الآيات 22 - 34

وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴿22﴾ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴿23﴾ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ﴿24﴾ وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿25﴾ قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ ﴿26﴾ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ ﴿27﴾ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ﴿28﴾ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ ﴿29﴾ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴿30﴾ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ ﴿31﴾ قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ ﴿32﴾ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ ﴿33﴾ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ يمُ ﴿34﴾

بيان:

تتضمن الآيات قصته (عليه السلام) أيام لبثه في بيت العزيز وقد ابتلي فيها بحب امرأة العزيز له ومراودتها إياه عن نفسه، ومني بتعلق نساء المدينة به ومراودتهن إياه عن نفسه، وكان ذلك بلوى، وقد ظهر خلال ذلك من عفة نفسه وطهارة ذيله أمر عجيب، ومن تولهه في محبة ربه ما هو أعجب.

قوله تعالى: ﴿ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين﴾ بلوغ الأشد أن يعمر الإنسان ما تشتد به قوى بدنه وتتقوى به أركانه بذهاب آثار الصباوة، ويأخذ ذلك من ثمانية عشر من عمره إلى سن الكهولة التي عندها يكمل العقل ويتم الرشد.

والظاهر أن المراد به الانتهاء إلى أول سن الشباب دون التوسط فيه أو الانتهاء إلى آخره كالأربعين، والدليل عليه قوله تعالى في موسى (عليه السلام): ﴿ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما﴾ القصص: 14 حيث دل على التوسط فيه بقوله: ﴿استوى﴾ وقوله: ﴿حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك﴾ الأحقاف: 15 فلو كان بلوغ الأشد هو بلوغ الأربعين لم تكن حاجة إلى تكرار قوله: ﴿بلغ﴾.

فلا مجال لما ذكره بعضهم: أن المراد ببلوغ الأشد بلوغ الثلاثين أو الثلاث والثلاثين، وكذا ما قاله آخرون إن المراد به بلوغ الأربعين وهو سن الأربعين.

على أن من المضحك أن تصبر امرأة العزيز عن يوسف مدى عنفوان شبابه وريعان عمره حتى إذا بلغ الأربعين من عمره وأشرف على الشيخوخة تعلقت به وراودته عن نفسه.

وقوله: ﴿آتيناه حكما﴾ الحكم هو القول الفصل وإزالة الشك والريب من الأمور القابلة للاختلاف - على ما يتحصل من اللغة - ولازمه إصابة النظر في عامة المعارف الإنسانية الراجعة إلى المبدإ والمعاد والأخلاق النفسانية والشرائع والآداب المرتبطة بالمجتمع البشري.

وبالنظر إلى قوله (عليه السلام) لصاحبيه في السجن: ﴿إن الحكم إلا لله﴾ الآية: 40 من السورة، وقوله بعد: ﴿قضي الأمر الذي فيه تستفتيان﴾ الآية: 41 من السورة يعلم أن هذا الحكم الذي أوتيه كان هو حكم الله فكان حكمه حكم الله، وهذا هو الذي سأله إبراهيم (عليه السلام) من ربه إذ قال: ﴿رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين﴾ الشعراء: 83.

وقوله: ﴿وعلما﴾ وهذا العلم المذكور المنسوب إلى إيتائه تعالى كيفما كان وأي مقدار كان علم لا يخالطه جهل كما أن الحكم المذكور معه حكم لا يخالطه هوى نفساني ولا تسويل شيطاني كيف؟ والذي آتاهما هو الله سبحانه وقد قال تعالى: ﴿والله غالب على أمره﴾ الآية: 21 من السورة، وقال: ﴿إن الله بالغ أمره﴾ الطلاق: 3 فما آتاه من الحكم لا يخالطه تزلزل الريب والشك، وما يؤتيه من العلم لا يكون جهلا البتة.

ثم من المعلوم أن هذه المواهب الإلهية ليست بأعمال جزافية ولا لغوا أو عبثا منه تعالى فالنفوس التي تؤتى هذا الحكم والعلم لا تستوي هي والنفوس الخاطئة في حكمها المنغمرة في جهلها، وقد قال تعالى: ﴿والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا﴾ الأعراف: 58 وإلى ذلك الإشارة بقوله: ﴿وكذلك نجزي المحسنين﴾ حيث يدل على أن هذا الحكم والعلم اللذين آتاهما الله إياه لم يكونا موهبتين ابتدائيتين لا مستدعي لهما أصلا بل هما من قبيل الجزاء جزاه الله بهما لكونه من المحسنين.

وليس من البعيد أن يستفاد من قوله: ﴿وكذلك نجزي المحسنين﴾ إن الله تعالى يجزي كل محسن - على اختلاف صفات الإحسان - شيئا من الحكم والعلم يناسب موقعه في الإحسان وقد قال تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به﴾ الحديد: 28 وقال تعالى: ﴿أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس﴾ الأنعام: 122.

وهذا العلم المذكور في الآية يتضمن ما وعد الله سبحانه تعليمه ليوسف من تأويل الأحاديث فإنه واقع بين قوله تعالى في الآيات السابقة: ﴿ولنعلمه من تأويل الأحاديث﴾ وقوله حكاية عن يوسف في قوله لصاحبيه في السجن: ﴿ذلكما مما علمني ربي﴾ فافهم ذلك.

قوله تعالى: ﴿وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون﴾ قال في المفردات، الرود هو التردد في طلب الشيء برفق ومنه الرائد لطالب الكلاء، قال: والإرادة منقولة من راد يرود إذا سعى في طلب شيء، قال: والمراودة أن تنازع غيرك في الإرادة فتريد غير ما يريد أو ترود غير ما يرود، وراودت فلانا عن كذا، قال تعالى: ﴿هي راودتني عن نفسي﴾ وقال: ﴿تراود فتاها عن نفسه﴾ أي تصرفه عن رأيه، وعلى ذلك قوله: ﴿ولقد راودته عن نفسه﴾ ﴿سنراود عنه أباه﴾.

وفي المجمع، المراودة المطالبة بأمر بالرفق واللين ليعمل به ومنه المرود لأنه يعمل به، ولا يقال في المطالبة بدين: راوده، وأصله من راد يرود إذا طلب المرعى، وفي المثل: الرائد لا يكذب أهله، والتغليق إطباق الباب بما يعسر فتحه، وإنما شدد ذلك لتكثير الإغلاق أو للمبالغة في الإيثاق، انتهى.

وهيت لك اسم فعل بمعنى هلم، ومعاذ الله أي أعوذ بالله معاذا فهو مفعول مطلق قائم مقام فعله.

والآية الكريمة ﴿وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون﴾ على ما فيها من الإيجاز تنبىء عن إجمال قصة المراودة غير أن التدبر في القيود المأخوذة فيها والسياق الذي هي واقعة فيه وسائر ما يلوح من أطراف قصته الموردة في السورة يجلي عن حقيقة الحال ويكشف القناع عن تفصيل ما خبىء من الأمر.

يوسف: هو ذا طفل صغير حولته أيدي المقادير إلى بيت العزيز عليه سيما العبيد ولعله لم يسأل إلا عن اسمه، ولم يتكلم إلا أن قال: اسمي يوسف أو قيل عنه ذلك ولم يلح من لهجته إلا أنه كان قد نشأ بين العبريين، ولم يسأل عن بيته ونسبه فليس للعبيد بيوت ولم يكن من المعهود أن يحفظ للأرقاء أنساب وهو ساكت مختوم على لسانه لا يتكلم بشيء وكم من حديث بين جوانحه فلم يعرف نسبه إلا بعد سنين من ذلك حينما قال لصاحبيه في السجن ﴿واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب﴾ ولا كشف عما في سره من توحيد العبودية لله بين أولئك الوثنيين إلا ما ذكره لامرأة العزيز حين راودته عن نفسه بقوله: ﴿معاذ الله إنه ربي﴾ إلخ.

هو اليوم حليف الصمت والسكوت لكن قلبه مليء بما يشاهده من لطيف صنع الله به فهو على ذكر مما بثه إليه أبوه يعقوب النبي من حقيقة التوحيد ومعنى العبودية ثم ما بشر به من الرؤيا أن الله سيخلصه لنفسه ويلحقه بآبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وليس ينسى ما فعله به إخوته ثم ما وعده به ربه في غيابة الجب حين ما انقطع عن كافة الأسباب: أنه تحت الولاية الإلهية والتربية الربوبية معني بأمره وسينبأ إخوته بأمرهم هذا وهم لا يشعرون.

فكان (عليه السلام) مملوء الحس مستغرق النفس في مشاهدة ألطاف ربه الخفية يرى نفسه تحت ولاية الله محبورا بصنائعه الجميلة لا يرد إلا على خير ولا يواجه إلا جميلا.

وهذا هو الذي هون عليه ما نزل به من النوائب، وتواتر عليه من المحن والبلايا فصبر عليها على ما بها من المرارة فلم يشك ولم يجزع ولم يضل الطريق وقد ذكر ذلك لإخوته حين عرفهم نفسه بقوله: ﴿إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين﴾ الآية: 90 من السورة.

فلم يزل يوسف (عليه السلام) تنجذب نفسه إلى جميل صنائع ربه ويمعن قلبه في لطيف الإشارات إليه، ويزداد كل يوم حبا بما يجده من شواهد الولاية ويشاهد أن ربه هو القائم على كل نفس بما كسبت وهو على كل شيء شهيد حتى تمكنت المحبة الإلهية منه واستقر الوله والهيمان في سره فكان همه في ربه لا يشغله عنه شاغل ولا يصرفه عنه صارف ولا طرفة عين، وهذا بمكان من الوضوح لمن تدبر فيما تحكي عنه السورة من المحاورات كقوله: ﴿معاذ الله إنه ربي﴾ وقوله: ﴿ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء﴾ وقوله: ﴿إن الحكم إلا لله﴾ وقوله: ﴿أنت وليي في الدنيا والآخرة﴾ وغير ذلك كما سنبين إن شاء الله تعالى.

فهذا ما عند يوسف (عليه السلام) فقد كان شبحا ما وراءه إلا محبة إلهية أنسته نفسه وشغلته عن كل شيء، وصورة معناها أنها خالصة أخلصها الله لنفسه فلم يشاركه فيه أحد.

