الآيات 109 - 119

فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاء مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ ﴿109﴾ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ ﴿110﴾ وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴿111﴾ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴿112﴾ وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ ﴿113﴾ وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ﴿114﴾ وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴿115﴾ فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ ﴿116﴾ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ﴿117﴾ وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ﴿118﴾ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴿119﴾

بيان:

لما فصل تعالى فيما قصة لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) قصص الأمم الغابرة وما أداهم إليه شركهم وفسقهم وجحودهم لآيات الله واستكبارهم عن قبول الحق الذي كان يدعوهم إليه أنبياؤهم وساقهم إلى الهلاك وعذاب الاستئصال ثم إلى عذاب النار الخالد في يوم مجموع له الناس، ثم لخص القول في أمرهم في الآيات السابقة.

أمر في هذه الآيات نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يعتبر هو ومن معه بذلك، ويستيقنوا أن الشرك بالله والفساد في الأرض لا يهدي الإنسان إلا إلى الهلاك والبوار فعليهم أن يلزموا طريق العبودية ويمسكوا بالصبر والصلاة ولا يركنوا إلى الذين ظلموا فتمسهم النار وما لهم من دون الله من أولياء ثم لا ينصرون، ويعلموا أن كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى وإن مهلتهم فيما يمهلهم الله ليس إلا لتحقيق كلمة الحق التي سبقت منه وستتم بما يجازيهم به يوم القيامة.

قوله تعالى: ﴿فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم﴾ إلخ تفريع لما تقدم من تفصيل قصص الأمم الماضية التي ظلموا أنفسهم باتخاذ الشركاء والفساد في الأرض فأخذهم الله بالعذاب، والمشار إليهم بقوله: ﴿هؤلاء﴾ هم قوم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقوله: ﴿ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم﴾ أي إنهم يعبدونها تقليدا كآبائهم فالآخرون يسلكون الطريق الذي سلكه الأولون من غير حجة، والمراد بنصيبهم ما هو حظهم قبال شركهم وفسقهم.

وقوله: ﴿غير منقوص﴾ حال من النصيب وفيه تأكيد لقوله: ﴿لموفوهم﴾ فإن التوفية تأدية حق الغير بالتمام والكمال، وفيه إيئاس الكافرين من العفو الإلهي.

ومعنى الآية: فإذا سمعت قصص الأولين وأنهم كانوا يعبدون آلهة من دون الله ويكذبون بآياته، وعلمت سنة الله تعالى فيهم وأنها الهلاك في الدنيا والمصير إلى النار الخالدة في الآخرة لا تكن في شك ومرية من عبادة هؤلاء الذين هم قومك ما يعبدون إلا كعبادة آبائهم على التقليد من غير حجة ولا بينة، وإنا سنعطيهم ما هو نصيبهم من جزاء أعمالهم من غير أن ننقص من ذلك شيئا بشفاعة أو عفو كيفما كان.

ويمكن أن يكون المراد بآبائهم، الأمم الماضية الهالكة دون آباء العرب بعد إسماعيل مثلا وذلك أن الله سماهم آباء لهم أولين كما في قوله: ﴿أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين﴾ المؤمنون: 68 وهذا أنسب وأحسن والمعنى - على هذا - فلا تكن في شك من عبادة قومك ما يعبد هؤلاء إلا كمثل عبادة أولئك الأمم الهالكة الذين هم آباؤهم، ولا شك أنا سنعطيهم حظهم من الجزاء كما فعلنا ذلك بآبائهم.

قوله تعالى: ﴿ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولو لا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب﴾ لما كانت هذه الآيات مسوقة للاعتبار بالقصص المذكورة في السورة، وكانت القصص نفسها سردت ليتعظ بها القوم ويقضوا بالحق في اتخاذهم شركاء لله سبحانه، وتكذيبهم بآيات الله ورمي القرآن بأنه افتراء على الله تعالى.

تعرض في هذه الآيات - المسوقة للاعتبار - لأمر اتخاذهم الآلهة وتكذيب القرآن فذكر تعالى أن عبادة القوم للشركاء كعبادة أسلافهم من الأمم الماضية لها وسينالهم العذاب كما نال أسلافهم وإن اختلافهم في كتاب الله كاختلاف أمة موسى (عليه السلام) فيما آتاه الله من الكتاب وأن الله سيقضي بينهم فيما اختلفوا فيه، فقوله: ﴿ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه﴾ إشارة إلى اختلاف اليهود في التوراة بعد موسى.

وقوله: ﴿ولو لا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم﴾ كرر سبحانه في كتابه ذكر أن اختلاف الناس في أمر الدنيا أمر فطروا عليها لكن اختلافهم في أمر الدين لا منشأ له إلا البغي بعد ما جاءهم العلم، قال تعالى: ﴿وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا﴾ يونس: 19 وقال: ﴿وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم﴾ آل عمران: 19، وقال: ﴿كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم﴾ البقرة: 213.

وقد قضى الله سبحانه أن يوفي الناس أجر ما عملوه وجزاء ما اكتسبوه، وكان مقتضاه أن يحكم بينهم فيما اختلفوا فيه حينما اختلفوا لكنه تعالى قضى قضاء آخر أن يمتعهم في الأرض إلى يوم القيامة ليعمروا به الدنيا، ويكتسبوا في دنياهم لأخراهم كما قال: ﴿ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين﴾ البقرة: 36، ومقتضى هذين القضاءين أن يؤخر القضاء بين المختلفين في دين الله وكتابه بغيا، إلى يوم القيامة.

فإن قلت: فما بال الأمم الماضية أهلكهم الله لظلمهم فهلا أخرهم إلى يوم القيامة لكلمة سبقت منه.

قلت: ليس منشأ إهلاكهم كفرهم ولا معاصيهم وبالجملة مجرد اختلافهم في أمر الدين حتى يعارضه القضاء الآخر ويؤخره إلى يوم القيامة، بل قضاء آخر ثالث يشير إليه قوله سبحانه: ﴿ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون﴾ يونس: 47.

وبالجملة قوله: ﴿ولو لا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم﴾ يشير إلى أن اختلاف الناس في الكتاب ملتقى قضاءين من الله سبحانه يقتضي أحدهما الحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، ويقتضي الآخر أن يمتعهم الله إلى يوم القيامة فلا يجازيهم بأعمالهم، ومقتضى ذلك كله أن يتأخر عذابهم إلى يوم القيامة.

وقوله: ﴿وإنهم لفي شك منه مريب﴾ الإرابة إلقاء الشك في القلب، فتوصيف الشك بالمريب من قبيل قوله: ﴿ظلا ظليلا﴾ و﴿حجابا مستورا﴾ و﴿حجرا محجورا﴾ وغير ذلك، ويفيد تأكدا لمعنى الشك.

والظاهر أن مرجع الضمير في قوله: ﴿وإنهم﴾ أمة موسى وهم اليهود، وحق لهم أن يشكوا فيه فإن سند التوراة الحاضرة ينتهي إلى ما كتبه لهم رجل من كهنتهم يسمى عزراء عند ما أرادوا أن يرجعوا من بابل بعد انقضاء السبي إلى الأرض المقدسة، وقد أحرقت التوراة قبل ذلك بسنين عند إحراق الهيكل فانتهاء سندها إلى واحد يوجب الريب فيها طبعا ونظيرها الإنجيل من جهة سنده.

على أن التوراة الحاضرة يوجد فيها أشياء لا ترضى الفطرة الإنسانية أن تنسبها إلى كتاب سماوي ومقتضاه الشك فيها.

وأما إرجاع الضمير في قوله: ﴿وإنهم﴾ إلى مشركي العرب، وفي قوله: ﴿منه﴾ إلى القرآن كما فعله بعض المفسرين فبعيد من الصواب لأن الله سبحانه قد أتم الحجة عليهم في صدر السورة أنه كتابه المنزل من عنده على نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) وتحدى بمثل قوله: ﴿قل فأتوا بعشر سور من مثله مفتريات﴾ ولا معنى مع ذلك لإسناد شك إليهم.

قوله تعالى: ﴿وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم إنه بما يعملون خبير﴾ لفظة إن هي المشبهة بالفعل واسمها قوله: ﴿كلا﴾ منونا مقطوعا عن الإضافة والتقدير كلهم أي المختلفين، وخبرها قوله: ﴿ليوفينهم﴾ واللام والنون لتأكيد الخبر، وقوله: ﴿لما﴾ مؤلف من لام تدل على القسم وما مشددة تفصل بين اللامين، وتفيد مع ذلك تأكيدا، وجواب القسم محذوف يدل عليه خبر إن.

