الآيات 25 - 35

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴿25﴾ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ ﴿26﴾ فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ ﴿27﴾ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ ﴿28﴾ وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّيَ أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ﴿29﴾ وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ﴿30﴾ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللّهُ خَيْرًا اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ ﴿31﴾ قَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴿32﴾ قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ اللّهُ إِن شَاء وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ ﴿33﴾ وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴿34﴾ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تُجْرَمُونَ ﴿35﴾

بيان:

شروع في قصص الأنبياء (عليهم السلام) وقد بدأ بنوح وعقبه بجماعة ممن بعده كهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب وموسى (عليه السلام).

وقد قسم قصة نوح إلى فصول أولها احتجاجه (عليه السلام) على قومه في التوحيد فهو (عليه السلام) أول الأنبياء الناهضين للتوحيد على الوثنية على ما ذكره الله تعالى في كتابه، وأكثر ما قص من احتجاجه (عليه السلام) مع قومه من المجادلة بالتي هي أحسن وبعضه من الموعظة وقليل منه من الحكمة وهو الذي يناسب تفكر البشر الأولي والإنسان القديم الساذج وخاصة تفكرهم الاجتماعي الذي لا ظهور فيه إلا للمركوم من أفكار الأفراد المتوسطين في الفهم.

قوله تعالى: ﴿ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين﴾ القراءة المعروفة ﴿إني﴾ بكسر الهمزة على تقدير القول وقرىء أني بفتح الهمزة بنزع الخافض والتقدير بأني لكم نذير مبين، والجملة أعني قوله: ﴿إني لكم نذير مبين﴾ على أي حال بيان إجمالي لما أرسل به فإن جميع ما بلغه قومه عن ربه وأرسل به إليهم إنذار مبين فهو نذير مبين.

فكما أنه لو قال: ما سألقيه إليكم من القول إنذار مبين كان بيانا لجميع ما أرسل به إليهم بأوجز كلمة كذا قوله: إني لكم نذير مبين بيان لذلك بالإجمال غير أنه يزيد على سابقه ببيان سمة نفسه وهي أنه رسول من الله إليهم لينذرهم بعذاب الله، وليس له من الأمر شيء أزيد من أنه واسطة يحمل الرسالة.

قوله تعالى: ﴿أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم﴾.

بيان ثان لما أرسل به أو بيان لقوله: ﴿إني لكم نذير مبين﴾ ومآل الوجهين واحد، وأن على أي حال مفسرة، والمعنى أن محصل رسالته النهي عن عبادة غير الله تعالى من طريق الإنذار والتخويف.

وذكر بعض المفسرين أن الجملة أعني قوله: ﴿أن لا تعبدوا﴾ إلخ، بدل من قوله: ﴿إني لكم نذير مبين﴾ أو مفعول لقوله مبين.

ولعل السياق يؤيد ما قدمناه.

والظاهر أن المراد بعذاب يوم أليم عذاب الاستئصال دون عذاب يوم القيامة أو الأعم من العذابين يدل على ذلك قولهم له فيما سيحكيه الله تعالى عنهم: ﴿يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين قال إنما يأتيكم به الله إن شاء﴾ الآية، فإنه ظاهر في عذاب الاستئصال.

فهو (عليه السلام) كان يدعوهم إلى رفض عبادة الأوثان ويخوفهم من يوم ينزل عليهم من الله عذاب أليم أي مؤلم ونسبة الإيلام إلى اليوم دون العذاب في قوله: ﴿عذاب يوم أليم﴾ من قبيل وصف الظرف بصفة المظروف.

وبما تقدم يندفع ما ربما قيل: إن تعذيب المشركين مقطوع لا محتمل فما الوجه في خوفه (عليه السلام) من تعذيبهم المقطوع؟ والخوف إنما يستقيم في محتمل الوقوع لا مقطوعه.

وبالجملة كان (عليه السلام) يدعوهم إلى توحيد الله سبحانه بتخويفهم من العذاب، وإنما كان يخوفهم لأنهم كانوا يعبدون الأوثان خوفا من سخطهم فقابلهم نوح (عليه السلام) بأن الله سبحانه هو الذي خلقهم ودبر شئون حياتهم وأمور معاشهم بخلق السماوات والأرض وإشراق الشمس والقمر وإنزال الأمطار وإنبات الأرض وإنشاء الجنات وشق الأنهار على ما يحكيه تعالى عنه (عليه السلام) في سورة نوح.

وإذ كان كذلك كان الله سبحانه هو ربهم لا رب سواه فليخافوا عذابه وليعبدوه وحده.

وهذه الحجة في الحقيقة حجة برهانية مبنية على اليقين لكنهم إنما كانوا يتلقونها حجة جدلية مبنية على الظن لأنهم لسذاجة أفهامهم كانوا يتوقعون سخط الرب وعذابه على المخالفة لأنهم يرونه وليا لأمرهم مصلحا لشأنهم فيقيسون أمره بأمر الأولياء من الإنسان الحاكمين في من دونهم من أفراد المجتمع الذين يجب الخضوع لمقامهم والتسليم لإرادتهم ولو استكبر عن الخضوع لهم والتسليم لإرادتهم من دونهم سخطوا عليهم وعاقبوهم بما أجرموا وتمردوا.

وعلى هذا القياس يجب إرضاء الرب أو الأرباب الذين يرجع إليهم أمر الكون وولاية النظام الجاري فيه فيجب إرضاؤه وإخماد نار غضبه بالخضوع له والتقرب إليه بتقديم القرابين والتضحية وسائر أنحاء العبادة فهكذا كانوا يعتقدون وهو مبني على الظن.

لكن مسألة نزول العذاب على الاستنكاف عن عبادة الله تعالى والاستكبار عن التسليم والخضوع لساحة الربوبية مسألة حقيقية يقينية فإن من النواميس الكلية الجارية في الكون لزوم خضوع الضعيف للقوي والمتأثر المقهور للمؤثر القاهر فما قولك في الله الواحد القهار الذي إليه مصير الأمور.

وقد أبدع الله سبحانه أجزاء الكون وربط بعضها ببعض ثم أجرى الحوادث على نظام الأسباب وعلى ذلك يجري كل شيء في نظام وجوده فلو انحرف عما يخطه له سائر الأسباب من الخط أدى ذلك إلى اختلال نظامها وكان ذلك منازعة منه لها وعند ذلك ينتهض سائر الأسباب الكونية من أجزاء الوجود لتعديل أمره وإرجاعه إلى خط يلائمها تدفع بذلك الشر عن نفسها فإن استقام هذا الجزء المنحرف عن خطه المخطوط له فهو وإلا حطمتها حاطمات الأسباب ونازلات النوائب والبلايا، وهذا أيضا من النواميس الكلية.

والإنسان الذي هو أحد أجزاء الكون له في حياته خط خطه له الصنع والإيجاد فإن سلكه هداه إلى سعادته ووافق بذلك سائر أجزاء الكون وفتحت له أبواب السماء ببركاتها وسمحت له الأرض بكنوز خيراتها، وهذا هو الإسلام الذي هو الدين عند الله تعالى المدعو إليه بدعوة نوح ومن بعده من الأنبياء والرسل (عليهم السلام).

