الآيات 15 - 25

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴿15﴾ قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴿16﴾ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ ﴿17﴾ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴿18﴾ وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴿19﴾ وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ فَانْتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ ﴿20﴾ وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ ﴿21﴾ هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي كِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴿22﴾ فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿23﴾ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴿24﴾ وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴿25﴾

بيان:

احتجاجات يلقنها الله سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) ليرد بها ما قالوه في كتاب الله أو في آلهتهم أو اقترحوه في نزول الآية.

قوله تعالى: ﴿وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله﴾ هؤلاء المذكورون في الآية كانوا قوما وثنيين يقدسون الأصنام ويعبدونها، ومن سننهم التوغل في المظالم والآثام واقتراف المعاصي، والقرآن ينهى عن ذلك كله، ويدعو إلى توحيد الله تعالى ورفض الشركاء، وعبادة الله مع التنزه عن الظلم والفسق واتباع الشهوات.

ومن المعلوم أن كتابا هذا شأنه إذا تليت آياته على قوم ذلك شأنهم لم يكن ليوافق ما تهواه أنفسهم بما يشتمل عليه من الدعوة المخالفة فلو قالوا: ائت بقرآن غير هذا دل على أنهم يقترحون قرآنا لا يشتمل على ما يشتمل عليه هذا القرآن من الدعوة إلى رفض الشركاء واتقاء الفحشاء والمنكر، وإن قالوا: بدل القرآن كان مرادهم تبديل ما يخالف آراءهم من آياته إلى ما يوافقها حتى يقع منهم موقع القبول، وذلك كالشاعر ينشد من شعره أو القاص يقص القصة فلا تستحسنه طباع السامعين فيقولون: ائت بغيره أو بدله، وفي ذلك تنزيل القرآن أنزل مراتب الكلام وهو لهو الحديث الذي إنما يلقى لتلهو به نفس سامعه وتنشط به عواطفه ثم لا يستطيبه السامع فيقول: ائت بغير هذا أو بدله.

فبذلك يظهر أن قولهم إذا تليت عليهم آيات القرآن: ﴿ائت بقرآن غير هذا﴾ يريدون به قرآنا لا يشتمل من المعارف على ما يتضمنه هذا القرآن بأن يترك هذا ويؤتى بذاك، وقولهم: ﴿أو بدله﴾ أن يغير ما فيه من المعارف المخالفة لأهوائهم إلى معان يوافقها مع حفظ أصله فهذا هو الفرق بين الإتيان بغيره وبين تبديله.

فما قيل: إن الفرق بينهما أن الإتيان بغيره قد يكون معه وتبديله لا يكون إلا برفعه، غير سديد فإنهم ما كانوا يريدون أن يأتيهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا القرآن وغيره معا قطعا.

وكذا ما ذكره بعضهم أن قولهم: ﴿ائت بقرآن غير هذا أو بدله﴾ إنما أرادوا به أن يمتحنوه بذلك فيغروه حتى إذا أجابهم إلى ذلك كان ذلك نقضا منه لدعوى نفسه أنه كلام الله، وذلك أنهم لما سمعوا ما بلغهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من آيات القرآن وتلاه عليهم وتحداهم بالإتيان بمثله وعجزوا عن الإتيان بمثله، وكانوا في ريب من كونه كلام الله، وفي ريب من كونه من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه ولم يكن يفوقهم في الفصاحة والبلاغة والعلم، بل كانوا يرونه دون كبار فصحائهم ومصاقع خطبائهم أرادوا أن يمتحنوه بهذا القول حتى إذا أتاهم بما سألوه كان ذلك ناقضا لأصل دعواه أنه كلام الله.

وكان قصارى أمره أنه امتاز عليهم بهذا النوع من البيان لقوة نفسية فيه كانت خفية عليهم كأسباب السحر لا بوحي.

وفيه مضافا إلى مناقضة آخره أوله أنه مدفوع بما يلقنه الله سبحانه من الحجة فإن السؤال الذي لم يصدر إلا بداعي الامتحان والاختبار من غير داع جدي لا معنى للجواب عنه بالإثبات الجدي بحجة جدية وهو ظاهر.

وفي قوله: ﴿وإذا تتلى عليهم آياتنا﴾ التفات من الخطاب إلى الغيبة، والظاهر أن النكتة فيه أن يكون توطئة إلى إلقاء الأمر إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: ﴿قل ما يكون لي أن أبدله﴾ إلخ، فإن ذلك لا يتم إلا بصرف الخطاب عنهم وتوجيهه إليه (صلى الله عليه وآله وسلم).

قوله تعالى: ﴿قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي﴾ إلى آخر الآية التلقاء بكسر التاء مصدر كاللقاء نظير التبيان والبيان ويستعمل ظرفا.