والمعنى - والله أعلم - وإن كل هؤلاء المختلفين أقسم ليوفينهم ويعطينهم ربك أعمالهم أي جزاءها أنه بما يعملون من أعمال الخير والشر خبير.

ونقل في روح المعاني، عن أبي حيان عن ابن الحاجب أن ﴿لما﴾ في الآية هي لما الجازمة وحذف مدخولها شائع في الاستعمال يقال: خرجت ولما، وسافرت ولما.

ثم قال: والأولى على هذا أن يقدر: لما يوفوها أي وإن كلا منها لما يوفوا أعمالهم ليوفينهم ربك إياها.

وهذا وجه وجيه.

ولأهل التفسير في مفردات الآية ونظمها أبحاث أدبية طويلة لا يهمنا منها أزيد مما أوردناه، ومن شاء الوقوف عليها فليراجع مطولات التفاسير.

قوله تعالى: ﴿فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير﴾ يقال: قام كذا وثبت وركز بمعنى واحد كما ذكره الراغب وغيره، والظاهر أن الأصل المأخوذ به في ذلك قيام الإنسان وذلك أن الإنسان في سائر حالاته وأوضاعه غير القيام كالقعود والانبطاح والجثو والاستلقاء والانكباب لا يقوى على جميع ما يرومه من الأعمال كالقبض والبسط والأخذ والرد وسائر ما الإنسان مهيمن عليه بالطبع لكنه إذا قام على ساقه قياما كان على أعدل حالاته الذي يسلطه على عامة أعماله من ثبات وحركة وأخذ ورد وإعطاء ومنع وجلب ودفع، وثبت مهيمنا على ما عنده من القوى وأفعالها، فقيام الإنسان يمثل شخصيته الإنسانية بما له من الشئون.

ثم استعير في كل شيء لأعدل حالاته الذي يسلط معه على آثاره وأعماله فقيام العمود أن يثبت على طوله وقيام الشجر أن يركز على ساقه متعرقا بأصله في الأرض، وقيام الإناء المحتوي على مائع أن يقف على قاعدته فلا يهراق ما فيه وقيام العدل أن ينبسط على الأرض، وقيام السنة والقانون أن تجري في البلاد.

والإقامة جعل الشيء قائما أي جعله بحال يترتب عليه جميع آثاره بحيث لا يفقد شيئا منها كإقامة العدل وإقامة السنة وإقامة الصلاة وإقامة الشهادة، وإقامة الحدود، وإقامة الدين ونحو ذلك.

والاستقامة طلب القيام من الشيء واستدعاء ظهور عامة آثاره ومنافعه فاستقامة الطريق اتصافه بما يقصد من الطريق كالاستواء والوضوح وعدم إضلاله من ركبه، واستقامة الإنسان في أمر أن يطلب من نفسه القيام به وإصلاحه بحيث لا يتطرق إليه فساد ولا نقص، ويأتي تاما كاملا، قال تعالى: ﴿قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه﴾ حم السجدة: 6 أي قوموا بحق توحيده في ألوهيته، وقال: ﴿إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا﴾ حم السجدة: 30 أي ثبتوا على ما قالوا في جميع شئون حياتهم لا يركنون في عقائدهم وأخلاقهم وأعمالهم إلا إلى ما يوافق التوحيد ويلائمه أي يراعونه ويحفظونه في عامة ما يواجههم في باطنهم وظاهرهم.

وقال: ﴿فأقم وجهك للدين حنيفا﴾ الروم: 30 فإن المراد بإقامة الوجه إقامة النفس من حيث تستقبل العمل وتواجهه، وإقامة الإنسان نفسه في أمر هي استقامته فيه فافهم.

فقوله: ﴿فاستقم كما أمرت﴾ أي كن ثابتا على الدين موفيا حقه طبق ما أمرت بالاستقامة، وقد أمر به في قوله: ﴿وأن أقم وجهك للدين حنيفا ولا تكونن من المشركين﴿: يونس: 105، وقوله: ﴿فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون﴾ الروم: 30.

قال في روح المعاني، أمر رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالاستقامة مثل الاستقامة التي أمر بها وهذا يقتضي أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) بوحي آخر ولو غير متلو كما قاله غير واحد، والظاهر أن هذا أمر بالدوام على الاستقامة، وهي لزوم المنهج المستقيم وهو المتوسط بين الإفراط والتفريط، وهي كلمة جامعة لكل ما يتعلق بالعلم والعمل وسائر الأخلاق.

أما احتماله أن يكون هناك وحي آخر غير متلو يشير إليه قوله تعالى: ﴿كما أمرت﴾ أي استقم كما أمرت سابقا بالاستقامة فبعيد عن سنة القرآن وحاشا أن يعتمد بالبيان القرآني على أمر مجهول أو أصل مستور غير مذكور، وقد عرفت أن الإشارة بذلك على ما أمره الله به من إقامة وجهه للدين حنيفا، وإقامة الوجه للدين هو الاستقامة في الدين، وقد ورد قوله: ﴿أقم وجهك للدين﴾ - كما عرفت - في سورتين كلتاهما مكيتان، وسورة يونس التي هي إحداهما نازلة قبل هذه السورة قطعا وإن لم يسلم ذلك في السورة الأخرى التي هي سورة الروم.

وأما قوله: إن المراد بقوله: ﴿استقم﴾ الدوام على الاستقامة وهي لزوم المنهج المستقيم المتوسط بين الإفراط والتفريط فقد عرفت أن معنى استقامة الإنسان في أمر ثبوته على حفظه وتوفية حقه بتمامه وكماله، واستقامة الإنسان مطلقا ركوزه وثبوته لما يرد عليه من الوظائف بتمام قواه وأركانه بحيث لا يترك شيئا من قدرته واستطاعته لغى لا أثر له.

ولو كان المراد بالأمر بالاستقامة هو الأمر بلزوم الاعتدال بين الإفراط والتفريط لكان الأنسب أن يردف هذا الأمر بالنهي عن الإفراط والتفريط معا مع أنه تعالى عقبه بقوله: ﴿ولا تطغوا﴾ فنهى عن الإفراط فقط، وهو بمنزلة عطف التفسير لقوله: ﴿فاستقم كما أمرت ومن تاب معك﴾ وهذا أحسن شاهد على أن المراد بقوله: ﴿فاستقم﴾ إلخ الأمر بإظهار الثبات على العبودية ولزوم القيام بحقها، ثم نهى عن تعدي هذا الطور والاستكبار عن الخضوع لله والخروج بذلك عن زي العبودية فقيل: ﴿ولا تطغوا﴾ كما فعل ذلك الأمم الماضية، ولم يكونوا مبتلين إلا بالإفراط دون التفريط والاستكبار دون التذلل.

وقوله: ﴿ومن تاب معك﴾ عطف على الضمير المستكن في ﴿استقم﴾ أي استقم أنت ومن تاب معك أي استقيموا جميعا وإنما أخرج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من بينهم وأفرده بالذكر معهم تشريفا لمقام النبوة، وعلى ذلك تجري سنته تعالى في كلامه كقوله تعالى: ﴿آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون﴾ البقرة: 285 وقوله: ﴿يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه﴾ التحريم: 8.

على أن الأمر الذي تقيد به قوله: ﴿فاستقم﴾ أعني قوله: ﴿كما أمرت﴾ يختص بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا يشاركه فيه غيره فإن ما ذكر من مثل قوله: ﴿فأقم وجهك للدين﴾ إلخ خاص به فلو قيل: فاستقيموا لم يصح تقييده بالأمر السابق.

والمراد بمن تاب مع النبي المؤمنون الذين رجعوا إلى الله بالإيمان وإطلاق التوبة على أصل الإيمان - وهو رجوع من الشرك - كثير الورود في القرآن كقوله تعالى: ﴿ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك﴾ المؤمنون: 7 إلى غير ذلك.

وقوله: ﴿ولا تطغوا﴾ أي لا تتجاوزوا حدكم الذي خطته لكم الفطرة والخلقة وهو العبودية لله وحده كما تجاوزه الذين قبلكم فأفضاهم إلى الشرك وساقهم إلى الهلكة، والظاهر أن الطغيان بهذا المعنى مأخوذ من طغى الماء إذا جاوز حده، ثم استعير لهذا الأمر المعنوي الذي هو طغيان الإنسان في حياته لتشابه الأثر وهو الفساد.

وقوله: ﴿إنه بما تعملون بصير﴾ تعليل لمضمون ما تقدمه، ومعنى الآية اثبت على دين التوحيد والزم طريق العبودية من غير تزلزل وتذبذب، وليثبت الذين آمنوا معك، ولا تتعدوا الحد الذي حد لكم لأن الله بصير بما تعملون فيؤاخذكم لو خالفتم أمره.