ولم يظهر للعزيز منه أول يوم إذ حل في بيته إلا أنه غلام صغير عبري مملوك له غير أن قوله لامرأته: ﴿أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا﴾ يكشف أنه شاهد منه وقارا وتمكينا وتفرس فيه عظمة وكبرياء نفسانية أطمعته في أن ينتفع به أو يلحقه بنفسه بالتبني على ما في يوسف من عجيب الجمال والحسن.

امرأة العزيز: امرأة العزيز وهي عزيزة مصر وصاها العزيز يوسف أن تكرم مثواه وأعلمها أن له فيه إربة وأمنية فلم تزل تجتهد في إكرام يوسف وتحسن مثواه وتهتم بأمره لا كما يهتم في أمر رقيق مملوك بل كما يعنى بأمر جوهر كريم أو قطعة كبد وتحبه لبديع جماله وغزير كماله وتزداد كلما مضت الأيام حبا إلى حب حتى إذا بلغ الحلم واستوى على مستوى الرجال لم تملك نفسها دون أن تعشقه وتذل على ما لها من مناعة الملك والعزة وعصمة العفة والخدارة تجاه هواه القاطن بسرها الآخذ بمجامع قلبها.

وقد كان يوسف يلازمها في العشرة ولا يفارق بينها من جانب وكانت عزيزة لا يثني أمرها ولا ترد عزيمتها وكانت فيما تزعم سيدة يوسف وهو عبدها المملوك لا يسعه إلا أن يطيعها وينقاد لها، ولبيوت الملوك والأعزة أن تحتال لشتى مقاصدها ومآربها بأنواع الحيل والمكايد فإن عامة الأسباب وإن عزت وامتنعت ميسرة لها، وكانت العزيزة ذات جمال وزينة فإن حريم الملوك لا تدخلها كل شوهاء دميمة ولا تحل بها إلا غوان ذوات حسن فتانات.

والعادة تحكم أن هذه الأسباب - وقد اجتمعت على عزيزة مصر - أسعرت في سرها كل لهيب، وأججت كل نار حتى استغرقت في حب يوسف وتولهت في غرامه واشتغلت به عن كل شيء، وقد أحاط بقلبها من كل جانب، هو أول منطقها إذا تكلمت وفي ضميرها إذا سكتت فلا هم لها إلا يوسف ولا بغية لها إلا فيه ﴿قد شغفها حبا﴾ وليوسف الجمال الذي يأخذ بمجامع القلوب فكيف إذا امتلأت به عين محب واله وأدام النظر إليه مهيم ذو غرام.

يوسف وامرأة العزيز: لم تزل عزيزة مصر تعد نفسها وتمنيها بوصال يوسف والظفر بما تبتغيه منه وتلاطفه في عشرته وتشفع ذلك بما لربات الحسن والزينة من الغنج والدلال لتصطاده بما عندها كما اصطاده بما عنده، ولعل الذي كانت تشاهده من صبر يوسف وسكوته كان يغرها فيما ترومه ويغريها عليه.

حتى إذا تاقت نفسها له وبلغت بها وأعيتها المذاهب خلت به في بيتها وقد غلقت الأبواب فلم يبق فيه إلا هي ويوسف.

وهي لا تشك أن سيطيعها يوسف في أمرها ولا يمتنع عليها لما كانت ولا تزال تراه بالسمع والطاعة، وتشاهد أن الأوضاع والأحوال الحاضرة تقضي بفوزها ونيلها ما تريده منه.

فتى واله في حبه وفتاة تائقة في غرامها اجتمعا في بيت خالية أما هي فمشغوفة بحب يوسف تريد أن تصرفه عن نفسه إلى نفسها وتتوسل إلى ذلك بتغليق الأبواب ومراودته عن نفسه والاعتماد على ما لها من العزة والملك حيث تدعوه إلى نفسها بلفظ الأمر هيت لك لتقهره على ما تريده منه.

وأما هو فقد استغرق في حب ربه وأخلص وصفى ذلك نفسه فلم يترك لشيء في قلبه محلا غير حبيبه فهو في خلوة مع ربه وحضرة منه يشاهد فيه جماله وجلاله وقد طارت الأسباب الكونية على ما لها من ظاهر التأثير من نظره فهو على خلافها لا يتبجح بالأسباب ولا يركن إلى الأعضاد.

ترى أنها تتوسل عليه بالأسباب بتغليق الأبواب والمراودة والأمر بقولها: هيت لك وأما هو فقد قابلها بقوله: ﴿معاذ الله﴾ فلم يجبها بتهديد ولم يقل: إني أخاف العزيز أو لا أخونه أو إني من بيت النبوة والطهارة أو إن عفتي أو عصمتي تمنعني من الفحشاء، ولم يقل إني أرجو ثواب الله أو أخاف عذابه إلى غير ذلك، ولو كان قلبه متعلقا بشيء من الأسباب الظاهرة لذكره وبدأ به عند مفاجأة الشدة ونزول الاضطرار على ما هو مقتضى طبع الإنسان.

بل استمسك بعروة التوحيد وأجاب بالعياذ بالله فحسب ولم يكن في قلبه أحد سوى ربه ولا تعدى بصره إياه إلى غيره فهذا هو التوحيد الخالص الذي هدته إليه المحبة الإلهية وأولهه في ربه فأنساه الأسباب كلها حتى أنساه نفسه فلم يقل إني أعوذ منك بالله أو ما يؤدي معناه، وإنما قال ﴿معاذ الله﴾ وكم من الفرق بين قوله هذا وبين قول مريم للروح لما تمثل لها بشرا سويا: ﴿إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا﴾ مريم: 18.

وأما قوله لها ثانيا: ﴿إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون﴾ فإنه يوضح كلمة التوحيد الذي أفاده بقوله: ﴿معاذ الله﴾ ويجليه، يقول: إن الذي أشاهده أن إكرامك مثواي عن قول العزيز لك ﴿أكرمي مثواه﴾ فعل من ربي وإحسان منه إلي فربي أحسن مثواي وإن انتسب إليك ذلك بوجه فهو الذي يجب علي أن أعوذ به وألوذ إليه، وإنما أعوذ به لأن إجابتك فيما تسألين وارتكاب هذه المعصية ظلم ولا يفلح الظالمون فلا سبيل إلى ارتكابه.

فقد أفاد (عليه السلام) بقوله: ﴿إنه ربي أحسن مثواي﴾ أولا: أنه موحد لا يرى شرك الوثنية فليس ممن يتخذ أربابا من دون الله كما تقول به الوثنية يتخذون مع الله أربابا أخرى ينسبون إليهم تدبير العالم بل هو يقول بأن الله هو ربه لا رب سواه.

وثانيا: أنه ليس ممن يوحد الله سبحانه قولا ويشرك به فعلا بإعطاء الاستقلال لهذه الأسباب الظاهرة تؤثر ما تؤثر بإذن الله بل هو يرى ما ينسب من جميل الآثار إلى الأسباب فعلا جميلا لله سبحانه في عين هذا الانتساب فيما تراه امرأة العزيز أنها هي التي أكرمت مثواه عن وصية العزيز وأنها وبعلها ربان له يتوليان أمره يرى هو أن الله سبحانه هو الذي أحسن مثواه وأنه ربه الذي يتولى تدبير أمره فعليه أن يعوذ به.

وثالثا: أنه إنما تعوذ بالله مما تدعوه إليه لأنه ظلم لا يفلح المتلبس به ولا يهتدي إلى سعادته ولا يتمكن في حضرة الأمن عند ربه كما قال تعالى حكاية عن جده إبراهيم (عليه السلام): ﴿الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون﴾ الأنعام: 82.

ورابعا: أنه مربوب - أي مملوك مدبر - لله سبحانه ليس له من الأمر شيء، ولا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله له أو أحب أن يأتي به ولذلك لم يرد ما سألته منه بصريح اللفظ بل بالكناية عنه بقوله: ﴿معاذ الله﴾ إلخ فلم يقل: لا أفعل ما تأمريننى به ولم يقل: لا أرتكب كذا، ولم يقل: أعوذ بالله منك، وما يشابه ذلك حذرا من دعوى الحول والقوة، وإشفاقا من وسمة الشرك والجهالة اللهم إلا ما في قوله: ﴿إنه ربي أحسن مثواي﴾ حيث أشار فيه إلى نفسه مرتين وليس فيه إلا تثبيت المربوبية وتأكيد الذلة والحاجة، ولهذه العلة بعينها بدل الإكرام إحسانا فأتى حذاء قول العزيز: ﴿أكرمي مثواه﴾ بقوله: ﴿أحسن مثواي﴾ لما في الإكرام من الإشعار باحترام الشخصية وتعظيمها.

وبالجملة الواقعة وإن كانت مراجعة ومغالبة بين امرأة العزيز ويوسف (عليه السلام) بحسب ظاهر الحال فهي كانت تنازعا بين حب وهيمان إلهي وعشق وغرام حيواني يتشاجران في يوسف كل منهما يجذبه إلى نفسه، وكانت كلمة الله هي العليا فأخذته الجذبة السماوية الإلهية ودافعت عنه المحبة الإلهية والله غالب على أمره.

فقوله تعالى: ﴿وراودته التي هو في بيتها عن نفسه﴾ يدل على أصل المراودة، والإتيان بالوصف أعني كونه في بيتها للدلالة على أن الأوضاع والأحوال كانت لها عليه وأن الأمر كان عليه شديدا، وكذا قوله: ﴿وغلقت الأبواب﴾ حيث عبر بالتغليق وهو يدل على المبالغة وعلق الغلق بالأبواب وهو جمع محلى باللام وكذا قوله: ﴿وقالت هيت لك﴾ حيث عبر بالأمر المولوي الدال على إعمال المولوية والسيادة مع إشعاره بأنها هيأت له من نفسها ما ليس بينه وبين طلبتها إلا مجرد إقبال من يوسف ولا بين يوسف - على ما هيأت من العلل والشرائط ونظمتها بزعمها وبين الإقبال عليها شيء حائل غير أن الله كان أقرب إلى يوسف من نفسه ومن العزيزة امرأة العزيز، ولله سبحانه العزة جميعا.