والله سبحانه على ما أجاب عن مقترحهم بقولهم: ﴿ائت بقرآن غير هذا أو بدله﴾ في أثناء كلامه بقوله ﴿بينات﴾ فإن الآيات إذا كانت بينات ظاهرة الاستناد إلى الله سبحانه كشفت كشفا قطعيا عما يريده الله سبحانه منهم من رفض الأصنام والاجتناب من كل ما لا يرتضيه بما أوحى إلى رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) من تفصيل دينه رد سؤالهم إليهم تفصيلا بتلقين نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) الحجة في ذلك بقوله: ﴿قل ما يكون لي﴾ إلى آخر الآيات الثلاث.

فقوله: ﴿قل ما يكون لي أن أبدله﴾ إلخ، جواب عن قولهم: ﴿أو بدله﴾ ومعناه: قل لا أملك - وليس لي بحق - أن أبدله من عند نفسي لأنه ليس بكلامي وإنما هو وحي إلهي أمرني ربي أن أتبعه ولا أتبع غيره، وإنما لا أخالف أمر ربي لأني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم وهو يوم لقائه.

فقوله: ﴿ما يكون لي أن أبدله﴾ نفي الحق وسلب الخيرة، وقوله: ﴿إن أتبع إلا ما يوحى إلي﴾ في مقام التعليل بالنسبة إلى قوله: ﴿ما يكون لي﴾ وقوله: ﴿إني أخاف إن عصيت ربي﴾ إلخ، في مقام التعليل بالنسبة إلى قوله: ﴿إن أتبع﴾ إلخ، بما يلوح منه أنه مما تعلق به الأمر الإلهي.

وفي قوله: ﴿إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم﴾ نوع محاذاة لما في صدر الكلام من قوله: ﴿قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن﴾ إلخ فإن الإتيان بالوصف للإشعار بأن الباعث لهم أن يقولوا ما قالوا إنما هو إنكارهم للمعاد وعدم رجائهم لقاء الله فقابلهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأمر من ربه بقوله: ﴿إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم﴾ فيئول المعنى إلى أنكم تسألون ما تسألون لأنكم لا ترجون لقاء الله لكنني لا أشك فيه فلا يمكنني إجابتكم إليه لأني أخاف عذاب يوم اللقاء، وهو يوم عظيم.

وفي تبديل يوم اللقاء بيوم عظيم فائدة الإنذار مضافا إلى أن العذاب لا يناسب اللقاء تلك المناسبة.

قوله تعالى: ﴿قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون﴾ أدراكم به أي أعلمكم الله به، والعمر بضمتين أو بالفتح فالسكون هو البقاء، وإذا استعمل في القسم كقولهم: لعمري ولعمرك تعين الفتح.

وهذه الآية تتضمن رد الشق الأول من سؤالهم وهو قولهم: ﴿ائت بقرآن غير هذا﴾ ومعناها على ما يساعد عليه السياق: أن الأمر فيه إلى مشية الله لا إلى مشيتي فإنما أنا رسول ولو شاء الله أن ينزل قرآنا غير هذا ولم يشأ هذا القرآن ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فإني مكثت فيكم عمرا من قبل نزول القرآن وعشت بينكم وعاشرتكم وعاشرتموني وخالطتكم وخالطتموني فوجدتموني لا خبر عندي من وحي القرآن، ولو كان ذلك إلي وبيدي لبادرت إليه قبل ذلك، وبدت من ذلك آثار ولاحت لوائحه، فليس إلي من الأمر شيء، وإنما الأمر في ذلك إلى مشية الله وقد تعلقت مشيته بهذا القرآن لا غيره أفلا تعقلون؟.

قوله تعالى: ﴿فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون﴾ استفهام إنكاري أي لا أحد أظلم وأشد إجراما من هذين الفريقين: المفتري على الله كذبا، والمكذب بآياته فإن الظلم يعظم بعظمة من يتعلق به وإذا اختص بجنب الله كان أشد الظلم.

وظاهر سياق الاحتجاج في الآيتين أن هذه الآية من تمامها والمعنى: لا أجيبكم إلى ما اقترحتم علي من الإتيان بقرآن غير هذا أو تبديله فإن ذلك ليس إلي ولا لي حق فيه، ولو أجبتكم إليه لكنت أظلم الناس وأشدهم إجراما ولا يفلح المجرمون فإني لو بدلت القرآن وغيرت بعض مواضعه مما لا ترتضونه لكنت مفتريا على الله كذبا ولا أظلم منه، ولو تركت هذا القرآن وجئتكم بغيره مما ترتضونه لكنت مكذبا لآيات الله، ولا أظلم منه.

وربما احتمل كون الاستفهام الإنكاري بشقيه تعريضا للمشركين أي أنتم أظلم الناس بإثباتكم لله شركاء وهو افتراء الكذب على الله وبتكذيبكم بنبوتي والآيات النازلة علي وهو تكذيب بآيات الله ولا يفلح المجرمون.