وفي الآية الكريمة من لحن التشديد ما لا يخفى فلا يحس فيها بشيء من آثار الرحمة وأمارات الملاطفة وقد تقدمها من الآيات ما يتضمن من حديث مؤاخذة الأمم الماضية والقرون الخالية بأعمالهم واستغناء الله سبحانه عنهم ما تصعق له النفوس وتطير القلوب.

غير ما في قوله: ﴿فاستقم كما أمرت﴾ من أفراد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالذكر وإخراجه من بين المؤمنين تشريفا لمقامه لكن ذلك يفيد بلوغ التشديد في حقه فإن تخصيصه قبلا بالذكر يوجب توجه هول الخطاب وروع التكليم من مقام العزة والكبرياء إليه وحده عدل ما يتوجه إلى جميع الأمة إلى يوم القيامة كما وقع نظير التشديد في قوله تعالى: ﴿ولو لا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف المماة﴾ الإسراء: 75.

ولذلك ذكر أكثر المفسرين أن قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): شيبتني سورة هود ناظر إلى هذه الآية، وسيوافيك الكلام فيه في البحث الروائي الآتي إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: ﴿ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون﴾ قال في الصحاح، ركن إليه كنصر، ركونا: مال وسكن، والركن بالضم الجانب الأقوى.

والأمر العظيم والعز والمنعة انتهى وعن لسان العرب، مثله، وعن المصباح، أن الركون هو الاعتماد على الشيء.

وقال الراغب، ركن الشيء جانبه الذي يسكن إليه، ويستعار للقوة، قال تعالى: ﴿لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد﴾ وركنت إلى فلان أركن بالفتح والصحيح أن يقال: ركن يركن - كنصر - وركن يركن كعلم - قال تعالى: ﴿ولا تركنوا إلى الذين ظلموا﴾ وناقة مركنة الضرع له أركان تعظمه والمركن الإجابة، وأركان العبادات جوانبها التي عليها مبناها، وبتركها بطلانها.

انتهى وهذا قريب مما ذكره في المصباح.

والحق أنه الاعتماد على الشيء عن ميل إليه لا مجرد الاعتماد فحسب ولذلك عدي بإلى لا بعلى وما ذكره أهل اللغة تفسير له بالأعم من معناه على ما هو دأبهم.

فالركون إلى الذين ظلموا هو نوع اعتماد عليهم عن ميل إليهم إما في نفس الدين كأن يذكر بعض حقائقه بحيث ينتفعون به أو يغمض عن بعض حقائقه التي يضرهم إفشاؤها وإما في حياة دينية كان يسمح لهم بنوع من المداخلة في إدارة أمور المجتمع الديني بولاية الأمور العامة أو المودة التي تقضي إلى المخالطة والتأثير في شئون المجتمع أو الفرد الحيوية.

وبالجملة الاقتراب في أمر الدين أو الحياة الدينية من الذين ظلموا بنوع من الاعتماد والاتكاء يخرج الدين أو الحياة الدينية عن الاستقلال في التأثير ويغيرهما عن الوجهة الخالصة، ولازم ذلك السلوك إلى الحق من طريق الباطل أو إحياء حق بإحياء باطل وبالآخرة إماتة الحق لإحيائه.

والدليل على هذا الذي ذكرنا أنه تعالى جمع في خطابه في هذه الآية الذي هو من تتمة الخطاب في الآية السابقة بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبين المؤمنين من أمته، والشئون التي له ولأمته هي المعارف الدينية والأخلاق والسنن الإسلامية في تبليغها وحفظها وإجرائها والحياة الاجتماعية بما يطابقها، وولاية أمور المجتمع الإسلامي، وانتحال الفرد بالدين واستنانه بسنة الحياة الدينية فليس للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا لأمته أن يركنوا في شيء من ذلك إلى الذين ظلموا.

على أن من المعلوم أن هاتين الآيتين كالنتيجة المأخوذة من قصص القرى الظالمة التي أخذهم الله بظلمهم وهما متفرعتان عليها ناظرتان إليها، ولم يكن ظلم هؤلاء الأمم الهالكة في شركهم بالله تعالى وعبادة الأصنام فحسب بل كان مما ذمه الله من فعالهم اتباع الظالمين والفساد في الأرض بعد إصلاحها وهو الاستنان بالسنن الظالمة التي يقيمها الولاة الجائرون، ويستن بها الناس وهم بذلك ظالمون.

ومن المعلوم أيضا من السياق أن الآيتين مترتبتان في غرضهما فالأولى تنهى عن أن يكونوا من أولئك الذين ظلموا، والثانية تنهى أن يقتربوا منهم ويميلوا إليهم ويعتمدوا في حقهم على باطلهم فقوله: ﴿لا تركنوا إلى الذين ظلموا﴾ نهي عن الميل إليهم والاعتماد عليهم والبناء على باطلهم في أمر أصل الدين والحياة الدينية جميعا.

ووقوع الآيتين موقع النتيجة المتفرعة على ما تقدم من القصص المذكورة يفيد أن المراد بالذين ظلموا في الآية ليس من تحقق منه الظلم تحققا ما وإلا لعم جميع الناس إلا أهل العصمة ولم يبق للنهي حينئذ معنى، وليس المراد بالذين ظلموا الظالمين أي المتلبسين بهذا الوصف المستمرين في ظلمهم فإن لإفادة الفعل الدال على مجرد التحقق معنى الصفة الدالة على التلبس والاستمرار أسبابا لا يوجد في المقام منها شيء ولا دلالة لشيء على شيء جزافا.

بل المراد بالذين ظلموا أناس حالهم في الظلم حال أولئك الذين قصهم الله في الآيات السابقة من الأمم الهالكة، وكان الشأن في قصتهم أنه تعالى أخذ الناس جملة واحدة في قبال الدعوة الإلهية المتوجهة إليهم ثم قسمهم إلى من قبلها منهم وإلى من ردها ثم عبر عمن قبلها بالذين آمنوا في بضعة مواضع من القصص المذكورة وعمن ردها بالذين ظلموا وما يقرب منه في أكثر من عشر مواضع كقوله: ﴿ولا تخاطبني في الذين ظلموا﴾ وقوله: ﴿وأخذت الذين ظلموا الصيحة﴾ وقوله: ﴿وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد﴾ وقوله: ﴿ألا إن ثمود كفروا ربهم﴾ وقوله: ﴿ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود﴾ إلى غير ذلك.

فقد عبر سبحانه عن ردهم وقبولهم قبال الدعوة الإلهية وبالقياس إليها بالفعل الماضي الدال على مجرد التحقق والوقوع، وأما في الخارج من مقام القياس والنسبة فإن التعبير بالصفة كقوله: ﴿وقيل بعدا للقوم الظالمين﴾ وقوله: ﴿وما هي من الظالمين﴾ وقوله: ﴿ولا تتولوا مجرمين﴾ إلى غير ذلك وهو كثير.

ومقتضى مقام القياس والنسبة إلى الدعوة قبولا وردا أن يكتفي بمجرد الوقوع والتحقق، ويبين أنهم وسموا بإحدى السمتين: الإيمان أو الظلم، ولا حاجة إلى ذكر الاتصاف والاستمرار بالتلبس فمفاد قوله: ظلموا وعصوا واتبعوا أمر فرعون أنهم وسموا بسمة الظلم والعصيان واتباع أمر فرعون، ومعنى نجينا الذين آمنوا نجينا الذين اتسموا بسمة الإيمان وتعلموا بعلامته.

فكان التعبير بالماضي كافيا في إفادة أصل الاتسام المذكور وإن كان مما يلزمه الاتصاف، وبعبارة أخرى الذين ظلموا من قوم نوح صاروا بذلك ظالمين لكن العناية إنما تعلقت بحسب المقام بتحقق الظلم منهم لا بصيرورته وصفا لهم لا يفارقهم بعد ذلك، ولذا ترى أنه كلما خرج الكلام عن مقام القياس والنسبة بوجه عاد إلى التعبير بالصفة كقوله: ﴿بعدا للقوم الظالمين﴾ وقوله: ﴿ولا تكن مع الكافرين﴾ فافهم ذلك.

