الآيات 43 - 57

وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ ﴿43﴾ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ ﴿44﴾ وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ ﴿45﴾ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ ﴿46﴾ قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ ﴿47﴾ ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ ﴿48﴾ ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ﴿49﴾ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ﴿50﴾ قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ﴿51﴾ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ ﴿52﴾ وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿53﴾ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ ﴿54﴾ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ﴿55﴾ وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴿56﴾ وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ﴿57﴾

بيان:

تتضمن الآيات قصة خروجه (عليه السلام) من السجن ونيله عزة مصر والأسباب المؤدية إلى ذلك، وفيها تحقيق الملك ثانيا في اتهامه وظهور براءته التام.

قوله تعالى: ﴿وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف﴾ إلى آخر الآية.

رؤيا للملك يخبر بها الملأ والدليل عليه قوله: ﴿يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي﴾ وقوله: ﴿إني أرى﴾ حكاية حال ماضية، ومن المحتمل أنها كانت رؤيا متكررة كما يحتمل مثله في قوله سابقا: ﴿إني أراني أعصر خمرا﴾ ﴿إني أراني أحمل﴾ إلخ.

والسمان جمع سمينة والعجاف جمع عجفاء بمعنى المهزولة، قال في المجمع: ولا يجمع فعلاء على فعال غير العجفاء على عجاف والقياس في جمعه العجف بضم العين وسكون الجيم كالحمراء والخضراء والبيضاء على حمر وخضر وبيض، وقال غيره: إن ذلك من قبيل الاتباع والجمع القياسي عجف.

والإفتاء إفعال من الفتوى والفتيا، قال في المجمع،: الفتيا الجواب عن حكم المعنى وقد يكون الجواب عن نفس المعنى فلا يكون فتيا.

وقوله: ﴿تعبرون﴾ من العبر وهو بيان تأويل الرؤيا وقد يسمى تعبيرا، وهو على أي حال مأخوذ من عبور النهر ونحوه كان العابر يعبر من الرؤيا إلى ما وراءها من التأويل، وهو حقيقة الأمر التي تمثلت لصاحب الرؤيا في صورة خاصة مألوفة له.

قال في الكشاف، في قوله: ﴿سبع بقرات سمان﴾ إلخ فإن قلت: هل من فرق بين إيقاع سمان صفة للمميز وهو بقرات دون المميز وهو سبع وإن يقال: سبع بقرات سمانا؟ قلت: إذا أوقعتها صفة لبقرات فقد قصدت إلى أن تميز السبع بنوع من البقرات وهي السمان منهن لا بجنسهن، ولو وصفت بها السبع لقصدت إلى تمييز السبع بجنس البقرات لا بنوع منها ثم رجعت فوصفت المميز بالجنس بالسمن.

فإن قلت: هلا قيل: سبع عجاف على الإضافة؟ قلت: التمييز موضوع لبيان الجنس والعجاف وصف لا يقع البيان به وحده فإن قلت: فقد يقال: ثلاثة فرسان وخمسة أصحاب قلت: الفارس والصاحب والراكب ونحوها صفات جرت مجرى الأسماء فأخذت حكمها وجاز فيها ما لم يجز في غيرها، أ لا تراك لا تقول: عندي ثلاثة ضخام وأربعة غلاظ.

وقال أيضا: فإن قلت: هل في الآية دليل على أن السنبلات اليابسة كانت سبعا كالخضر؟ قلت: الكلام مبني على انصبابه إلى هذا العدد في البقرات السمان والعجاف والسنابل الخضر فوجب أن يتناول معنى الآخر السبع، ويكون قوله: ﴿وأخر يابسات﴾ بمعنى وسبعا أخر.

فإن قلت: هل يجوز أن يعطف قوله: ﴿وأخر يابسات﴾ على ﴿سنبلات خضر﴾ فيكون مجرور المحل؟ قلت: يؤدي إلى تدافع وهو أن عطفها على سنبلات خضر يقتضي أن يدخل في حكمها فيكون معها مميزا للسبع المذكورة، ولفظ الأخر يقتضي أن يكون غير السبع بيانه أنك تقول: عندي سبعة رجال قيام وقعود بالجر فيصح لأنك ميزت السبعة برجال موصوفين بقيام وقعود على أن بعضهم قيام وبعضهم قعود فلو قلت: عنده سبعة رجال قيام وآخرين قعود تدافع ففسد.

انتهى، وكلامه على اشتماله على نكتة لطيفة لا ينتج أزيد من الظن بكون السنبلات اليابسات سبعا كغيرها أما وجوب الدلالة من الكلام فلا البتة.

ومعنى الآية: وقال ملك مصر لملئه إني أرى في منامي سبع بقرات سمان يأكلهن سبع بقرات مهازيل وأرى سبع سنبلات خضر وسنبلات أخر يابسات يا أيها الملأ بينوا لي ما عندكم من حكم رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون.

قوله تعالى: ﴿قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين﴾ الأحلام جمع حلم بضمتين وقد يسكن وسطه هو ما يراه النائم في منامه وكان الأصل في معناه ما يتصور للإنسان من داخل نفسه من غير توصله إليه بالحس، ومنه تسمية العقل حلما لأنه استقامة التفكر، ومنه أيضا الحلم لزمان البلوغ قال تعالى.

﴿وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم﴾ النور: 59 أي زمان البلوغ، بلوغ العقل، ومنه الحلم بكسر الحاء بمعنى الأناءة ضد الطيش وهو ضبط النفس والطبع عن هيجان الغضب وعدم المعاجلة في العقوبة فإنه إنما يكون عن استقامة التفكر.

وذكر الراغب: أن الأصل في معناه الحلم بكسر الحاء، ولا يخلو من تكلف.

وقال الراغب: الضغث قبضة ريحان أو حشيش أو قضبان وجمعه أضغاث، قال تعالى: ﴿وخذ بيدك ضغثا﴾ وبه شبه الأحلام المختلفة التي لا تتبين حقائقها ﴿قالوا أضغاث أحلام﴾ حزم أخلاط من الأحلام.

وتسمية الرؤيا الواحدة بأضغاث الأحلام كأنه بعناية دعوى كونها صورا متفرقة مختلطة مجتمعة من رؤى مختلفة لكل واحد منها تأويل على حدة فإذا اجتمعت واختلطت عسر للمعبر الوقوف على تأويلها، والإنسان كثيرا ما ينتقل في نومة واحدة من رؤيا إلى أخرى ومنهما إلى ثالثة وهكذا فإذا اختلطت أبعاضها كانت أضغاث أحلام وامتنع الوقوف على حقيقتها ويدل على ما ذكرنا من العناية التعبير بأضغاث أحلام بتنكير المضاف والمضاف إليه معا كما لا يخفى.

على أن الآية أعني قوله: ﴿وقال الملك إني أرى﴾ إلخ، غير صريحة في كونه رؤيا واحدة وفي التوراة أنه رأى البقرات السمان والعجاف في رؤيا والسنبلات الخضر واليابسات في رؤيا أخرى.

وقوله: ﴿وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين﴾ إن كان الألف واللام للعهد فالمعنى وما نحن بتأويل هذه المنامات التي هي أضغاث أحلام بعالمين.