وذكر بعضهم أن الأول من شقي الترديد للنبي على تقدير إجابتهم والثاني للمشركين، أي لا أحد أظلم عند الله من هذين الفريقين: المفترين على الله والمكذبين بآياته، وأنا أنعى عليكم الثاني منهما فكيف أرضى لنفسي بالأول وهو شر منه؟ وأي فائدة لي من هذا الإجرام العظيم وأنا أريد الإصلاح؟.

والذي ذكره من المعنى لا بأس به في نفسه لكن الشأن في استفادته من الآية ودلالة لفظها عليه، وكذا الوجه السابق عليه بالنظر إلى السياق.

قوله تعالى: ﴿ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله﴾ إلى آخر الآية الكلام: موجه نحو عبدة الأصنام من المشركين وإن كان ربما شمل غيرهم كأهل الكتاب بحسب سعة معناه، وذلك لمكان ﴿ما﴾ وكون السورة مكية من أوائل ما نزل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من القرآن.

وقد كانت عبدة الأصنام يعبدون الأصنام ليتقربوا بعبادتها إلى أربابها وبأربابها إلى رب الأرباب وهو الله سبحانه، ويقولون: إننا على ما بنا من ألواث البشرية المادية وقذارات الذنوب والآثام لا سبيل لنا إلى رب الأرباب لطهارة ساحته وقدسها ولا نسبة بيننا وبينه.

فمن الواجب أن نتقرب إليه بأحب خلائقه إليه وهم أرباب الأصنام الذين فوض الله إليهم أمر تدبير خلقه، ونتقرب إليهم بأصنامهم وتماثيلهم وإنما نعبد الأصنام لتكون شفعاء لنا عند الله لتجلب إلينا الخير وتدفع عنا الشر فتقع العبادة للأصنام حقيقة، والشفاعة لأربابها وربما نسبت إليها.

وقد وضع في الكلام قوله: ﴿ما لا يضرهم ولا ينفعهم﴾ موضع الأصنام للتلويح إلى موضع خطئهم في مزعمتهم، وهو أن هذا السعي إنما كان ينجح منهم لو كانت هذه الأصنام ضارة نافعة في الأمور وكانت ذوات شعور بالعبادة والتقرب حتى ترضى عن عبادها بعبادتهم لها فتشفع أو يشفع أربابها لهم عند الله إن كان الله يرتضي شفاعتهم وهؤلاء أجسام ميتة لا تشعر بشيء ولا تضر ولا تنفع شيئا.

وقد أمر الله سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يحتج على بطلان دعواهم الشفاعة - مضافا إلى ما يلوح إليه قوله: ﴿لا يضرهم ولا ينفعهم﴾ بقوله: ﴿قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض﴾ ومحصله أن الله سبحانه لا علم له بهذه الشفعاء في شيء من السماوات والأرض فدعواكم هذه إخبار منكم إياه بما لا يعلم، وهو من أقبح الافتراء وأشنع المكابرة، وكيف يكون في الوجود شيء لا يعلم به الله وهو يعلم ما في السماوات والأرض؟.

فالاستفهام إنكاري، ونفي العلم بوجود الشفعاء كناية عن نفي وجودها، ولعل اختيار هذا التعبير لكون الشفاعة مما يتقوم بالعلم لذاته فإن الشفاعة إنما تتحقق إذا كان المشفوع عنده عالما بوجود الشافع وشفاعته فإذا فرض أنه لا يعلم بالشفعاء فكيف تتحقق الشفاعة عنده وهو لا يعلم.

وقوله: ﴿سبحانه وتعالى عما يشركون﴾ كلمة تنزيه، وهي من كلام الله وليست مقولة قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فإن ظرف المشركين بالنسبة إليه هو الخطاب دون الغيبة فلو كان من كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لقيل: عما تشركون بالخطاب.

قوله تعالى: ﴿وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا﴾ قد تقدم في تفسير قوله تعالى: ﴿كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم﴾ البقرة: 213 أن الآية تكشف عن نوعين من الاختلاف بين الناس.

أحدهما: الاختلاف من حيث المعاش وهو الذي يرجع إلى الدعاوي وينقسم به الناس إلى مدع ومدعى عليه وظالم ومظلوم ومتعد ومتعدى عليه وآخذ بحقه وضائع حقه، وهذا هو الذي رفعه الله سبحانه بوضع الدين وبعث النبيين وإنزال الكتاب معهم ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، ويعلمهم معارف الدين ويواجههم بالإنذار والتبشير.

