الآيات 46 - 56

وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ ﴿46﴾ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴿47﴾ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿48﴾ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ﴿49﴾ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ ﴿50﴾ أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُم بِهِ آلآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ﴿51﴾ ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ ﴿52﴾ وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ ﴿53﴾ وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴿54﴾ أَلا إِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَلاَ إِنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴿55﴾ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴿56﴾

بيان:

الآيات تنبىء عن سنة إلهية جارية، وهي أن الله سبحانه قضى قضاء حق لا يرد ولا يبدل أن يرسل إلى كل أمة رسولا يبلغهم رسالته ثم يحكم بينه وبينهم حكما فصلا بإنزال العذاب عليهم وإنجاء المؤمنين وإهلاك المكذبين.

ثم تأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يخبرهم أن هذه الأمة يجري فيهم ما جرى في الأمم الماضية من السنة الإلهية من غير أن يستثنوا من كليتها غير أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يذكر لهم فيما لقنه الله من جواب سؤالهم عن وقت العذاب إلا أن القضاء حتم وللأمة عمرا وأجلا كالفرد ينتهي إليه أمد حياتها، وأما وقت النزول فقد أبهم إبهاما.

وقد قدمنا في قوله تعالى: ﴿وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون﴾ الأنفال: 33 أن الآية لا تخلو عن إشعار بأن الأمة ستنتزع منهم نعمة الاستغفار بعد زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فينزل عليهم العذاب، وقد تقدم أن الشواهد قائمة على كون الآية مدنية فهي بعد هذه الآيات المكية من قبيل الإيضاح في الجملة بعد الإبهام ومن ملاحم القرآن.

وقد حمل بعض المفسرين ما وقع من حديث العذاب في هذه الآيات على عذاب الآخرة، وسياق الآيات يأبى ذلك.

قوله تعالى: ﴿وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون﴾ إما نرينك أصله: إن نرك، زيد عليه ما والنون الثقيلة للتأكيد، والترديد بين الإرادة والتوفي للتسوية واستيعاب التقادير، والمعنى إلينا مرجعهم على أي تقدير، ولفظة ثم للتراخي بحسب ترتيب الكلام دون الزمان والآية مسوقة لتطييب نفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولتكون كالتوطئة لحديث قضاء العذاب الذي ستفصله الآيات التالية لهذه الآية.

والمعنى طب نفسا فإنا موقعون بهم ما نعدهم سواء أريناك بعض ذاك أو توفيناك قبل أن نريك ذاك فإن أمرهم إلينا ونحن شاهدون لأفعالهم المستوجبة للعذاب لا تغيب عنا ولا ننساها.

والالتفات من قوله: ﴿نرينك﴾ إلى قوله: ﴿ثم الله شهيد﴾ للدلالة على علة الحكم فإن الله سبحانه شهيد على كل فعل بمقتضى ألوهيته.

قوله تعالى: ﴿ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون﴾ قضاء إلهي منحل إلى قضاءين أحدهما: أن لكل أمة من الأمم رسولا يحمل رسالة الله إليهم ويبلغها إياهم، وثانيهما: أنه إذا جاءهم وبلغهم رسالته فاختلفوا من مصدق له ومكذب فإن الله يقضي ويحكم بينهم بالقسط والعدل من غير أن يظلمهم.

هذا ما يعطيه سياق الكلام من المعنى.

ومنه يظهر أن قوله: ﴿فإذا جاء رسولهم﴾ فيه إيجاز بالحذف والإضمار والتقدير: فإذا جاء رسولهم إليهم وبلغ الرسالة فاختلف قومه بالتكذيب والتصديق، ويدل على ذلك قوله: ﴿قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون﴾ فإن القضاء إنما يكون فيما اختلف فيه، ولذا كان السؤال عن القسط وعدم الظلم في القضاء في مورد العذاب والضرار أسبق إلى الذهن.

وقد تقدم الفرق بين الرسول والنبي في مباحث النبوة في الجزء الثاني من الكتاب، وهذا القضاء المذكور في الآية من خواص الرسالة دون النبوة.