وإن كان لغير العهد والجمع المحلى باللام يفيد العموم فالمعنى وما نحن بتأويل جميع المنامات بعالمين وإنما نعبر غير أضغاث الأحلام منها، وعلى أي حال لا تدافع بين عدهم رؤياه أضغاث أحلام وبين نفيهم العلم بتأويل الأحلام عن أنفسهم، ولو كان المراد بالأحلام الأحلام الصحيحة فحسب كان كل من شطري كلامهم يغني عن الآخر.

ومعنى الآية قالوا أي قال الملأ للملك: ما رأيته أضغاث أحلام وأخلاط من منامات مختلفة وما نحن بتأويل هذا النوع من المنامات بعالمين أو وما نحن بتأويل جميع المنامات بعالمين وإنما نعلم تأويل الرؤى الصالحة.

قوله تعالى: ﴿وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون﴾ الأمة الجماعة التي تقصد لشأن ويغلب استعمالها في الإنسان، والمراد بها هاهنا الجماعة من السنين وهي المدة التي نسي فيها هذا القائل وهو ساقي الملك أن يذكر يوسف عند ربه وقد سأله يوسف ذلك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث يوسف في السجن بضع سنين.

والمعنى: وقال الذي نجا من السجن من صاحبي يوسف فيه وادكر بعد جماعة من السنين ما سأله يوسف في السجن حين أول رؤياه: أنا أنبئكم بتأويل ما رآه الملك في منامه فأرسلوني إلى يوسف في السجن حتى أخبركم بتأويل ذلك.

وخطاب الجمع في قوله: ﴿أنبئكم﴾ وقوله ﴿فأرسلون﴾ تشريك لمن حضر مع الملك وهم الملأ من أركان الدولة وأعضاد المملكة الذين يلون أمور الناس، والدليل عليه قوله الآتي: ﴿لعلي أرجع إلى الناس﴾ كما سيأتي.

قوله تعالى: ﴿يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان﴾ إلى آخر الآية، في الكلام حذف وتقدير إيجازا، والتقدير: فأرسلوه فجاء إلى يوسف في السجن فقال: يا يوسف أيها الصديق أفتنا في رؤيا الملك وذكر الرؤيا وذكر أن الناس في انتظار تأويله وهذا الأسلوب من لطائف أساليب القرآن الكريم.

سمى يوسف صديقا وهو كثير الصدق المبالغ فيه لما كان رأى من صدقه فيما عبر به منامه ومنام صاحبه في السجن وأمور أخرى شاهدها من فعله وقوله في السجن، وقد أمضى الله سبحانه كونه صديقا بنقله ذلك من غير رد.

وقد ذكر متن الرؤيا من غير أن يصرح أنه رؤيا فقال: ﴿أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات﴾ لأن قوله: ﴿أفتنا﴾ وهو سؤال الحكم الذي يؤدي إليه نظره، وكون المعهود فيما بينه وبين يوسف تأويل الرؤيا، وكذا ذيل الكلام يدل على ذلك ويكشف عنه.

وقوله: ﴿لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون﴾ لعل الأول تعليل لقوله: ﴿أفتنا﴾ ولعل الثاني تعليل لقوله ﴿أرجع﴾ والمراد أفتنا في أمر هذه الرؤيا ففي إفتائك رجاء أن أرجع به إلى الناس وأخبرهم بها وفي رجوعي إليهم رجاء أن يعلموا به فيخرجوا به من الحيرة والجهالة.

ومن هنا يظهر أن قوله: ﴿أرجع﴾ في معنى أرجع بذلك فمن المعلوم أنه لو أفتى فيه فرجع المستفتي إلى الناس كان رجوعه رجوع عالم بتأويله خبير بحكمه فرجوعه عندئذ إليهم رجوع بمصاحبة ما ألقي إليه من التأويل فافهم ذلك.

وفي قوله أولا: ﴿أفتنا﴾ وثانيا: ﴿لعلي أرجع إلى الناس﴾ دلالة على أنه كان يستفتيه بالرسالة عن الملك والملأ ولم يكن يسأله لنفسه حتى يعلمه ثم يخبرهم به بل ليحمله إليهم ولذلك لم يخصه يوسف بالخطاب بل عم الخطاب له ولغيره فقال: ﴿تزرعون﴾ إلخ.

وفي قوله: ﴿إلى الناس﴾ إشعار أو دلالة على أن الناس كانوا في انتظار أن يرتفع بتأويله حيرتهم، وليس إلا أن الملأ كانوا هم أولياء أمور الناس وخيرتهم في الأمر خيرة الناس أو أن الناس أنفسهم كانوا على هذا الحال لتعلقهم بالملك واهتمامهم برؤياه لأن الرؤيا ناظرة غالبا إلى ما يهتم به الإنسان من شئون الحياة والملوك إنما يهتمون بشئون المملكة وأمور الرعية.

قوله تعالى: ﴿قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون﴾ قال الراغب: الدأب إدامة السير دأب في السير دأبا قال تعالى: ﴿وسخر لكم الشمس والقمر دائبين﴾ والدأب العادة المستمرة دائما على حاله قال تعالى: ﴿كدأب آل فرعون﴾ أي كعادتهم التي يستمرون عليها.

انتهى وعليه فالمعنى تزرعون سبع سنين زراعة متوالية مستمرة، وقيل: هو من دأب بمعنى التعب أي تزرعون بجد واجتهاد، ويمكن أن يكون حالا أي تزرعون دائبين مستمرين أو مجدين مجتهدين فيه.

ذكروا أن ﴿تزرعون﴾ خبر في معنى الإنشاء، وكثيرا ما يؤتى بالأمر في صورة الخبر مبالغة في وجوب الامتثال كأنه واقع يخبر عنه كقوله تعالى: ﴿تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله﴾ الصف: 11، والدليل عليه قوله بعد: ﴿فما حصدتم فذروه في سنبله﴾ قيل: وإنما أمر بوضعه وتركه في سنبله لأن السنبل لا يقع فيه سوس ولا يهلك وإن بقي مدة من الزمان، وإذا ديس وصفي أسرع إليه الهلاك.

والمعنى: ازرعوا سبع سنين متواليات فما حصدتم فذروه في سنبله لئلا يهلك واحفظوه كذلك إلا قليلا وهو ما تأكلون في هذه السنين.

قوله تعالى: ﴿ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون﴾ الشداد جمع شديد من الشدة بمعنى الصعوبة لما في سني الجدب والمجاعة من الصعوبة والحرج على الناس أو هو من شد عليه إذا كر، وهذا أنسب لما بعده من توصيفها بقوله: ﴿يأكلن ما قدمتم لهن﴾ .

وعليه فالكلام يشتمل على تمثيل لطيف كان هذه السنين سباع ضارية تكر على الناس لافتراسهم وأكلهم فيقدمون إليها ما ادخروه عندهم من الطعام فتأكله وتنصرف عنهم.

والإحصان الإحراز والإدخار، والمعنى ثم يأتي من بعد ذلك أي ما ذكر من السنين الخصبة سبع سنين شداد يشددن عليكم يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحرزون وتدخرون.

قوله تعالى: ﴿ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون﴾ يقال: غاثه الله وأغاثه أي نصره، ويغيثه بفتح الياء وضمها أي ينصره وهو من الغوث بمعنى النصرة وغاثهم الله يغيثهم من الغيث وهو المطر، فقوله: ﴿فيه يغاث الناس﴾ إن كان من الغوث كان معناه: ينصرون فيه من قبل الله سبحانه بكشف الكربة ورفع الجدب والمجاعة وإنزال النعمة والبركة، وإن كان من الغيث كان معناه: يمطرون فيرتفع الجدب من بينهم.