وثانيهما: الاختلاف في نفس الدين وما تضمنه الكتاب الإلهي من المعارف الحقة من الأصول والفروع، وقد صرح القرآن في مواضع من آياته أن هذا النوع من الاختلاف ينتهي إلى علماء الكتاب بغيا بينهم، وليس مما يقتضيه طباع الإنسان كالقسم الأول، وبذلك ينقسم الطريق إلى طريقي الهداية والضلال فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق، وقد ذكر سبحانه في مواضع من كلامه بعد ذكر هذا القسم من الاختلاف أنه لو لا قضاء من الله سبق لحكم بينهم فيما اختلفوا فيه ولكن يؤخرهم إلى أجل، قال تعالى: ﴿وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولو لا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم﴾ الشورى: 14 إلى غير ذلك من الآيات.

وسياق الآية السابقة أعني قوله تعالى: ﴿ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم﴾ إلخ، لا يناسب من الاختلافين المذكورين إلا الاختلاف الثاني وهو الاختلاف في نفس الدين لأنها تذكر ركوب الناس طريق الضلال بعبادتهم ما لا يضرهم ولا ينفعهم واتخاذهم شفعاء عند الله ومقتضى ذلك أن يكون المراد من كون الناس سابقا أمة واحدة كونهم على دين واحد وهو دين التوحيد ثم اختلفوا فتفرقوا فريقين موحد ومشرك.

فذكر الله فيها أن اختلافهم كان يقضي أن يحكم الله بينهم بإظهار الحق على الباطل وفيه هلاك المبطلين وإنجاء المحقين لكن السابق من الكلمة الإلهية منعت من القضاء بينهم، والكلمة هي قوله تعالى لما أهبط الإنسان إلى الدنيا: ﴿ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين﴾ البقرة: 36.

وللمفسرين في الآية أقوال عجيبة منها: أن المراد بالناس هم العرب كانوا على دين واحد حق وهو دين إبراهيم (عليه السلام) إلى زمن عمرو بن لحي الذي زوج بينهم الوثنية فانقسموا إلى حنفاء مسلمين، وعبدة أصنام مشركين وأنت خبير أنه لا دليل عليه من جهة اللفظ البتة.

ومنها: أن المراد بالناس جميعهم، والمراد من كونهم أمة واحدة كونهم على فطرة الإسلام وإن كانوا مختلفين دائما، فلفظة ﴿كان﴾ منسلخ الزمان، والآية تحكي عما عليه الناس بحسب الطبع وهو التوحيد، وما هم عليه بحسب الفعلية وهو الاختلاف فليس الناس بحسب الطبع الفطري إلا أمة واحدة موحدين لكنهم اختلفوا على خلاف فطرتهم.

وفيه أنه خلاف ظاهر الآية والآية التي في سورة البقرة، وكذا ظاهر سائر الآيات كقوله: ﴿وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم﴾ الشورى: 14 وقوله: ﴿وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم﴾ آل عمران: 19.

على أن القول بوجود الاختلاف الدائم بين الناس مع عدم رجوعه إلى الفطرة مما لا يجتمعان.

ومنها: أن المراد أن الناس جميعا كانوا على ملة واحدة هي الكفر والشرك ثم اختلفوا فكان مسلم وكافر.

وهذا أسخف الأقوال في الآية فإنه مضافا إلى كونه قولا بغير دليل يأباه ظاهر الآيات فإن ظاهرها أن ظهور الاختلاف لانتهائه إلى بغي الناس من بعد ما جاءهم العلم أي ظهور الكفر والشرك عن بغي كان هو المقتضي للحكم بينهم والقضاء عليهم بنزول العذاب والهلاك فإذا كانوا جميعا على الكفر والشرك من غير سابقة هدى وإيمان فما معنى استناد الاقتضاء إلى البغي عن علم؟ وما معنى خلق الجميع ووجود المقتضي لإهلاكهم جميعا إلا انتقاض الغرض الإلهي؟.

وهذا القول أشبه بما قالته النصارى في مسألة التفدية إن الله خلق الإنسان ليطعمه فيسكنه الجنة دائما لكنه عصاه ونقض بذلك غرض الخلقة فتداركه الله بتفدية المسيح.

ومنها: قول بعضهم: إن المراد بالكلمة في قوله: ﴿ولو لا كلمة سبقت من ربك﴾ إلخ قوله تعالى فهذه السورة: ﴿إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون﴾ الآية: 93.

وفيه: أن المراد بالسبق إن كان هو السبق بحسب البيان فالآية متأخرة عن هذه الآية لوقوعها في أواخر السورة، والآيات متصلة جارية.

على أن الآية في بني إسرائيل خاصة والضمير في قوله: ﴿بينهم﴾ راجع إليهم وهي قوله: ﴿ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق ورزقناهم من الطيبات فما اختلفوا حتى جاءهم العلم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون﴾ يونس: 93.

على أن قوله في بعض الآيات: ﴿ولو لا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم﴾ الشورى: 14 لا يلائم هذا المعنى من السبق.

وإن كان المراد بالسبق السبق بحسب القضاء فينبغي أن يتبع في ذلك أول كلمة قالها الله تعالى في ضلال الناس وشركهم ومعصيتهم، وليست إلا ما قاله عند أول ما أسكن الإنسان الأرض وهو ما قدمناه من الآية.