قوله تعالى: ﴿ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين﴾ سؤال منهم عن وقت هذا القضاء الموعود، وهو القضاء بينهم في الدنيا، والسائلون هم بعض المشركين من معاصري النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، والدليل عليه أمره أن يجيبهم بقوله: ﴿قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله لكل أمة أجل﴾ إلخ، فقول بعضهم: إن السؤال عن عذاب يوم القيامة أو إن السائلين بعض المشركين من الأمم السابقة لا يلتفت إليه.

قوله تعالى: ﴿قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله لكل أمة أجل﴾ إلى آخر الآية، لما كان قولهم: ﴿متى هذا الوعد إن كنتم صادقين﴾ في معنى قولنا: أي وقت يفي ربك بما وعدك أو يأتي بما أوعدنا به أنه يقضي بيننا وبينك فيهلكنا وينجيك والمؤمنين بك فيصفو لكم الجو ويكون لكم الأرض وتخلصون من شرنا؟ فهلا عجل لكم ذلك وذلك - أن كلامهم مسوق سوق الاستعجال تعجيزا واستهزاء كما تدل على استعجالهم الآيات التالية وهذا نظير قولهم: ﴿لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين﴾ الحجر: 7.

لقن سبحانه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يبدأهم في الجواب ببيان أنه لا يملك لنفسه ضرا حتى يدفعه عنها ولا نفعا حتى يجلبه إليها ويستعجل ذلك إلا ما شاء الله أن يملكه من ضر ونفع فالأمر إلى الله سبحانه جميعا، واقتراحهم عليه بأن يعجل لهم القضاء والعذاب من الجهل.

ثم يجيب عن سؤالهم عن أصل تعيين الوقت جوابا إجماليا بالإعراض عن تعيين الوقت والإقبال على ذكر ضرورة الوقوع، أما الأول فإنه من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، وأمره الذي لا يتسلط عليه إلا هو، وقد تقدم قوله في آيات السورة: ﴿ويقولون لو لا أنزل عليه آية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتظروا إني معكم من المنتظرين﴾ الآية: 20 من السورة.

وأما الثاني أعني ذكر ضرورة الوقوع فقد بين ذلك بالإشارة إلى حقيقة هي من النواميس العامة الجارية في الكون تنحل بها العقدة وتندفع بها الشبهة، وهي أن لكل أمة أجلا لا يتخطاهم ولا يتخطونه فهو آتيهم لا محالة، وإذا أتاهم لم يخبط في وقوعه موقعه ولا ساعة، وهو قوله تعالى: ﴿لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون﴾ أي وأنتم أمة من الأمم فلا محالة لكم أيضا أجل كمثلهم إذا جاءكم لا تستأخرون ساعة ولا تستقدمون.

فإذا فقهوا هذا الكلام وتدبروه بأن لهم أن لكل أمة حياة اجتماعية وراء الحياة الفردية التي لكل واحد من أفرادها ولحياتها من البقاء والعمر ما قضى به الله سبحانه لها ولها، من السعادة والشقاوة والتكليف والرشد والغي والثواب والعقاب نصيبها، وهي مما اعتنى بها التدبير الإلهي نظير الفرد من الإنسان حذو النعل بالنعل.

ويدلهم على ذلك ما يحدثهم به التاريخ ويفصح عنه الآثار من ديارهم الخربة ومساكنهم الخالية، وقد قص عليهم القرآن أخبار بعضهم كقوم نوح، وعاد قوم هود، وثمود قوم صالح، وكلدة قوم إبراهيم وأهل سدوم وسائر المؤتفكات قوم لوط والقبط قوم فرعون وغيرهم.

فهؤلاء أمم منقرضة سكنت أجراسهم وخمدت أنفاسهم ولم ينقرضوا إلا بعذاب وهلاك، ولم يعذبوا إلا بعد ما جاءتهم رسلهم بالبينات ولم يأت قوما منهم رسوله إلا واختلفوا في الحق الذي جاءهم فمنهم من آمن به ومنهم من كذب به وهم الأكثرون.