ومن هنا يظهر ما في تفسير القوم قوله: ﴿الذين ظلموا﴾ حيث أخذه بعضهم دالا على مجرد تحقق ظلم ما، وآخرون بمعنى الوصف أي لا تركنوا إلى الظالمين، قال صاحب المنار في تفسيره، فسر الزمخشري ﴿الذين ظلموا﴾ بقوله: أي إلى الذين وجد منهم الظلم ولم يقل: إلى الظالمين، وحكى أن الموفق صلى خلف الإمام فقرأ بهذه الآية فغشي عليه فلما أفاق قيل له، فقال؟ هذا فيمن ركن إلى ظلم فكيف بالظالم.

ومعنى هذا أن الوعيد في الآية يشمل من مال ميلا يسيرا إلى من وقع منه ظلم قليل أي ظلم كان، وهذا غلط أيضا وإنما المراد بالذين ظلموا في الآية فريق الظالمين من أعداء المؤمنين الذين يؤذونهم ويفتنونهم عن دينهم من المشركين ليردوهم عنه فهم كالذين كفروا في الآيات الكثيرة التي يراد بها فريق الكافرين لا كل فرد من الناس وقع منه كفر في الماضي وحسبك منه قوله تعالى: ﴿إن الذين كفروا سواء عليهم ء أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون﴾ البقرة: 6، والمخاطبون بالنهي هم المخاطبون في الآية السابقة بقوله: ﴿فاستقم كما أمرت ومن تاب معك﴾.

وقد عبر عن هؤلاء الأعداء المشركين بالذين ظلموا كما عبر عن أقوام الرسل الأولين في قصصهم من هذه السورة به في الآيات 37، 67، 94، وعبر عنهم فيها بالظالمين أيضا كقوله: ﴿وقيل بعدا للقوم الظالمين﴾ فلا فرق في هذه الآيات بين التعبير بالوصف والتعبير بالذي وصلته فإنهما في الكلام عن الأقوام بمعنى واحد.

أما قول صاحب الكشاف: ﴿إن المراد بالذين ظلموا﴾ الذين وجد منهم الظلم ولم يقل: ﴿إلى الظالمين﴾ فهو كذلك لكنه لا ينفعه فإن التعبير بالفعل في ما قررناه من المقام وإن كان لا يفيد أزيد من تحقق المعنى الحدثي ووقوعه لكنه ينطبق على معنى الوصف كما في قوله تعالى: ﴿فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى﴾ النازعات: 41 حيث عبر بالفعل وهو منطبق على معنى الصفة.

وأما قول صاحب المنار: ﴿إنما المراد بالذين ظلموا في الآية فريق الظالمين من أعداء المؤمنين الذين يؤذونهم ويفتنونهم عن دينهم من المشركين ليردوهم عنه﴾ فتحكم محض، وأي دليل يدل على قصور الآية عن الشمول للظالمين من أهل الكتاب وقد ذكرهم الله أخيرا في زمرة الظالمين باختلافهم في كتاب الله بغيا، وقد نهى الله عن ولايتهم وشدد فيه حتى قال: ﴿ومن يتولهم منكم فإنه منهم﴾ المائدة: 51، وقال في ولاية مطلق الكافرين، ﴿ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء﴾ آل عمران: 28.

وأي مانع يمنع الآية أن تشمل الظالمين من هذه الأمة وفيهم من هو أشقى من جبابرة عاد وثمود وأطغى من فرعون وهامان وقارون.

ومجرد كون الإسلام عند نزول السورة مبتلى بقريش ومشركي مكة وحواليها لا يوجب تخصيصا في اللفظ فإن خصوص المورد لا يخصص عموم اللفظ فالآية تنهى عن الركون إلى كل من اتسم بسمة الظلم، أي من كان مشركا أو موحدا مسلما أو من أهل الكتاب.

وأما قوله: إن المراد بقوله: ﴿إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون﴾ المعنى الوصفي وإن كان فعلا أي الكافرون لا كل فرد من الناس وقع من كفر في الماضي.

ففيه أنا بينا في الكلام على تلك الآية وفي مواضع أخرى تقدمت في الكتاب أن الآية خاصة بالكفار من صناديد قريش الذين شاقوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في بادىء أمره حتى كفاه الله إياهم وأفناهم ببدر وغيره، وأنهم المسمون بالذين كفروا.

وليست الآية عامة، ولو كانت الآية عامة وكان المراد بالذين كفروا هم الكافرين كما قاله لم تصدق الآية فيما تخبر به فما أكثر من آمن من الكافرين حتى من كفار مكة بعد نزول هذه الآية.

ولو قيل: إن المراد بهم الذين لم يؤمنوا إلى آخر عمرهم لم تفد الآية شيئا إذ لا معنى لقولنا: إن الكافرين الذين لا يؤمنون إلى آخر عمرهم لا يؤمنون فلا مناص من أخذها آية خاصة غير عامة، وكون المراد بالذين كفروا طائفة خاصة بأعيانهم.

وقد ذكرنا فيما تقدم أن ﴿الذين آمنوا﴾ أيضا فيما لا دليل في المورد يدل على خلافه اسم تشريفي لمن آمن بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في أول دعوته الحقة، وبهم تختص خطابات ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ في القرآن وإن شاركهم غيرهم في الأحكام.

وأما قوله في آخر كلامه: وقد عبر عن هؤلاء الأعداء المشركين بالذين ظلموا كما عبر عن أقوام الرسل الأولين في قصصهم من هذه السورة به وعبر عنهم فيها بالظالمين أيضا فلا فرق بين التعبيرين إلخ ومحصله أن التعبير عنهم تارة بالذين ظلموا وتارة بالظالمين دليل على أن المراد بالكلمتين واحد.

ففيه أنه خفي عليه وجه العناية الكلامية الذي تقدمت الإشارة إليه واتحاد مصداق اللفظتين لا يوجب وحدة العناية المتعلقة بهما.

فالمحصل من مضمون الآية نهي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمته عن الركون إلى من اتسم بسمة الظلم بأن يميلوا إليهم ويعتمدوا على ظلمهم في أمر دينهم أو حياتهم الدينية فهذا هو المراد بقوله: ﴿ولا تركنوا إلى الذين ظلموا﴾.

وقوله: ﴿فتمسكم النار﴾ تفريع على الركون أي عاقبة الركون هو مس النار، وقد جعلت عاقبة الركون إلى ظلم أهل الظلم مس النار وعاقبة نفس الظلم النار، وهذا هو الفرق بين الاقتراب من الظلم والتلبس بالظلم نفسه.

وقوله: ﴿وما لكم من دون الله من أولياء﴾ في موضع الحال من مفعول ﴿فتمسكم﴾ أي تمسكم النار في حال ليس لكم فيها من دون الله من أولياء وهو يوم القيامة الذي يفقد فيه الإنسان جميع أوليائه من دون الله.

أو حال الركون إن كان المراد بالنار العذاب، والمراد بقوله: ﴿ثم لا تنصرون﴾ نفي الشفاعة على الأول والخذلان الإلهي على الثاني.

والتعبير بثم في قوله: ﴿ثم لا تنصرون﴾ للدلالة على اختتام الأمر على ذلك بالخيبة والخذلان كأنه قيل: تمسكم النار وليس لكم إلا الله فتدعونه فلا يجيبكم وتستنصرونه فلا ينصركم فيئول أمركم إلى الخسران والخيبة والخذلان.

وقد تحصل مما تقدم من الأبحاث في الآية أمور:

الأول: أن المنهي عنه في الآية إنما هو الركون إلى أهل الظلم في أمر الدين أو الحياة الدينية كالسكوت في بيان حقائق الدين عن أمور يضرهم أو ترك فعل ما لا يرتضونه أو توليتهم المجتمع وتقليدهم الأمور العامة أو إجراء الأمور الدينية بأيدهم وقوتهم وأشباه ذلك.

وأما الركون والاعتماد عليهم في عشرة أو معاملة من بيع وشرى والثقة بهم وائتمانهم في بعض الأمور فإن ذلك كله غير مشمول للنهي الذي في الآية لأنها ليست بركون في دين أو حياة دينية، وقد وثق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عند ما خرج من مكة ليلا إلى الغار برجل مشرك استأجر منه راحلة للطريق وائتمنه ليوافيه بها في الغار بعد ثلاثة أيام وكان يعامل هو وكذا المسلمون بمرأى ومسمع منه الكفار والمشركين.

الثاني: أن الركون المنهي عنه في الآية أخص من الولاية المنهي عنها في آيات أخرى كثيرة فإن الولاية هي الاقتراب منهم بحيث يجعل المسلمين في معرض التأثر من دينهم أو أخلاقهم أو السنن الظالمة الجارية في مجتمعاتهم وهم أعداء الدين، وأما الركون إليهم فهو بناء الدين أو الحياة الدينية على ظلمهم فهو أخص من الولاية موردا أي أن كل مورد فيه ركون ففيه ولاية من غير عكس كلي، وبروز الأثر في الركون بالفعل وفي الولاية أعم مما يكون بالفعل.

