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنت كشفنا عنهم العذاب ومتعناهم.

والإشكال عليه كالإشكال على سابقه.

قوله تعالى: ﴿ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا﴾ أي لكنه لم يشأ ذلك فلم يؤمن جميعهم ولا يؤمن فالمشيئة في ذلك إلى الله سبحانه ولم يشأ ذلك فلا ينبغي لك أن تطمع فيه ولا أن تجتهد لذلك لأنك لا تقدر على إكراههم وإجبارهم على الإيمان، والإيمان الذي نريده منهم هو ما كان عن حسن الاختيار لا ما كان عن إكراه وإجبار.

ولذلك قال بعد ذلك في صورة الاستفهام الإنكاري: ﴿أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين﴾ أي بعد ما بينا أن أمر المشية إلى الله وهو لم يشأ إيمان جميع الناس فلا يؤمنون باختيارهم البتة لم يبق لك إلا أن تكره الناس وتجبرهم على الإيمان، وأنا أنكر ذلك عليك فلا أنت تقدر على ذلك ولا أنا أقبل الإيمان الذي هذا نعته.

قوله تعالى: ﴿وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون﴾ لما ذكر في الآية السابقة أن الأمر إلى الله سبحانه لو شاء أن يؤمن أهل الأرض جميعا لآمنوا لكنه لم يشأ فلا مطمع في إيمان الجميع زاد في هذه الآية في بيان ذلك ما محصله أن الملك - بالكسر - لله فله أصالة التصرف في كل أمر لا يشاركه في ذلك مشارك إلا أن يأذن لبعض ما خلقه في بعض التصرفات.

والإيمان بالله عن اختيار والاهتداء إليه أمر من الأمور يحتاج في تحققه إلى سبب يخصه، ولا يؤثر هذا السبب ولا يتصرف في الكون بإيجاد مسببه إلا عن إذن من الله سبحانه في ذلك لكن الله سبحانه بجعل الرجس والضلال على أهل العناد والجحود لم يأذن في إيمانهم، ولا رجاء في سعادتهم.

ولو أنه تعالى أذن في ذلك لأحد لأذن في إيمان غير أولئك المكذبين فقوله: ﴿و ما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله﴾ حكم عام حقيقي ينيط تملك النفوس للإيمان إلى إذن الله، وقوله: ﴿ويجعل الرجس﴾ إلخ، يسلب عن الذين لا يعقلون استعداد حصول الإذن فيبقى غيرهم.

وقد أريد في الآية بالرجس ما يقابل الإيمان من الشك والريب بمعنى أنه هو المصداق المنطبق عليه الرجس في المقام لما قوبل بالإيمان، وقد عرف في قوله تعالى: ﴿ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون﴾ الأنعام: 125.

وقد أريد أيضا بقوله: ﴿الذين لا يعقلون﴾ أهل التكذيب بآيات الله من جهة أنهم ممن حقت عليه كلمة العذاب فإنهم الذين طبع الله على قلوبهم فهم لا يعقلون قال: ﴿وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون﴾ التوبة: 93.

قوله تعالى: ﴿قل انظروا ما ذا في السماوات والأرض﴾ أي من المخلوقات المختلفة المتشتتة التي كل واحد منها آية من آيات الله تعالى تدعو إلى الإيمان، وقوله: ﴿وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون﴾ ظاهره أن ﴿ما﴾ استفهامية والجملة مسوقة بداعي الإنكار وإظهار الأسف كقول الطبيب: بما ذا أعالج الموت؟ أي أنا أمرناك أن تنذرهم بقولنا: ﴿قل انظروا ما ذا في السموات﴾ إلخ، لكن أي تأثير للنذر فيهم أو للآيات فيهم وهم لا يؤمنون أي عازمون مجمعون على أن لا يؤمنوا بالطبع الذي على قلوبهم وربما قيل: إن ما نافية.

قوله تعالى: ﴿فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم﴾ تفريع على ما في الآية السابقة من قوله: ﴿وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون﴾ أي إذا لم تغن الآيات والنذر عنهم شيئا وهم لا يؤمنون البتة فهم لا ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم، وإنما يحبسون نفوسهم لآية العذاب الإلهي التي تفصل بينك وبينهم فتقضي عليهم لأنهم حقت عليهم كلمة العذاب.

ولذا أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يبلغهم ذلك بقوله: ﴿قل فانتظروا﴾ أي مثل أيام الذين خلوا من قبلكم يعني يوم العذاب الذي يفصل بيني وبينكم فتؤمنون ولا ينفعكم إيمانكم ﴿إني معكم من المنتظرين﴾.

وقد تبين بما مر أن الاستفهام في الآية إنكاري.

قوله تعالى: ﴿ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا﴾ الجملة تتمة صدر الآية السابقة وقوله: ﴿قل فانتظروا﴾ إلخ، جملة معترضة والنظم الأصلي بحسب المعنى ﴿فهل ينتظرون﴾ أي قومك هؤلاء ﴿إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم﴾ من الأمم الذين كانت تحق عليهم كلمة العذاب فنرسل إليهم آية العذاب ﴿ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا﴾ .