وقوله: ﴿قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي﴾ إلى آخر الآية جواب ليوسف يقابل به مسألتها بالعياذ بالله يقول: أعوذ بالله معاذا مما تدعينني إليه لأنه ربي الذي تولى أمري وأحسن مثواي وجعلني بذلك سعيدا مفلحا ولو اقترفت هذا الظلم لتغربت به عن الفلاح وخرجت به من تحت ولايته.

وقد راعى (عليه السلام) في كلامه هذا أدب العبودية كله كما تقدم وقد أتى أولا بلفظة ﴿الجلالة﴾ ثم بصفة الربوبية ليدل به على أنه لا يعبد ربا غير الله ملة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب.

واحتمل عدة من المفسرين أن يكون الضمير في قوله: ﴿إنه ربي أحسن مثواي﴾ للشأن، والمراد أن ربي ومولاي وهو العزيز - بناء على ظاهر الأمر فقد اشترى يوسف من السيارة - أحسن مثواي حيث أمركم بإكرام مثواي، ولو أجبتك على ما تسألين لكان ذلك خيانة له وما كنت لأخونه.

ونظير الوجه قول بعضهم: إن الضمير عائد إلى العزيز وهو اسم إن وخبرها قوله: ربي، وقوله: ﴿أحسن مثواي﴾ خبر بعد خبر.

وفيه أنه لو كان كذلك لكان الأنسب أن يقال: إنه لا يفلح الخائنون كما قال للرسول وهو في السجن: ﴿ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين﴾ الآية: 52 من السورة ولم: يقل إني لم أظلمه بالغيب.

على أنه (عليه السلام) لم يكن ليعد العزيز ربا لنفسه، وهو حر غير مملوك له وإن كان الناس يزعمون ذلك بناء على الظاهر، وقد قال لأحد صاحبيه في السجن: ﴿اذكرني عند ربك﴾ الآية: 42 من السورة، وقال لرسول الملك: ﴿ارجع إلى ربك﴾ الآية: 51 من السورة ولم يعبر عن الملك بلفظ ربي على عادتهم في ذكر الملوك، وقال أيضا لرسول الملك: ﴿اسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم﴾ حيث يأخذ الله سبحانه ربا لنفسه قبال ما يأخذ الملك ربا للرسول.

ويؤيد ما ذكرنا أيضا قوله في الآية التالية: ﴿لو لا أن رءا برهان ربه﴾.

قوله تعالى: ﴿ولقد همت به وهم بها لو لا أن رءا برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين﴾ التدبر البالغ في أطراف القصة وإمعان النظر فيما محتف به الجهات والأسباب والشرائط العاملة فيها يعطي أن نجاة يوسف منها لم تكن إلا أمرا خارقا للعادة وواقعة هي أشبه بالرؤيا منها باليقظة.

فقد كان يوسف (عليه السلام) رجلا ومن غريزة الرجال الميل إلى النساء، وكان شابا بالغا أشده وذلك أوان غليان الشهوة وثوران الشبق، وكان ذا جمال بديع يدهش العقول ويسلب الألباب والجمال والملاحة يدعو إلى الهوى والترح، وكان مستغرقا في النعمة وهنيء العيش محبورا بمثوى كريم وذلك من أقوى أسباب التهوس والإتراف، وكانت الملكة فتاة فائقة الجمال وكذلك تكون حرم الملوك والعظماء.

وكانت لا محالة متزينة بما يأخذ بمجامع كل قلب، وهي عزيزة مصر وهي عاشقة والهة تتوق إليها النفوس وتتوق نفسها إليه، وكانت لها سوابق الإكرام والإحسان والإنعام ليوسف وذلك كله مما يقطع اللسان ويصمت الإنسان، وقد تعرضت له ودعته إلى نفسها والصبر مع التعرض أصعب، وقد راودته هذه الفتانة وأتت فيها بما في مقدرتها من الغنج والدلال، وقد ألحت عليه فجذبته إلى نفسها حتى قدت قميصه والصبر معها أصعب وأشق، وكانت عزيزة لا يرد أمرها ولا يثنى رأيها، وهي ربته خصه بها العزيز، وكانا في قصر زاه من قصور الملوك ذي المناظر الرائقة التي تبهر العيون وتدعو إلى كل عيش هنيء.

وكانا في خلوة وقد غلقت الأبواب وأرخت الستور، وكان لا يأمن الشر مع الامتناع، وكان في أمن من ظهور الأمر وانهتاك الستر لأنها كانت عزيزة بيدها أسباب الستر والتعمية، ولم تكن هذه المخالطة فائتة لمرة بل كان مفتاحا لعيش هنيء طويل، وكان يمكن ليوسف أن يجعل هذه المخالطة والمعاشقة وسيلة يتوسل بها إلى كثير من آمال الحياة وأمانيها كالملك والعزة والمال.

فهذه أسباب وأمور هائلة لو توجهت إلى جبل لهدته أو أقبلت على صخرة صماء لأذابتها ولم يكن هناك مما يتوهم مانعا إلا الخوف من ظهور الأمر أو مناعة نسب يوسف أو قبح الخيانة للعزيز.

أما الخوف من ظهور الأمر فقد مر أنه كان في أمن منه.

ولو كان بدأ من ذلك شيء لكان في وسع العزيزة أن تؤوله تأويلا كما فعلت فيما ظهر من أمر مراودتها فكادت حتى أرضت نفس العزيز إرضاء فلم يؤاخذها بشيء وقلبت العقوبة ليوسف حتى سجن.

وأما مناعة النسب فلو كانت مانعة لمنعت إخوة يوسف عما هو أعظم من الزنا وأشد إثما فإنهم كانوا أبناء إبراهيم وإسحاق ويعقوب أمثال يوسف فلم تمنعهم.

شرافة النسب من أن يهموا بقتله ويلقوه في غيابت الجب ويبيعوه من السيارة بيع العبيد ويثكلوا فيه أباهم يعقوب النبي (عليه السلام) فبكى حتى ابيضت عيناه.

وأما قبح الخيانة وحرمتها فهو من القوانين الاجتماعية والقوانين الاجتماعية إنما تؤثر أثرها بما تستتبعه من التبعة على تقدير المخالفة، وذلك إنما يتم فيما إذا كان الإنسان تحت سلطة القوة المجرية والحكومة العادلة، وأما لو أغفلت القوة المجرية أو فسقت فأهملت أو خفي الجرم عن نظرها أو خرج من سلطانها فلا تأثير حينئذ لشيء من هذه القوانين كما سنتكلم فيه عن قريب.

فلم يكن عند يوسف (عليه السلام) ما يدفع به عن نفسه ويظهر به على هذه الأسباب القوية التي كانت لها عليه إلا أصل التوحيد وهو الإيمان بالله.

وإن شئت فقل المحبة الإلهية التي ملأت وجوده وشغلت قلبه فلم تترك لغيرها محلا ولا موضع إصبع فهذا هو ما يفيده التدبر في القصة.

ولنرجع إلى متن الآية.

فقوله تعالى: ﴿ولقد همت به وهم بها لو لا أن رءا برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين﴾ لا ريب أن الآية تشير إلى وجه نجاة يوسف من هذه الغائلة، والسياق يعطي أن المراد بصرف السوء والفحشاء عنه إنجاؤه مما أريد منه وسئل بالمراودة والخلوة، وأن المشار إليه بقوله: ﴿كذلك﴾ هو ما يشتمل عليه قوله: ﴿أن رءا برهان ربه﴾.

فيئول معنى قوله: ﴿كذلك لنصرف﴾ إلى آخر الآية إلى أنه (عليه السلام) لما كان من عبادنا المخلصين صرفنا عنه السوء والفحشاء بما رأى من برهان ربه فرؤية برهان ربه هي السبب الذي صرف الله سبحانه به السوء والفحشاء عن يوسف (عليه السلام).

ولازم ذلك أن يكون الجزاء المقدر لقوله: ﴿لو لا أن رءا برهان ربه﴾ هو ارتكاب السوء والفحشاء، ولازم ذلك أن يكون ﴿لو لا أن رءا﴾ إلخ قيدا لقوله: ﴿وهم بها﴾ وذلك يقتضي أن يكون المراد بهمه بها نظير همها به هو القصد إلى المعصية ويكون حينئذ همه بها داخلا تحت الشرط، والمعنى أنه لو لا أن رءا برهان ربه لهم بها وأوشك أن يرتكب فإن ﴿لو لا﴾ وإن كانت ملحقة بأدوات الشرط وقد منع النحاة تقدم جزائها عليها قياسا على إن الشرطية إلا أن قوله: ﴿وهم بها﴾ ليس جزاء لها بل هو مقسم به بالعطف على قوله: ﴿ولقد همت به﴾ وهو في معنى الجزاء استغنى به عن ذكر الجزاء فهو كقولنا: والله لأضربنه إن يضربني والمعنى: والله إن يضربني أضربه.

ومعنى الآية: والله لقد همت به والله لو لا أن رءا برهان ربه لهم بها وأوشك أن يقع في المعصية، وإنما قلنا: أوشك أن يقع، ولم نقل: وقع لأن الهم - كما قيل - لا يستعمل إلا فيما كان مقرونا بالمانع كقوله تعالى: ﴿وهموا بما لم ينالوا﴾ التوبة: 74، وقوله: ﴿إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا﴾ آل عمران: 122، وقول صخر: أهم بأمر الحزم لا أستطيعه.

وقد حيل بين العير والنزوان.

فلو لا ما رآه من البرهان لكان الواقع هو الهم والاقتراب دون الارتكاب والاقتراف، وقد أشار سبحانه إلى ذلك بقوله: ﴿لنصرف عنه السوء والفحشاء﴾ ولم يقل: لنصرفه من السوء والفحشاء فتدبر فيه.

