الآيات 50 - 60

وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ ﴿50﴾ يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴿51﴾ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ ﴿52﴾ قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ﴿53﴾ إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ﴿54﴾ مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ ﴿55﴾ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴿56﴾ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ﴿57﴾ وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ﴿58﴾ وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ﴿59﴾ وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ ﴿60﴾

بيان:

تذكر الآيات قصة هود النبي وقومه وهم عاد الأولى، وهو (عليه السلام) أول نبي يذكره الله تعالى في كتابه بعد نوح (عليه السلام)، ويشكر مسعاه في إقامة الدعوة الحقة والانتهاض على الوثنية، ويعقب ذكر قوم نوح بذكر قوم هود، قال تعالى في عدة مواضع من كلامه: ﴿قوم نوح وعاد وثمود﴾.

قوله تعالى: ﴿وإلى عاد أخاهم هودا﴾ كان أخاهم في النسب لكونه منهم وأفراد القبيلة يسمون إخوة لانتسابهم جميعا إلى أب القبيلة، والجملة معطوفة على قوله تعالى سابقا: ﴿نوحا إلى قومه﴾ والتقدير: ﴿ولقد أرسلنا إلى عاد أخاهم هودا﴾ ولعل حذف الفعل هو الموجب لتقديم الظرف على المفعول في المعطوف على خلاف المعطوف عليه حيث قيل: ﴿وإلى عاد أخاهم﴾ إلخ، ولم يقل: وهودا إلى عاد مثلا كما قال: ﴿نوحا إلى قومه﴾ لأن دلالة الظرف أعني: ﴿إلى عاد﴾ على تقدير الإرسال أظهر وأوضح.

قوله تعالى: ﴿قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون﴾ الكلام وارد مورد الجواب كان السامع لما سمع قوله: ﴿وإلى عاد أخاهم هودا﴾ قال: فما ذا قال لهم؟ فقيل: ﴿قال يا قوم اعبدوا الله﴾ إلخ، ولذا جيء بالفصل من غير عطف.

وقوله: ﴿اعبدوا الله﴾ في مقام الحصر أي اعبدوه ولا تعبدوا غيره من آلهة اتخذتموها أربابا من دون الله تعبدونها لتكون لكم شفعاء عند الله من غير أن تعبدوه تعالى.

والدليل على الحصر المذكور قوله بعد: ﴿ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون﴾ حيث يدل على أنهم كانوا قد اتخذوا آلهة يعبدونها افتراء على الله بالشركة والشفاعة.

قوله تعالى: ﴿يا قوم لا أسألكم عليه أجرا﴾ إلى آخر الآية، قال في المجمع، الفطر الشق عن أمر الله كما ينفطر الورق عن الشجر، ومنه فطر الله الخلق لأنه بمنزلة ما شق منه فظهر.

انتهى، وقال الراغب: أصل الفطر الشق طولا يقال: فطر فلان كذا فطرا وأفطر هو فطورا وانفطر انفطارا - إلى أن قال - وفطر الله الخلق وهو إيجاد الشيء وإبداعه على هيئة مترشحة لفعل من الأفعال فقوله: فطرة الله التي فطر الناس عليها إشارة منه تعالى إلى ما فطر أي أبدع وركز في الناس من معرفته، وفطرة الله هي ما ركز فيه من قوته على معرفة الإيمان وهو المشار إليه بقوله: ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله.

والظاهر أن الفطر هو الإيجاد عن عدم بحت، والخصوصية المفهومة من مثل قوله: ﴿فطرة الله التي فطر الناس عليها﴾ إنما نشأت من بناء النوع الذي تشتمل عليه فطرة وهي فعلة، وعلى هذا فتفسير بعضهم الفطرة بالخلقة بعيد من الصواب، وإنما الخلق هو إيجاد الصورة عن مادة على طريق جمع الأجزاء، قال تعالى: ﴿وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير﴾ المائدة: 110.

والكلام مسوق لرفع التهمة والعبث والمعنى يا قوم لا أسألكم على ما أدعوكم أجرا وجزاء حتى تتهموني أني أستدر به نفعا يعود إلي وإن أضر بكم، ولست أدعوكم من غير جزاء مطلوب حتى يكون عبثا من الفعل بل إنما أطلب به جزاء من الله الذي أوجدني وأبدعني أفلا تعقلون عني ما أقوله لكم حتى يتضح لكم أني ناصح لكم في دعوتي، ما أريد إلا أن أحملكم على الحق.