وإن تخطاه وانحرف عنه فقد نازع أسباب الكون وأجزاء الوجود في نظامها الجاري وزاحمها في شئون حياتها فليتوقع مر البلاء ولينتظر العذاب والعناء فإن استقام في أمره وخضع لإرادة الله سبحانه وهي ما تحطمه من الأسباب العامة فمن المرجو أن تتجدد له النعمة بعد النقمة وإلا فهو الهلاك والفناء وإن الله لغني عن العالمين، وقد تقدم هذا البحث في بعض أجزاء الكتاب السابقة.

قوله تعالى: ﴿فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا﴾ إلى آخر الآية، الفاء في صدر الآية لتفريع جوابهم عن قول نوح (عليه السلام)، وفيه إشارة إلى أنهم بادروه بالرد والإنكار من دون أن يفكروا في أنفسهم فيختاروا ما هو أصلح لهم.

والمجيبون هم الملأ من قومه والأشراف والكبراء الذين كفروا به ولم يتعرضوا في جوابهم لما ألقى إليهم من حجة التوحيد بل إنما اشتغلوا بنفي رسالته والاستكبار عن طاعته فإن قوله: ﴿إني لكم نذير مبين﴾ إلى آخر الآيتين، كان مشتملا على دعوى الرسالة وملوحا إلى وجوب الاتباع وقد صرح به فيما حكي عنه في موضع آخر، قال تعالى: ﴿قال يا قوم إني لكم نذير مبين أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون﴾ نوح: 3.

ومحصل ما نقله الله تعالى من جوابهم هو أنه لا دليل على لزوم اتباعك بل الدليل على خلافه فهو في الحقيقة حجتان منظومتان على طريق الإضراب والترقي ولذلك أخر قولهم: ﴿بل نظنكم كاذبين﴾.

والحجة الأولى التي مدلولها عدم الدليل على وجوب اتباعه مبينة بطرق ثلاث هي قوله: ﴿ما نراك إلا بشرا﴾ إلخ، وقوله: ﴿وما نراك اتبعك﴾ إلخ، وقوله: ﴿وما نرى لكم علينا﴾.

والحجة بجميع أجزائها مبنية على إنكار ما وراء الحس كما سنبين ولذلك كرروا فيه قولهم: ما نراك ونرى.

فقوله: ﴿ما نراك إلا بشرا مثلنا﴾ أول جوابهم عما يدعيه نوح (عليه السلام) من الرسالة، وقد تمسكوا فيه بالمماثلة كما هو دأب سائر الأمم مع أنبيائهم على ما حكاه الله تعالى في كتابه وتقريره: أنك مثلنا في البشرية ولو كنت رسولا إلينا من عند الله لم تكن كذلك ولا نشاهد منك إلا أنك بشر مثلنا، وإذ كنت بشرا مثلنا لم يكن هناك موجب لاتباعك.

ففي الكلام تكذيب لرسالته (عليه السلام) بأنه ليس إلا بشرا مثلهم ثم استنتاج من ذلك أنه لا دليل على لزوم اتباعه، والدليل على ما ذكرنا قول نوح (عليه السلام) فيما سيحكيه الله تعالى من كلامه: ﴿يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي﴾ إلخ.

وقد اشتبه الأمر على بعض المفسرين فقرر قولهم: ﴿ما نراك إلا بشرا مثلنا﴾ بأنهم ساووه بأنفسهم في الزنة الاجتماعية واستنتجوا منها أنه لا وجه لاتباعهم له، قال في تفسير الآية: أجابوه بأربع حجج داحضة.

إحداها: أنه بشر مثلهم فساووه بأنفسهم في الجملة، وهذا يدل على أنه (عليه السلام) كان من طبقتهم أو ما يقرب منها في بيته وفي شخصه وهكذا كان كل رسول من وسط قومه، ووجه الجواب أن المساواة تنافي دعوى تفوق أحد المتساويين على الآخر بجعل أحدهما تابعا طائعا والآخر متبوعا مطاعا لأنه ترجيح بغير مرجح.

ولو كان المعنى ما ذكره لكان من حق الكلام أن يقال: أنت مثلنا أو نراك مثلنا دون أن يقال: ما نراك إلا بشرا مثلنا فيذكر أنه بشر ولا حاجة إلى الإشارة إلى بشريته، ولكان معنى الكلام عائدا إلى المراد من قولهم بعد: وما نرى لكم علينا من فضل، وكان فضلا من الكلام.

ومن العجب استفادته من الكلام مساواته (عليه السلام) لهم في البيت والشخصية ثم قوله: ﴿وهكذا كان كل رسول من وسط قومه﴾ وفي الرسل مثل إبراهيم وسليمان وأيوب (عليهما السلام).

وقوله: ﴿وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي﴾ قال في المفردات،: الرذل - بفتح الراء - والرذال - بكسرها - المرغوب عنه لرداءته قال تعالى: ﴿ومنكم من يرد إلى أرذل العمر﴾ وقال: ﴿إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي﴾ وقال: ﴿قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون﴾ جمع الأرذل.

وقال في المجمع، الرذل الخسيس الحقير من كل شيء والجمع أرذل ثم يجمع على أراذل كقولك: كلب وأكلب وأكالب، ويجوز أن يكون جمع الأرذل فيكون مثل أكابر جمع أكبر.

وقال: والرأي الرؤية من قوله: ﴿يرونهم مثليهم رأي العين﴾ أي رؤية العين والرأي أيضا ما يراه الإنسان في الأمر وجمعه آراء.

وقال في المفردات، وقوله: ﴿بادىء الرأي﴾ أي ما يبدأ من الرأي وهو الرأي الفطير، وقرىء: بادي بغير همزة أي الذي يظهر من الرأي ولم يترو فيه.

وقوله: ﴿بادىء الرأي﴾ يحتمل أن يكون قيدا لقوله: ﴿هم أراذلنا﴾ أي كونهم أراذل وسفلة فينا معلوم في ظاهر الرأي والنظر أو في أول نظرة.

ويحتمل كونه قيدا لقوله: ﴿اتبعك﴾ أي اتبعوك في ظاهر الرأي أو في أوله من غير تعمق وتفكر ولو تفكروا قليلا وقلبوا أمرك ظهرا لبطن ما اتبعوك، وهذا الاحتمال لا يستغني عن تكرار الفعل ثانيا والتقدير: اتبعوك بادي الأمر وإلا اختل المعنى لو لم يتكرر وقيل: ما نراك اتبعك في بادي الرأي إلا الذين هم أراذلنا.

وبالجملة معنى الآية: أنا نشاهد أن متبعيك هم الأراذل والأخساء من القوم ولو اتبعناك ساويناهم ودخلنا في زمرتهم وهذا ينافي شرافتنا ويحط قدرنا في المجتمع، وفي الكلام إيماء إلى بطلان رسالته (عليه السلام) بدلالة الالتزام فإن من معتقدات العامة أن القول لو كان حقا نافعا لتبعه الشرفاء والعظماء وأولوا القوة والطول فلو استنكفوا عنه أو اتبعه الأخساء والضعفاء كالعبيد والمساكين والفقراء ممن لا حظ له من مال أو جاه ولا مكانة له عند العامة فلا خير فيه.