ومن هنا يظهر أن الأنسب أن يكون المراد بالسوء هو الهم بها والميل إليها كما أن المراد بالفحشاء اقتراف الفاحشة وهي الزنا فهو (عليه السلام) لم يفعل ولم يكد، ولو لا ما أراه الله من البرهان لهم وكاد أن يفعل، وهذا المعنى هو الذي يؤيده ما قدمناه من الاعتبار والتأمل في الأسباب والعوامل المجتمعة في هذا الحين القاضية لها عليه.

فقوله تعالى: ﴿ولقد همت به﴾ اللام فيه للقسم، والمعنى وأقسم لقد قصدت يوسف بما تريده منه ولا يكون الهم إلا بأن تشفع الإرادة بشيء من العمل.

وقوله: ﴿وهم بها لو لا أن رءا برهان ربه﴾ معطوف على مدخول لام القسم من الجملة السابقة، والمعنى أقسم لو لا رؤيته برهان ربه لهم بها وكاد أن يجيبها لما تريده منه.

والبرهان هو السلطان ويراد به السبب المفيد لليقين لتسلطه على القلوب كالمعجزة قال تعالى: ﴿فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه﴾ القصص: 32، وقال: ﴿يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم﴾ النساء: 174، وقال: ﴿أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين﴾ النمل: 64 وهو الحجة اليقينية التي تجلي الحق ولا تدع ريبا لمرتاب.

والذي رآه يوسف (عليه السلام) من برهان ربه وإن لم يوضحه كلامه تعالى كل الإيضاح لكنه - على أي حال - كان سببا من أسباب اليقين لا يجامع الجهل والضلال بتاتا، ويدل على أنه كان من قبيل العلم قول يوسف (عليه السلام) فيما يناجي ربه كما سيأتي: ﴿وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين﴾ الآية 33 من السورة، ويدل على أنه ليس من العلم المتعارف بحسن الأفعال وقبحها ومصلحتها ومفسدتها إن هذا النوع من العلم قد يجامع الضلال والمعصية وهو ظاهر قال تعالى: ﴿أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم﴾ الجاثية: 23 وقال: ﴿وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم﴾ النمل: 14.

فالبرهان الذي أراه به وهو الذي يريه الله عباده المخلصين نوع من العلم المكشوف واليقين المشهود تطيعه النفس الإنسانية طاعة لا تميل معها إلى معصية أصلا، وسنورد فيه بعض الكلام إن شاء الله تعالى.

وقوله: ﴿كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء﴾ اللام في ﴿لنصرف﴾ للغاية أو التعليل والمآل واحد و﴿كذلك﴾ متعلق بقوله ﴿لنصرف﴾ والإشارة إلى ما ذكر من رؤية برهان ربه، والسوء هو الذي يسوء صدوره من العبد بما هو عبد وهو مطلق المعصية أو الهم بها، والفحشاء هو ارتكاب الأعمال الشنيعة كالزنا، وقد تقدم أن ظاهر السياق انطباق السوء والفحشاء على الزنا والهم به.

والمعنى: الغاية - أو السبب - في أن رءا برهان ربه هي أن نصرف عنه الفحشاء والهم بها.

ومن لطيف الإشارة في الآية ما في قوله: ﴿لنصرف عنه السوء والفحشاء﴾ حيث أخذ السوء والفحشاء مصروفين عنه لا هو مصروفا عنهما، لما في الثاني من الدلالة على أنه كان فيه ما يقتضي اقترافهما المحوج إلى صرفه عن ذلك، وهو ينافي شهادته تعالى بأنه من عباده المخلصين وهم الذين أخلصهم الله لنفسه فلا يشاركه فيهم شيء فلا يطيعون غيره من تسويل شيطان أو تزيين نفس أو أي داع يدعو من دون الله سبحانه.

وقوله: ﴿إنه من عبادنا المخلصين﴾ في مقام التعليل لقوله: ﴿كذلك لنصرف﴾ إلخ والمعنى: عاملنا يوسف كذلك لأنه من عبادنا المخلصين، وهم يعاملون هذه المعاملة.

ويظهر من الآية أن من شأن المخلصين من عباد الله أن يروا برهان ربهم، وإن الله سبحانه يصرف كل سوء وفحشاء عنهم فلا يقترفون معصية ولا يهمون بها بما يريهم الله من برهانه، وهذه هي العصمة الإلهية.

ويظهر أيضا أن هذا البرهان سبب علمي يقيني لكن لا من العلوم المتعارفة المعهودة لنا.

وللمفسرين من العامة والخاصة في تفسير الآية أقوال مختلفة:

1 منها: ما ذكره بعضهم ونسب إلى ابن عباس ومجاهد وقتادة وعكرمة والحسن وغيرهم: أن المعنى أنها همت بالفاحشة وأنه هم بمثله لو لا أن رءا برهان ربه لفعل.

وقد وصفوا همه (عليه السلام) بما يجل عنه مقام النبوة ويتنزه عنه ساحة الصديق فذكروا أنه قصدها بالفاحشة ودنا منها حتى حل السراويل وجلس منها مجلس الخاتن فأدركه برهان من ربه أبطل الشهوة ونجاة من الهلكة، وذكروا في وصف هذا البرهان أمورا كثيرة مختلفة.

قال الغزالي في تفسيره لهذه السورة: اختلفوا فيه - يعني في البرهان - ما هو؟ قال بعضهم: إن طائرا وقع على كتفه فقال في أذنه: لا تفعله فإن فعلت سقطت من درجة الأنبياء.

وقيل: إنه رأى يعقوب عاضا على إصبعه، وهو يقول: يا يوسف أ ما تراني: وقال الحسن البصري: رآها وهي تغطي شيئا فقال لها: ما تصنعين؟ قالت: أغطي وجه صنمي لئلا يراني فقال يوسف: أنت تستحيين الجماد الذي لا يعقل ولا يرى فأنا أولى أن أستحيي ممن يراني ويعلم سري وعلانيتي.

قال أرباب اللسان: إنه نودي في سره يا يوسف اسمك مكتوب في ديوان الأنبياء، وتريد أن تفعل فعل السفهاء.

وقيل: رأى كفا قد خرج من الحائط مكتوب عليها: ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا.

وقيل: انفرج سقف البيت فرأى صورة حسنة تقول: يا رسول العصمة لا تفعل فإنك معصوم.

وقيل: نكس رأسه فرأى على الأرض مكتوبا: ومن يعمل سوءا يجز به.

وقيل: أتاه ملك ومسح جناحيه على ظهره فخرجت شهوته من أصابع رجليه.

وقيل: رأى الملك في البيت وهو يقول: أ لست هاهنا؟ وقيل: وقع بينهما حجاب فلا يرى أحد صاحبه.

وقيل: رأى جارية من جواري الجنة فتحير من حسنها فقال لها: لمن أنت؟ قالت: لمن لا يزني.

وقيل: جاز عليه طائر فناداه: يا يوسف لا تعجل فإنها لك حلال ولك خلقت.

وقيل: رأى ذلك الجب الذي كان بحذائه وعليه ملك قائم يقول يا يوسف أ نسيت هذا الجب.

وقيل: رأى زليخا على صورة قبيحة فهرب منها.

وقيل رأى شخصا فقال: يا يوسف انظر إلى يمينك فنظر فرأى ثعبانا أعظم ما يكون فقال: الزاني في بطني غدا فهرب منه.

ومما قيل فيه أنه تمثل له يعقوب فضرب في صدره ضربة خرجت بها شهوته من أطراف أنامله رواه في الدر المنثور، عن مجاهد وعكرمة وابن جبير إلى غير ذلك من الوجوه المختلفة التي أوردها في التفسير بالمأثور.

والجواب عنه مضافا إلى أنه (عليه السلام) كان نبيا ذا عصمة إلهية تحفظه من المعصية، وقد تقدم إثبات ذلك، أن الذي أورده الله تعالى من كرائم صفاته وإخلاص عبوديته لا يبقى شكا في أنه أطهر ساحة وأرفع منزلة من أن ينسب إليه أمثال هذه الألواث فقد ذكر تعالى أنه من عباده الذين أخلصهم لنفسه واجتباهم لعبوديته وآتاهم حكما وعلما، وعلمه من تأويل الأحاديث، وأنه كان عبدا متقيا صبورا في الله غير خائن ولا ظالم ولا جاهل، وكان من المحسنين وقد ألحقه بآبائه الصالحين إبراهيم وإسحاق ويعقوب.

وكيف يستقيم هذه المقامات العالية والدرجات الرفيعة إلا لإنسان طاهر في وجدانه منزه في أركانه صالح في أعماله مستقيم في أحواله.

وأما من ذهب لوجهه في معصية الله وهم بما هو من أفحش الإثم في دين الله وهو زنا ذات البعل وخيانة من أحسن إليه أبلغ الإحسان في عرضه وأصر عليه حتى حل التكة وجلس منها مجلس الرجل من المرأة فأتته لصرفه آية بعد آية فلم ينصرف، وازدجر بنداء بعد نداء من كل جانب فلم يستحي ولم يكف حتى ضرب في صدره ضربة خرجت بها شهوته من رءوس أصابعه، وشاهد ثعبانا أعظم ما يكون من عن يمينه فذعر منه وهرب من هول ما رأى، فمثله أحرى به أن لا يسمى إنسانا فضلا أن يتكىء على أريكة النبوة والرسالة، ويأتمنه الله على وحيه، ويسلم إليه مفاتيح دينه، ويؤتيه حكمه وعلمه ويلحقه بمثل إبراهيم الخليل.

لكن هؤلاء المتعلقين بهذه الأقاويل المختلفة والإسرائيليات والآثار الموضوعة إذ يتهمون جده إبراهيم (عليه السلام) في زوجته سارة لا يبالون أن يتهموا نجله (عليه السلام) في زوجة غيره.

قال في الكشاف، وقد فسر هم يوسف بأنه حل الهميان وجلس منها مجلس المجامع، وبأنه حل تكة سراويله وقعد بين شعبها الأربع وهي مستلقية على قفاها وفسر البرهان بأنه سمع صوتا إياك وإياها فلم يكترث له فسمعه ثانيا فلم يعمل به فسمع ثالثا: أعرض عنها فلم ينجع فيه حتى مثل له يعقوب عاضا على أنملته، وقيل ضرب بيده في صدره فخرجت شهوته من أنامله.