قوله تعالى: ﴿ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا﴾ إلى آخر الآية تقدم الكلام في معنى قوله: ﴿استغفروا ربكم ثم توبوا إليه﴾ في صدر السورة.

وقوله: ﴿يرسل السماء عليكم مدرارا﴾ في موقع الجزاء لقوله: ﴿استغفروا ربكم﴾ إلخ، أي إن تستغفروه وتتوبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا، والمراد بالسماء السحاب فإن كل ما علا وأظل فهو سماء، وقيل المطر وهو شائع في الاستعمال، والمدرار مبالغة من الدر، وأصل الدر اللبن ثم استعير للمطر ولكل فائدة ونفع فإرسال السماء مدرارا إرسال سحب تمطر أمطارا متتابعة نافعة تحيى بها الأرض وينبت الزرع والعشب، وتنضر بها الجنات والبساتين.

وقوله: ﴿ويزدكم قوة إلى قوتكم﴾ قيل المراد بها زيادة قوة الإيمان على قوة الأبدان وقد كان القوم أولي قوة وشدة في أبدانهم ولو أنهم آمنوا انضافت قوة الإيمان على قوة أبدانهم وقيل المراد بها قوة الأبدان كما قال نوح لقومه: ﴿استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين﴾ نوح: 12 ولعل التعميم أولى.

وقوله: ﴿ولا تتولوا مجرمين﴾ بمنزلة التفسير لقوله: ﴿استغفروا ربكم ثم توبوا إليه﴾ أي إن عبادتكم لما اتخذتموه من الآلهة دون الله إجرام منكم ومعصية توجب نزول السخط الإلهي عليكم فاستغفروا الله من إجرامكم وارجعوا إليه بالإيمان حتى يرحمكم بإرسال سحب هاطلة ممطرة وزيادة قوة إلى قوتكم.

وفي الآية ﴿أولا﴾ إشعار أو دلالة على أنهم كانوا مبتلين بإمساك السماء والجدب والسنة كما ربما أومأ إليه قوله: ﴿يرسل السماء﴾ وكذا قولهم على ما حكاه الله تعالى في موضع آخر: ﴿فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم﴾ الأحقاف: 24.

وثانيا: أن هناك ارتباطا تاما بين الأعمال الإنسانية وبين الحوادث الكونية التي تمسه فالأعمال الصالحة توجب فيضان الخيرات ونزول البركات، والأعمال الطالحة تستدعي تتابع البلايا والمحن، وتجلب النقمة والشقوة والهلكة كما يشير إليه قوله تعالى: ﴿ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض﴾ الأعراف: 96، وقد تقدم تفصيل الكلام فيه في بيان الآيات 94 - 102 من سورة الأعراف في الجزء الثامن من الكتاب، وفي أحكام الأعمال في الجزء الثاني منه.

قوله تعالى: ﴿قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين﴾ سألهم هود في قوله: ﴿يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره﴾ إلى آخر الآيات الثلاث أمرين هما أن يتركوا آلهتهم ويعودوا إلى عبادة الله وحده وأن يؤمنوا به ويطيعوه فيما ينصح لهم فردوا عليه القول بما في هذه الآية إجمالا وتفصيلا: أما إجمالا فبقولهم: ﴿ما جئتنا ببينة﴾ يعنون أن دعوتك خالية عن الحجة والآية المعجزة ولا موجب للإصغاء إلى ما هذا شأنه.

وأما تفصيلا فقد أجابوا عن دعوته إياهم إلى رفض الشركاء بقولهم: ﴿وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك﴾ وعن دعوته إياهم إلى الإيمان والطاعة بقولهم: ﴿وما نحن لك بمؤمنين﴾ فآيسوه في كلتا المسألتين.

ثم ذكروا له ما ارتأوا فيه من الرأي لييأس من إجابتهم بالمرة فقالوا: ﴿إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء﴾ والاعتراء الاعتراض والإصابة يقولون: إنما نعتقد في أمرك أن بعض آلهتنا أصابك بسوء كالخبل والجنون لشتمك إياها وذكرك لها بسوء فذهب بذلك عقلك فلا يعبأ بما تفوهت به في صورة الدعوة.

قوله تعالى: ﴿قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون﴾ أجاب هود (عليه السلام) عن قولهم بإظهار البراءة من شركائهم من دون الله ثم التحدي عليهم بأن يكيدوا به جميعا ولا ينظروه.