وقوله: ﴿وما نرى لكم علينا من فضل﴾ المراد نفي مطلق الفضل من متاع دنيوي يختصون بالتنعم به أو شيء من الأمور الغيبية كعلم الغيب أو التأيد بقوة ملكوتية وذلك لكون النكرة - فضل - واقعة في سياق النفي فتفيد العموم.

وقد أشركوا أتباع نوح (عليه السلام) والمؤمنين به منهم في دعوته إذ قالوا: ﴿وما نرى لكم علينا﴾ ولم يقولوا: ﴿ولا نرى لك﴾ لأنهم كانوا يحثونهم ويرغبونهم في اتباع ما اتبعوه من الطريقة.

والمعنى أن دعوتكم إيانا - وعندنا ما نتمتع به من مزايا الحياة الدنيا كالمال والبنين والعلم والقوة - إنما يستقيم ويؤثر أثره لو كان لكم شيء من الفضل تفضلون به علينا من زينة الحياة الدنيا أو علم من الغيب أو قوة من الملكوت حتى يوجب ذلك خضوعا منا لكم ولا نرى شيئا من ذلك عندكم فأي موجب يوجب علينا اتباعكم؟.

وإنما عممنا الفضل في كلامه للفضل من حيث الجهات المادية وغيره كعلم الغيب والقوة الملكوتية خلافا لأكثر المفسرين حيث فسروا الفضل بالفضل المادي كالمال والكثرة وغيرهما، لما يستفاد من كلامهم من العموم لوقوع النكرة في سياق النفي.

مضافا إلى أن ما يحاذي قولهم هذا من جواب نوح (عليه السلام) يدل على ذلك وهو قوله: ﴿ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك﴾ إلخ على ما سيأتي.

وقوله تعالى: ﴿بل نظنكم كاذبين﴾ إضراب في الاحتجاج كما تقدمت الإشارة إليه فمحصله أنا لا نرى معكم أمرا يوجب اتباعنا لكم بل هناك أمر يوجب عدم الاتباع وهو أنا نظنكم كاذبين.

ومعناه على ما يعطيه السياق - والله أعلم - أنه لما لم يكن عندكم ما يشاهد معه صحة دعوتكم وأنكم تلحون علينا بالسمع والطاعة وأنتم صفر الأيدي من مزايا الحياة من مال وجاه وهذه الحال تستدعي الظن بأنكم كاذبون في دعواكم تريدون بها نيل ما بأيدينا من أماني الحياة بهذه الوسيلة وبالجملة هذه أمارة توجب عادة الظن بأنها أكذوبة يتوسل بها إلى اقتناء الأموال والقبض على ثروة الناس والاستعلاء عليهم بالحكم والرئاسة، وهذا كما حكى الله سبحانه عنهم في مثل القصة إذ قال: ﴿فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم﴾ المؤمنون: 24.

وبهذا يظهر وجه تعليقهم الكذب بالظن دون الجزم، وأن المراد بالكذب الكذب المخبري دون الخبري.

قوله تعالى: ﴿قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي﴾ إلى آخر الآية بيان لما أجاب به نوح (عليه السلام) عن حجتهم إلى تمام أربع آيات، والتعمية الإخفاء فمعنى عميت عليكم بالبناء للمفعول أخفيت عليكم من ناحية جهلكم وكراهتكم للحق.

وقرىء عميت بالتخفيف والبناء للفاعل أي خفيت عليكم تلك الرحمة.

لما كانت حجتهم مبنية على الحس ونفي ما وراءه وقد استنتجوا منها أولا عدم الدليل على وجوب طاعته واتباعه ثم أضربوا عنه بالترقي إلى استنتاج الدليل على عدم الوجوب بل على وجوب العدم أجابهم (عليهم السلام) بإثبات ما حاولوا نفيه من رسالته وما يتبعه، ونفي ما حاولوا إثباته باتهامه واتهام أتباعه بالكذب غير أنه استعطفهم بخطاب يا قوم - بالإضافة إلى ضمير التكلم - مرة بعد مرة ليجلبهم إليه فيقع نصحه موقع القبول منهم.

وقد أبدع الآيات الكريمة في تقرير حجته (عليه السلام) في جوابهم فقطعت حجتهم فصلا فصلا وأجابت عن كل فصل بوجهيه أعني من جهة إنتاجه أن لا دليل على اتباعه (عليه السلام) وأن الدليل على خلافه وذلك قوله: ﴿يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة﴾ إلخ، وقوله: ﴿وما أنا بطارد الذين آمنوا﴾ إلخ، وقوله: ﴿ولا أقول لكم عندي خزائن الله﴾ إلخ، ثم أخذت من كل حجة سابقة شيئا يجري مجرى التلخيص فإضافته إلى الحجة اللاحقة بادئة به فامتزجت الحجة بالحجة على ما لكل منها من الاستقلال والتمام.

فتمت الحجج ثلاثا كل واحدة منها مبدوءة بالخطاب وهي قوله: ﴿يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة﴾ إلخ، وقوله: ﴿ويا قوم لا أسألكم عليه مالا﴾ إلخ، وقوله: ﴿ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم﴾ إلخ، فتدبر فيها.

فقوله: ﴿قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي﴾ جواب عن قولهم: ﴿ما نراك إلا بشرا مثلنا﴾ يريدون به أنه ليس معه إلا البشرية التي يماثلهم فيها ويماثلونه فبأي شيء يدعي وجوب اتباعهم له؟ بل هو كاذب يريد بما يدعيه من الرسالة أن يصطادهم فيقتنص بذلك أموالهم ويترأس عليهم.

وإذ كان هذا القول منهم متضمنا لنفي رسالته وسندهم في ذلك أنه بشر لا أثر ظاهر معه يدل على الرسالة والاتصال بالغيب كان من الواجب تنبيههم على ما يظهر به صدقه في دعوى الرسالة وهو الآية المعجزة الدالة على صدق الرسول في دعوى الرسالة فإن الرسالة نوع من الاتصال بالغيب خارق للعادة الجارية لا طريق إلى العلم بتحققه إلا بوقوع أمر غيبي آخر خارق للعادة يوقن به كون الرسول صادقا في دعواه الرسالة، ولذلك أشار (عليه السلام) بقوله: ﴿يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي﴾ إلى أن معه بينة من الله وآية معجزة تدل على صدقه في دعواه.

ومن هنا يظهر أن المراد بالبينة الآية المعجزة التي تدل على ثبوت الرسالة لأن ذلك هو الذي يعطيه السياق فلا يعبأ بما ذكره بعض المفسرين أن المراد بالبينة في الآية العلم الضروري الذي يعلم به النبي أنه نبي وذلك لكونه معنى أجنبيا عن السياق.