وقيل: كل ولد يعقوب له اثنا عشر ولدا إلا يوسف فإنه ولد له أحد عشر ولدا من أجل ما نقص من شهوته حين هم، وقيل.

صيح به يا يوسف لا تكن كالطائر كان له ريش فلما زنى قعد لا ريش له، وقيل: بدت كف فيما بينهما ليس لها عضد ولا معصم مكتوب فيها: ﴿وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين﴾ فلم ينصرف ثم رأى فيها: ﴿ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا﴾ فلم ينته ثم رأى فيها: ﴿واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله﴾ فلم ينجع فيه فقال الله لجبرئيل: أدرك عبدي قبل أن يصيب الخطيئة فانحط جبريل وهو يقول: يا يوسف أ تعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب في ديوان الأنبياء؟.

وقيل: رأى تمثال العزيز، وقيل: قامت المرأة إلى صنم كان هناك فسترته وقالت: أستحيي منه أن يرانا فقال يوسف: استحييت ممن لا يسمع ولا يبصر ولا أستحيي من السميع البصير العليم بذات الصدور؟.

وهذا ونحوه مما يورده أهل الحشو والجبر الذين دينهم بهت الله تعالى وأنبيائه، وأهل العدل والتوحيد ليسوا من مقالاتهم ورواياتهم بحمد الله بسبيل.

ولو وجدت من يوسف (عليه السلام) أدنى زلة لنعيت عليه وذكرت توبته واستغفاره كما نعيت على آدم زلته، وعلى داود وعلى نوح وعلى أيوب وعلى ذي النون وذكرت توبتهم واستغفارهم كيف وقد أثنى عليه وسمي مخلصا؟.

فعلم بالقطع أنه ثبت في ذلك المقام الدحض وأنه جاهد نفسه مجاهدة أولي القوة والعزم ناظرا في دليل التحريم ووجه القبح حتى استحق من الله الثناء فيما أنزل من كتب الأولين ثم في القرآن الذي هو حجة على سائر كتبه ومصدق لها، ولم يقتصر إلا على استيفاء قصته، وضرب سورة كاملة عليها ليجعل له لسان صدق في الآخرين كما جعله لجده الخليل إبراهيم (عليه السلام).

وليقتدي به الصالحون إلى آخر الدهر في العفة وطيب الإزار والتثبت في مواقع العثار.

فأخزى الله أولئك في إيرادهم ما يؤدي إلى أن يكون إنزال الله السورة التي هي أحسن القصص في القرآن العربي المبين ليقتدى بنبي من أنبياء الله في القعود بين شعب الزانية وفي حل تكته للوقوع عليها، وفي أن ينهاه ربه ثلاث مرات، ويصاح به من عنده ثلاث صيحات بقوارع القرآن وبالتوبيخ العظيم وبالوعيد الشديد وبالتشبيه بالطائر الذي سقط ريشه حين سفد غير أنثاه وهو جاثم في مربضه لا يتحلحل ولا ينتهي ولا يتنبه حتى يتداركه الله بجبريل وبإجباره، ولو أن أوقح الزناة وأشطرهم وأحدهم حدقة أجلحهم وجها لقي بأدنى ما لقي به مما ذكروا لما بقي له عرق ينبض ولا عضو يتحرك فيا له من مذهب ما أفحشه ومن ضلال ما أبينه.

وما أحسن ما قال بعض أهل التفسير في ذم أصحاب هذا القول إنهم يتهمونه (عليه السلام) في هذه الواقعة وقد شهد ببراءته وطهارته كل من لها تعلق ما بها فالله سبحانه يشهد بذلك إذ يقول: ﴿إنه من عبادنا المخلصين﴾ والشاهد الذي شهد له من أهلها إذ قال: ﴿إن كان قميصه قد من قبل﴾ إلى آخر الآيتين، والعزيز إذ قال لامرأته.

﴿إنه من كيدكن﴾ وامرأة العزيز إذ قالت: ﴿الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين﴾ والنسوة إذ قلن: ﴿حاش لله ما علمنا عليه من سوء﴾ ويوسف ينفي ذلك عن نفسه وقد سماه الله صديقا إذ قال: ﴿إني لم أخنه بالغيب﴾.

وعمدة السبب في تعاطيهم هذا القول أمران: أحدهما: إفراطهم في الركون إلى الآثار وقبول الحديث كيفما كان وإن خالف صريح العقل ومحكم الكتاب فلعبت بأحلامهم الإسرائيليات وما يلحق بها من الأخبار الموضوعة المدسوسة، وأنستهم كل حق وحقيقة وصرفتهم عن المعارف الحقيقية.

ولذلك تراهم لا يرون لمعارف الدين محتدا وراء الحس، ولا للمقامات المعنوية الإنسانية كالنبوة والولاية والعصمة والإخلاص أصلا إلا الوضع والاعتبار نظائر المقامات الوهمية الاعتبارية الدائرة في مجتمع الإنسان الاعتباري التي ليست لها وراء التسمية والمواضعة حقيقة تتكىء عليها وتطمئن إليها.

فيقيسون نفوس الأنبياء الكرام على سائر النفوس العامية التي تنقلب بين الأهواء وبلغت بها الجهالة والخساسة فإن ارتقت فإنما ترتقي إلى منزلة التقوى ورجاء الثواب وخوف العقاب تصيب كثيرا وتخطىء وإن لحقت بها عصمة إلهية في مورد أو موارد فإنما هي قوة حاجزة بين الإنسان والمعصية لا تعمل عملها إلا بإبطال سائر الأسباب والقوى التي جهز بها الإنسان وإلجاء الإنسان واضطراره إلى فعل الجميل واقتراف الحسنة، ولا جمال لفعل ولا حسن لعمل ولا مدح لإنسان مع الإلجاء والاضطرار وللكلام تتمة سنوردها في بحث يختص به.

الثاني: ظاهر قوله تعالى: ﴿ولقد همت به وهم بها لو لا أن رءا برهان ربه﴾ بناء على ما ذكره النحاة أن جزاء ﴿لو لا﴾ لا يتقدم عليها قياسا على إن الشرطية، وعلى هذا يصير قوله ﴿وهم بها﴾ جملة تامة غير متعلقه بالشرط، وجواب لو لا قولنا ﴿لفعل﴾ أو ما يشبه ذلك والتقدير: ولقد همت امرأة العزيز بيوسف وهم يوسف بها لو لا أن رءا برهان ربه لفعل، وهو المطلوب.

وقد عرفت فساد ذلك وإن الجملتين معا أعني قوله: ﴿ولقد همت به﴾ وقوله: ﴿وهم بها﴾ قسميتان، وإن جزاء لو لا في معنى الجملة الثانية حذف لدلالتها عليه، والكلام على تقدير: وأقسم لقد همت به وأقسم لو لا أن رءا برهان ربه لهم بها نظير قولهم: والله لأضربنه إن ضربني.

على أن الذي قدروه من المعنى كان الأنسب به أن يقال: ﴿ولو لا أن رءا برهان ربه﴾ بالوصل، ولا وجه ظاهرا من جهة السياق يوجه به الفصل.

2 - ومن الأقوال في الآية أن المراد بهمه (عليه السلام) ميل الطبع وانتزاع الغريزة قال في الكشاف، فإن قلت كيف جاز على نبي الله أن يكون منه هم بالمعصية وقصد إليها؟ قلت: المراد أن نفسه مالت إلى المخالطة ونازعت إليها عن شهوة الشباب وقرمه ميلا يشبه الهم به والقصد إليه وكما تقتضيه صورة تلك الحال التي تكاد تذهب بالعقول والعزائم، وهو يكسر ما به ويرده بالنظر إلى برهان الله المأخوذ على المكلفين من وجوب اجتناب المحارم.

ولو لم يكن ذلك الميل الشديد المسمى هما لشدته لما كان صاحبه ممدوحا عند الله بالامتناع لأن استعظام الصبر على الابتلاء على حسب عظم الابتلاء وشدته، ولو كان همه كهمها عن عزيمة لما مدحه الله بأنه من عباده المخلصين.

ويجوز أن يريد بقوله: ﴿وهم بها﴾ وشارف أن يهم بها كما يقول الرجل: قتلته لو لم أخف الله، يريد مشارفة القتل ومشافهته كأنه شرع فيه.

ثم قال: فإن قلت: لم جعلت جواب لو لا محذوفا يدل عليه هم بها، وهلا جعلته هو الجواب مقدما.

قلت: لأن لو لا لا يتقدم عليها جوابها من قبل أنه في حكم الشرط، وللشرط صدر الكلام وهو مع ما في حيزه من الجملتين مثل كلمة واحدة، ولا يجوز تقديم بعض الكلمة على بعض، وأما حذف بعضها إذا دل الدليل عليه فجائز.

فإن قلت: فلم جعلت لو لا متعلقة بهم بها وحده؟ ولم تجعلها متعلقة بجملة قوله: ﴿ولقد همت به وهم بها﴾ لأن الهم لا يتعلق بالجواهر ولكن بالمعاني فلا بد من تقدير المخالطة والمخالطة لا تكون إلا باثنين معا فكأنه قيل: ولقد هما بالمخالطة لو لا أن منع مانع أحدهما.

قلت: نعم ما قلت ولكن الله سبحانه قد جاء بالهمين على سبيل التفصيل حيث قال: ﴿ولقد همت به وهم بها﴾ فكان إغفاله إلغاء له فوجب أن يكون التقدير: ولقد همت بمخالطته وهم بمخالطتها، على أن المراد بالمخالطتين توصلها إلى ما هو حظها من قضاء شهوتها منه، وتوصله إلى ما هو حظه من قضاء شهوته منها لو لا أن رءا برهان ربه فترك التوصل إلى حظه من الشهوة فلذلك كانت ﴿لو لا﴾ حقيقة بأن تعلق بهم بها وحده.