فقوله: ﴿إني بريء مما تشركون من دونه﴾ إنشاء وليس بإخبار كما هو المناسب لمقام التبري، ولا ينافي ذلك كونه بريئا من أول أمره فإن التبرز بالبراءة لا ينافي تحققها من قبل، وقوله: ﴿فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون﴾ أمر ونهي تعجيزيان.

وإنما أجاب (عليه السلام) بما أجاب ليشاهد القوم من آلهتهم أنها لا تمسه (عليه السلام) بسوء مع تبرزه بالبراءة، ولو كانت آلهة ذات علم وقدرة لقهرته وانتقمت منه لنفسها كما ادعوا أن بعض آلهتهم اعتراه بسوء وهذه حجة بينة على أنها ليست بآلهة وعلى أنها لم تعتره بسوء كما ادعوه، ثم يشاهدوا من أنفسهم أنهم لا يقدرون عليه بقتل أو تنكيل مع كونهم ذوي شدة وقوة لا يعادلهم غيرهم في الشدة والبطش، ولو لا أنه نبي من عند الله صادق في ما يقوله مصون من عند ربه لقدروا عليه بكل ما أرادوه من عذاب أو دفع.

ومن هنا يظهر وجه إشهاده (عليه السلام) في تبريه ربه سبحانه وقومه أما إشهاده الله فليكون تبريه على حقيقته وعن ظهر القلب من غير تزويق ونفاق، وأما إشهاده إياهم فليعلموا به ثم يشاهدوا ما يجري عليه الأمر من سكوت آلهتهم وعجز أنفسهم من الانتقام منه ومن تنكيله.

وظهر أيضا صحة ما احتمله بعضهم أن هذا التعجيز هو معجزة هود (عليه السلام) وذلك أن ظاهر الجواب أن يقطع به ما ذكر من الرد في صورة الحجة، وفيها قولهم: ﴿ما جئتنا ببينة﴾ ومن المستبعد جدا أن يهمل النبي هود (عليه السلام) في دعوته وحجته التعرض للجواب عنه مع كون هذا التحدي والتعجيز صالحا في نفسه لأن يتخذ آية معجزة كما أن التبري من الشركاء من دون الله صالح لأن يكشف عن عدم كونهم آلهة من دون الله وعن أن بعض آلهتهم لم يعتره بسوء.

فالحق أن قوله: ﴿إني أشهد الله واشهدوا﴾ إلى آخر الآيتين مشتمل على حجة عقلية على بطلان ألوهية الشركاء، وعلى آية معجزة لصحة رسالة هود (عليه السلام).

وفي قوله: ﴿جميعا﴾ إشارة إلى أن مراده تعجيزهم وتعجيز آلهتهم جميعا فيكون أتم دلالة على كونه على الحق وكونهم على الباطل.

قوله تعالى: ﴿إني توكلت على الله ربي وربكم﴾ إلى آخر الآية.

لما كان الأمر الذي في صورة التعجيز صالحا لأن يكون بداعي إظهار عجز الخصم وعدم قدرته، وصالحا لأن يصدر بداعي أن الآمر لا يخاف الخصم وإن كان الخصم قادرا على الإتيان بما يؤمر به لكنه غير قادر على تخويفه وإكراهه على الطاعة وحمله على ما يريد منه كقول السحرة لفرعون: ﴿فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا﴾ طه: 72.

وكان قوله: ﴿فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون﴾ محتملا لأن يكون المراد به إظهار أنه لا يخافهم وإن فعلوا به ما فعلوا، عقبه لدفع هذا الاحتمال بقوله: ﴿إني توكلت على الله ربي وربكم﴾ فذكر أنه متوكل في أمره على الله الذي هو يدبر أمره وأمرهم ثم عقبه بقوله: ﴿ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم﴾ فذكر أنه ناجح في توكله هذا فإن الله محيط بهم جميعا قاهر لهم يحكم على سنة واحدة هي نصرة الحق وإظهاره على الباطل إذا تقابلا وتغالبا.

فتبريه من أصنامهم وتعجيزهم على ما هم عليه من الحال بقوله: ﴿فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون﴾ ثم لبثه بينهم في عافية وسلامة لا يمسونه بسوء ولا يستطيعون أن ينالوه بشر آية معجزة وحجة سماوية على أنه رسول الله إليهم.