ويظهر من جمع من المفسرين أن الركون المنهي عنه في الآية هو الولاية المنهي عنها في آيات أخر.

قال صاحب المنار في تفسيره، بعد ما نقل عن الزمخشري قوله: إن النهي في الآية متناول للانحطاط في هواهم والانقطاع إليهم ومصاحبتهم ومجالستهم وزيارتهم ومداهنتهم والرضا بأعمالهم، والتشبه بهم والتزيي بزيهم، ومد العين إلى زهرتهم، وذكرهم بما فيه تعظيم لهم، وتأمل قوله: ﴿ولا تركنوا﴾ فإن الركون هو الميل اليسير، وقوله: ﴿إلى الذين ظلموا﴾ أي إلى الذين وجد منهم الظلم، ولم يقل: إلى الظالمين.

أقول: كل ما أدغمه في النهي عن الركون إلى الذين ظلموا قبيح في نفسه لا ينبغي للمؤمن اجتراحه، وقد يكون من لوازم الركون الحقيرة ولكن لا يصح أن يجعل شيء منه تفسيرا للآية مرادا منها، والمخاطب الأول بها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والسابقون الأولون إلى التوبة من الشرك والإيمان معه، ولم يكن أحد منهم مظنة للانقطاع بظلمة المشركين، والانحطاط في هواهم، والرضا بأعمالهم.

إلى آخر ما أطنب فيه.

وقد ناقض فيه نفسه أولا حيث اعترف بكون بعض الأمور المذكورة من لوازم الركون لكنه استحقرها ونفى شمول الآية لها، والمعصية كلها عظيمة لا يستهان بها غير أن أكثر المفسرين هذا دأبهم لا ينقبضون عن نسبة بعض المساهلات إلى بيانه تعالى.

وأفسد من ذلك قوله: إن المخاطب الأول بهذا النهي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والسابقون الأولون ولم يكونوا مظنة للانقطاع إلى ظلمة المشركين والانحطاط في هواهم والرضا بأعمالهم إلخ فإن فيه أولا: أن الخطاب خطاب واحد موجه إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) وإلى أمته، ولا أول فيه ولا ثاني، وتقدم بعض المخاطبين على بعض زمانا لا يوجب قصور الخطاب عن شمول بعض ما في اللاحقين مما ليس في السابقين إذا شمله اللفظ.

وثانيا: أن عدم كون المخاطب مظنة للمعصية لا يمنع من توجيه النهي إليه وخاصة النواهي الصادرة عن مقام التشريع وإنما يمنع عن تأكيده والإلحاح عليه وقد نهى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عما هو أعظم من الركون إلى الذين ظلموا كالشرك بالله وعن ترك تبليغ بعض أوامره ونواهيه، قال تعالى: ﴾ لقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين﴾ الزمر: 65، وقال: ﴿يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته﴾ المائدة: 67، وقال: ﴿يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إن الله كان عليما حكيما واتبع ما يوحى إليك من ربك﴾ الأحزاب: 2 ولا يظن به (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يشرك بربه البتة، ولا أن لا يبلغ ما أنزل إليه من ربه أو يطيع الكافرين والمنافقين أو لا يتبع ما يوحى إليه من ربه إلى غير ذلك من النواهي.

وكذا السابقون الأولون نهوا عن أمور هي أعظم من الركون المذكور أو مثله كقوله: ﴿واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة﴾ نزلت في أهل بدر وفيهم السابقون الأولون وقد وصف بعضهم بقوله: ﴿الذين ظلموا﴾ وهو أشد لحنا من قوله: ﴿ولا تركنوا إلى الذين ظلموا﴾ وكعدة من النواهي الواردة في كلامه في قصص بدر وأحد وحنين، والنواهي الموجهة إلى نساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فكل ذلك مما لم يكن يظن بالسابقين الأولين أن يبتلوا به على أن بعضهم ابتلي ببعضها بعد.

الثالث: أن الآية بما لها من السياق المؤيد بإشعار المقام إنما تنهى عن الركون إلى الذين ظلموا فيما هم فيه ظالمون أي بناء المسلمين دينهم الحق أو حياتهم الدينية على شيء من ظلمهم وهو أن يراعوا في قولهم الحق وعملهم الحق جانب ظلمهم وباطلهم حتى يكون في ذلك إحياء للحق بسبب إحياء الباطل، ومآله إلى إحياء حق بإماتة حق آخر كما تقدمت الإشارة إليه.

وأما الميل إلى شيء من ظلمهم وإدخاله في الدين أو إجراؤه في المجتمع الإسلامي أو في ظرف الحياة الشخصية فليس من الركون إلى الظالمين بل هو دخول في زمرة الظالمين.

وقد اختلط هذا الأمر على كثير من المفسرين فأوردوا في المقام أبحاثا لا تمس الآية أدنى مس، وقد أغمضنا عن إيرادها والبحث في صحتها وسقمها إيثارا للاختصار ومن أراد الوقوف عليها فليراجع تفاسيرهم.

قوله تعالى: ﴿وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات﴾ إلخ، طرفا النهار هو الصباح والمساء والزلف جمع زلفى كقرب جمع قربى لفظا ومعنى على ما قيل، وهو وصف ساد مسد موصوفه كالساعات ونحوها، والتقدير وساعات من الليل أقرب من النهار.

والمعنى أقم الصلاة في الصباح والمساء وفي ساعات من الليل هي أقرب من النهار، وينطبق من الصلوات الخمس اليومية على صلاة الصبح والعصر وهي صلاة المساء والمغرب والعشاء الآخرة، وقتهما زلف من الليل كما قاله بعضهم، أو على الصبح والمغرب ووقتهما طرفا النهار والعشاء الآخرة ووقتها زلف من الليل كما قاله آخرون، وقيل غير ذلك.

لكن البحث لما كان فقهيا كان المتبع فيه ما ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمة أهل بيته (عليهم السلام) من البيان، وسيجيء في البحث الروائي الآتي إن شاء الله تعالى.

وقوله: ﴿إن الحسنات يذهبن السيئات﴾ تعليل لقوله: ﴿وأقم الصلاة﴾ وبيان أن الصلوات حسنات واردة على نفوس المؤمنين تذهب بآثار المعاصي وهي ما تعتريها من السيئات، وقد تقدم كلام في هذا الباب في مسألة الحبط في الجزء الثاني من هذا الكتاب.

وقوله: ﴿ذلك ذكرى للذاكرين﴾ أي هذا الذي ذكر وهو أن الحسنات يذهبن السيئات على رفعة قدرة تذكار للمتلبسين بذكر الله تعالى من عباده.

قوله تعالى: ﴿واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين﴾ ثم أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) بالصبر بعد ما أمره بالصلاة كما جمع بينهما في قوله: ﴿واستعينوا بالصبر والصلاة﴾ البقرة: 45 وذلك أن كلا منهما في بابه من أعظم الأركان أعني الصلاة في العبادات، والصبر في الأخلاق وقد قال تعالى في الصلاة: ﴿ولذكر الله أكبر﴾ العنكبوت: 45 وقال في الصبر: ﴿إن ذلك لمن عزم الأمور﴾ الشورى: 43.

واجتماعهما أحسن وسيلة يستعان بها على النوائب والمكاره فالصبر يحفظ النفس عن القلق والجزع والانهزام، والصلاة توجهها إلى ناحية الرب تعالى فتنسى ما تلقاه من المكاره، وقد تقدم بيان في ذلك في تفسير الآية 45 من سورة البقرة في الجزء الأول من الكتاب.

وإطلاق الأمر بالصبر يعطي أن المراد به الأعم من الصبر على العبادة والصبر عن المعصية والصبر عند النائبة، وعلى هذا يكون أمرا بالصبر على جميع ما تقدم من الأوامر والنواهي أعني قوله: ﴿فاستقم﴾ ﴿ولا تطغوا﴾ ﴿ولا تركنوا﴾ ﴿وأقم الصلاة﴾.

لكن أفراد الأمر وتخصيصه بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يفيد أنه صبر في أمر يختص به وإلا قيل: و﴿اصبروا﴾ جريا على السياق، وهذا يؤيد قول من قال: إن المراد اصبر على أذى قومك في طريق دعوتك إلى الله سبحانه وظلم الظالمين منهم، وأما قوله: ﴿وأقم الصلاة﴾ فإنه ليس أمرا بما يخصه (صلى الله عليه وآله وسلم) من الصلاة بل أمر بإقامته الصلاة بمن تبعه من المؤمنين جماعة فهو أمر لهم جميعا بالصلاة فافهم ذلك.