وقوله: ﴿وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم﴾ الظاهر أنه (عليه السلام) يشير به إلى ما آتاه الله تعالى من الكتاب والعلم، وقد تكرر في القرآن الكريم تسمية الكتاب وكذا تسمية العلم بالله وآياته رحمة قال تعالى: ﴿ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة﴾ هود: 17، وقال: ﴿ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة﴾ النحل: 89، وقال: ﴿فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا﴾ الكهف: 65، وقال: ﴿ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة﴾ آل عمران: 8.

وأما قوله: ﴿فعميت عليكم﴾ فالظاهر أن ضميره راجع إلى الرحمة، والمراد أن ما عندي من العلم والمعرفة أخفاها عليكم جهلكم وكراهتكم للحق بعد ما ذكرتكم به وبثثته فيكم.

وقوله: ﴿أنلزمكموها وأنتم لها كارهون﴾ الإلزام جعل الشيء مع الشيء بحيث لا يفارقه ولا ينفك منه، والمراد بإلزامهم الرحمة وهم لها كارهون إجبارهم على الإيمان بالله وآياته والتلبس بما يستدعيه المعارف الإلهية من النور والبصيرة.

ومعنى الآية - والله أعلم - أخبروني إن كانت عندي آية معجزة تصدق رسالتي مع كوني بشرا مثلكم وكانت عندي ما تحتاج إليه الرسالة من كتاب وعلم يهديكم الحق لكن لم يلبث دون أن أخفاه عليكم عنادكم واستكباركم أ يجب علينا عندئذ أن نجبركم عليها؟ أي عندي جميع ما يحتاج إليه رسول من الله في رسالته وقد أوقفتكم عليه لكنكم لا تؤمنون به طغيانا واستكبارا وليس علي أن أجبركم عليها، إذ لا إجبار في دين الله سبحانه.

ففي الكلام تعريض لهم أنه قد تمت عليهم الحجة وبانت لهم الحقيقة فلم يؤمنوا لكنهم مع ذلك يريدون أمرا يؤمنون لأجله وليس إلا الإجبار والإلزام على كراهية، فهم في قولهم: لا نراك إلا بشرا مثلنا، لا يريدون إلا الإجبار، ولا إجبار في دين الله.

والآية، من جملة الآيات النافية للإكراه في الدين تدل على أن ذلك من الأحكام الدينية المشرعة في أقدم الشرائع وهي شريعة نوح (عليه السلام) وهو باق على اعتباره حتى اليوم من غير نسخ.

وقد ظهر مما تقدم أن الآية، أعني قوله: ﴿يا قوم أرأيتم إن كنت﴾ إلخ، جواب عن قولهم: ﴿ما نراك إلا بشرا مثلنا﴾ ويظهر بذلك فساد قول بعضهم: إنه جواب عن قولهم: ﴿بل نظنكم كاذبين﴾ وقول آخرين: إنه جواب عن قولهم: ﴿ما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادىء الرأي﴾ وقول طائفة أخرى أنه جواب عن قولهم: ﴿وما نرى لكم علينا من فضل﴾ ولا نطيل الكلام بالتعرض لتوضيحها وردها.

قوله تعالى: ﴿ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله﴾ يريد به الجواب عما اتهموه به من الكذب ولازمه أن تكون دعوته طريقا إلى جلب أموالهم وأخذ ما في أيديهم طمعا فيه فإنه إذا لم يسألهم شيئا من أموالهم لم يكن لهم أن يتهموه بذلك.

قوله تعالى: ﴿وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون﴾ جواب عن قولهم: ﴿وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادىء الرأي﴾ وقد بدل لفظة الأراذل - وهي لفظة إرزاء وتحقير - من قوله: الذين آمنوا تعظيما لأمر إيمانهم وإشارة إلى ارتباطهم بربهم.

نفى في جوابه أن يكون يطردهم وعلل ذلك بقوله: ﴿إنهم ملاقوا ربهم﴾ إيذانا بأن لهم يوما يرجعون فيه إلى الله فيحاسبهم على أعمالهم فيجازيهم على ما عملوه من خير أو شر فحسابهم على ربهم وليس لغيره من الأمر شيء، فليس على نوح (عليه السلام) أن يحاسبهم فيجازيهم بشيء لكن القوم لجهالتهم يتوقعون على الفقراء والمساكين والضعفاء أن يطردوا من مجتمع الخير ويسلبوا النعمة والشرافة والكرامة.

فظهر أن المراد بقوله: ﴿إنهم ملاقوا ربهم﴾ الإيمان إلى محاسبة الله سبحانه إياهم يوم يرجعون فيه إليه فيلاقونه كما وقع في نظير هذا المعنى في قوله تعالى: ﴿ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين﴾ الأنعام: 57.

وأما قول من قال: إن معنى قوله: ﴿إنهم ملاقوا ربهم﴾ إنه لا يطردهم لأنهم ملاقوا ربهم فيجازي من ظلمهم وطردهم، أو أنهم ملاقوا ثواب ربهم فكيف يكونون أراذل وكيف يجوز طردهم وهم لا يستحقون ذلك، فبعيد عن الفهم.

على أن أول المعنيين يجعل الآية التالية أعني قوله: ﴿ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم﴾ الآية زائدة مستغنى عنها كما هو ظاهر.

وظهر أيضا أن المراد بقوله: ﴿ولكني أراكم قوما تجهلون﴾ جهلهم بأمر المعاد وأن الحساب والجزاء إلى الله لا إلى غيره، وأما ما ذكره بعضهم أن المراد به الجهالة المضادة للعقل والحلم أي تسفهون عليهم أو المراد أنكم تجهلون أن حقيقة الامتياز بين إنسان وإنسان باتباع الحق وعمل البر والتحلي بالفضائل لا بالمال والجاه كما تظنون فهو معنى بعيد عن السياق.

قوله تعالى: ﴿ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون﴾ النصر مضمن معنى المنع أو الإنجاء ونحوهما والمعنى من يمنعني أو من ينجيني من عذاب الله إن طردتهم أ فلا تتذكرون أنه ظلم، والله سبحانه ينتصر للمظلوم من الظالم وينتقم منه، والعقل جازم بأن الله سبحانه لا يساوي بين الظالم والمظلوم، ولا يدع الظالم يظلم دون أن يجازيه على ظلمه بما يسوؤه ويشفي به غليل صدر المظلوم والله عزيز ذو انتقام.

قوله تعالى: ﴿ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك﴾ جواب عن قولهم: ﴿وما نرى لكم علينا من فضل﴾ يرد عليهم قولهم بأني لست أدعي شيئا من الفضل الذي تتوقعون مني أن أدعيه بما أني أدعي الرسالة فإنكم تزعمون أن على الرسول أن يملك خزائن الرحمة الإلهية فيستقل بإغناء الفقير وشفاء العليل وإحياء الموتى والتصرف في السماء والأرض وسائر أجزاء الكون بما شاء وكيف شاء.

وأن يملك علم الغيب فيحصل على كل خير محجوب عن العيون مستور عن الأبصار فيجلبه إلى نفسه، ويدفع كل شر مستقبل كامن عن نفسه وبالجملة يستكثر من الخيرات ويصان من المكاره.