وقوله: ﴿ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم﴾ الدابة كل ما يدب في الأرض من أصناف الحيوان، والأخذ بالناصية كناية عن كمال السلطة ونهاية القدرة، وكونه تعالى على صراط مستقيم هو كون سنته في الخليقة واحدة ثابتة غير متغيرة وهو تدبير الأمور على منهاج العدل والحكمة فهو يحق الحق ويبطل الباطل إذا تعارضا.

فالمعنى أني توكلت على الله ربي وربكم في نجاة حجتي التي ألقيتها إليكم وهو التبرز بالبراءة من آلهتكم وأنكم وآلهتكم لا تضرونني شيئا فإنه المالك ذو السلطنة علي وعليكم وعلى كل دابة، وسنته العادلة ثابتة غير متغيرة فسوف ينصر دينه ويحفظني من شركم.

ولم يقل: ﴿إن ربي وربكم على صراط مستقيم﴾ على وزان قوله: ﴿على الله ربي وربكم﴾ فإنه في مقام الدعاء لنفسه على قومه يتوقع أن يحفظه الله من شرهم، وهو يأخذه تعالى ربا بخلاف القوم فكان الأنسب أن يعده ربا لنفسه ويستمسك برابطة العبودية التي بينه وبين ربه حتى ينجح طلبته، وهذا بخلاف مقام قوله: ﴿توكلت على الله ربي وربكم﴾ فإنه يريد هناك بيان عموم السلطة والإحاطة.

قوله تعالى: ﴿فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم﴾ وهذه الجملة من كلامه (عليه السلام) ناظر إلى قولهم في آخر جدالهم: ﴿إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء﴾ الدال على أنهم قاطعون على أن لا يؤمنوا به ودائمون على الجحد، والمعنى إن تتولوا وتعرضوا عن الإيمان بي والإطاعة لأمري فقد أبلغتكم رسالة ربي وتمت عليكم الحجة ولزمتكم البلية.

قوله تعالى: ﴿ويستخلف ربي قوما غيركم ولا تضرونه شيئا إن ربي على كل شيء حفيظ﴾ هذا وعيد وإخبار بالتبعة التي يستتبعها إجرامهم، فإنه كان وعدهم إن يستغفروا الله ويتوبوا إليه أن يرسل السماء عليهم مدرارا ويزيد قوة إلى قوتهم، ونهاهم أن يتولوا مجرمين ففيه العذاب الشديد.

وقوله: ﴿ويستخلف ربي قوما غيركم﴾ أي يجعل قوما غيركم خلفاء في الأرض مكانكم فإن الإنسان خليفة منه في الأرض كما قال تعالى: ﴿إني جاعل في الأرض خليفة﴾ البقرة: 30، وقد كان (عليه السلام) بين لهم أنهم خلفاء في الأرض من بعد قوم نوح كما قال تعالى حكاية عن قوله لقومه: ﴿واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة﴾ الأعراف: 69.

وظاهر السياق أن الجملة الخبرية معطوفة على أخرى مقدرة، والتقدير: وسيذهب بكم ربي ويستخلف قوما غيركم على حد قوله: ﴿إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء﴾ الأنعام: 133.

وقوله: ﴿ولا تضرونه شيئا﴾ ظاهر السياق أنه تتمة لما قبله أي لا تقدرون على إضراره بشيء من الفوت وغيره إن أراد أن يهلككم ولا أن تعذيبكم وإهلاككم يفوت منه شيئا مما يريده فإن ربي على كل شيء حفيظ لا يعزب عن علمه عازب ولا يفوت من قدرته فائت، وللمفسرين في الآية وجوه أخر بعيدة عن الصواب أعرضنا عنها.

قوله تعالى: ﴿ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ﴾ المراد بمجيء الأمر نزول العذاب وبوجه أدق صدور الأمر الإلهي الذي يستتبع القضاء الفاصل بين الرسول وبين قومه كما قال تعالى: ﴿وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله فإذا جاء أمر الله قضي بالحق وخسر هنالك المبطلون﴾ المؤمنون: 78.

وقوله: ﴿برحمة منا﴾ الظاهر أن المراد بها الرحمة الخاصة بالمؤمنين المستوجبة نصرهم في دينهم وإنجاءهم من شمول الغضب الإلهي وعذاب الاستئصال، قال تعالى: ﴿إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد﴾ المؤمنون: 51.