وقوله: ﴿فإن الله لا يضيع أجر المحسنين﴾ تعليل للأمر بالصبر.

قوله تعالى: ﴿فلو لا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض﴾ إلخ لو لا بمعنى هلا وإلا يفيد التعجيب والتوبيخ، والمعنى هلا كان من القرون التي كانت من قبلكم وقد أفنيناها بالعذاب والهلاك أولوا بقية أي قوم باقون ينهون عن الفساد في الأرض ليصلحوا بذلك فيها ويحفظوا أمتهم من الاستئصال.

وقوله: ﴿إلا قليلا ممن أنجينا منهم﴾ استثناء من معنى النفي في الجملة السابقة فإن المعنى: من العجب أنه لم يكن من القرون الماضية مع ما رأوا من آيات الله وشاهدوا من عذابه بقايا ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا من العذاب والهلاك منهم فإنهم كانوا ينهون عن الفساد.

وقوله: ﴿واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين﴾ بيان حال الباقي منهم بعد الاستثناء وهم أكثرهم وعرفهم بأنهم الذين ظلموا وبين أنهم اتبعوا لذائذ الدنيا التي أترفوا فيها وكانوا مجرمين.

وقد تحصل بهذا الاستثناء وهذا الباقي الذي ذكر حالهم تقسيم الناس إلى صنفين مختلفين: الناجون بإنجاء الله والمجرمون ولذلك عقبه بقوله: ﴿ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك﴾.

قوله تعالى: ﴿وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون﴾ أي لم يكن من سنته تعالى إهلاك القرى التي أهلها مصلحون لأن ذلك ظلم ولا يظلم ربك أحدا فقوله: ﴿بظلم﴾ قيد توضيحي لا احترازي، ويفيد أن سنته تعالى عدم إهلاك القرى المصلحة لكونه من الظلم ﴿وما ربك بظلام للعبيد﴾.

قوله تعالى: ﴿ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك - إلى قوله - أجمعين﴾ الخلف خلاف القدام وهو الأصل فيما اشتق من هذه المادة من المشتقات يقال: خلف أباه أي سد مسده لوقوعه بعده، وأخلف وعده أي لم يف به كأنه جعله خلفه، ومات وخلف ابنا أي تركه خلفه، واستخلف فلانا أي طلب منه أن ينوب عنه بعد غيبته أو موته أو بنوع من العناية كاستخلاف الله تعالى آدم وذريته في الأرض، وخالف فلان فلانا وتخالفا إذا تفرقا في رأي أو عمل كأن كلا منهما يجعل الآخر خلفه، وتخلف عن أمره إذا أدبر ولم يأتمر به، واختلف القوم في كذا إذا خالف بعضهم بعضا فيه فجعله خلفه، واختلف القوم إلى فلان إذا دخلوا عليه واحدا بعد واحد، واختلف فلان إلى فلان إذا دخل عليه مرات كل واحدة بعد أخرى.

ثم الاختلاف ويقابله الاتفاق من الأمور التي لا يرتضيها الطبع السليم لما فيه من تشتيت القوى وتضعيفها وآثار أخرى غير محمودة من نزاع ومشاجرة وجدال وقتال وشقاق كل ذلك يذهب بالأمن والسلام غير أن نوعا منه لا مناص منه في العالم الإنساني وهو الاختلاف من حيث الطبائع المنتهية إلى اختلاف البنى فإن التركيبات البدنية مختلفة في الأفراد وهو يؤدي إلى اختلاف الاستعدادات البدنية والروحية وبانضمام اختلاف الأجواء والظروف إلى ذلك يظهر اختلاف السلائق والسنن والآداب والمقاصد والأعمال النوعية والشخصية في المجتمعات الإنسانية، وقد أوضحت الأبحاث الاجتماعية أن لو لا ذلك لم يعش المجتمع الإنساني ولا طرفة عين.

وقد ذكره الله تعالى في كتابه ونسبه إلى نفسه حيث قال: ﴿نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا﴾ الزخرف: 32.

ولم يذمه تعالى في شيء من كلامه إلا إذا صحب هوى النفس وخالف هدى العقل.

وليس منه الاختلاف في الدين فإن الله سبحانه يذكر أنه فطر الناس على معرفته وتوحيده وسوى نفس الإنسان فألهمها فجورها وتقواها، وأن الدين الحنيف هو من الفطرة التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله، ولذلك نسب الاختلاف في الدين في مواضع من كلامه إلى بغي المختلفين فيه وظلمهم ﴿فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم﴾.

وقد جمع الله الاختلافين في قوله: ﴿كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه - وهذا هو الاختلاف الأول في الحياة والمعيشة - وما اختلف فيه - وهذا هو الاختلاف الثاني في الدين - إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه﴾ البقرة: 213 فهذا ما يعطيه كلامه تعالى في معنى الاختلاف.

والذي ذكره بقوله: ﴿ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة﴾ يريد به رفع الاختلاف من بينهم وتوحيدهم على كلمة واحدة يتفقون فيه، ومن المعلوم أنه ناظر إلى ما ذكره تعالى في الآيات السابقة على هذه الآية من اختلافهم في أمر الدين وانقسامهم إلى طائفة أنجاهم الله وهم قليل وطائفة أخرى وهم الذين ظلموا.

فالمعنى أنهم وإن اختلفوا في الدين فإنهم لم يعجزوا الله بذلك ولو شاء الله لجعل الناس أمة واحدة لا يختلفون في الدين فهو نظير قوله: ﴿وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين﴾ النحل: 9 وقوله: ﴿أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا﴾ الرعد: 31.

وعلى هذا فقوله: ﴿ولا يزالون مختلفين﴾ إنما يعني به الاختلاف في الدين فحسب فإن ذلك هو الذي يذكر لنا أن لو شاء لرفعه من بينهم، والكلام في تقدير: لو شاء الله لرفع الاختلاف من بينهم لكنه لم يشأ ذلك فهم مختلفون دائما.

على أن قوله: ﴿إلا من رحم ربك﴾ يصرح أنه رفعه عن طائفة رحمهم، والاختلاف في غير الدين لم يرفعه الله تعالى حتى عن الطائفة المرحومة، وإنما رفع عنهم الاختلاف الديني الذي يذمه وينسبه إلى البغي بعد العلم بالحق.

وقوله: ﴿إلا من رحم ربك﴾ استثناء من قوله: ﴿ولا يزالون مختلفين﴾ أي الناس يخالف بعضهم بعضا في الحق أبدا إلا الذين رحمهم الله فإنهم لا يختلفون في الحق ولا يتفرقون عنه، والرحمة هي الهداية الإلهية كما يفيده قوله: ﴿فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه﴾ البقرة: 213.

فإن قلت: معنى اختلاف الناس أن يقابل بعضهم بعضا بالنفي والإثبات فيصير معنى قوله: ﴿ولا يزالون مختلفين﴾ أنهم منقسمون دائما إلى محق ومبطل، ولا يصح حينئذ ورود الاستثناء عليه إلا بحسب الأزمان دون الأفراد وذلك أن انضمام قوله: ﴿إلا من رحم ربك﴾ إليه يئول المعنى إلى مثل قولنا: إنهم منقسمون دائما إلى مبطلين ومحقين إلا من رحم ربك منهم فإنهم لا ينقسمون إلى قسمين، بل يكونون محقين فقط، ومن المعلوم أن المستثنين منهم هم المحقون فيرجع معنى الكلام إلى مثل قولنا: إن منهم مبطلين ومحقين والمحقون محقون لا مبطل فيهم، وهذا كلام لا فائدة فيه.

على أنه لا معنى لاستثناء المحقين من حكم الاختلاف أصلا وهم من الناس المختلفين، والاختلاف قائم بهم وبالمبطلين معا.

قلت: الاختلاف المذكور في هذه الآية وسائر الآيات المتعرضة له الذامة لأهله إنما هو الاختلاف في الحق ومخالفة البعض للبعض في الحق وإن كانت توجب كون بعض منهم على الحق وعلى بصيرة من الأمر لكنه إذا نسب إلى المجموع وهو المجتمع كان لازمه ارتياب المجتمع وتفرقهم عن الحق وعدم اجتماعهم عليه وتركهم إياه بحياله، ومقتضاه اختفاء الحق عنهم وارتيابهم فيه.