قوله تعالى: ﴿ويقولون لو لا أنزل عليه آية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتظروا إني معكم من المنتظرين﴾ الآية كقوله قبلها: ﴿ويعبدون من دون الله﴾ وقوله قبله: ﴿وإذا تتلى عليهم آياتنا﴾ تعد أمورا من مظالم المشركين في أقوالهم وأعمالهم ثم ترد عليها بحجج تلقنها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليقيمها عليهم كما مر في أول الآيات فقوله: ﴿ويقولون لو لا أنزل﴾ إلخ، عطف على قوله في أول الآيات: ﴿وإذا تتلى عليهم آياتنا﴾ .

وفيها مع ذلك عود بعد عود إلى إنكارهم أمر القرآن فإن مرادهم بقولهم: ﴿لو لا أنزل عليه آية من ربه﴾ وإن كان طلب آية أخرى غير القرآن لكنهم إنما قالوه إزراء وتحقيرا لأمر القرآن واستخفافا به لعدم عده آية إلهية والدليل عليه قوله تعالى: ﴿فقل إنما الغيب لله﴾ ولم يقل: ﴿قل﴾ كما قال في سائر الآيات كأنه يقول: ويطلبون منك آية أخرى غير مكتفين بالقرآن ولا راضين به فإذا لم يكتفوا به آية فقل: إنما الآيات من الغيب المختص بالله وليست بيدي فانتظروا إني معكم من المنتظرين.

فهذا هو المستفاد من الآية وفيها دلالة على أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان ينتظر آية فاصلة بين الحق والباطل غير القرآن قاضية بينه وبين أمته، وسيجيء الوعد الصريح منه بهذه الآية - التي يأمر بانتظارها هاهنا - في قوله: ﴿وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم﴾ يونس: 46 إلى تمام عدة آيات.

قوله تعالى: ﴿وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا﴾ إلى آخر الآية مضمون الآية وإن كان من المعاني العامة الجارية في أغلب الناس في أكثر الأوقات فإن الفرد من الإنسان لا يخلو عن أن يمسه سراء بعد ضراء بل قلما يتفق أن لا يتكرر في حقه ذلك لكن الآية من جهة السياق المتقدم كأنها مسوقة للتعريض للمشركين ومكرهم في آيات الله، والدليل عليه قوله: ﴿قل الله أسرع مكرا﴾ فقد كان النظر معطوفا على مكر طائفة خاصة وهم المخاطبون بهذه الآيات حيث كانوا يمكرون بآيات السراء والضراء بعد ظهورها، ومن مكرهم مكرهم في القرآن الذي هو آية إلهية ورحمة أذاقهم الله إياها بعد ضراء الجهالة العالقة بهم وشمول ضنك العيش والذلة والتفرقة وتباعد القلوب وبغضائها لهم وهم يمكرون به فتارة يقولون ﴿ائت بقرآن غير هذا أو بدله﴾ وتارة يقولون: ﴿لو لا أنزل عليه آية من ربه﴾.

فالآية تبين لهم أن هذا كله مكر يمكرونه في آيات الله، وتبين لهم أن المكر بآيات الله لا يعقب إلا السوء من غير أن ينفعهم شيئا فإن الله أسرع مكرا يأخذهم مكره قبل أن يأخذ مكرهم آياته فإن مكرهم بآيات الله عين مكر الله بهم.

فمعنى الآية: ﴿وإذا أذقنا الناس﴾ عبر عن الإصابة بالإذاقة للإيماء إلى التذاذهم بالرحمة وعناية بالقلة فإن الذوق يستعمل في القليل من التغذي ﴿رحمة من بعد ضراء مستهم﴾ والتعبير بالرحمة في موضع السراء للإشارة إلى أنها من الرحمة الإلهية من غير أن يستوجبوا ذلك فكان من الواجب عليهم أن يقوموا بحقه، ويخضعوا لما تدعو إليه الآية وهو توحيد ربهم وشكر نعمته لكنهم يفاجئون بغير ذلك ﴿إذا لهم مكر في آياتنا﴾ كتوجيه الحوادث بما تبطل به دلالة الآيات كقولهم قد مس آباءنا السراء والضراء، والاعتذار بما لا يرتضيه الله كقولهم: ﴿لو لا أنزل عليه آية﴾ وقولهم: ﴿إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا﴾.

فأمر الله نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجيبهم بقوله: ﴿قل الله أسرع مكرا﴾ ثم علله بقوله: ﴿إن رسلنا يكتبون ما تمكرون﴾ فلنا عليكم شهداء رقباء أرسلناهم إليكم يكتبون أعمالكم ويحفظونها وبمجرد، ما عملتم عملا حفظ عليكم وتعين جزاؤه لكم قبل أن يؤثر مكركم أثره أو لا يؤثر كما فسروه.