ولخصه البيضاوي في تفسيره، حيث قال: المراد بهمه (عليه السلام) ميل الطبع ومنازعة الشهوة لا القصد الاختياري وذلك مما لا يدخل تحت التكليف بل الحقيق بالمدح والأجر الجزيل من الله من يكف نفسه عن الفعل عند قيام هذا الهم أو مشارفة الهم كقولك: قتلته لو لم أخف الله.

ورد هذا القول بأنه مخالف لما ثبت في اللغة من معنى الهم وهو القصد إلى الفعل مع مقارنته ببعض الأعمال الكاشفة عن ذلك من حركة إلى الفعل المراد أو شروع في بعض مقدماته كمن يريد ضرب رجل فيقوم إليه وأما مجرد ميل الطبع ومنازعة القوة الشهوانية فليس يسمى هما البتة والهم بمعناه اللغوي مذموم لا ينبغي صدوره من نبي كريم، والطبع وإن كان غير مذموم لخروجه عن تحت التكليف لكنه لا يسمى هما.

أقول: هذا إنما يصلح جوابا لقولهم: إن المراد بهمه (عليه السلام) ميل الطبع ومنازعة الشهوة، وأما تجويزه أن يكون المراد بالهم الإشراف على الهم فلا، بل هو قول على حدة في معنى الآية وهو أن يفرق بين الهمين المذكورين فالمراد بهمها القصد العمدي إلى المخالطة وبهمه إشرافه (عليه السلام) على الهم بها من دون تحقق للهم بالفعل والقرينة عليه هو وصفه تعالى إياه بما فيه مدح بالغ، ولو كان همه حقيقيا بالقصد العمدي إلى مخالطتها كان فعلا مذموما لا يتعلق به مدح أصلا فمن هنا يعلم أن المراد بهمه (عليه السلام) إشرافه على الهم لا الهم بالفعل.

والجواب: أنه معنى مجازي لا يصار إليه إلا مع عدم إمكان الحمل على المعنى الحقيقي، وقد تقدم أنه بمكان من الإمكان.

على أن الذي ذكروه في معنى رؤيته برهان ربه وأن المراد بها الرجوع إلى الحجة العقلية القاضية بوجوب الانتهاء عن النواهي الشرعية والمحارم الإلهية معنى بعيد من اللفظ إذ الرؤية لا تستعمل إلا في الإبصار الحسي أو المشاهدة القلبية التي هي بمنزلتها أو أظهر منها، وأما مجرد التفكر العقلي فلا يسمى رؤية البتة.

3 - ومن الأقوال في الآية: أن المراد بالهمين مختلف فهمها هو قصدها مخالطته وهمه بها هو قصده أن يضربها للدفاع عن نفسه، والدليل على التفرقة بين الهمين شهادته تعالى على أنه من عباده المخلصين وقيام الحجة عقلا على عصمة الأنبياء (عليهم السلام).

قال في مجمع البيان،: إن الهم في ظاهر الآية قد تعلق بما لا يصح تعلق العزم به على الحقيقة لأنه قال: ﴿ولقد همت به وهم بها﴾ فعلق الهم بهما وذاتاهما لا يجوز أن يراد ويعزم عليهما لأن الموجود الباقي لا يصح أن يراد ويعزم عليه فإذا حملنا الهم في الآية على العزم فلا بد من تقدير أمر محذوف يتعلق العزم به.

وقد أمكن أن نعلق عزمه بغير القبيح، ونجعله متناولا لضربها أو دفعها عن نفسه فكأنه قال: ولقد همت بالفاحشة منه وأرادت ذلك وهم يوسف بضربها ودفعها عن نفسه كما يقال هممت بفلان أي بضربه وإيقاع مكروه به.

وعلى هذا فيكون معنى رؤية البرهان أن الله سبحانه أراه برهانا على أنه إن أقدم على ما هم به أهلكه أهلها أو قتلوه أو ادعت عليه المراودة على القبيح وقذفته بأنه دعاها إليه وضربها لامتناعها منه، فأخبر سبحانه أنه صرف عنه السوء والفحشاء اللذين هما القتل وظن اقتراف الفاحشة به، ويكون التقدير: لو لا أن رءا برهان ربه لفعل ذلك، ويكون جواب لو لا محذوفا كما حذف في قوله تعالى: ﴿ولو لا فضل الله عليكم ورحمته وإن الله رءوف رحيم﴾ انتهى موضع الحاجة.

والجواب: أنه قول لا بأس به لكنه مبني على التفرقة بين الهمين وهو خلاف الظاهر لا يصار إليه إلا إذا لم يمكن حملهما على معنى واحد وقد عرفت إمكان ذلك.

على أن لازمه أن يكون المراد بالبرهان الذي رآه ما يدل على أنه إن ضربها استتبع ذلك هلاكه أو مصيبة أخرى تصيبه ويكون المراد بالسوء والفحشاء القتل والتهمة - كما أشار إليه في المجمع، - وهذا خلاف ما يستفاد من السياق قطعا.

وأما ما ذكره في المجمع، من عدم جواز إرادة العزم على المخالطة من الهمين معا، ومحصله أن الهم إنما يتعلق بمن لا ينقاد للعازم الهام فيما يريده، وإذا فرض تحقق الهم من أحد الطرفين لم يصح تحققه مع ذلك من الطرف الآخر إذ لا معنى لتعلق الإرادة بالمريد والطلب من الطالب وبعث من هو مبعوث بالفعل.

ففيه أنه لا مانع من تحقق الهم من الطرفين إذا فرض تحققهما دفعة واحدة من دون سبق ولحوق أو قارن ذلك عناية زائدة كإنسانين يريدان الاقتراب والاجتماع فربما يثبت أحدهما ويتحرك إليه الآخر، وربما يتحركان ويقتربان ويتدليان معا وجسمين يريدان الانجذاب والاتصال فربما يجذب أحدهما وينجذب إليه الآخر وربما يتجاذبان ويتدانيان.

4 - ومن الأقوال في الآية: أن المراد بالهم في الموردين معا الهم بالضرب والدفاع فهي لما راودته وردها بالامتناع والاستنكاف ثارت منها داعية الغضب والانتقام وهاج في باطنها الوجد الممزوج بالسخط والأسف فهمت به لتضربه على تمرده من امتثال ما أمرته به، وهو لما شاهد ذلك استعد للدفاع عن نفسه وضربها إن مستها بسوء غير أن ضربه إياها ومقاومته لدفعها لما كان ربما يتهمه في أنه راودها عن نفسه ودعاها إلى الفحشاء أراه الله سبحانه بفضله برهانا فهم منه ذلك وألهم أن يختار للدفاع عن نفسه سبيل الفرار فقصد باب البيت ليفتحه ويخرج من عندها فعقبته فاستبقا الباب.

ولا مساغ لحمل الهم على الهم بالمخالطة أما في قوله: ﴿ولقد همت به﴾ فلان الهم لا يكون إلا بفعل للهام، والوقاع ليس من أفعال المرأة فتهم به، وإنما نصيبها منه قبولها لمن يطلبه منها بتمكينه منه.

هذا أولا.

على أن يوسف لم يطلب من امرأة العزيز هذا الفعل فيسمى قبولها لطلبه ورضاها بتمكينه منه هما لها فإن نصوص الآيات قبل هذه الآية وبعدها تبرئة من ذلك بل من وسائله ومقدماته أيضا.

وهذا ثانيا.

على أن ذلك لو وقع لكان الواجب في التعبير عنه أن يقال: ولقد هم بها وهمت به لأن الأول هو المقدم في الطبع والوضع وهو الهم الحقيقي، والهم الثاني متوقف عليه لا يتحقق بدونه.

وهذا ثالثا.

على أنه قد علم من القصة أن هذه المرأة كانت عازمة على ما طلبته طلبا جازما مصرة عليه ليس عندها أدنى تردد فيه ولا مانع منه يعارض المقتضي له، فإذن لا يصح أن يقال: إنها همت به مطلقا حتى لو فرض جدلا أنه كان قبولا لطلبه ومواتاة له إذ الهم مقاربة الفعل المتردد فيه، وأما الهم بمعنى قصدها له بالضرب تأديبا فيصح ذلك فيه بأهون تقدير.

وهذا رابعا.

انتهى ملخصا مما أورده صاحب المنار في تفسيره.

والجواب: أنه يشارك القول السابق في معنى همه بها فيرد عليه ما أوردناه على سابقه، وأما ما يختص به أن المراد بهمها به قصدها إياه بضرب ونحوه فمما لا دليل عليه أصلا، وأما مجرد اتفاق ذلك في بعض نظائر القصة فليس يوجب حمل الكلام عليه من غير قرينة تدل على ذلك.

وأما ما ذكره في استبعاد أن يراد من قوله: ﴿ولقد همت به﴾ الهم على المخالطة أو عدم صحته فوجوه سخيفة جدا فإن من المعلوم أن هذه المخالطة تتألف عادة من حركات وسكنات شأن المرأة فيها الفعل دون الانفعال والعمل دون القبول فلو همت به بضم أو ما يناظره ليلتهب بذلك ما خمدت من نار غريزته الكامنة، وتلجئه إلى إجابتها فيما تريده منه صح أن يقال: إنها همت به أي بمخالطته وليس من الواجب أن يفسر همها به بقصدها خصوص ما هي قابلة له حتى لا يصح به إطلاق الهم عليه.

وأما ما ذكره أخيرا أنها كانت جازمة غير مترددة فلا يصح أن يراد بهمها الهم على ما تريده من المخالطة ففيه أنها إنما كانت جازمة في إرادتها منه وعزيمتها عليه، وأما في تحقق الفعل ووقوعه على ما قدرته فلا كيف؟ وقد شاهدت من يوسف الامتناع والإباء عن مراودتها، وإنما همت به لما قابلها بالاستنكاف ولا جزم لها مع ذلك بإجابته لها ومطاوعته لما أرادته منه وهو ظاهر.

5 - ومن الأقوال في الآية: حمل الكلام على التقديم والتأخير ويكون التقدير: ولقد همت به ولو لا أن رءا برهان ربه لهم بها، ولما رءا برهان ربه لم يهم بها، ويجري ذلك مجرى قولهم: قد كنت هلكت لو لا أني تداركتك، وقد كنت قتلت لو لا أني خلصتك، والمعنى: لو لا تداركي لهلكت - ولو لا تخليصي لقتلت وإن كان لم يقع هلاك وقتل، ومثله قول الشاعر: فلا تدعني قومي ليوم كريهة.