والله سبحانه إنما يذم الاختلاف من جهة لازمة هذا وهو التفرق والإعراض عن الحق والآيات تشهد بذلك فإنه تعالى يذم فيها جميع المختلفين باختلافهم لا المبطلين من بينهم فلو لا أن المراد بالمختلفين أهل الآراء أو الأعمال المختلفة التي تفرقهم عن الحق لم يصح ذلك.

ومن أحسن ما يؤيده قوله تعالى: ﴿شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه﴾ الشورى: 13 حيث عبر عن الاختلاف بالتفرق، وكذا قوله: ﴿وإن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله﴾ الأنعام: 153 وهذا أوضح دلالة من سابقه فإنه يجعل أهل الحق الملازمين لسبيله خارجا من أهل التفرق والاختلاف.

ولذلك ترى أنه سبحانه في غالب ما يذكر اختلافهم في الكتاب يردفه بارتيابهم فيه كقوله فيما مرت من الآيات: ﴿ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولو لا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب﴾ آية: 110 من السورة وقد كرر هذا المعنى في مواضع من كلامه.

وقال تعالى: ﴿عم يتساءلون عن النبإ العظيم الذي هم فيه مختلفون﴾ النبأ: 3 أي يأتي فيه كل بقول يبعدهم من الحق فيتفرقون وقال: ﴿إنكم لفي قول مختلف يؤفك عنه من أفك قتل الخراصون﴾ الذاريات: 10 أي قول لا يقف على وجه ولا يبتني على علم بل الخرص والظن هو الذي أوجده فيكم.

وفي هذا المعنى قوله تعالى: ﴿يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون﴾ آل عمران: 71 فإن هذا اللبس المذموم منهم إنما كان بإظهار قول يشبه الحق وليس به وهو إلقاء التفرق الذي يختفي به الحق.

فالمراد باختلافهم إيجادهم أقوالا وآراء يتفرقون بها عن الحق ويظهر بها الريب فهم لاتباعهم أهواءهم المخالفة للحق يظهرون آراءهم الباطلة في صور متفرقة تضاهي صورة الحق ليحجبوه عن أفهام الناس بغيا وعدوانا بعد علمهم بالحق فهو اختلافهم في الحق بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم.

ويتبين بما تقدم على طوله أن الإشارة بقوله: ﴿ولذلك خلقهم﴾ إلى الرحمة المدلول عليه بقوله: ﴿إلا من رحم ربك﴾ والتأنيث اللفظي في لفظ الرحمة لا ينافي تذكير اسم الإشارة لأن المصدر جائز الوجهين، قال تعالى: ﴿إن رحمة الله قريب من المحسنين﴾ الأعراف: 56 وذلك لأنك عرفت أن هذا الاختلاف بغي منهم يفرقهم عن الحق ويستره ويظهر الباطل ولا يجوز كون الباطل غاية حقيقية للحق تعالى في خلقه، ولا معنى لأن يوجد الله سبحانه العالم الإنساني ليبغوا ويميتوا الحق ويحيوا الباطل فيهلكهم ثم يعذبهم بنار خالدة، فالقرآن الكريم يدفع هذا بجميع بياناته.

على أن سياق الآيات - مع الغض عما ذكر - يدفع ذلك فإنها في مقام بيان أن الله تعالى يدعو الناس برأفته ورحمته إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم من غير أن يريد بهم ظلما ولا شرا، ولكنهم بظلمهم واختلافهم في الحق يستنكفون عن دعوته، ويكذبون بآياته، ويعبدون غيره، ويفسدون في الأرض فيستحقون العذاب، وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون، ولا أن يخلقهم ليبغوا ويفسدوا فيهلكهم فالذي منه هو الرحمة والهداية، والذي من بغيهم واختلافهم وظلمهم يرجع إليهم أنفسهم، وهذا هو الذي يعطيه سياق الآيات.

وكون الرحمة أعني الهداية غاية مقصودة في الخلقة إنما هو لاتصالها بما هو الغاية الأخيرة وهو السعادة كما في قوله حكاية عن أهل الجنة: ﴿وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا﴾ الأعراف: 43 وهذا نظير عد العبادة غاية لها لاتصالها بالسعادة في قوله: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون﴾ الذاريات: 56.

وقوله: ﴿وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين﴾ أي حقت كلمته تعالى وأخذت مصداقها منهم بما ظلموا واختلفوا في الحق من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم، والكلمة هي قوله: ﴿لأملأن جهنم﴾ إلخ.

والآية نظيره قوله: ﴿ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين﴾ الم السجدة: 13 والأصل في هذه الكلمة ما ألقاه الله تعالى إلى إبليس لعنه الله إذ قال: ﴿فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين قال فالحق والحق أقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين﴾ ص: 85 والآيات متحدة المضمون يفسر بعضها بعضا.

هذه جملة ما يعطيه التدبر في معنى الآيتين وقد تلخص بذلك: أولا أن المراد بقوله: ﴿ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة﴾ توحيدهم برفع التفرق والخلاف من بينهم وقيل: إن المراد هو الإلجاء إلى الإسلام ورفع الاختيار لكنه ينافي التكليف ولذلك لم يفعل ونسب إلى قتادة، وقيل: المعنى لو شاء لجمعكم في الجنة لكنه أراد بكم أعلى الدرجتين لتدخلوه بالاكتساب ثوابا لأعمالكم، ونسب إلى أبي مسلم.

وأنت خبير بأن سياق الآيات لا يساعد على شيء من المعنيين.

وثانيا: أن المراد بقوله: ﴿ولا يزالون مختلفين﴾ دوامهم على الاختلاف في الدين ومعناه التفرق عن الحق وستره بتصويره في صور متفرقة باطلة تشبه الحق.

وقال بعضهم: هو الاختلاف في الأرزاق والأحوال وبالجملة الاختلاف غير الديني ونسب إلى الحسن.

وقد عرفت أنه أجنبي من سياق الآيات السابقة.

وقال آخرون: إن معنى ﴿مختلفين﴾ يخلف بعضهم بعضا في تقليد أسلافهم وتعاطي باطلهم، وهو كسابقه أجنبي من مساق الآيات وفيها قوله: ﴿ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه﴾ الآية.

وثالثا: أن المراد بقوله: ﴿إلا من رحم﴾ إلا من هداه الله من المؤمنين.

ورابعا: أن الإشارة بقوله: ﴿ولذلك خلقهم﴾ إلى الرحمة وهي الغاية التي أرادها الله من خلقه ليسعدوا بذلك سعادتهم.

وذكر بعضهم أن المعنى خلقهم للاختلاف ونسب إلى الحسن وعطاء.

وقد عرفت أنه سخيف ردي جدا نعم لو جاز عود ضمير ﴿خلقهم﴾ إلى الباقي من الناس بعد الاستثناء جاز عد الاختلاف غاية لخلقهم وكانت الآية قريبة المضمون من قوله: ﴿ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس﴾ الأعراف: 179.

وذكر آخرون: أن الإشارة إلى مجموع ما يدل عليه الكلام من مشيته تعالى في خلقهم مستعدين للاختلاف والتفرق في علومهم ومعارفهم وآرائهم وشعورهم وما يتبع ذلك من إرادتهم واختيارهم في أعمالهم ومن ذلك الدين والإيمان والطاعة والعصيان، وبالجملة الغاية هو مطلق الاختلاف أعم مما في الدين أو في غيره.

ونسب إلى ابن عباس بناء على ما روي عنه أنه قال: خلقهم فريقين فريقا يرحم فلا يختلف، وفريقا لا يرحم فيختلف، وإلى مالك بن أنس إذ قال في معنى الآية: خلقهم ليكون فريق في الجنة وفريق في السعير، وقد عرفت ما فيه من وجوه السخافة فلا نطيل بالإعادة.

وخامسا: أن المراد بتمام الكلمة هو تحققها وأخذها مصداقها.

بحث روائي:

في تفسير القمي، في قوله تعالى: ﴿وإن كلا لما ليوفينهم ربك﴾ قال: قال (عليه السلام): في القيامة.

وفي الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن قال: لما نزلت هذه الآية: ﴿فاستقم كما أمرت ومن تاب معك﴾ قال: شمروا شمروا فما رؤي ضاحكا.

وفي المجمع، في قوله تعالى: ﴿فاستقم كما أمرت﴾ الآية قال ابن عباس: ما نزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) آية كانت أشد عليه ولا أشق من هذه الآية، ولذلك قال لأصحابه حين قالوا له: أسرع إليك الشيب يا رسول الله. شيبتني هود والواقعة.