وهنا شيء وهو أن الظاهر من قوله تعالى: ﴿هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون﴾ الجاثية: 29 على ما سيجيء من البيان في تفسير الآية إن شاء الله تعالى أن معنى كتابة الملائكة أعمال العباد هو إخراجهم الأعمال من كمون الاستعدادات إلى مرحلة الفعلية الخارجية ورسم نفس الأعمال في صحيفة الكون وبذلك تنجلي علية كتابة الرسل لأعمالهم لكونه تعالى أسرع مكرا تمام الانجلاء فإن حقيقة المعنى على هذا: أنا نحن نخرج أعمالكم التي تمكرون بها من داخل ذواتكم ونضعها في الخارج فكيف يخفى علينا كونكم تريدون بنا المكر بذلك؟ وهل المكر إلا صرف الغير عما يقصده بحيلة وستر عليه بل ذاك الذي تزعمونه مكرا بنا مكر منا بكم حيث نجعلكم تزعمونه مكرا وتقدمون على المكر بنا، وهذه المزعمة والإقدام ضلال منكم وإضلال منا لكم جزاء بما كسبته أيديكم، وسيأتي نظير هذا المعنى في قوله: ﴿يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم﴾ الآية: 23 من السورة.

وفي الآية التفات من الغيبة إلى الخطاب في قوله: ﴿إن رسلنا يكتبون ما تمكرون﴾ على قراءة تمكرون بتاء الخطاب وهي القراءة المشهورة وهو من عجيب الالتفات الواقع في القرآن ولعل النكتة فيه تمثيل معنى قوله: ﴿قل الله أسرع مكرا﴾ في العين كأنه تعالى لما قال لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم): ﴿قل الله أسرع مكرا﴾ أراد أن يوضحه لهم عيانا ففاجأهم بتجليه لهم دفعة فكلمهم وأوضح لهم السبب في كونه أسرع مكرا ثم حجبهم عن نفسه فعادوا إلى غيبتهم وعاد الكلام إلى حاله، وخوطب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ببقية الخطاب: ﴿هو الذي يسيركم﴾ إلخ، وهذا من لطيف الالتفات.

قوله تعالى: ﴿هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم﴾ إلى آخر الآية، الفلك السفينة وتستعمل مفردا وجمعا، والمراد بها هاهنا الجمع بدليل قوله: ﴿وجرين بهم﴾ والريح العاصف: الشديدة الهبوب، وقوله: ﴿أحيط بهم﴾ كناية عن الإشراف على الهلاك وتقديره أحاط بهم البلاء أو الأمواج، والإشارة بقوله: ﴿من هذه﴾ إلى الشدة.

ومعنى الآية ظاهر.

وفيها من عجيب الالتفات الالتفات من الخطاب إلى الغيبة في قوله: ﴿وجرين بهم بريح طيبة - إلى قوله - بغير الحق﴾ ولعل النكتة فيه إرجاعهم إلى الغيبة وتوجيه الخطاب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ووصف أعجب جزء من هذه القصة الموصوفة له ليسمعه ويتعجب منه، ويكون فيه مع ذلك إعراض عن الأمر بمخاطبتهم لأنهم لا يفقهون القول.

قوله تعالى: ﴿فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق﴾ أصل البغي هو الطلب ويكثر استعماله في مورد الظلم لكونه طلبا لحق الغير بالتعدي عليه ويقيد حينئذ بغير الحق، ولو كان بمعنى الظلم محضا لكان القيد زائدا.

والجملة من تتمة الآية السابقة، والمجموع أعني قوله: ﴿هو الذي يسيركم في البر والبحر - إلى قوله - بغير الحق﴾ بمنزلة الشاهد والمثال بالنسبة إلى عموم قوله قبله: ﴿و إذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم﴾ إلى آخر الآية، أو لخصوص قوله: ﴿قل الله أسرع مكرا﴾ وعلى أي حال فقوله: ﴿يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم﴾ إلخ، مما يتوقف عليه تمام الغرض من الكلام في الآية السابقة وإن لم يكن من كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فافهم ذلك.

قوله تعالى: ﴿يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحيوة الدنيا ثم إلينا مرجعكم﴾ إلى آخر الآية، في الكلام التفات من الغيبة إلى الخطاب فقوله: ﴿يا أيها الناس﴾ إلخ، خطاب منه تعالى للناس بلا واسطة، وليس من كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مما أمره الله سبحانه أن يخاطب به الناس.