وهذا المعنى الثاني أنسب بالنظر إلى قوله بعده: ﴿وفيه يعصرون﴾ ولا يصغى إلى قول من يدعي: أن المعنى الأول هو المتبادر من سياق الآية إلا على قراءة ﴿يعصرون﴾ بالبناء للمجهول ومعناه يمطرون.

وما أورده بعض المستشرقين على المعنى الثاني أنه لا ينطبق على مورد الآية فإن خصب مصر إنما يكون بفيضان النيل لا بالمطر فالأمطار لا تؤثر فيها أثرا.

رد عليه بأن الفيضان نفسه لا يكون إلا بالمطر الذي يمده في مجاريه من بلاد السودان.

على أن من الجائز أن يكون ﴿يغاث﴾ مأخوذا من الغيث بمعنى النبات، قال في لسان العرب،: والغيث الكلاء ينبت من ماء السماء انتهى، وهذا أنسب من المعنيين السابقين بالنظر إلى قوله: ﴿وفيه يعصرون﴾ .

وقوله: ﴿وفيه يعصرون﴾ من العصر وهو إخراج ما في الشيء من ماء أو دهن بالضغط كإخراج ماء العنب والتمر للدبس وغيره وإخراج دهن الزيت والسمسم للائتدام والاستصباح وغيرهما، ويمكن أن يراد بالعصر الحلب أي يحلبون ضروع أنعامهم كما فسره بعضهم به.

والمعنى ثم يأتي من بعد ذلك أي ما ذكر من السبع الشداد عام فيه تنبت أراضيهم - أو يمطرون أو ينصرون - وفيه يتخذون الأشربة والأدهنة من الفواكه والبقول أو يحلبون ضروع أنعامهم.

وفيه كناية عن توفر النعمة عليهم وعلى أنعامهم ومواشيهم.

قال البيضاوي في تفسيره، وهذه بشارة بشرهم بها بعد أن أول البقرات السمان والسنبلات الخضر بسنين مخصبة، والعجاف واليابسات بسنين مجدبة، وابتلاع العجاف السمان بأكل ما جمع في السنين المخصبة في السنين المجدبة، ولعله علم ذلك بالوحي أو بأن انتهاء الجدب بالخصب أو بأن السنة الإلهية أن يوسع على عباده بعد ما ضيق عليهم.

انتهى وذكر غيره نحوا مما ذكره.

وقال صاحب المنار في تفسيره، في الآية: والمراد أن هذا العام عظيم الخصب والإقبال يكون للناس فيه كل ما يبغون من النعمة والإتراف، والإنباء بهذا زائد على تأويل الرؤيا لجواز أن يكون العام الأول بعد سني الشدة والجدب دون ذلك فهذا التخصيص والتفصيل لم يعرفه يوسف إلا بوحي من الله عز وجل لا مقابل له في رؤيا الملك ولا هو لازم من لوازم تأويلها بهذا التفصيل.

والذي أرى أنهم سلكوا تفسير آيات الرؤيا وتأويلها سبيل المساهلة والمسامحة وذلك أنا إذا تدبرنا في كلامه (عليه السلام) في التأويل أعني قوله: ﴿تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون﴾ وجدناه (عليه السلام) لم يبن كلامه على أساس إخبارهم بما سيستقبلهم من السنين السبع المخصبة ثم السنين السبع المجدبة، ولو أنه أراد ذلك لكان من حق الكلام أن يقول مثلا: يأتي عليكم سبع مخصبات ثم يأتي من بعدها سبع شداد يذهبن بما عندكم من الذخائر ثم إذا سئل عن دفع هذه المخمصة وطريق النجاة من هذه المهلكة العامة، قال: تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلى آخر ما قال.

بل بنى كلامه على ذكر ما يجب عليهم من العمل وبين أن أمره بذلك توطئة وتقدمة للتخلص عما يهددهم من المجاعة والمخمصة وهو ظاهر، وهذا دليل على أن الذي رآه الملك من الرؤيا إنما كان مثال ما يجب عليه من اتخاذ التدبير لإلجاء الناس من مصيبة الجدب، وإشارة إلى ما هو وظيفته قبال مسئوليته في أمر رعيته وهو أن يسمن بقرات سبعا لتأكلهن بقرات مهازيل ستشد عليهم ويحفظ السنابل الخضر السبع بعد ما يبست على حالها من غير دوس وتصفية لذلك.

فكأن نفس الملك شاهدت في المنام ما يجب عليه من العمل قبال ما يهدد الأرض من سنة الجدب فحكت السنين المخصبة والمجدبة أي الرزق الذي يرتزقون به فيها في صورة البقرة ثم حكت ما في السبع الأول من تكثير المحصول بزرعها دأبا في صورة السمن وما في السبع الآخر في صورة الهزال، وحكت نفاد ما ادخروه في السبع الأولى في السبع الثانية بأكل العجاف للسمان، وحكت ما يجب عليهم في حفظ ذخائر الرزق بالسنبلات اليابسة قبال السنبلات الخضر.

ولم يزد يوسف (عليه السلام) في تأويله على ذلك شيئا إلا أمورا ثلاثة: أحدها ما استثناه بقوله: ﴿إلا قليلا مما تأكلون﴾ وليس جزء من التأويل وإنما هو إباحة وبيان لمقدار التصرف الجائز فيما يجب أن يذروه في سنبله.

وثانيها: قوله: ﴿إلا قليلا مما تحصنون﴾ وهو الذي يجب أن يدخروه للعام الذي فيه يغاث الناس وفيه يعصرون ليتخذ بذرا ومددا احتياطيا، وكأنه (عليه السلام) أخذه من قوله في حكاية الرؤيا: ﴿يأكلهن سبع عجاف﴾ حيث لم يقل: أكلتهن بل عبر عن اشتغالهن بأكلهن ولما يفنيهن بأكل كلهن ولو كانت ذخائرهم تنفد في السنين السبع الشداد لرأى أنهن أكلتهن عن آخرهن.

وثالثها: قوله: ﴿ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون﴾ والظاهر أنه (عليه السلام) استفاده من عدد السبع الذي تكرر في البقرات السمان والعجاف والسنبلات الخضر، وقوله: ﴿ثم يأتي من بعد ذلك عام﴾ وإن كان إخبارا صورة عن المستقبل لكنه كناية عن أن هذا العام الذي سيستقبلهم بعد مضي السبع الشداد في غنى عن اجتهادهم في أمر الزرع والإدخار، ولا تكليف فيه يتوجه إليهم بالنسبة إلى أرزاق الناس.

ولعله لهذه الثلاثة غير السياق فقال: ﴿فيه يغاث الناس وفيه يعصرون﴾ ولم يقل: فيه تغاثون وفيه تعصرون بالجري على نحو الخطاب في الآيتين السابقتين ففيه إشارة إلى أن الناس في هذا العام في غنى عن اجتهادكم في أمر معاشهم وتصديكم لإدارة أرزاقهم بل يغاثون ويعصرون لنزول النعمة والبركة في سنة مخصبة.