وقوله: ﴿ونجيناهم من عذاب غليظ﴾ ظاهر السياق أنه العذاب الذي شمل الكفار من القوم فيكون من قبيل عطف التفسير بالنسبة إلى ما قبله، وقيل: المراد به عذاب الآخرة وليس بشيء.

قوله تعالى: ﴿وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد﴾ الآية وما بعدها تلخيص بعد تلخيص لقصة عاد فأول التلخيصين قوله: ﴿وتلك عاد - إلى قوله - ويوم القيامة﴾ يذكر فيه أنهم جحدوا بآيات ربهم من الحكمة والموعظة والآية المعجزة التي أبانت لهم طريق الرشد وميزت لهم الحق من الباطل فجحدوا بها بعد ما جاءهم من العلم.

وعصوا رسل ربهم وهم هود ومن قبله من الرسل فإن عصيان الواحد منهم عصيان للجميع فكلهم يدعون إلى دين واحد فهم إنما عصوا شخص هود وعصوا بعصيانه سائر رسل الله وهو ظاهر قوله في موضع آخر: ﴿كذبت عاد المرسلين إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون﴾ الشعراء: 124.

ويشعر به أيضا قوله: ﴿واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه﴾ الأحقاف: 21، ومن الممكن أن يكون لهم رسل آخرون بعثوا إليهم فيما بين هود ونوح (عليهما السلام) لم يذكروا في الكتاب العزيز لكن سياق الآيات لا يساعد على ذلك.

واتبعوا أمر كل جبار عنيد من جبابرتهم فألهاهم ذلك عن اتباع هود وما كان يدعو إليه، والجبار العظيم الذي يقهر الناس بإرادته ويكرههم على ما أراد والعنيد الكثير العناد الذي لا يقبل الحق، فهذا ملخص حالهم وهو الجحد بالآيات وعصيان الرسل وطاعة الجبابرة.

ثم ذكر الله وبال أمرهم بقوله: ﴿وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة﴾ أي وأتبعهم الله في هذه الدنيا لعنة وإبعادا من الرحمة، ومصداق هذا اللعن العذاب الذي عقبهم فلحق بهم، أو الآثام والسيئات التي تكتب عليهم ما دامت الدنيا فإنهم سنوا سنة الإشراك والكفر لمن بعدهم، قال تعالى: ﴿ونكتب ما قدموا وآثارهم﴾ يس: 12.

وقيل: المعنى لحقت بهم لعنة في هذه الدنيا فكان كل من علم بحالهم من بعدهم، ومن أدرك آثارهم، وكل من بلغهم الرسل من بعدهم خبرهم يلعنونهم.

وأما اللعنة يوم القيامة فمصداقه العذاب الخالد الذي يلحق بهم يومئذ فإن يوم القيامة يوم جزاء لا غير.

وفي تعقيب قوله في الآية: ﴿واتبعوا﴾ بقوله: ﴿وأتبعوا﴾ لطف ظاهر.

قوله تعالى: ﴿ألا إن عادا كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود﴾ أي كفروا بربهم فهو منصوب بنزع الخافض وهذا هو التلخيص الثاني الذي أشرنا إليه لخص به التلخيص الأول فقوله: ﴿ألا إن عادا﴾ إلخ، يحاذي به وصف حالهم المذكور في قوله: ﴿وتلك عاد جحدوا﴾ إلخ، وقوله: ﴿ألا بعدا لعاد﴾ إلخ، يحاذي به قوله: ﴿وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة﴾ إلخ.

ويتأيد من هذه الجملة أن المراد باللعنة السابقة اللعنة الإلهية دون لعن الناس، والأنسب به أحد الوجهين الأولين من الوجوه الثلاثة السابقة وخاصة الوجه الثاني دون الوجه الثالث.

بحث روائي:

في تفسير العياشي، عن أبي عمرو السعدي قال: قال علي بن أبي طالب (عليه السلام): في قوله: ﴿إن ربي على صراط مستقيم﴾ يعني أنه على حق يجزي بالإحسان إحسانا، وبالسيىء سيئا، ويعفو عمن يشاء ويغفر، سبحانه وتعالى.

أقول: وقد تقدم توضيحه، وقد ورد في الرواية عنهم (عليهم السلام): أن عادا كانت بلادهم في البادية، وكان لهم زرع ونخيل كثيرة، ولهم أعمار طويلة وأجساد طويلة فعبدوا الأصنام، وبعث الله إليهم هودا يدعوهم إلى الإسلام وخلع الأنداد فأبوا ولم يؤمنوا بهود وآذوه فكفت عنهم السماء سبع سنين حتى قحطوا.