وأن يرتفع عن درجة البشرية إلى مقام الملكية أي يكون ملكا منزها من ألواث الطبيعة ومبرى من حوائج البشرية ونقائصها فلا يأكل ولا يشرب ولا ينكح ولا يقع في تعب اكتساب الرزق واقتناء لوازم الحياة وأمتعتها.

فهذه هي جهات الفضل التي تزعمون أن الرسول يجب أن يؤتاها ويمتلكها فيستقل بها، وقد أخطأتم فليس للرسول إلا الرسالة وإني لست أدعي شيئا من ذلك فلا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك، وبالجملة لست أدعي شيئا من الفضل الذي تتوقعونه حتى تكذبوني بفقده، وإنما أقول إني على بينة من ربي تصدق رسالتي وآتاني رحمة من عنده.

والمراد بقوله: ﴿خزائن الله﴾ جميع الذخائر والكنوز الغيبية التي ترزق المخلوقات منها ما يحتاجون إليه في وجودهم وبقائهم ويستعينون به على تتميم نقائصهم وتكميلها.

فهاتيك هي التي تزعم العامة أن الأنبياء والأولياء يؤتون مفاتيحها ويمتلكون بها من القدرة ما يفعلون بها ما يشاءون ويحكمون ما يريدون كما اقترح على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد حكاه الله تعالى إذ يقول: ﴿وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا﴾ الإسراء: 93.

وإنما قال: ﴿ولا أعلم الغيب﴾ ولم يقل: ولا أقول إني أعلم الغيب لأن هذا النوع من العلم لما كان مما يضن به ولا يسمح بإظهاره لم يكن قول القائل: لا أقول إني أعلم الغيب نافيا لوجوده عند القائل بل يحتاج إلى أن يقال: لا أعلم الغيب ليفيد النفي بخلاف قوله: ﴿لا أقول لكم عندي خزائن الله﴾ وقوله: ﴿ولا أقول إني ملك﴾ ولم يكرر قوله: ﴿لكم﴾ لحصول الكفاية بالواحدة.

وقد أمر الله سبحانه نبيه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يخاطب قومه بما خاطب به نوح (عليه السلام) قومه ثم ذيله بما يظهر به المراد إذ قال: ﴿قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون﴾ الأنعام: 50.

انظر إلى قوله: ﴿لا أقول لكم﴾ إلخ، ثم إلى قوله: ﴿إن أتبع إلا ما يوحى إلي﴾ ثم إلى قوله: ﴿قل هل يستوي الأعمى والبصير﴾ إلخ، فهو ينفي أولا الفضل الذي يتوقعه عامة الناس من نبيهم ثم يثبت للرسول الرسالة فحسب ثم يبادر إلى إثبات الفضل من جهة أخرى غير الجهة التي يتوقعها الناس وهو أنه بصير بإبصار الله تعالى وأن غيره بالنسبة إليه كالأعمى بالنسبة إلى البصير وهذا هو الموجب لاتباعهم له كما يتبع الأعمى البصير، وهو المجوز له أن يدعوهم إلى اتباعه.

كلام في قدرة الأنبياء والأولياء فلسفي قرآني:

الناس في جهل بمقام ربهم وغفلة عن معنى إحاطته وهيمنته فهم مع ما تهديهم الفطرة الإنسانية إلى وجوده وأحديته يسوقهم الابتلاء بعالم المادة والطبيعة والتوغل في الأحكام والقوانين الطبيعية ثم السنن والنواميس الاجتماعية والأنس بالكثرة والبينونة إلى قياس العالم الربوبي بما ألفوا من عالم المادة فالله سبحانه عندهم مع خلقه كجبار من جبابرة البشر مع عبيده ورعيته.

فهناك فرد من الإنسان نسميه مثلا ملكا أو جبارا دونه وزراء وأمراء والجنديون والجلاوزة يجرون ما يأمر به أو ينهى أنه وله عطايا ومواهب لمن شاء وإرادة وكراهة وأخذ ورد وقبض وإطلاق ورحمة وسخط وقضاء ونسخ إلى غير ذلك.

وكل من الملك وخدمه وأياديه العمالة ورعاياه وما يدور بأيديهم من النعم وأمتعة الحياة أمر موجود محدود مستقل الوجود منفصلة عن غيره إنما يرتبط بعضهم ببعض بأحكام وقوانين وسنن اصطلاحية لا موطن لها سوى ذهن الذاهن واعتقاد المعتقد.

وقد طبقوا العالم الربوبي أعني ما يخبر به النبوة من مقام الرب تعالى وصفاته وأفعاله وملائكته وكتبه ورسله على هذا النظام فهو تعالى يريد ويكره ويعطي ويمنع ويدبر نظام الخلقة كما يفعل ذلك الواحد منا المسمى ملكا، وهو محدود الوجود منعزل الكون وكل من ملائكته وسائر خليقته مستقل الوجود يملك ما عنده من الوجود والنعم الموهوبة دون الله سبحانه، وقد كان تعالى في أزل الزمان وحده لا شيء معه من خلقه ثم أبدع في جانب الأبد الخلق فكانوا معه.

فقد أثبتوا - كما ترى - موجودا محدودا منطبق الوجود على الزمان غير أن وجوده الزماني دائمي، وله قدرة على كل شيء، وعلم بكل شيء، وإرادة لا تنكسر وقضاء لا ترد، يستقل بما عنده من الصفات والأعمال كما يستقل الواحد منا فيملك ما عنده من الحياة والعلم والقدرة وغير ذلك فحياته حياة له وليست لله، وعلمه علمه لا علم الله، وقدرته قدرته لا قدرة الله وهكذا، وإنما يقال لوجودنا أو حياتنا أو علمنا أو قدرتنا أنها لله كما يقال لما عند الرعية من النعمة أنها للملك بمعنى أنها كانت عنده فأخرجها من عنده ووضعها عندنا نتصرف فيها فجميع ذلك - كما ترى - يقوم على أساس المحدودية والانعزال.

لكن البراهين اليقينية تقضي بفساد ذلك كله فإنها تحكم بسريان الفقر والحاجة إلى الموجودات الممكنة في ذواتها وآثار ذواتها وإذا كانت الحاجة إليه تعالى في مقام الذات استحال الاستقلال عنه والانعزال منه على الإطلاق إذ لو فرض استقلال لشيء منه تعالى في وجوده أو شيء من آثار وجوده - بأي وجه فرض في حدوث أو بقاء - استغنى عنه من تلك الجهة وهو محال.

فكل ممكن غير مستقل في شيء من ذاته وآثار ذاته، والله سبحانه هو الذي يستقل في ذاته وهو الغني الذي لا يفتقر في شيء ولا يفقد شيئا من الوجود وكمال الوجود كالحياة والقدرة والعلم فلا حد له يتحدد به.

وقد تقدم بعض التوضيح لهذه المسألة في ذيل تفسير قوله تعالى: ﴿لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة﴾ المائدة: 73.