ومن هنا يظهر اندفاع ما ذكره صاحب المنار، في كلامه المتقدم أن هذا التخصيص لم يعرفه يوسف (عليه السلام) إلا بوحي من الله لا مقابل له في رؤيا الملك ولا هو لازم من لوازم تأويلها بهذا التفصيل.

فإن تبدل سني الجدب بسنة الخصب مما يستفاد من الرؤيا بلا ريب فيه، وأما ما ذكره من كون هذه السنة ذات مزية بالنسبة إلى سائر سني الخصب تزيد عليها في وفور الرزق فلا دليل عليها من جهة اللفظ البتة.

ومما ذكرنا أيضا تظهر النكتة في ترك توصيف السنبلات اليابسات في الآية بالسبع حيث قيل: ﴿وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات﴾ حيث عرفت أن الرؤيا لا تجلي نفس حادثة الخصب والجدب، وإنما تجلي ما هو التكليف العملي قبال الحادثة فيكون توصيف السنابل اليابسة بالسبع مستدركا مستغنى عنه بخلاف ما لو كان ذلك إشارة إلى نفس السنين المجدبة فافهم ذلك.

ومما تقدم يظهر أيضا أن الأنسب أن يكون المراد بقوله: ﴿يغاث﴾ وقوله: ﴿يعصرون﴾ الإمطار أو إعشاب الكلاء وحلب المواشي لأن ذلك هو المناسب لما رآه في منامه من البقرات السبع سمانا وعجافا فإن هذا هو المعهود، ومنه يظهر وجه تخصيص الغيث والعصر بالذكر في هذه الآية، والله أعلم.

قوله تعالى: ﴿وقال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم﴾ في الكلام حذف وإضمار إيجازا، والتقدير - على ما يدل عليه السياق والاعتبار بطبيعة الأحوال - وجاء الرسول وهو الساقي فنبأهم بما ذكره يوسف من تأويل الرؤيا وقال الملك بعد ما سمعه: ائتوني به.

وظاهر أن الذي أنبأهم به من جدب سبع سنين متوالية كان أمرا عظيما، والذي أشار إليه من الرأي البين الصواب أعظم منه وأغرب عند الملك المهتم بأمر أمته المعتني بشئون مملكته، وقد أفزعه ما سمع وأدهشه، ولذلك أمر بإحضاره ليكلمه ويتبصر بما يقوله مزيد تبصر، ويشهد بهذا ما حكاه الله تعالى من تكليمه إياه بقوله: ﴿فلما جاءه وكلمه﴾ إلخ.

ولم يكن أمره بإتيانه به إشخاصا له بل إطلاقا من السجن وإشخاصا للتكليم و، لو كان إشخاصا وإحضارا لمسجون يعود إلى السجن بعد التكليم لم يكن ليوسف (عليه السلام) أن يستنكف عن الحضور بل أجبر عليه إجبارا بل كان إحضارا عن عفو وإطلاق فوسعه أن يأتي الحضور ويسأله أن يقضي فيه بالحق، وكانت نتيجة هذا الإباء والسؤال أن يقول الملك ثانيا: ائتوني به أستخلصه لنفسي بعد ما قال أولا: ائتوني به.

وقد راعى (عليه السلام) أدبا بارعا في قوله للرسول: ﴿ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن﴾ فلم يذكر امرأة العزيز بما يسوؤه وليس يريد إلا أن يقضي بينه وبينها، وإنما أشار إلى النسوة اللاتي راودنه، ولم يذكرهن أيضا بسوء إلا بأمر يظهر بالتحقيق فيه براءته ولا براءته من مراودة امرأة العزيز بل نزاهته من أي مراودة وفحشاء تنسب إليه فقد كان بلاؤه عظيما.

ولم يذكرهن بشيء من المكروه إلا ما في قوله: ﴿إن ربي بكيدهن عليم﴾ وليس إلا نوعا من بث الشكوى لربه.

وما ألطف قوله في صدر الآية وذيلها حيث يقول للرسول: ﴿ارجع إلى ربك فاسأله﴾ ثم يقول: ﴿إن ربي بكيدهن عليم﴾ وفيه نوع من تبليغ الحق، وليكن فيه تنبه لمن يزعم أن مراده من ﴿ربي﴾ فيما قال لامرأة العزيز: ﴿إنه ربي أحسن مثواي﴾ هو زوجها، وأنه يسميه ربا لنفسه.

وما ألطف قوله: ﴿ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن﴾ والبال هو الأمر الذي يهتم به يقول: ما هو الأمر العظيم والشأن الخطير الذي أوقعهن فيما وقعن فيه، وليس إلا هواهن فيه وولههن في حبه حتى أنساهن أنفسهن فقطعن الأيدي مكان الفاكهة تقطيعا فليفكر الملك في نفسه أن الابتلاء بمثل هذه العاشقات الوالهات عظيم جدا، والكف عن معاشقتهن والامتناع من إجابتهن بما يردنه وهن يفدينه بالأنفس والأموال أعظم، ولم يكن المراودة بالمرة والمرتين ولا الإلحاح والإصرار يوما أو يومين ولن تتيسر المقاومة والاستقامة تجاه ذلك إلا لمن صرف الله عنه السوء والفحشاء ببرهان من عنده.

قوله تعالى: ﴿قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء﴾ الآية، قال الراغب: الخطب الأمر العظيم الذي يكثر فيه التخاطب قال تعالى: ﴿فما خطبك يا سامري﴾ ﴿فما خطبكم أيها المرسلون﴾.

وقال أيضا: حصحص الحق أي وضح وذلك بانكشاف ما يظهره، وحص وحصحص نحو كف وكفكف وكب وكبكب، وحصة قطع منه إما بالمباشرة وإما بالحكم - إلى أن قال - والحصة القطعة من الجملة، ويستعمل استعمال النصيب.

وقوله: ﴿قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه﴾ جواب عن سؤال مقدر على ما في الكلام من حذف وإضمار إيجازا - كل ذلك يدل عليه السياق - والتقدير: كان سائلا يسأل فيقول: فما الذي كان بعد ذلك؟ وما فعل الملك؟ فقيل: رجع الرسول إلى الملك وبلغه ما قاله يوسف وسأله من القضاء فأحضر النسوة وسألهن عما يهم من شأنهن في مراودتهن ليوسف: ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه؟ قلن: ﴿حاش لله ما علمنا عليه من سوء﴾ فنزهنه عن كل سوء، وشهدن أنهن لم يظهر لهن منه ما يسوء فيما راودنه عن نفسه.

وذكرهن كلمة التنزيه: ﴿حاش لله﴾ نظير تنزيههن حينما رأينه لأول مرة: ﴿حاش لله ما هذا بشرا﴾ يدل على بلوغه (عليه السلام) النهاية في النزاهة والعفة فيما علمنه كما أنه كان بالغا في الحسن.

والكلام في فصل قوله: ﴿قالت امرأة العزيز﴾ نظير الكلام في قوله ﴿قال ما خطبكن﴾ وقوله: ﴿قلن حاش لله﴾ فعند ذلك تكلمت امرأة العزيز وهي الأصل في هذه الفتنة واعترفت بذنبها وصدقت يوسف (عليه السلام) فيما كان يدعيه من البراءة قالت: الآن حصحص ووضح الحق وهو أنه: أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين فنسبت المراودة إلى نفسها وكذبت نفسها في اتهامه بالمراودة، ولم تقنع بذلك بل برأته تبرئة كاملة أنه لم يراود ولا أجابها في مراودتها بالطاعة.