والدليل على ذلك قوله تعالى ﴿ثم إلينا مرجعكم﴾ إلى آخر الآية، فإنه لا يصلح أن يكون من خطاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

والنكتة في هذا الالتفات هي نظير النكتة التي قدمنا ذكرها في قوله تعالى في أول الكلام: ﴿إن رسلنا يكتبون ما تمكرون﴾ فكأنه سبحانه يفاجئهم بالاطلاع عليهم أثناء ما يخاطبهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهم يحسبون أن ربهم غائب عنهم غافل عن نياتهم ومقاصدهم في أعمالهم فيشرف عليهم ويمثل بذلك كونه معهم في جميع أحوالهم وإحاطته بهم ويقول لهم: أنا أقرب إليكم وإلى أعمالكم منكم فما تعملونه من عمل تريدون به أن تبتغوا علينا وتمكروا بنا إنما توجد بتقديرنا وتجري بأيدينا فكيف يمكنكم أن تبغوا بها علينا؟ بل هي بغي منكم على أنفسكم فإنها تبعدكم منا وتكتب آثامها في صحائف أعمالكم فبغيكم على أنفسكم وهو متاع الحياة الدنيا تتمتعون به أياما قلائل ثم إلينا مرجعكم فنخبركم ونوضح لكم هناك حقائق أعمالكم.

وقوله: ﴿متاع الحيوة الدنيا﴾ بالنصب في قراءة حفص عن عاصم والتقدير: تتمتعون متاع الحياة الدنيا، وبالرفع في قراءة غيره وهو خبر لمبتدإ محذوف، والتقدير هو أي بغيكم وعملكم متاع الحياة الدنيا.

وعلى كلتا القراءتين فقوله: ﴿متاع الحيوة الدنيا﴾ إلى آخر الآية، تفصيل لإجمال قوله: ﴿إنما بغيكم على أنفسكم﴾ فقوله ﴿متاع﴾ إلخ، في مقام التعليل بالنسبة إلى كون بغيهم على أنفسهم من قبيل تعليل الإجمال بالتفصيل وبيانه به.

قوله تعالى: ﴿إنما مثل الحيوة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض﴾ إلى آخر الآية، لما ذكر سبحانه في الآية السابقة متاع الحياة الدنيا مثل له بهذا المثل يصف فيه من حقيقة أمره ما يعتبر به المعتبرون، وهو من الاستعارة التمثيلية وليس من تشبيه المفرد بالمفرد من شيء وإن أوهم ذلك قوله: ﴿كماء أنزلناه﴾ ابتداء، ونظائره شائعة في أمثال القرآن، والزخرف الزينة والبهجة، وقوله: ﴿لم تغن﴾ من غني في المكان إذا أقام فيه فأطال المقام، والباقي ظاهر.

قوله تعالى: ﴿والله يدعوا إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم﴾ الدعاء والدعوة عطف نظر المدعو إلى ما يدعى إليه وجلب توجهه وهو أعم من النداء فإن النداء يختص بباب اللفظ والصوت، والدعاء يكون باللفظ والإشارة وغيرهما، والنداء إنما يكون بالجهر ولا يقيد به الدعاء.

والدعاء في الله سبحانه تكويني وهو إيجاد ما يريده لشيء كأنه يدعوه إلى ما يريده، قال تعالى: ﴿يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده﴾ الإسراء: 52 أي يدعوكم إلى الحياة الأخروية فتستجيبون إلى قبولها، وتشريعي وهو تكليف الناس بما يريده من دين بلسان آياته، والدعاء من العبد لربه عطف رحمته وعنايته إلى نفسه بنصب نفسه في مقام العبودية والمملوكية، ولذا كانت العبادة في الحقيقة دعاء لأن العبد ينصب فيها نفسه في مقام المملوكية والاتصال بمولاه بالتبعية والذلة ليعطفه بمولويته وربوبيته إلى نفسه وهو الدعاء.

وإلى ذلك يشير قوله تعالى: ﴿وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين﴾ المؤمنون: 60 حيث عبر أولا بالدعاء ثم بدله ثانيا العبادة.

وقد التبس الأمر على صاحب المنار فقال في تفسيره: إن قول بعض المفسرين وغيرهم: إن من معاني الدعاء العبادة لا يصح على إطلاقه في العبادة الشرعية التكليفية فإن الصيام لا يسمى دعاء لغة ولا شرعا وإنما الدعاء هو مخ العبادة الفطرية وأعظم أركان التكليفية منها كما ورد في الحديث فكل دعاء شرعي عبادة وما كل عبادة شرعية دعاء.

ومنشأ خطئه زعمه أن معنى الدعاء هو النداء للطلب وغفلته عما تقدم من تحليل معناه.

والأصل في معنى السلام على ما ذكره الراغب في المفردات، هو التعري عن الآفات الظاهرة والباطنة، وإليه يرجع معناه في جميع مشتقاته، والسلام والسلامة واحد كالرضاع والرضاعة، والظاهر أن السلام والأمن متقاربان معنى، وإنما الفارق أن السلام هو الأمن مأخوذا في نفسه، والأمن هو السلام مضافا إلى ما يسلم منه يقال: هو في سلام، وهو في أمن من كذا وكذا.