وعلى ما تقدم كان ما للممكن من الوجود أو الحياة أو القدرة أو العلم متعلق الوجود به تعالى غير مستقل منه بوجه، ولا فرق في ذلك بين القليل والكثير ما كانت خصيصة عدم الاستقلال محفوظة فيه فلا مانع من فرض ممكن له علم بكل شيء أو قدرة على كل شيء أو حياة دائمة ما دام غير مستقل الوجود عن الله سبحانه ولا منعزل الكون منه كما لا مانع من تحقق الممكن مع وجود موقت ذي أمد أو علم أو قدرة متعلقين ببعض الأشياء دون بعض.

نعم فرض الاستقلال يبطل الحاجة الإمكانية ولا فرق فيه بين الكثير والقليل كما عرفت، هذا من جهة العقل.

وأما من جهة النقل فالكتاب الإلهي وإن كان ناطقا باختصاص بعض الصفات والأفعال به تعالى كالعلم بالمغيبات والإحياء والإماتة والخلق كما في قوله: ﴿وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو﴾ الأنعام: 59، وقوله: ﴿وأنه هو أمات وأحيا﴾ النجم: 44: ﴿وقوله الله يتوفى الأنفس حين موتها﴾ الزمر: 42، وقوله: ﴿الله خالق كل شيء﴾ الزمر: 62، إلى غير ذلك من الآيات لكنها جميعا مفسرة بآيات أخر كقوله: ﴿عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول﴾ الجن: 27، وقوله: ﴿قل يتوفاكم ملك الموت﴾ الم السجدة: 11، وقوله عن عيسى (عليه السلام): ﴿وأحيا الموتى بإذن الله﴾ آل عمران: 49، وقوله: ﴿وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني﴾ المائدة: 110 إلى غير ذلك من الآيات.

وانضمام الآيات إلى الآيات لا يدع شكا في أن المراد بالآيات النافية اختصاص هذه الأمور به تعالى بنحو الأصالة والاستقلال والمراد بالآيات المثبتة إمكان تحققها في غيره تعالى بنحو التبعية وعدم الاستقلال.

فمن أثبت شيئا من العلم المكنون أو القدرة الغيبية أعني العلم من غير طريق الفكر والقدرة من غير مجراها العادي الطبيعي لغيره تعالى من أنبيائه وأوليائه كما وقع كثيرا في الأخبار والآثار ونفى معه الأصالة والاستقلال بأن يكون العلم والقدرة مثلا له تعالى وإنما ظهر ما ظهر منه بالتوسيط ووقع ما وقع منه بإفاضته وجوده فلا حجر عليه.

ومن أثبت شيئا من ذلك على نحو الأصالة والاستقلال طبق ما يثبته الفهم العامي وإن أسنده إلى الله سبحانه وفيض رحمته لم يخل من غلو وكان مشمولا لمثل قوله: ﴿لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق﴾ النساء: 171.

قوله تعالى: ﴿ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم إني إذا لمن الظالمين﴾ قال في المفردات،: زريت عليه عبته وأزريت به قصدت به وكذلك ازدريت به وأصله افتعلت قال: تزدري أعينكم أي تستقلهم تقديره تزدريهم أعينهم أي تستقلهم وتستهين بهم.

وهذا الفصل من كلامه (عليه السلام) إشارة إلى ما كان يعتقده الملأ الذين كفروا من قومه وبنوا عليه سنة الأشرافية وطريقة السيادة، وهو أن أفراد الإنسان تنقسم إلى قسمين الأقوياء والضعفاء، أما الأقوياء فهم أولوا الطول وأرباب القدرة المعتضدون بالمال والعدة، وأما الضعفاء فهم الباقون.

والأقوياء هم السادة في المجتمع الإنساني لهم النعمة والكرامة، ولأجلهم انعقاد المجتمع، وغيرهم من الضعفاء مخلوقون لأجلهم مقصودون لهم أضاحي منافعهم كالرعية بالنسبة إلى كرسي الحكومة المستبدة، والعبيدة بالنسبة إلى الموالي، والخدم والعملة بالنسبة إلى المخدومين والنساء بالنسبة إلى الرجال، وبالأخرة كل ضعيف بالنسبة إلى القوي المستعلي عليه.

وبالجملة كان معتقدهم أن الضعيف في المجتمع إنسان منحط أو حيوان في صورة إنسان إنما يرد داخل المجتمع ويشاركهم في الحياة ليستفيد الشريف من عمله وينتفع من كد يمينه لحياته من غير عكس بل هو محروم من الكرامة مطرود عن حظيرة الشرافة آيس من الرحمة والعناية.

فهذا هو الذي كانوا يرونه وكان هو المعتمد عليه في مجتمعهم، وقد رد نوح (عليه السلام) ذلك إليهم بقوله: ﴿ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا﴾ .

ثم بين خطأهم في معتقدهم بقوله: ﴿الله أعلم بما في نفوسهم﴾ أي إن أعينكم إنما تزدريهم وتستحقرهم وتستهين أمرهم لما تحس ظاهر ضعفهم وهوانهم، وليس هو الملاك في إحراز الخير ونيل الكرامة بل الملاك في ذلك وخاصة الكرامات والمثوبات الإلهية أمر النفس وتحليها بحلي الفضيلة والمنقبة المعنوية، ولا طريق لي ولا لكم إلى العلم ببواطن النفوس وخبايا القلوب إلا لله سبحانه فليس لي ولا لكم أن نحكم بحرمانهم من الخير والسعادة.

ثم بين بقوله: ﴿إني إذا لمن الظالمين﴾ السبب في تحاشيه عن هذا القول ومعناه أنه قول بغير علم، وتحريم الخير على من يمكن أن يستحقه جزافا من غير دليل ظلم لا ينبغي أن يرومه الإنسان فيدخل بذلك في زمرة الظالمين.

وهذا المعنى هو الذي يشير تعالى إليه فيما يحكيه من كلام أهل الأعراف يوم القيامة خطابا لهؤلاء الطاغين إذ يقول: ﴿ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة﴾ الأعراف: 49.

وفي الكلام أعني قول نوح (عليه السلام): ﴿ولا أقول للذين تزدري أعينكم﴾ إلخ، تعريض لهم أنهم كما كانوا يحرمون على ضعفاء المجتمع المزايا الحيوية الاجتماعية كذلك كانوا يحرمون عليهم الكرامة الدينية ويقولون: إنهم لا يسعدون بدين وإنما يسعد به أشراف المجتمع وأقوياؤهم، وفيه أيضا تعريض بأنهم ظالمون.

وإنما عقب نوح (عليه السلام) قوله: ﴿ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك﴾ وهو ينفي فيه جهات الامتياز التي كانوا يتوقعونها في الرسول عن نفسه، بقوله: ﴿ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا﴾ إلخ، مع أنه راجع إلى الضعفاء الذين آمنوا به من قومه لأن الملأ ألحقوهم به في قولهم: ﴿وما نرى لكم علينا من فضل﴾ .