أقول: والحديث مشهور في بعض الألفاظ شيبتني هود وأخواتها، وعدم اشتمال الواقعة على ما يناظر قوله: ﴿فاستقم كما أمرت﴾ يبعد أن تكون إليه الإشارة في الحديث، والمشترك فيه بين السورتين حديث القيامة والله أعلم.

وفي تفسير القمي، في قوله تعالى: ﴿ولا تركنوا﴾ الآية قال: قال (عليه السلام): ركون مودة ونصيحة وطاعة. أقول: ورواه أيضا في المجمع، مرسلا عنهم (عليهم السلام).

وفي تفسير العياشي، عن عثمان بن عيسى عن رجل عن أبي عبد الله (عليه السلام): ﴿ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار﴾ قال: أما إنه لم يجعلها خلودا ولكن ﴿تمسكم النار﴾ فلا تركنوا إليهم.

أقول: أي ولكن قال: تمسكم النار فجعله مسا.

وفيه، عن جرير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ﴿أقم الصلاة طرفي النهار﴾ وطرفاه المغرب والغداة ﴿وزلفا من الليل﴾ وهي صلاة العشاء الآخرة.

وفي التهذيب، بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): في حديث في الصلوات الخمس اليومية: وقال تعالى في ذلك ﴿أقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل﴾ وهي صلاة العشاء الآخرة.

أقول: الحديث لا يخلو من ظهور في تفسير طرفي النهار بما قبل الظهر وما بعدها ليشمل أوقات الخمس.

وفي المعاني، بإسناده عن إبراهيم بن عمر عمن حدثه عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز وجل: ﴿إن الحسنات يذهبن السيئات﴾ قال: صلاة المؤمن بالليل تذهب بما عمل من ذنب النهار. أقول: والحديث مروي في الكافي، وتفسير العياشي، وأمالي المفيد، وأمالي الشيخ، وفي المجمع، عن الواحدي بإسناده عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي عثمان قال: كنت مع سلمان تحت شجرة فأخذ غصنا يابسا منها فهزه حتى تحات ورقه ثم قال: يا أبا عثمان ألا تسألني لم أفعل هذا؟ قلت: ولم تفعله قال هكذا فعله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنا معه تحت شجرة فأخذ منها غصنا يابسا فهزه حتى تحات ورقه، ثم قال: ألا تسألني يا سلمان لم أفعل هذا؟ قلت: ولم فعلته؟ قال: إن المسلم إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم صلى الصلوات الخمس تحاتت خطاياه كما تحات هذا الورق. ثم قرأ هذه الآية: وأقم الصلاة إلى آخرها.

أقول: ورواه في الدر المنثور، عن الطيالسي وأحمد والدارمي وابن جرير والطبراني والبغوي في معجمه، وابن مردويه غير مسلسل.

وفيه، عنه بإسناده عن الحارث عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: كنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في المسجد ننتظر الصلاة فقام رجل فقال: يا رسول الله إني أصبت ذنبا، فأعرض عنه فلما قضى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الصلاة قام الرجل فأعاد القول فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أ ليس قد صليت معنا هذه الصلاة وأحسنت لها الطهور؟ قال: بلى. قال: فإنها كفارة ذنبك:. أقول: والرواية مروية بطرق كثيرة عن ابن مسعود وأبي أمامة ومعاذ بن جبل وابن عباس وبريدة وواثلة بن الأسقع وأنس وغيرهم وفي سرد القصة اختلاف ما في ألفاظهم، ورواه الترمذي وغيره عن أبي اليسر وهو صاحب القصة.

وفي تفسير العياشي، عن أبي حمزة الثمالي قال: سمعت أحدهما (عليهما السلام) يقول: إن عليا (عليه السلام) أقبل على الناس فقال: أي آية في كتاب الله أرجى عندكم؟ فقال بعضهم: ﴿إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء﴾ قال: حسنة وليست إياها. فقال بعضهم: ﴿يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم - لا تقنطوا من رحمة الله﴾ قال: حسنة وليست إياها. وقال بعضهم: ﴿والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم - ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم﴾ قال: حسنة وليست إياها. قال: ثم أحجم الناس فقال: ما لكم يا معشر المسلمين؟ قالوا: لا والله ما عندنا شيء. قال سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: أرجى آية في كتاب الله: ﴿وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل﴾ وقرأ الآية كلها، وقال: يا علي والذي بعثني بالحق بشيرا ونذيرا إن أحدكم ليقوم إلى وضوئه فتساقط من جوارحه الذنوب فإذا استقبل بوجهه وقلبه لم ينفتل عن صلاته وعليه من ذنوبه شيء كما ولدته أمه فإذا أصاب شيئا بين الصلاتين كان له مثل ذلك حتى عد الصلوات الخمس. ثم قال: يا علي إنما منزلة الصلوات الخمس لأمتي كنهر جار على باب أحدكم فما ظن أحدكم لو كان في جسده درن ثم اغتسل في ذلك النهر خمس مرات في اليوم؟ أكان يبقى في جسده درن؟ فكذلك والله الصلوات الخمس لأمتي. أقول: وقد روي المثل المذكور في آخر الحديث من طرق أهل السنة عن عدة من الصحابة كأبي هريرة وأنس وجابر وأبي سعيد الخدري عنه (صلى الله عليه وآله وسلم).

وفيه، عن إبراهيم الكرخي قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فدخل عليه رجل من أهل المدينة فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): يا فلان من أين جئت؟ قال: ولم يقل في جوابه، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): جئت من هنا وهاهنا. انظر بما تقطع به يومك فإن معك ملكا موكلا يحفظ ويكتب ما تعمل فلا تحتقر سيئة وإن كانت صغيرة فإنها ستسوؤك يوما، ولا تحتقر حسنة فإنه ليس شيء أشد طلبا من الحسنة أنها تدرك الذنب العظيم القديم فتحذفه وتسقطه وتذهب به بعدك، وذلك قول الله ﴿إن الحسنات يذهبن السيئات - ذلك ذكرى للذاكرين﴾ وفيه، عن سماعة بن مهران قال: سأل أبا عبد الله (عليه السلام) رجل من أهل الجبال عن رجل أصاب مالا من أعمال السلطان فهو يتصدق منه ويصل قرابته ويحج ليغفر له ما اكتسب، وهو يقول: إن الحسنات يذهبن السيئات. فقال أبو عبد الله (عليه السلام): إن الخطيئة لا تكفر الخطيئة ولكن الحسنة تكفر الخطيئة. ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن خلط الحلال حراما فاختلطا جميعا فلم يعرف الحلال من الحرام فلا بأس.

وفي الدر المنثور، أخرج أحمد والطبراني عن أبي أمامة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما من امرىء مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيقوم فيتوضأ فيحسن الوضوء ويصلي فيحسن الصلاة إلا غفرت له ما بينها وبين الصلاة التي كانت قبلها من ذنوبه.

أقول: والروايات في هذا الباب كثيرة من أراد استقصاءها فليراجع جوامع الحديث.

وفيه، أخرج الطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه والديلمي عن جرير قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يسأل عن تفسير هذه الآية: ﴿وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون﴾ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): وأهلها ينصف بعضهم بعضا.

وفي الكافي، بإسناده عن عبد الله بن سنان قال: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن قول الله تعالى: ﴿ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين - إلا من رحم ربك﴾ فقال: كانوا أمة واحدة فبعث الله النبيين ليتخذ علهيم الحجة.

أقول: ورواه الصدوق في المعاني، عنه (عليه السلام) مثله.

وفي المعاني، بإسناده عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون﴾ قال: خلقهم ليأمرهم بالعبادة، قال: وسألته عن قوله عز وجل: ﴿ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم﴾ قال: خلقهم ليفعلوا ما يستوجبون به رحمته فيرحمهم.

وفي تفسير القمي، عن أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ﴿ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك﴾ يعني آل محمد وأتباعهم يقول الله ﴿ولذلك خلقهم﴾ يعني أهل الرحمة لا يختلفون في الدين.

وفي تفسير العياشي، عن يعقوب بن سعيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون﴾ قال: خلقهم للعبادة. قال: قلت: قوله: ﴿ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم﴾ قال: نزلت هذه بعد تلك.

أقول: يشير إلى كون الآية الثانية أعني قوله: ﴿إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم﴾ لكونها خاصة ناسخة للآية الأولى العامة، وقد تقدم في الكلام على النسخ أنه في عرفهم (عليهم السلام) أعم مما اصطلح عليه علماء الأصول، والآيات الخاصة التكوينية ظاهرة في حكمها على الآيات العامة فإن العوامل والأسباب الخاصة أنفذ حكما من العامة فافهمه.