وإنما اعترض بقوله: ﴿قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين﴾ بين الكلام لأنه يتعلق بالجزء الذي يتقدمه من مجموع الكلام المستفهم عنه فإنه المناسب لأن يجعل جوابا لهم، وهو يتضمن انتظار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للقضاء بينه وبينهم، وأما تنجيته وتنجية المؤمنين به فإن المنتظر لها هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنون لا هو وحده ولا يتعلق هذا الانتظار بفصل القضاء بل بالنجاة من العذاب وهو مع ذلك لا يتعلق به غرض في المقام الذي سيق فيه الكلام لإنذار المشركين لا لتبشير النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين فافهم ذلك.

وأما قوله: ﴿كذلك حقا علينا ننج المؤمنين﴾ فمعناه كما كنا ننجي الرسل والذين آمنوا في الأمم السابقة عند نزول العذاب كذلك ننجي المؤمنين بك من هذه الأمة حق علينا ذلك حقا، فقوله: ﴿حقا علينا﴾ مفعول مطلق قام مقام فعله المحذوف، واللام في ﴿المؤمنين﴾ للعهد والمراد به مؤمنوا هذه الأمة، وهذا هو الوعد الجميل للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين من هذه الأمة بالإنجاء.

وليس من البعيد أن يستفاد من قوله: ﴿ننج المؤمنين﴾ أن فيه تلويحا إلى أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يدرك هذا القضاء، وإنما يقع بعد ارتحاله حيث ذكر المؤمنون ولم يذكر معهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع أنه تعالى ذكر في السابقين رسله مع المؤمنين بهم كما ربما يخطر بالبال من تكرر قوله تعالى في كلامه: ﴿فإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا يرجعون﴾ أو ما في معناه.

بحث روائي:

في تفسير العياشي، عن محمد بن سعيد الأسدي أن موسى بن محمد بن الرضا أخبره أن يحيى بن أكثم كتب إليه يسأله عن مسائل: أخبرني عن قول الله تبارك وتعالى: ﴿فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك - فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك﴾ من المخاطب بالآية؟ فإن كان المخاطب فيها النبي فقد شك فيما أنزل الله، وإن كان المخاطب بها غيره فعلى غيره إذا نزل الكتاب. قال موسى: فسألت أخي عن ذلك.

قال: فأما قوله: ﴿فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك - فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك﴾ فإن المخاطب بذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يكن في شك مما أنزل الله، ولكن قالت الجهلة: كيف لم يبعث إلينا نبيا من الملائكة؟ أنه لم يفرق بينه وبين غيره في الاستغناء في المأكل والمشرب والمشي في الأسواق فأوحى الله إلى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم): فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك بمحضر الجهلة هل بعث الله رسولا من قبلك إلا وهو يأكل الطعام ويشرب ويمشي في الأسواق؟ ولك بهم أسوة.

وإنما قال: فإن كنت في شك، ولم يكن ولكن ليتبعهم كما قال له: ﴿قل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم - ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم- ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين﴾ ولو قال: تعالوا نبتهل فنجعل لعنة الله عليكم لم يكونوا يجيئون للمباهلة، وقد عرف أن نبيه مؤد عنه رسالته وما هو من الكاذبين، كذلك عرف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه صادق فيما يقول ولكن أحب أن ينصف من نفسه: أقول: ورواه الصدوق في المعاني، بإسناده عن موسى بن محمد بن علي، وهو يرجع إلى ما قدمناه، وقد ورد في بعض الروايات أن الآية نزلت ليلة المعراج فأمره الله أن يسأل أرواح الأنبياء عن ذلك، وهم الذين أرادهم بقوله: ﴿الذين يقرءون الكتاب من قبلك﴾ وروي الوجه أيضا عن الزهري لكن في انطباقه على لفظ الآية خفاء.

وفي الدر المنثور، أخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة في الآية قال: ذكر لنا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: لا أشك ولا أسأل.

وفي تفسير العياشي، عن معمر قال: قال أبو الحسن الرضا (عليه السلام): إن يونس أمره الله بما أمره فأعلم قومه فأظلهم العذاب ففرقوا بينهم وبين أولادهم وبين البهائم وأولادها ثم عجوا إلى الله وضجوا فكف الله العذاب عنهم.

أقول: وسيأتي إن شاء الله قصة يونس وقومه في ذيل بعض الآيات المتعرضة لتفصيل قصته (عليه السلام).

وفي الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم واللالكائي في السنة عن علي بن أبي طالب قال: إن الحذر لا يرد القدر، وإن الدعاء يرد القدر، وذلك في كتاب الله: ﴿إلا قوم يونس لما آمنوا - كشفنا عنهم عذاب الخزي﴾ الآية.

أقول: وروي ما في معناه عن ابن النجار عن عائشة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

وفي الكافي، والبصائر، مسندا عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: الرجس هو الشك ولا نشك في ديننا أبدا.