فهذا يدلهم على أن هذه الأمة - وقد اختلفوا في الحق لما جاءهم - سيقضي الله بين رسوله وبينهم فيأخذهم بما أخذ به من خلت من قبلهم من الأمم وإن الله لبالمرصاد.

وعلى الباحث المتدبر أن يتنبه لأن الله سبحانه وإن بدأ في وعيده بالمشركين غير أنه هدد في أثناء كلامه المجرمين فتعلق الوعيد بهم، ومن أهل القبلة مجرمون كغيرهم فلينتظروا عذابا واصبا يفصل به الله بينهم وبين نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولينسوا ما يلقيه الشيطان في روعهم أن أمتهم هذه أمة مرحومة رفع الله عنهم عذاب الدنيا إكراما منه لنبيهم نبي الرحمة فهم في أمن من عذاب الله وإن انهمكوا في كل إثم وخطيئة وهتكوا كل حجاب مع أنه لا كرامة عند الله إلا بالتقوى وقد خاطب المؤمنين من هذه الأمة بمثل قوله: ﴿ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوء يجز به﴾ النساء: 123.

وربما تعدى المتعدي فعطف عذاب الآخرة على عذاب الدنيا فذكر أن الأمة مغفور لهم محسنهم ومسيئهم فلا يبقى لهم في الدنيا إلا كرامة أن لهم أن يفعلوا ما شاءوا فقد أسدل الله عليهم حجاب الأمن ولا في الآخرة إلا المغفرة والجنة.

ولا يبقى على هذا للملة والشريعة إلا أنها تكاليف وأحكام جزافية لعب بها رب العالمين ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون تعالى عما يقولون علوا كبيرا.

فهذا كله من الإعراض عن ذكر الله وهجر كتابه، وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا.

قوله تعالى: ﴿قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ما ذا يستعجل منه المجرمون﴾ إلى آخر الآيتين، البيات والتبييت الإتيان ليلا ويغلب في الشر كقصد العدو عدوه ليلا.

ولما كان قولهم: ﴿متى هذا الوعد إن كنتم صادقين﴾ في معنى استعجال آية العذاب التي يلجئهم إلى الإيمان رجع بعد بيان تحقق الوقوع إلى توبيخهم وذمهم من الجهتين فوبخهم أولا على استعجالهم بالعذاب، وهو عذاب فجائي من الحزم أن يكون الإنسان منه على حذر لا أن يستعجل فيه فقال تعالى ملقنا لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم): ﴿قل أرأيتم﴾ وأخبروني ﴿إن أتاكم عذابه بياتا﴾ ليلا ﴿أو نهارا﴾ فإنه عذاب لا يأتيكم إلا بغتة إذ لستم تعلمون وقت نزوله ﴿ما ذا يستعجل منه﴾ من العذاب ﴿المجرمون﴾ أي ما ذا تستعجلون منه وأنتم مجرمون لا يتخطاكم إذا أتاكم.

ففي قوله: ﴿ما ذا يستعجل منه المجرمون﴾ التفات من الخطاب إلى الغيبة وكان النكتة فيه رعاية حالهم أن لا يشافهوا بصريح الشر وليكون تعرضا لملاك نزول العذاب عليهم وهو إجرامهم.

ووبخهم ثانيا على تأخير إيمانهم إلى حين لا ينفعهم الإيمان فيه وهو حين نزول العذاب فإن آية العذاب يلجئهم إلى الإيمان قطعا على ما هو المجرب من إيمان الإنسان عند إشراف الهلكة، ومن جهة أخرى الإيمان توبة والتوبة غير مقبولة عند ظهور آية العذاب والإشراف على الموت.