لئن لم أعجل ضربة أو أعجل.

وفي القرآن الكريم: ﴿إن كادت لتبدي به لو لا أن ربطنا على قلبها﴾ نسبه في المجمع، إلى أبي مسلم المفسر.

والجواب: أنه إن كان المراد به ما ربما يقوله المفسرون: إن في القرآن تقديما وتأخيرا فإنما ذلك فيما يكون هناك جمل متعددة بعضها متقدمة على بعضها بالطبع فأهمل النظم واكتفى بمجرد العد من غير ترتيب لعناية تعلقت به كما قيل في قوله تعالى: ﴿وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب﴾ هود: 71 إنه من التقديم والتأخير، وإن التقدير: فبشرناها فضحكت وأما قوله: ﴿وهم بها لو لا أن رءا برهان ربه﴾ فالمعنى يختلف فيه بالتقديم والتأخير فهو إذا قدم كان هما مطلقا من غير تقييد لعدم جواز كونه جوابا للو لا مقدما عليها على ما ذكروه، وإذا أخر كان هما مقيدا بالشرط.

وإن كان المراد أنه جواب للو لا مقدم عليها فالنحاة لا يجوزونه قياسا على إن الشرطية ويؤولون ما سمع من ذلك اللهم إلا أن يكون ذلك خلافا منه لهم لعدم الدليل على هذا القياس، ولا موجب لتأويل ما ورد في الكلام مما ظاهره ذلك.

6 - ومن الأقوال في الآية: ما ذكروا أنها أول ما همت به في منامها وهم بها لأنه رآها في منامه فعند ذلك علم أنها له فلذلك هم بها.

أورده الغزالي في تفسيره، قال: وهذا وجه حسن لأن الأنبياء كانوا معصومين لا يقصدون المعاصي.

والجواب أنه إن أريد به أن قوله: ﴿وهم بها﴾ حكاية ما رآه يوسف (عليه السلام) في المنام فهو تحكم لا دليل عليه من جهة اللفظ البتة، وإن أريد به أنه (عليه السلام) رآها في المنام وهم بها فيه، واعتقد من هناك أنها له وخاصة بناء على أن رؤيا الأنبياء وحي، ثم هم بها في اليقظة في مجلس المراودة بالمضي على اعتقاده فيها فأدركته رؤية برهان من ربه يبين له أنه قد أخطأ في زعمه ففيه إثبات خطإ الأنبياء في تلقي الوحي، وليس ذلك بأقل محذورا من تجويز إقدامهم على المعاصي.

على أن الآية السابقة - وقد عد فيها المخالطة ظلما لا يفلح صاحبه واستعاذ بالله منه - تناقض ذلك فكيف يزعم أنها له وهو يعده ظلما ويستعيذ منه بالله سبحانه؟.

فهذه عمدة الأقوال في الآية وهي مع ما قدمناه أولا ترتقي إلى سبعة أو ثمانية، وقد علمت أن معنى رؤية البرهان يختلف بحسب اختلاف الأقوال فمن قائل إنه سبب يقيني شاهده يوسف (عليه السلام)، ومن قائل إنه الآيات والأمور التي ظهرت له فردعته عن اقتراف الخطيئة، ومن قائل إنه العلم بحرمة الزنا وعذابه، ومن قائل إنه ملكة العفة، ومن قائل إنه العصمة والطهارة وقد عرفت ما هو الحق منها وسنعود إليه في كلام خاص به بعد تمام البحث عن الآيات إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: ﴿واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر﴾ الاستباق هو التسابق وقد تقدم، والقد القط هو الشق إلا أن القد هو الشق طولا والقط هو الشق عرضا، والدبر والقبل كالخلف والأمام.

والسياق يعطي أن استباقها كان لغرضين مختلفين فكان يوسف (عليه السلام) يريد أن يفتحه ويتخلص منها بالخروج من البيت، وامرأة العزيز كانت تريد أن تسبقه إليه فتمنعه من الفتح والخروج لعلها تفوز بما تريده منه، وإن يوسف سبقها إلى الباب فاجتذبته من قميصه من الوراء فقدته ولم ينقد إلا لأنه كان في حال الهرب مبتعدا منها وإلا لم ينشق طولا.

وقوله: ﴿وألفيا سيدها لدى الباب﴾ الإلفاء الوجدان يقال: ألفيته كذا أي وجدت والمراد بسيدها زوجها.

قيل: إنه جري على عرف مصر وقد كانت النساء بمصر يلقبن زوجهن بالسيد، وهو مستمر إلى هذا الزمان.

قوله تعالى: ﴿قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم﴾ لما ألفيا سيدها لدى الباب انقلب مجلس المراودة إلى موقف التحقيق، وإنما أوجد هذا الموقف وجود العزيز لدى الباب وحضورهما والهيئة هذه الهيئة عنده، ويتكفل ما جرى في هذا الموقف قوله: ﴿وألفيا سيدها لدى الباب﴾ إلى تمام خمس آيات.

فبدأت امرأة العزيز تشكو يوسف إليه وتسأله أن يجازيه فذكرت أنه أراد بها سوءا وعليه أن يسجنه أو يعذبه عذابا أليما لكنها لم تصرح بذلك ولا بشيء من أطراف الواقعة بل كنت وأتت بحكم عام عقلائي يتضمن مجازاة من قصد ذوات البعل بالفحشاء فقالت: ﴿ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم﴾ فلم يصرح باسم يوسف وهو المريد، ولا باسم نفسها وهي الأهل، ولا باسم السوء وهو الزنا بذات البعل كل ذلك تأدبا في حضرة العزيز وتقديسا لساحته.

ولم يتعين الجزاء بل رددته بين السجن والعذاب الأليم لأن قلبها الواله إليه المليء بحبه ما كان يساعدها على التعيين فإن في الإبهام نوعا من الفرج إلا أن في تعبيرها بقولها: ﴿بأهلك﴾ نوعا من التحريض عليه وتهييجه على مؤاخذته ولم يكن ذلك إلا كيدا منها للعزيز بالتظاهر بالوجد والأسى لئلا يتفطن بواقع الأمر فيؤاخذها أما إذا صرفته عن نفسها المجرمة فإن صرفه عن مؤاخذة يوسف (عليه السلام) لم يكن صعبا عليها تلك الصعوبة.

قوله تعالى: ﴿قال هي راودتني عن نفسي﴾ لم يبدأ يوسف (عليه السلام) بالقول أدبا مع العزيز وصونا لها أن يرميها بالجرم لكن لما اتهمته بقصدها بالسوء لم ير بدا دون أن يصرح بالحق فقال: ﴿هي راودتني عن نفسي﴾ وفي الكلام دلالة على القصر وهي من قصر القلب أي لم أردها بالسوء بل هي التي أرادت ذلك فراودتني عن نفسي.

وفي كلامه هذا - وهو خال عن أقسام التأكيد كالقسم ونحوه - دلالة على سكون نفسه (عليه السلام) وطمأنينته وأنه لم يحتشم ولم يجزع ولم يتملق حين دعوى براءته مما رمته به إذ كان لم يأت بسوء ولا يخافها ولا ما اتهمته وقد استعاذ بربه حين قال: ﴿معاذ الله﴾.

قوله تعالى: ﴿وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين﴾ إلى آخر الآيتين.

لما كانت الشهادة في معنى القول كان قوله: ﴿إن كان قميصه﴾ إلخ بمنزلة مقول القول بالنسبة إليه فلا حاجة إلى تقدير القول قبل قوله: ﴿إن كان قميصه﴾ إلخ، وقد قيل: إن هذا القول لما أدى مؤدى الشهادة عبر عنه بلفظ الشهادة.

وقد أشار هذا الشاهد إلى دليل ينحل به العقدة ويتضح طريق القضية فتكلم فقال: ﴿إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين﴾ فإن من البين أن أحدهما صادق في دعواه والآخر كاذب، وكون القد من قبل يدل على منازعتهما ومصارعتهما بالمواجهة فالقضاء لها عليه، وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين فإن كون القد من دبر يدل على هربه منها وتعقيبها إياه واجتذابها له إلى نفسها فالقضاء له عليها.

وهو ظاهر.

وأما من هذا الشاهد؟ فقد اختلف فيه المفسرون فقال بعضهم: كان رجلا حكيما أشار للعزيز بما أشار كما عن الحسن وقتادة وعكرمة، وقيل: كان رجلا وهو ابن عم المرأة وكان جالسا مع زوجها لدى الباب، وقيل: لم يكن من الإنس ولا الجن بل خلقا من خلق الله كما عن مجاهد، ورد بمنافاته الصريحة لقوله تعالى: ﴿من أهلها﴾.

ومن طرق أهل البيت (عليهم السلام) وبعض طرق أهل السنة أنه كان صبيا في المهد من أهلها، وسيجيء في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى.

والذي ينبغي أن ينظر فيه أن الذي أتى به هذا الشاهد بيان عقلي ودليل فكري يؤدي إلى نتيجة هي القاضية لأحد هذين المتداعيين على الآخر، ومثل هذا لا يسمى شهادة عرفا فإنها هي البيان المتعمد على الحس أو ما في حكمه وبالجملة القول الذي لا يعتمد على التفكير والتعقل كما في قوله: ﴿شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم﴾ حم السجدة: 20، وقوله: ﴿قالوا نشهد إنك لرسول الله﴾ المنافقون: 1 فإن الحكم بصدق الرسالة وإن كان في نفسه مستندا إلى التفكر والتعقل لكن المراد بالشهادة تأدية ما عنده من الحق المعلوم قطعا من غير ملاحظة كونه عن تفكر وتعقل كما في موارد يعبر عنه فيها بالقول ونحوه.