واتضحت بذلك براءته (عليه السلام) من كل وجه، وفي قول النسوة وقول امرأة العزيز جهات من التأكيد بالغة في ذلك كنفي السوء عنه بالنكرة في سياق النفي مع زيادة من: ﴿ما علمنا عليه من سوء﴾ مع كلمة التنزيه: ﴿حاش لله﴾ في قولهن، واعترافها بالذنب في سياق الحصر: ﴿أنا راودته عن نفسه﴾ وشهادتها بصدقه مؤكدة بأن واللام والجملة الاسمية: ﴿وإنه لمن الصادقين﴾ وغير ذلك في قولها.

وهذا ينفي عنه (عليه السلام) كل سوء أعم من الفحشاء والمراودة لها وأي ميل ونزعة إليها وكذب وافتراء، بنزاهه من حسن اختياره.

قوله تعالى: ﴿ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين﴾ من كلام يوسف (عليه السلام) على ما يدل عليه السياق، وكأنه قاله عن شهادة النسوة على براءة ساحته من كل سوء واعتراف امرأة العزيز بالذنب وشهادتها بصدقه وقضاء الملك ببراءته.

وحكاية القول كثير النظير في القرآن كقوله: ﴿آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله﴾ البقرة: 285 أي قالوا لا نفرق، وقوله: ﴿وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون﴾ الصافات: 166.

وعلى هذا فالإشارة بقوله: ﴿ذلك﴾ إلى إرجاع الرسول إلى الملك وسؤاله القضاء، والضمير في ﴿ليعلم﴾ و﴿لم أخنه﴾ عائد إلى العزيز والمعنى إنما أرجعت الرسول إلى الملك وسألته أن يحقق الأمر ويقضي بالحق ليعلم العزيز أني لم أخنه بالغيب بمراودة امرأته وليعلم أن الله لا يهدي كيد الخائنين.

يذكر (عليه السلام) لما فعله من الإرجاع والسؤال غايتين: أحدهما: أن يعلم العزيز أنه لم يخنه وتطيب نفسه منه ويزول عنها وعن أمره أي شبهة وريبة.

والثاني: أن يعلم أن الخائن مطلقا لا ينال بخيانته غايته وأنه سيفتضح لا محالة سنة الله التي قد خلت في عباده ولن تجد لسنة الله تبديلا فإن الخيانة من الباطل، والباطل لا يدوم وسيظهر الحق عليه ظهورا، ولو اهتدى الخائن إلى بغيته لم تفتضح النسوة اللاتي قطعن أيديهن وأخذن بالمراودة ولا امرأة العزيز فيما فعلت وأصرت عليه فالله لا يهدي كيد الخائنين.

وكان الغرض من الغاية الثانية: ﴿وأن الله لا يهدي كيد الخائنين﴾ وتذكيره وتعليمه للملك، الحصول على لازم فائدة الخبر وهو أن يعلم الملك أنه (عليه السلام) عالم بذلك مذعن بحقيقته فإذا كان لم يخنه في عرضه بالغيب ولا يخون في شيء البتة كان جديرا بأن يؤتمن على كل شيء نفسا كان أو عرضا أو مالا.

وبهذا الامتياز البين يتهيأ ليوسف ما كان بباله أن يسأل الملك إياه وهو قوله بعد أن أشخص عند الملك: ﴿اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم﴾ .

والآية ظاهرة في أن هذا الملك هو غير عزيز مصر زوج المرأة الذي أشير إليه بقوله: ﴿وألفيا سيدها لدى الباب﴾ وقوله: ﴿وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه﴾.

وقد ذكر بعض المفسرين أن هذه الآية والتي بعدها تتمة قول امرأة العزيز: ﴿الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين﴾ وسيأتي الكلام عليه.

قوله تعالى: ﴿وما أبرىء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم﴾ تتمة كلام يوسف (عليه السلام) وذلك أن قوله: ﴿أني لم أخنه بالغيب﴾ كان لا يخلو من شائبة دعوى الحول والقوة وهو (عليه السلام) من المخلصين المتوغلين في التوحيد الذين لا يرون لغيره تعالى حولا ولا قوة فبادر (عليه السلام) إلى نفي الحول والقوة عن نفسه ونسبة ما ظهر منه من عمل صالح أو صفة جميلة إلى رحمة ربه، وتسوية نفسه بسائر النفوس التي هي بحسب الطبع مائلة إلى الأهواء أمارة بالسوء فقال: ﴿وما أبرىء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي﴾ فقوله هذا كقول شعيب (عليه السلام): ﴿إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله﴾ هود: 88.

فقوله: ﴿وما أبرىء نفسي﴾ إشارة إلى قوله: ﴿أني لم أخنه بالغيب﴾ وأنه لم يقل هذا القول بداعي تنزيه نفسه وتزكيتها بل بداعي حكاية رحمة من ربه، وعلل ذلك بقوله ﴿إن النفس لأمارة بالسوء﴾ أي إن النفس بطبعها تدعو إلى مشتهياتها من السيئات على كثرتها ووفورها فمن الجهل أن تبرأ من الميل إلى السوء، وإنما تكف عن أمرها بالسوء ودعوتها إلى الشر برحمة من الله سبحانه تصرفها عن السوء وتوفقها لصالح العمل.

ومن هنا يظهر أن قوله: ﴿إلا ما رحم ربي﴾ يفيد فائدتين؟.

إحداهما: تقييد إطلاق قوله: ﴿إن النفس لأمارة بالسوء﴾ فيفيد أن اقتراف الحسنات الذي هو برحمة من الله سبحانه من أمر النفس وليس يقع عن إلجاء وإجبار من جانبه تعالى.

وثانيتهما: الإشارة إلى أن تجنبه الخيانة كان برحمة من ربه.

وقد علل الحكم بقوله: ﴿إن ربي غفور رحيم﴾ فأضاف مغفرته تعالى إلى رحمته لأن المغفرة تستر النقيصة اللازمة للطبع والرحمة يظهر بها الأمر الجميل، ومغفرته تعالى كما تمحو الذنوب وآثارها كذلك تستر النقائض وتبعاتها وتتعلق بسائر النقائص كما تتعلق بالذنوب، قال تعالى.

﴿فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم﴾ الأنعام: 145 وقد تقدم الكلام فيها في آخر الجزء السادس من الكتاب.

ومن لطائف ما في كلامه من الإشارة تعبيره (عليه السلام) عن الله عز اسمه بلفظ ﴿ربي﴾ فقد كرره ثلاثا حيث قال: ﴿إن ربي بكيدهن عليم﴾ ﴿إلا ما رحم ربي﴾ ﴿إن ربي غفور رحيم﴾ لأن هذه الجمل تتضمن نوع إنعام من ربه بالنسبة إليه فأثنى على الرب تعالى بإضافته إلى نفسه لتبليغ مذهبه وهو التوحيد باتخاذ الله سبحانه ربا لنفسه معبودا خلافا للوثنيين، وأما قوله: ﴿وأن الله لا يهدي كيد الخائنين﴾ فهو خال عن هذه النسبة ولذلك عبر بلفظ الجلالة.