وروي إمساك السماء عنهم من طريق أهل السنة عن الضحاك أيضا قال: أمسك عن عاد القطر ثلاث سنين فقال لهم هود: ﴿استغفروا ربكم ثم توبوا إليه - يرسل السماء عليكم مدرارا﴾ فأبوا إلا تماديا، وقد تقدم أن الآيات لا تخلو من إشارة إليه.

واعلم أن الروايات في قصة هود وعاد كثيرة إلا أنها تشتمل على أمور لا سبيل إلى تصحيحها من طريق الكتاب ولا إلى تأييدها بالاعتبار ولذلك طوينا ذكرها.

وورد أيضا أخبار أخر من طرق الشيعة وأهل السنة في وصف جنة عاد التي تنسب إلى شداد الملك وهي المذكورة في قوله تعالى: ﴿إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد﴾ الفجر: 8، وسيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى في تفسير سورة الفجر.

كلام في قصة هود:

1 - عاد قوم هود:

هؤلاء قوم من العرب من بشر ما قبل التاريخ كانوا يسكنون الجزيرة انقطعت أخبارهم وانمحت آثارهم لا يحفظ التاريخ من حياتهم إلا أقاصيص لا يطمئن إليها وليس في التوراة الموجودة منهم ذكر.

والذي يذكره القرآن الكريم من قصتهم هو أن عادا - وربما يسميهم عادا الأولى النجم: 50 وفيه إشارة إلى أن هناك عادا ثانية - كانوا قوما يسكنون الأحقاف 1 من شبه جزيرة العرب الأحقاف: 21 بعد قوم نوح الأعراف: 69.

كانت لهم أجساد طويلة القمر: 20، الحاقة: 7 وكانوا ذوي بسطة في الخلق الأعراف: 69 أولي قوة وبطش شديد حم السجدة: 15، الشعراء: 130 وكان لهم تقدم ورقي في المدنية والحضارة، لهم بلاد عامرة وأراض خصبة ذات جنات ونخيل وزروع ومقام كريم الشعراء وغيرها، وناهيك في رقيهم وعظيم مدنيتهم قوله تعالى في وصفهم: ﴿ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد﴾ الفجر: 8.

لم يزل القوم يتنعمون بنعمة الله حتى غيروا ما بأنفسهم فتعرقت فيهم الوثنية وبنوا بكل ريع آية يعبثون واتخذوا مصانع لعلهم يخلدون وأطاعوا طغاتهم المستكبرين فبعث الله إليهم أخاهم هودا يدعوهم إلى الحق ويرشدهم إلى أن يعبدوا الله ويرفضوا الأوثان، ويعملوا بالعدل والرحمة الشعراء: 130 فبالغ في وعظهم وبث النصيحة فيهم، وأنار الطريق وأوضح السبيل، وقطع عليهم العذر فقابلوه بالآباء والامتناع، وواجهوه بالجحد والإنكار ولم يؤمن به إلا شرذمة منهم قليلون وأصر جمهورهم على البغي والعناد، ورموه بالسفه والجنون، وألحوا عليه بأن ينزل عليهم العذاب الذي كان ينذرهم ويتوعدهم به قال: ﴿إنما العلم عند الله وأبلغكم ما أرسلت به ولكني أراكم قوما تجهلون﴾ الأحقاف: 23.

فأنزل الله عليهم العذاب وأرسل إليهم الريح العقيم ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم الذاريات: 42 ريحا صرصرا في أيام نحسات سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية الحاقة: 7 وكانت تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر القمر: 20.

وكانوا بادىء ما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم استبشروا وقالوا: عارض ممطرنا وقد أخطئوا بل كان هو الذي استعجلوا به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم الأحقاف: 25 فأهلكهم الله عن آخرهم وأنجى هودا والذين آمنوا معه برحمة منه هود: 58.

2 - شخصية هود المعنوية:

وأما هود (عليه السلام) فهو من قوم عاد وثاني الأنبياء الذين انتهضوا للدفاع عن الحق ودحض الوثنية ممن ذكر الله قصته وما قاساه من المحنة والأذى في جنب الله سبحانه، وأثنى عليه بما أثنى على رسله الكرام وأشركه بهم في جميل الذكر عليه سلام الله.