فقال تعالى: ﴿أثم إذا ما وقع﴾ العذاب ﴿آمنتم به﴾ أي بالقرآن أو بالدين أو بالله ﴿الآن﴾ أي أ تؤمنون به في هذا الآن والوقت ﴿وقد كنتم به تستعجلون﴾ وكان معنى استعجالهم عدم الاعتناء بشأن هذا العذاب وتحقيره بالاستهزاء به.

قوله تعالى: ﴿ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون﴾ الأشبه أن تكون الآية متصلة بقوله تعالى: ﴿لكل أمة أجل﴾ إلخ، فتكون الآية الأولى تبين تحقق وقوع العذاب عليهم وإهلاكه إياهم، والآية الثانية تبين أنه يقال لهم بعد الوقوع والهلاك: ذوقوا عذاب الخلد وهو عذاب الآخرة ولا تجزون إلا أعمالكم التي كنتم تكسبونها وذنوبكم التي تحملونها والخطاب تكويني كني به عن شمول العذاب لهم ونيله إياهم، وعلى هذا المعنى فالآيتان: ﴿قل أرأيتم - إلى قوله - تستعجلون﴾ واردتان مورد الاعتراض.

قوله تعالى: ﴿ويستنبؤنك أحق هو قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين﴾ إلى آخر الآية - يستنبؤنك - أي يستخبرونك وقوله: ﴿أحق هو﴾ بيان له، والضمير على ما يفيده السياق راجع إلى القضاء أو العذاب، والمآل واحد، وقد أمر سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يؤكد القول في إثباته من جميع جهاته، وبعبارة أخرى أن يجيبهم بوجود المقتضي وعدم المانع.

فقوله: ﴿قل إي وربي إنه لحق﴾ إثبات لتحققه وقد أكد الكلام بالقسم والجملة الاسمية وإن واللام، وقوله: ﴿وما أنتم بمعجزين﴾ بيان أنه لا مانع هناك يمنع من حلول العذاب بكم.

قوله تعالى: ﴿ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به﴾ إلى آخر الآية، إشارة إلى شدة العذاب وأهمية التخلص منه عندهم، وإسرار الندامة إخفاؤها وكتمانها خشية الشماتة ونحوها، والظاهر أن المراد بالقضاء والعذاب في الآية هو القضاء والعذاب الدنيويان لا غير.

قوله تعالى: ﴿ألا إن لله ما في السموات والأرض ألا إن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون﴾ الآية وما بعدها بيان برهاني على حقية ما ذكره من كونه حقا واقعا لا يمنع عنه مانع فإن كل شيء مما في السماوات والأرض إذا كان مملوكا لله وحده لا شريك له كان كل تصرف مفروض فيها إليه تعالى، ولم يكن لغيره شيء من التصرف إلا بإذنه فإذا تصرف في شيء كان مستندا إلى إرادته فقط من غير أن يستند إلى مقتض آخر خارج يتصرف في ذاته المقدسة فيحمله على الفعل، أو يتقيد بعدم مانع خارجي إذا وجد تصرف فيه سبحانه بمنعه عن الفعل، فهو تعالى يفعل ما يفعل عن نفسه من غير أن يرتبط إلى مقتض من خارج أو مانع من خارج فإذا أراد سبحانه شيئا فعله من غير ممد أو عائق، وإذا وعد وعدا كان حقا لا مرد له من غير أن يتغير عن وعده بصارف.

فإمعان النظر في ملكه تعالى المطلق الحقيقي يهدي إلى العلم بأن وعده حق لا يمازجه باطل ولكن أكثرهم وهم العامة من الناس لا يعلمون لعجزهم عن الإمعان في هذه الأبحاث الحقيقية أو إعجابهم بسذاجة الفهم وانسلاكهم في سلك العامة.

فهم على ذلك يقيسون ملكه تعالى إلى ملك العظماء المستعلين من الإنسان فإنهم يجدون الواحد من عظمائهم وقد أوتي ملكا وسلطانا ومن كل ما يتنافس فيه فيرون له القدرة المطلقة يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ثم يجدونه ربما يهم ويسعى ولا يقع ما اهتم به أو وعد وعدا ثم لم يف به رعاية لمصلحة شخصه أو غيره أو لمانع عائق فيقيسون أمره تعالى إلى أمره، ووعده إلى وعده.