وقد ذكر جمع من المفسرين أن الآيتين أعني قوله: ﴿ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب﴾ إلخ من تمام كلام امرأة العزيز، والمعنى على هذا أن امرأة العزيز لما اعترفت بذنبها وشهدت بصدقه قالت: ﴿ذلك﴾ أي اعترافي بأني راودته عن نفسه وشهادتي بأنه من الصادقين ﴿ليعلم﴾ إذا بلغه عني هذا الكلام ﴿أني لم أخنه بالغيب﴾ بل اعترفت بأن المراودة كانت من قبلي أنا وأنه كان صادقا ﴿وأن الله لا يهدي كيد الخائنين﴾ كما أنه لم يهد كيدي أنا إذ كدته بأنواع المراودة وبالسجن بضع سنين حتى أظهر صدقه في قوله وطهارة ذيله وبراءة نفسه وفضحني أمام الملك والملأ ولم يهد كيد سائر النسوة في مراودتهن ﴿وما أبرىء نفسي﴾ من السوء مطلقا فإني كدت له بالسجن ليلجأ به إلى أن يفعل ما آمره ﴿إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم﴾ .

وهذا وجه رديء جدا أما أولا: فلأن قوله: ﴿ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب﴾ لو كان من كلام امرأة العزيز لكان من حق الكلام أن يقال: وليعلم أني أخنه بالغيب - بصيغة الأمر - فإن قوله ﴿ذلك﴾ على هذا الوجه إشارة إلى اعترافها بالذنب وشهادتها بصدقه فقوله: ﴿لم أخنه بالغيب﴾ إن كان عنوانا لاعترافها وشهادتها مشارا به إلى ذلك خلى الكلام عن الفائدة فإن محصل معناه حينئذ: إنما اعترفت وشهدت ليعلم أني اعترفت وشهدت له بالغيب.

مضافا إلى أن ذلك يبطل معنى الاعتراف والشهادة لدلالته على أنها إنما اعترفت وشهدت ليسمع يوسف ذلك ويعلم به، لا لإظهار الحق وبيان حقيقة الأمر.

وإن كان عنوانا لأعمالها طول غيبة إذ لبث بضع سنين في السجن أي إنما اعترفت وشهدت له ليعلم أني لم أخنه طول غيبته، فقد خانته إذ كادت به فسجن ولبث في السجن بضع سنين مضافا إلى أن اعترافها وشهادتها لا يدل على عدم خيانتها له بوجه من الوجوه وهو ظاهر.

وأما ثانيا: فلانه لا معنى حينئذ لتعليمها يوسف إن الله لا يهدي كيد الخائنين، وقد ذكرها يوسف به أول حين إذ راودته عن نفسه فقال: ﴿إنه لا يفلح الظالمون﴾ .

وأما ثالثا: فلأن قولها: ﴿وما أبرىء نفسي فقد خنته بالكيد له بالسجن﴾ يناقض قولها: ﴿لم أخنه بالغيب﴾ كما لا يخفى مضافا إلى أن قوله: ﴿إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم﴾ على ما فيه من المعارف الجليلة التوحيدية ليس بالحري أن يصدر من امرأة أحاطت بها الأهواء وهي تعبد الأصنام.

وذكر بعضهم وجها آخر في معنى الآيتين بإرجاع ضمير ﴿ليعلم﴾ و﴿لم أخنه﴾ إلى العزيز وهو زوجها فهي كأنها تقول: ذاك الذي حصل أقررت به ليعلم زوجي أني لم أخنه بالفعل فيما كان من خلواتي بيوسف في غيبته عنا، وأن كل ما وقع أني راودته عن نفسه فاستعصم وامتنع فبقي عرض زوجي مصونا وشرفه محفوظا، ولئن برئت يوسف من الإثم فما أبرىء منه نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي.

وفيه: أن الكلام لو كان من كلامها وهي تريد أن تطيب به نفس زوجها وتزيل أي ريبة عن قلبه أنتج خلاف المطلوب فإن قولها.

﴿الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين﴾ إنما يفيد العلم بأنها راودته عن نفسه، وأما شهادتها أنه امتنع ولم يطعها فيما أمرته به فهي شهادة لنفسها لا عليها، وكان من الممكن أنها إنما شهدت له لتطيب نفس زوجها وتزيل ما عنده من الشك والريب فاعترافها وشهادتها لا توجب في نفسها علم العزيز أنها لم تخنه بالغيب.

مضافا إلى أن قوله: ﴿وما أبرىء نفسي﴾ إلخ يكون حينئذ تكرارا لمعنى قولها: ﴿أنا راودته عن نفسه﴾ وظاهر السياق خلافه.

على أن بعض الاعتراضات الواردة على الوجه السابق وارد عليه.

قوله تعالى: ﴿وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين﴾ يقال: استخلصه أي جعله خالصا، والمكين صاحب المكانة والمنزلة، وفي قوله: ﴿فلما كلمه﴾ حذف للإيجاز والتقدير: فلما أتي به إليه وكلمه قال إنك اليوم إلخ وفي تقييد الحكم باليوم إشارة إلى التعليل، والمعنى أنك اليوم وقد ظهر من مكارم أخلاقك في التجنب عن السوء والفحشاء والخيانة والظلم، والصبر على كل مكروه وصغار في سبيل طهارة نفسك، واختصاصك بتأييد من ربك غيبي وعلم بالأحاديث والرأي والحزم والحكمة والعقل لدينا ذو مكانة وأمانة، وقد أطلق قوله: ﴿مكين أمين﴾ فأفاد بذلك عموم الحكم.

والمعنى: وقال الملك ائتوني بيوسف أجعله خالصا لنفسي وخاصة لي فلما أتي به إليه وكلمه قال له إنك اليوم وقد ظهر من كمالك ما ظهر لدينا ذو مكانة مطلقة وأمانة مطلقة يمكنك من كل ما تريد ويأتمنك على جميع شئون الملك وفي ذلك حكم صدارته.

قوله تعالى: ﴿قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم﴾ لما عهد الملك ليوسف أنك اليوم لدينا مكين أمين وأطلق القول سأله يوسف (عليه السلام) أن ينصبه على خزائن الأرض ويفوض إليه أمرها، والمراد بالأرض أرض مصر.

ولم يسأله ما سأل إلا ليتقلد بنفسه إدارة أمر الميرة وأرزاق الناس فيجمعها ويدخرها للسنين السبع الشداد التي سيستقبل الناس وتنزل عليهم جدبها ومجاعتها ويقوم بنفسه لقسمة الأرزاق بين الناس وإعطاء كل منهم ما يستحقه من الميرة من غيره حيف.

وقد علل سؤاله ذلك بقوله: ﴿إني حفيظ عليم﴾ فإن هاتين الصفتين هما اللازم وجودهما فيمن يتصدى مقاما هو سائله ولا غنى عنهما له، وقد أجيب إلى ما سأل واشتغل بما كان يريده كل ذلك معلوم من سياق الآيات وما يتلوها.

قوله تعالى: ﴿وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين﴾ التمكين هو الإقدار والتبوء أخذ المكان.