وتوضيحه أن معنى قولهم هذا أن اتباعنا لك ولمن آمن بك من هؤلاء الأراذل إنما يستقيم لفضل يتم لكم علينا ولا نرى لكم علينا من فضل أما أنت فليس معك ما يختص به الرسول من قدرة ملكوتية أو علم بالغيب أو أن تكون ملكا منزها من ألواث المادة والطبيعة، وأما المؤمنون بك فإنما هم أراذلنا الآيسون من كرامة الإنسانية المحرومون من الرحمة والعناية.

فأجاب عنهم نوح بما معناه: أما أنا فلا أدعي شيئا مما تتوقعون من رسالتي فليست للرسول إلا الرسالة وأما هؤلاء الضعفاء الذين لهم هوان عندكم فمن الجائز أن يعلم الله من نفوسهم خيرا فيؤتيهم خيرا وفضلا فهو أعلم بأنفسهم، وملاك الكرامة الدينية والرحمة الإلهية زكاء النفس وسلامة القلب دون الظاهر الذي تزدريه أعينكم فلست أقول: لن يؤتيهم الله خيرا، فإنه ظلم يدخلني في زمرة الظالمين.

قوله تعالى: ﴿قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين﴾ كلام ألقوه إلى نوح (عليه السلام) بعد ما عجزوا عن دحض حجته وإبطال ما دعا إليه من الحق، وهو مسوق سوق التعجيز والمراد بقولهم: ﴿ما تعدنا﴾ ما أنذرهم به في أول دعوته من عذاب يوم أليم.

وقد أورد الله سبحانه قولهم هذا فصلا من غير تفريع لأنهم إنما قالوه بعد ما لبث فيهم أمدا بعيدا يدعوهم إلى التوحيد ويخاصمهم ويحاجهم بفنون الخصام والحجاج حتى قطع جميع معاذيرهم وأنار الحق لهم كما يدل عليه قوله تعالى فيما يحكي عنه (عليه السلام) في دعائه: ﴿قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا﴾ إلى أن قال ﴿ثم إني دعوتهم جهارا ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا﴾ نوح: 9 وفي سورة العنكبوت: ﴿فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما﴾ العنكبوت: 14.

فهذا الذي أورده الله من حجاجه قومه وجوابهم في شكل محاورة واحدة إنما وقع في مآت من السنين، وهو كثير النظير في القرآن الكريم ولا بدع فيه فإن الذي يقتص ذلك هو الله سبحانه المحيط بالدهر وبكل ما فيه والذي يسمعها بالوحي هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد أوتي من سعة النظر ما يجتمع عنده أشتات الأمم وأطراف الزمان.

والمعنى - والله أعلم - يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا حتى سئمنا ومللنا وما نحن لك بمؤمنين فأتنا بما تعدنا من العذاب، وهم لا يعترفون بالعجز عن خصامه وجداله بل يؤيسونه من أنفسهم في الحجاج ويطلبون منه أن يشتغل بما يشتغل الداعي الآيس من السمع والطاعة وهو الشر الذي يهددهم به ويذكره وراء نصحه.

قوله تعالى: ﴿قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين﴾ لما كان قولهم: ﴿فأتنا بما تعدنا﴾ إلخ، طلبا منه أن يأتيهم بالعذاب وليس ذلك إليه فإنما هو رسول، أجاب عن اقتراحهم هذا أيضا - في سياق قصر القلب - أن الإتيان بالعذاب ليس إلي بل إنما هو إلى الله فهو الذي يملك أمركم فيأتيكم بالعذاب الذي وعدتكموه بأمره فهو ربكم وإليه مرجع أمركم كله، ولا يرجع إلي من أمر التدبير شيء حتى أن وعدي إياكم بالعذاب واقتراحكم علي بطلبه لا يؤثر في ساحة كبريائه شيئا فإن يشأ يأتكم به وأن لم يشأ فلا.

ومن هنا يظهر أن قوله (عليه السلام): ﴿إن شاء﴾ من ألطف القيود في هذا المقام أفيد به حق التنزيه وهو أن الله سبحانه لا يحكم فيه شيء ولا يقهره قاهر يفعل ما يشاء ولا يفعل ما يشاء غيره نظير ما سيأتي في آخر السورة من الاستثناء في قوله: ﴿خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ﴾ هود: 108.

وقوله: ﴿وما أنتم بمعجزين﴾ تنزيه آخر لله سبحانه وهو مع ذلك جواب عن الأمر التعجيزي الذي ألقوه إليه (عليه السلام) فإن ظاهره أنهم لا يعبئون بما هددهم به من العذاب كأنهم معجزون لا يقدر عليهم.

قوله تعالى: ﴿ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم﴾ إلخ، قال في المفردات، النصح تجري فعل أو قول فيه صلاح صاحبه - قال - وهو من قولهم نصحت له الود أي أخلصته وناصح العسل خالصه أو من قولهم: نصحت الجلد خطته والناصح الخياط والنصاح الخيط.

وقال أيضا: الغي جهل من اعتقاد فاسد، وذلك أن الجهل قد يكون من الإنسان غير معتقد اعتقادا لا صالحا ولا فاسدا، وقد يكون من اعتقاد شيء فاسد، وهذا النحو الثاني يقال له غي قال تعالى: ما ضل صاحبكم وما غوى، وقال: وإخوانهم يمدونهم في الغي.

وعلى هذا فالفرق بين الإغواء والإضلال أن الإضلال إخراج من الطريق مع بقاء المقصد في ذكر الضال، والإغواء إخراجه منه مع زواله عن ذكره لاشتغاله بغيره جهلا.

والإرادة والمشية كالمترادفتين، وهي من الله سبحانه تسبيب الأسباب المؤدية لوجود شيء بالضرورة فكون الشيء مرادا له تعالى أنه تمم أسباب وجوده وأكملها فهو كائن لا محالة، وأما أصل السببية الجارية فهي مرادة بنفسها ولذا قيل: خلق الله الأشياء بالمشية والمشية بنفسها.

وبالجملة قوله: ﴿ولا ينفعكم نصحي﴾ إلخ، كأحد شقي الترديد والشق الآخر قوله: ﴿وما أنتم بمعجزين﴾ كأنه (عليه السلام) يقول: أمركم إلى الله إن شاء أن يعذبكم أتاكم بالعذاب ولا يدفع عذابه ولا يقهر مشيته شيء فلا أنتم معجزوه، ولا نصحي ينفعكم إن أردت أن أنصح لكم بعد ما أراد الله أن يغويكم لتكفروا به فيحق عليكم كلمة العذاب، وقيد نصحه بالشرط لأنهم لم يكونوا يسلمون له أنه ينصحهم.

والإغواء كالإضلال وإن لم يجز نسبته إليه تعالى إذا كان إغواء ابتدائيا لكنه جائز إذا كان بعنوان المجازاة كان يعصي الإنسان ويستوجب به الغواية فيمنعه الله أسباب التوفيق ويخليه ونفسه فيغوي ويضل عن سبيل الحق قال تعالى: ﴿يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين﴾ البقرة: 26.