على أن الوعد عندهم قول من شأنه جواز أن ينطبق على الخارج وأن لا ينطبق.

مع أن حقيقة معنى ملكه وسلطانه وسعة قدرته ونفوذ إرادته أن الناس يعتقدون له ذلك ويتصورونه عظيما فيهم ولو طحنته نازلات الدهر يوما فأهلكته أو تغيرت عليه عقائد الناس بسبب من الأسباب سلبته ما عنده من ملك وقدرة، ومعنى وقوع ما أراده أو أحبه أن الأسباب الكونية ساعدته على ذلك ووافقته على ما أحبه، ولو لم تساعده ولم توافقه كلية الأسباب لم يكن له أن يضطرها إلى الخضوع لما يتوهم لنفسه من القدرة كما لا توافقه على مثل الموت والحياة والشباب والشيب والصحة والمرض وأمور أخرى كثيرة فليس له من الأمر شيء.

لكنه سبحانه مالك لخلقه بمعنى أن وجود كل شيء قائم به متكون متحول بأمره منوط بإذنه، وما تصرف فيه من شيء فإنما يتصرف عن نفسه لا عن اقتضاء من مقتض خارج مؤثر فيه أو عدم مانع يعوقه عن فعله فلا ينتسب شيء إلا إليه تعالى نفسه أو إلى غيره بإذنه بمقدار ما أذن فكيف يمكن أن يتخلف عن مشيته شيء فيرجع إلى غيره ولا غير هناك يرجع نحوه وينتسب إليه؟.

وقوله تعالى فعله بما يدل بنفسه على مراده فكيف يتسرب إليه الكذب وهو متن الخارج، والعين الخارجي لا كذب فيه؟ وإنما الكذب والخطأ شأن المفاهيم الذهنية من حيث انطباقها على الخارج، وكيف يكون وعده باطلا ووعده لنا هو فعله الغائب عن نظرنا المستقبل لنا، وقد وجه كلية الأسباب إليه ولا مرد له؟.

فإمعان النظر في هذه الحقائق ينور للباحث المتدبر معنى ملكه تعالى لما في السماوات والأرض، وأن لازم ذلك أن وعد الله حق، وأن الارتياب فيه إنما هو من الجهل بمقامه تعالى.

ولذلك قال تعالى أولا: ﴿ألا إن لله ما في السماوات والأرض﴾ ثم عقبه بقوله كالاستنتاج منه: ﴿ألا إن وعد الله حق﴾ ثم استدرك فقال: ﴿ولكن أكثرهم لا يعلمون﴾ ثم بين ملكه بقوله: ﴿هو يحيي ويميت﴾ إلخ في الآية التالية.

قوله تعالى: ﴿هو يحيي ويميت وإليه ترجعون﴾ احتجاج على ما تقدم في الآية السابقة من ملكه تعالى بالنسبة إلى نوع الإنسان كأنه تعالى يقول: إن أمركم جميعا من حياة وموت ورجوع إليه تعالى فكيف لا تكونون ملكا له.

بحث روائي:

في تفسير القمي، وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: ﴿قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا﴾ يعني ليلا﴾ أو نهارا ما ذا يستعجل منه المجرمون﴾ فهذا عذاب ينزل في آخر الزمان على فسقة أهل القبلة وهم يجحدون نزول العذاب عليهم.

أقول: والرواية تتأيد بالآيات وتؤيد ما أسلفناه من البيان.

وفيه، بإسناده عن الحسن بن موسى الخشاب، عن رجل، عن حماد بن عيسى عمن رواه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سئل عن قوله تبارك وتعالى: ﴿وأسروا الندامة - لما رأوا العذاب﴾ قال: قيل له ما ينفعهم أسرار الندامة وهم في العذاب؟ قال: كرهوا شماتة الأعداء.