والإشارة بقوله: ﴿كذلك﴾ إلى ما ساقه من القصة بما انتهى إلى نيله (عليه السلام) عزة مصر، وهو حديث السجن وقد كانت امرأة العزيز هددته بالصغار بالسجن فجعله الله سببا للعزة، وعلى هذا النمط كان يجري أمره (عليه السلام) أكرمه أبوه فحسده إخوته فكادوا به بإلقائه في غيابة الجب وبيعه من السيارة ليذلوه فأكرم الله مثواه في بيت العزيز، وكادت به امرأة العزيز ونسوة مصر ليوردنه مورد الفجور فأبان الله عصمته ثم كادت به بالسجن لصغاره فتسبب الله بذلك لعزته.

وللإشارة إلى أمر السجن وحبسه وسلبه حرية الاختلاط والعشرة، قال تعالى: ﴿وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء﴾ أي رفعنا عنه حرج السجن الذي سلب منه إطلاق الإرادة فصار مطلق المشية له أن يتبوأ في أي بقعة يشاء فهذا الكلام بوجه يحاذي قوله تعالى السابق فيه حين دخل بيت العزيز ووصاه امرأته: ﴿وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث والله غالب على أمره﴾ .

وبهذه المقايسة يظهر أن قوله هاهنا: ﴿نصيب برحمتنا من نشاء﴾ في معنى قوله هناك: ﴿والله غالب على أمره﴾ وإن المراد أن الله سبحانه إذا شاء أن يصيب برحمته أحدا لم يغلب في مشيته ولا يسع لأي مانع مفروض أن يمنع من إصابته.

ولو وسع لسبب أن يبطل مشية الله في أحد لوسع في يوسف الذي تعاضدت الأسباب القاطعة وتظاهرت لخفضه فرفعه الله ولإذلاله فأعزه الله، إن الحكم إلا لله.

وقوله: ﴿ولا نضيع أجر المحسنين﴾ إشارة إلى أن هذا التمكين أجر أوتيه يوسف (عليه السلام)، ووعد جميل للمحسنين جميعا أن الله لا يضيع أجرهم.

قوله تعالى: ﴿ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون﴾ أي لأولياء الله من عباده فهو وعد جميل أخروي لأوليائه تعالى خاصة وكان يوسف (عليه السلام) منهم.

والدليل على أنه لا يعم عامة المؤمنين الجملة الحالية: ﴿وكانوا يتقون﴾ الدالة على أن هذا الإيمان وهو حقيقة الإيمان لا محالة كان منهم مسبوقا بتقوى مستمر حقيقي وهذا التقوى لا يتحقق من غير إيمان فهو إيمان بعد إيمان وتقوى وهو المساوق لولاية الله سبحانه قال تعالى ﴿ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة﴾ يونس: 64.

بحث روائي:

في تفسير القمي، ثم إن الملك رأى رؤيا فقال لوزرائه إني رأيت في نومي سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف أي مهازيل ورأيت سبع سنبلات خضر وأخر يابسات وقال أبو عبد الله (عليه السلام): سبع سنابل ثم قال: يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون فلم يعرفوا تأويل ذلك. فذكر الذي كان على رأس الملك رؤياه التي رآها، وذكر يوسف بعد سبع سنين، وهو قوله: ﴿وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة﴾ أي بعد حين ﴿أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون﴾ فجاء إلى يوسف فقال: ﴿أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان - يأكلهن سبع عجاف - وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات﴾.

قال يوسف: تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون أي لا تدوسوه فإنه يفسد في طول سبع سنين وإذا كان في سنبله لا يفسد ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن في السبع سنين الماضية قال الصادق (عليه السلام): إنما نزل ما قربتم لهن ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون أي يمطرون. وقال أبو عبد الله (عليه السلام). قرأ رجل على أمير المؤمنين (عليه السلام) ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون على البناء للفاعل فقال ويحك أي شيء يعصرون يعصرون الخمر؟ قال الرجل: يا أمير المؤمنين كيف أقرؤها؟ فقال: إنما نزلت: وفيه يعصرون أي يمطرون بعد سني المجاعة، والدليل على ذلك قوله: ﴿وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا﴾.

فرجع الرجل إلى الملك فأخبره بما قال يوسف فقال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول قال: ارجع إلى ربك يعني إلى الملك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن؟ إن ربي بكيدهن عليم. فجمع الملك النسوة فقال: ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه؟ قلن: حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز: الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه - وإنه لمن الصادقين ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين أي لا أكذب عليه الآن كما كذبت عليه من قبل ثم قالت: وما أبرىء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء - إلا ما رحم ربي. فقال الملك: ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما نظر إلى يوسف قال: إنك اليوم لدينا مكين أمين فاسأل حاجتك قال: اجعلني على خزائن الأرض - إني حفيظ عليم يعني الكناديج والأنابير فجعله عليها، وهو قوله: ﴿وكذلك مكنا ليوسف في الأرض - يتبوأ منها حيث يشاء﴾.

أقول: قوله: وقرأ الصادق (عليه السلام): ﴿سبع سنابل﴾ في رواية العياشي عن ابن أبي يعفور عنه (عليه السلام) أنه قرأ: ﴿سبع سنبلات﴾ وقوله (عليه السلام): إنما نزل ما قربتم لهن أي إن التقديم بحسب التنزيل بمعنى التقريب، وقوله (عليه السلام): إنما نزلت: وفيه يعصرون أي يمطرون، أي بالبناء للمفعول ومنه يعلم أنه (عليه السلام) يأخذ قوله: يغاث من الغيث دون الغوث وروى هذا المعنى أيضا العياشي في تفسيره عن علي بن معمر عن أبيه عن أبي عبد الله (عليه السلام).

وقوله: ﴿أي لا أكذب عليه الآن كما كذبت عليه من قبل﴾ ظاهر في أخذ قوله: ﴿ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب﴾ إلى آخر الآيتين من كلام امرأة العزيز وقد عرفت الكلام عليه في البيان المتقدم.

وفي الدر المنثور، أخرج الفاريابي وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه من طرق عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): عجبت لصبر أخي يوسف وكرمه والله يغفر له حيث أرسل إليه ليستفتي في الرؤيا وإن كنت أنا لم أفعل حتى أخرج، وعجبت من صبره وكرمه والله يغفر له أتي ليخرج فلم يخرج حتى أخبرهم بعذره ولو كنت أنا لبادرت الباب ولكنه أحب أن يكون له العذر.

أقول: وقد روي هذا المعنى بطرق أخرى ومن طرق أهل البيت (عليهم السلام) ما في تفسير العياشي عن أبان عن محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: لو كنت بمنزلة يوسف حين أرسل إليه الملك يسأله عنه رؤياه ما حدثته حتى أشترط عليه أن يخرجني من السجن وعجبت لصبره عن شأن امرأة الملك حتى أظهر الله عذره.

أقول: وهذا النبوي لا يخلو من شيء فإن فيه أحد المحذورين إما الطعن في حسن تدبير يوسف (عليه السلام) وتوصله إلى الخروج من السجن وقد أحسن التدبير في ذلك فلم يكن يريد مجرد الخروج منه ولا هم لامرأة العزيز ونسوة مصر إلا في مراودته عن نفسه وإلجائه إلى موافقة هواهن وهو القائل: رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه، وإنما كان يريد الخروج في جو يظهر فيه براءته وتيأس منه امرأة العزيز والنسوة، ويوضع في موضع يليق به من المكانة والمنزلة.