والسلام من أسمائه تعالى لأن ذاته المتعالية نفس الخير الذي لا شر فيه، وتسمى الجنة دار السلام حيث لا شر فيها ولا ضر على ساكنها، وقيل: إنما سميت دار السلام لأنها دار الله الذي هو السلام، والمال واحد في الحقيقة لأنه تعالى إنما سمي سلاما لبراءته من كل شر وسوء، وفي سياق الآية ما يشعر بكون معنى السلام الوصفي مقصودا في الكلام.

وقد أطلق سبحانه السلام ولم يقيده بشيء ولا ورد في كلامه ما يقيده ببعض الحيثيات فهو دار السلام على الإطلاق وليست إلا الجنة فإن ما يوجد عندنا في الدنيا من السلام إنما هو الإضافي دون المطلق فما من شيء إلا وهو مزاحم ممنوع من بعض ما يحبه ويهواه، وما من حال إلا وفيه مقارنات من الأضداد والأنداد.

فإذا أخذت معنى السلام مطلقا غير نسبي تحصل عندك ما عليه الجنة من الوصف، وانكشف أن توصيفها بهذه الصفة نظير توصيفها في قوله: ﴿لهم ما يشاءون فيها﴾ ق: 35، فإن سلامة الإنسان من كل ما يكرهه ولا يحبه تلازم سلطانه على كل ما يشاؤه ويحبه.

وفي تقييد دار السلام بكونها عند ربهم دلالة على قرب الحضور وعدم غفلتهم عنه سبحانه هناك أصلا، وقد تقدم الكلام في معنى الهداية ومعنى الصراط المستقيم في مواضع من الأبحاث السابقة كتفسير سورة الحمد وغيره.

بحث روائي:

في تفسير القمي، في قوله تعالى: ﴿قال الذين لا يرجون لقاءنا - ائت بقرآن غير﴾ هذا الآية، قال فإن قريشا قالت: يا رسول الله ائتنا بقرآن غير هذا فإن هذا شيء تعلمته من اليهود والنصارى، قال الله: قل لهم: لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم أربعين سنة قبل أن يوحى إلي، ولم أتكلم بشيء منه حتى أوحي إلي.

أقول: وفي انطباق مضمونه على الآية خفاء، على ما فيه من مخاطبتهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالرسالة.

وفي تفسير العياشي، عن منصور بن حازم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال لم يزل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم حتى نزلت سورة الفتح فلم يعد إلى ذلك الكلام.

أقول: والرواية لا تخلو عن شيء.

وفي الدر المنثور، أخرج البيهقي في الدلائل عن عروة قال: فر عكرمة بن أبي جهل يوم الفتح فركب البحر فأخذته الريح فنادى باللات والعزى، فقال أصحاب السفينة: لا يجوز هاهنا أحد يدعو شيئا إلا الله وحده مخلصا، فقال عكرمة: والله لئن كان في البحر وحده إنه لفي البر وحده، فأسلم.

أقول: والرواية مروية بطرق كثيرة مختلفة.

وفي تفسير العياشي، عن منصور بن يونس عن أبي عبد الله (عليه السلام): ثلاث يرجعن على صاحبهن: النكث والبغي والمكر، قال الله: يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم.

أقول: وهو مروي عن أنس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: ثلاث هن رواجع على أهلها: النكث والمكر والبغي. ثم تلا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ﴿يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم﴾ ﴿ولا يحيق المكر السيىء إلا بأهله﴾ ﴿ومن نكث فإنما ينكث على نفسه﴾ أورده في الدر المنثور، وفي الدر المنثور، أخرج أبو نعيم في الحلية عن أبي جعفر محمد بن علي قال: ما من عبادة أفضل من أن تسأل، وما يدفع القضاء إلا الدعاء، وإن أسرع الخير ثوابا البر، وأسرع الشر عقوبة البغي وكفى بالمرء عيبا أن يبصر من الناس ما يعمى عليه من نفسه، وأن يأمر الناس بما لا يستطيع التحول عنه، وأن يؤذي جليسه بما لا يعنيه. وفيه، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لو بغى جبل على جبل لدك الباغي منهما. وفي تفسير البرهان، عن ابن بابويه بإسناده عن العلاء بن عبد الكريم قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: في قول الله عز وجل: ﴿والله يدعوا إلى دار السلام﴾ فقال إن السلام هو الله عز وجل وداره التي خلقها لأوليائه الجنة. وفيه، عن ابن شهرآشوب عن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه وزيد بن علي بن الحسين (عليهما السلام): في قوله تعالى: ﴿والله يدعوا إلى دار السلام﴾ يعني به الجنة ﴿ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم﴾ يعني ولاية علي بن أبي طالب.

أقول: إن كانت الرواية موقوفة فهي من الجري أو من الباطن من معنى القرآن، وفي معناها روايات أخر.