وفي الكلام إشارة إلى أن نزول عذاب الاستئصال عليهم مسبوق بالإغواء الإلهي كما يلوح إليه قوله تعالى: ﴿وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا﴾ الإسراء: 16، وقال: ﴿وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم وحق عليهم القول﴾ حم السجدة: 25.

وقوله: ﴿هو ربكم وإليه ترجعون﴾ تعليل لقوله: ﴿ولا ينفعكم نصحي﴾ إلخ، أو لقوله: ﴿إنما يأتيكم به الله إن شاء - إلى قوله - يريد أن يغويكم﴾ جميعا ومحصله أن أمر تدبير العباد إلى الرب الذي إليه يرجع الأمور، والله سبحانه هو ربكم وإليه ترجعون فليس لي أن آتيكم بعذاب موعود، وليس لكم أن تعجزوه إن شاء أن يأتيكم بالعذاب فأتاكم به لاستئصالكم وليس لنصحي أن ينفعكم إن أراد هو أن يغويكم ليعذبكم.

وقد ذكروا في قوله: ﴿إن كان الله يريد أن يغويكم﴾ وجوها من التأويل: منها: أن المعنى يعاقبكم على كفركم، وقد سمى الله تعالى العذاب غيا في قوله: ﴿فسوف يلقون غيا﴾ مريم: 59.

ومنها: أن المراد إن كان الله يريد عقوبة إغوائكم الخلق وإضلالكم إياهم ومن عادة العرب أن يسمي العقوبة باسم الشيء المعاقب عليه، ومن هذا الباب قوله: ﴿الله يستهزىء بهم﴾ أي يعاقبهم على استهزائهم وقوله: ﴿ومكروا ومكر الله﴾ آل عمران: 54 أي عذبهم على مكرهم إلى غير ذلك.

ومنها: أن الإغواء بمعنى الإهلاك فالمعنى يريد أن يهلككم فهو من قولهم: غوي الفصيل إذا فسد من كثرة شرب اللبن.

ومنها: أن قوم نوح كانوا يعتقدون أن الله تعالى يضل عباده عن الدين، وأن ما هم عليه بإرادة الله، ولو لا ذلك لغيره وأجبرهم على خلافه فقال لهم نوح على وجه التعجب لقولهم والإنكار لذلك أن نصحي لا ينفعكم إن كان القول كما تقولون.

وأنت بالتأمل فيما قدمناه تعرف أن الكلام في غنى من هذه التأويلات.

قوله تعالى: ﴿أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلي إجرامي وأنا بريء مما تجرمون﴾ أصل الجرم - على ما ذكره الراغب في مفرداته - قطع الثمرة من الشجرة وأجرم أي صار ذا جرم، واستعير لكل اكتساب مكروه فالجرم بضم الجيم وفتحها بمعنى الاكتساب المكروه وهو المعصية.

والآية، واقعة موقع الاعتراض، والنكتة فيه أن دعوة نوح واحتجاجاته على وثنية قومه وخاصة ما أورده الله تعالى في هذه السورة من احتجاجه أشبه شيء بدعوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، واحتجاجه على وثنية أمته.

وإن شئت زيادة تصديق في ذلك فارجع إلى سورة الأنعام - وهي في الحقيقة سورة الاحتجاج - وقابل ما حكاه الله تعالى عن نوح في هذه السورة ما أمر الله به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في تلك السورة بقوله: ﴿قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك﴾ إلى أن قال ﴿ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي - إلى أن قال - قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين قل إني على بينة من ربي وكذبتم به﴾.

ولك أن تطبق سائر ما ذكر من حججه ع في سورة نوح والأعراف على ما ذكر من الحجج في سورة الأنعام وفي هذه السورة فتشاهد صدق ما ادعيناه.

ولهذه المشابهة والمناسبة ناسب أن يعطف بعد ذكر حجج نوح (عليه السلام) في إنذاره قومه بأمر من الله سبحانه على ما اتهموا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ورموه بالافتراء على الله، وهو لا ينذرهم ولا يلقي إليهم من الحجج إلا كما أنذر به نوح (عليه السلام) وألقاه من الحجج إلى قومه، وهذا كما ينذر رسول الملك قومه والمتمردين المستنكفين عن الطاعة ويلقي إليهم النصح ويتم عليهم الحجة فيرمونه بأنه مفتر على الملك ولا طاعة ولا وظيفة فيرجع إليهم بالنصح ثانيا، ويذكر لهم قصة رسول ناصح آخر من الملك إلى قوم آخرين نصح لهم بمثل ما نصح هو لهم فلم يتبصروا به فهلكوا فحيثما يذكر لهم حججه ومواعظه يبعثه الوجد والأسف إلى أن يتذكر رميهم إياه بالافتراء فيأسف لذلك قائلا: إنكم ترمونني بالافتراء ولم أذكر لكم إلا ما بثه هذا الرسول في قومه من كلمة الحكمة والنصيحة لا جرم إن افتريته فعلي إجرامي ولا تقبلوا قولي غير أني بريء من عملكم.

وقد عاد سبحانه إلى الأمر بمثل هذه المباراة ثانيا في آخر السورة بعد إيراد قصص عدة من الرسل حيث قال: ﴿وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك﴾ إلى أن قال ﴿وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون وانتظروا إنا منتظرون﴾ هود: 122.

وذكر بعض المفسرين أن الآية، من تمام القصة والخطاب فيها لنوح، والمعنى أم يقول قوم نوح افتراه نوح قل يا نوح إن افتريته فعلي إجرامي وأنا بريء مما تجرمون، وعلى هذا فالكلام مشتمل على نوع التفات من الغيبة إلى الخطاب وهذا بعيد عن سياق الكلام غايته.

وفي قوله: ﴿وأنا بريء مما تجرمون﴾ إثبات إجرام مستمر لهم وقد أرسل إرسال المسلمات كما في قوله: ﴿فعلي إجرامي﴾ من إثبات الجرم وذلك أن الذي ذكر من حجج نوح إن كان من الافتراء كان كذبا من حيث إن نوحا (عليه السلام) لم يحتج بهذه الحجج وهي حقة، لكنها من حيث إنها حجج عقلية قاطعة لا تقبل الكذب وهي تثبت لهؤلاء الكفار إجراما مستمرا في رفض ما يهديهم إليه من الإيمان والعمل الصالح فهم في خروجهم عن مقتضى هذه الحجج مجرمون قطعا، والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مجرم لا قطعا بل على تقدير أن يكون مفتريا وليس بمفتر.

بحث روائي:

في تفسير العياشي، عن ابن أبي نصر البزنطي عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: قال الله في نوح (عليه السلام) ولا ينفعكم نصحي - إن أردت أن أنصح لكم - إن كان الله يريد أن يغويكم قال: الأمر إلى الله يهدي ويضل.

أقول: قد مر بيانه وفي تفسير البرهان، في قوله تعالى: ﴿أم يقولون افتراه﴾ الآية، الشيباني في نهج البيان عن مقاتل قال: إن كفار مكة قالوا: إن محمدا افترى القرآن. قال: وروي مثل ذلك عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليه السلام).