ولذا أنبأ وهو في السجن أولا: بما هو وظيفة الملك الواجبة إثر رؤياه من جمع الأرزاق العامة وادخارها فتوصل به إلى قول الملك ﴿ائتوني به﴾ ثم لما أمر بإخراجه أبى إلا أن يحكم بينه وبين النسوة حكما بالقسط فتوصل به إلى قوله: ﴿ائتوني به أستخلصه لنفسي﴾ وهذا أحسن تدبير يتصور لما كان يبتغيه من العزة في مصر وبسط العدل والإحسان في الأرض.

مضافا إلى ما ظهر للملك وملئه في خلال هذه الأحوال من عظيم صبره وعزمه في الأمور وتحمله الأذى في جنب الحق وعلمه الغزير وحكمه القويم.

وإما الطعن في النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وحاشاه أن يقول: إنه لو كان مكان يوسف طاش ولم يصبر مع الاعتراف بأن الحق كان معه في صبره، وهو اعتراف بأن من شأنه أن لا يصبر فيما يجب الصبر فيه، وحاشاه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يأمر الناس بشيء وينسى نفسه، وقد صبر وتحمل الأذى في جنب الله قبل الهجرة وبعدها من الناس حتى أثنى الله عليه بمثل قوله: ﴿وإنك لعلى خلق عظيم﴾.

وفي الدر المنثور، أيضا أخرج الحاكم في تاريخه وابن مردويه والديلمي عن أنس قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قرأ هذه الآية: ﴿ذلك ليعلم - أني لم أخنه بالغيب﴾ قال: لما قالها يوسف قال له جبريل: يا يوسف اذكر همك. قال: وما أبرىء نفسي.

أقول: وهذا المعنى مروي في عدة روايات بألفاظ متقاربة ففي رواية ابن عباس: لما قالها يوسف ﴿فغمزه جبريل فقال ولا حين هممت بها﴾ وفي رواية عن حكيم بن جابر: ﴿فقال له جبريل ولا حين حللت السراويل﴾ ونحو من ذلك في روايات أخر عن مجاهد وقتادة وعكرمة والضحاك وابن زيد والسدي والحسن وابن جريح وأبي صالح وغيرهم.

وقد تقدم في البيان السابق أن هذه وأمثالها من موضوعات الأخبار مخالفة لنص الكتاب، وحاشا مقام يوسف الصديق (عليه السلام) أن يكذب بقوله: ﴿لم أخنه بالغيب ثم يصلح ما أفسده بغمز من جبريل﴾.

قال في الكشاف، ولقد لفقت المبطلة روايات مصنوعة فزعموا أن يوسف حين قال: إني لم أخنه بالغيب قال له جبريل: ولا حين هممت بها؟ وقالت له امرأة العزيز: ولا حين حللت تكة سراويلك يا يوسف؟ وذلك لتهالكهم على بهت الله ورسوله.

وفي تفسير العياشي، عن سماعة قال: سألته عن قول الله: ﴿ارجع إلى ربك﴾ الآية يعني العزيز.

أقول: وفي تفسير البرهان، عن الطبرسي في كتاب النبوة بالإسناد عن أحمد بن محمد بن عيسى عن الحسن بن علي بن إلياس قال: سمعت الرضا (عليه السلام) يقول: وأقبل يوسف على جمع الطعام في السبع السنين المخصبة فكبسه في الخزائن فلما مضت تلك السنون وأقبلت السنون المجدبة أقبل يوسف على بيع الطعام فباعهم في السنة الأولى بالدراهم والدنانير حتى لم يبق بمصر وما حولها دينار ولا درهم إلا صار في ملك يوسف. وباعهم في السنة الثانية بالحلي والجواهر حتى لم يبق بمصر وما حولها حلي ولا جواهر إلا صار في ملكه، وباعهم في السنة الثالثة بالدواب والمواشي حتى لم يبق بمصر وما حولها دابة ولا ماشية إلا صار في ملكه، وباعهم في السنة الرابعة بالعبيد والإماء حتى لم يبق. بمصر وما حولها عبد ولا أمة إلا صار في ملكه وباعهم في السنة الخامسة بالدور والفناء حتى لم يبق في مصر وما حولها دار ولا فناء إلا صار في ملكه، وباعهم في السنة السادسة بالمزارع والأنهار حتى لم يبق بمصر وما حولها نهر ولا مزرعة إلا صار في ملكه، وباعهم في السنة السابعة برقابهم حتى لم يبق بمصر وما حولها عبد ولا حر إلا صار عبدا ليوسف. فملك أحرارهم وعبيدهم وأموالهم وقال الناس: ما رأينا ولا سمعنا بملك أعطاه من الملك ما أعطى هذا الملك حكما وعلما وتدبيرا، ثم قال يوسف للملك: ما ترى فيما خولني ربي من ملك مصر وما حولها؟ أشر علينا برأيك فإني لم أصلحهم لأفسدهم، ولم أنجهم من البلاء ليكون بلاء عليهم ولكن الله أنجاهم بيدي قال الملك: الرأي رأيك. قال يوسف: إني أشهد الله وأشهدك أيها الملك إني قد أعتقت أهل مصر كلهم، ورددت عليهم أموالهم وعبيدهم، ورددت عليك الملك وخاتمك وسريرك وتاجك على أن لا تسير إلا بسيرتي ولا تحكم إلا بحكمي. قال له الملك: إن ذلك توبتي وفخري أن لا أسير إلا بسيرتك ولا أحكم إلا بحكمك ولولاك ما توليت عليك ولا اهتديت له وقد جعلت سلطاني عزيزا ما يرام، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنك رسوله فأقم على ما وليتك فإنك لدينا مكين أمين.

أقول: والروايات في هذا المقام كثيرة أغلبها غير مرتبطة بغرض تفسير الآيات ولذلك تركنا نقلها.

وفي تفسير العياشي، قال سليمان: قال سفيان: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما يجوز أن يزكي الرجل نفسه؟ قال نعم إذا اضطر إليه أ ما سمعت قول يوسف: ﴿اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم﴾ وقول العبد الصالح: إني لكم ناصح أمين.

أقول: الظاهر أن المراد بالعبد الصالح هو هود إذ يقول لقومه: ﴿وأبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين﴾ الأعراف: 68.

وفي العيون، بإسناده عن العياشي قال حدثنا محمد بن نصر عن الحسن بن موسى قال: روى أصحابنا عن الرضا (عليه السلام) أنه قال له رجل: أصلحك الله كيف صرت إلى ما صرت إليه من المأمون؟ فكأنه أنكر ذلك عليه. فقال له أبو الحسن الرضا (عليه السلام): أيما أفضل النبي أو الوصي: فقال: لا بل النبي. قال: فأيما أفضل مسلم أو مشرك؟ قال: لا بل مسلم. قال: فإن عزيز مصر كان مشركا وكان يوسف نبيا، وإن المأمون مسلم وأنا وصي ويوسف سأل العزيز أن يوليه حتى قال: استعملني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم، والمأمون أجبرني على ما أنا فيه. قال: وقال في قوله: ﴿حفيظ عليم﴾ قال: حافظ على ما في يدي عالم بكل لسان: أقول: وقوله: استعملني على خزائن الأرض نقل الآية بالمعنى، ورواه العياشي في تفسيره، وروي آخر الحديث في المعاني، أيضا عن فضل بن أبي قرة عن الصادق (عليه السلام).