فليس من البعيد أن يكون في التعبير عن قول هذا القائل بمثل ﴿وشهد شاهد﴾ إشارة إلى كون ذلك كلاما صدر عنه من غير ترو وفكر فيكون شهادة لعدم اعتماده على تفكر وتعقل لا قولا يعبر به عرفا عن البيان الذي يبتني على ترو وتفكر، وبهذا يتأيد ما ورد من الرواية أنه كان صبيا في المهد فقد كان ذلك بنوع من الإعجاز أيد الله سبحانه به قول يوسف (عليه السلام).

قوله تعالى: ﴿فلما رءا قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم﴾ أي فلما رأى العزيز قميص يوسف والحال أنه مقدود مشقوق من خلف، قال إن الأمر من كيدكن معاشر النساء إن كيدكن عظيم فمرجع الضمائر معلوم من السياق.

ونسبة الكيد إلى جماعة النساء مع كونه من امرأته للدلالة على أنه إنما صدر منها بما أنها من النساء، وكيدهن معهود معروف، ولذا استعظمه وقال ثانيا: ﴿إن كيدكن عظيم﴾ وذلك أن الرجال أوتوا من الميل والانجذاب إليهن ما ليس يخفى وأوتين من أسباب الاستمالة والجلب ما في وسعهن أن يأخذن بمجامع قلوب الرجال ويسخرن أرواحهم بجلوات فتانة وأطوار سحارة تسلب أحلامهم، وتصرفهم إلى إرادتهن من حيث لا يشعرون وهو الكيد وإرادة الإنسان بالسوء ومفاد الآية أن العزيز لما شاهد أن قميصه مقدود من خلف قضى ليوسف (عليه السلام) على امرأته.

قوله تعالى: ﴿يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين﴾ من مقول قول العزيز أي إنه بعد ما قضى له عليها أمر يوسف أن يعرض عن الأمر وأمر امرأته أن تستغفر لذنبها ومن خطيئتها.

فقوله: ﴿يوسف أعرض عن هذا﴾ يشير إلى ما وقع من الأمر ويعزم على يوسف أن يعرض عنه ويفرضه كأن لم يكن فلا يحدث به ولا يذيعه، ولم يرد في كلامه تعالى ما يدل على أن يوسف (عليه السلام) حدث به أحدا وهو الظن به (عليه السلام) كما نرى أنه لم يظهر حديث المراودة للعزيز حتى اتهمته بسوء القصد فذكر الحق عند ذلك لكن كيف يخفى حديث استمر عهدا ليس بالقصير، وقد استولى عليها الوله وسلب منها الغرام كل حلم وحزم، ولم تكن المراودة مرة أو مرتين والدليل على ذلك ما سيأتي من قول النسوة: ﴿امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا﴾.

وقوله: ﴿واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين﴾ يقرر لها الذنب ويأمرها أن تستغفر ربها لذلك الذنب لأنها كانت بذلك من أهل الخطيئة، ولذلك قيل: ﴿من الخاطئين﴾ ولم يقل من الخاطئات.

وهذا كله من كلام العزيز على ما يعطيه السياق لا من كلام الشاهد لأنه قضاء وحكم والقضاء للعزيز لا للشاهد.

ومن الخطإ قول بعضهم: إن معنى ﴿واستغفري لذنبك﴾ سلي زوجك أن لا يعاقبك على ذنبك انتهى.

بناء على أن الجملة من كلام الشاهد لا من كلام العزيز وكذا قول آخر: معناه: استغفري الله من ذنبك وتوبي إليه فإن الذنب كان منك لا من يوسف فإنهم كانوا يعبدون الله تعالى مع عبادة الأصنام.

وذلك أن الوثنيين يقرون بالله سبحانه في خالقيته لكنهم لا يعبدون إلا الآلهة والأرباب من دون الله سبحانه - وقد تقدم الكلام في ذلك في الجزء السابق من الكتاب - على أن الآية لا تشتمل إلا على قوله: ﴿واستغفري﴾ من دون أن يذكر المتعلق، وهو ربها المعبود لها في مذهبها.

وربما قيل: إن الآية تدل على أن العزيز كان فاقدا للغيرة، والحق أن الذي تدل عليه أنه كان شديد الحب لامرأته.

قوله تعالى: ﴿وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين﴾ قصة نسوة مصر مع يوسف في بيت العزيز تتضمنها الآية إلى تمام ست آيات.

والذي يعطيه التدبر فيها بما ينضم إليها من قرائن الأحوال وما يستوجبه طبع القصة أنه لما كان من أمر يوسف والعزيزة ما كان، شاع الخبر في المدينة تدريجا، وصارت النساء وهن سيدات المدينة يتحدثن به في مجامعهن ومحافلهم فيما بينهن ويعيرن بذلك عزيزة مصر ويعبنها أنها تولهت إلى فتاها وافتتنت به وقد أحاط بها حبا فظلت تراوده عن نفسه، وضلت به ضلالا مبينا.

وكان ذلك مكرا منهن بها على ما في طبع أكثر النساء من الحسد والعجب فإن المرأة تغلبه العواطف الرقيقة والإحساسات اللطيفة وركوز لطف الخلقة وجمال الطبيعة فيها مشعوفة القلب بالزينة والجمال متعلقة الفؤاد برسوم الدلال، ويورث ذلك فيها وخاصة في الفتيات إعجابا بالنفس وحسدا للغير.

وبالجملة كان تحديثهن بحديث الحب والمراودة مكرا منهن بالعزيزة - وفيه بعض السلوة لنفوسهن والشفاء لغليل صدورهن - ولما يرين يوسف، ولا شاهدن منه ما شاهدته العزيزة فولها وهتك سترها وإنما كن يتخيلن شيئا ويقايسن قياسا، وأين الرواية من الدراية والبيان من العيان.

وشاع التحديث به في المسامرات حق بلغ الخبر امرأة العزيز تلك التي لا هم لها إلا أن تفوز في طلب يوسف وبلوغ ما تريد منه ولا تعبأ في حبه بشيء من الملك والعزة إلا لأن تتوصل به إلى حبه لها وميله إليها وإنجاحه لطلبتها فاستيقظت من رقدتها وعلمت بمكرهن بها فأرسلت إليهن للحضور لديها وأنهن سيدات ونساء أشراف المدينة وأركان البلاد ممن له رابطة المعاشرة مع بيت العزيز أو لياقة الحضور فيه.

فتهيأن للحضور وتبرزن بأحسن الجمال وأوقع الزينة على ما هو الدأب في أمثال هذه الاحتفالات من أمثال هؤلاء السيدات، وكل تتمنى أن ترى يوسف وتشاهد ما عنده من الحسن الذي أوقع على العزيزة ما أوقع وفضحها.

والعزيزة لا هم لها يومئذ إلا أن تريهن يوسف حتى يعذرنه ويشتغلن عنها بأنفسهن فتتخلص من لسانهن فتأمن مكرهن، وهي لا تعبأ بافتتانهن بيوسف ولا تخاف عليه منهن لأنها - على ما تزعم - مولاته وصاحبته ومالكة أمره، وهو فتاها المخصوص بها، وهي تعلم أن يوسف ليس بالذي يرغب فيهن أو يصبو إليهن وهو لا ينقاد لها فيما تريده منه بما عنده من الاستعصام والاعتزاز عن هذه الأهواء والأميال.

ثم لما حضرن عند العزيزة وأخذن مقاعدهن، ووقع الأنس وجرت المحادثة والمفاوضة وأخذن في التفكه آتت كل واحد منهن سكينا وقد هيأت لهن وقدمت إليهن الفاكهة، عند ذلك أمرت يوسف أن يخرج إليهن وقد كان مستورا عنهن.

فلما طلع يوسف عليهن ووقعت عليه أعينهن طارت عقولهن وطاحت أحلامهن ولم يدرين دون أن قطعن أيديهن مكان الفاكهة التي فيها لما دخل عليهن من البهت والذهول، وهذه خاصة الوله والفزع فإن نفس الإنسان إذا انجذبت إلى شيء مما تفرط في حبه أو تخافه وتهوله اضطربت وبهتت ففاجأها الموت أو سلبت الشعور اللازم في تدبير القوى والأعضاء وتنظيم الأمر، فربما أقدم مسرعا إلى الخطر الذي أدهشه لقاؤه وربما نسي الفرار فبقي كالجماد الذي لا حراك به، وربما يفعل غير ما هو قاصده وفاعله اختباطا، ونظائرها في جانب الحب كثيرة وحكايات المغرمين والمتولهين من العشاق مشهورة.

وكان هذا هو الفرق بين العزيزة وبينهن فإن استغراقها في حب يوسف إنما حصل لها تدريجا، وأما نساء المدينة فإنهن فوجئن به دفعة فغشيت قلوبهن غاشية الجمال، وغادرهن الحب ففضحهن وأطار عقلهن وأضل رأيهن فنسين الفاكهة وقطعن أيديهن وتركن كل تجلد واصطبار، وأبدين ما في أنفسهن من وله الحب، وقلن: ﴿حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم﴾.

هذا وهن في بيت العزيز وهو بيت يجب فيه التحفظ على كل أدب ووقار، وكان يجب أن يتقينها ويحتشمن موقعها وهن شريفات ذوات جمال وذوات بعولة وذوات خدر وستر وهذه كلها جهات مانعة عن الخلاعة والتهتك، وهن لم ينسين ما كن بالأمس يتحدثن به ويلمن ويذممن امرأة العزيز في حبها ليوسف وهما في بيت واحد منذ سنين.

فكان من الواجب على كل منهن أن تتقي صواحبها فلا تتهتك وهن يعلمن ما انجر إليه أمر امرأة العزيز من سوء الذكر وفضاحة الشهرة هذا كله ويوسف واقف أمامهن يسمع قولهن ويشاهد صنعهن.

لكن الذي شاهدنه على المفاجأة من حسن يوسف نسخ ما قدرنه من قبل في أنفسهن وبدل مجلس الأدب والاحتشام حفلة عيش لا يكتم محتفلوها من أنفسهم ضميرا، ولا يبالي حضارها ما قيل أو يقال فيهم ولم يلبثن دون أن قلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم وقد قلن غير بعيد: ﴿امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين﴾.

وكلامهن هذا بعد قولهن ذاك إعذار منهن فمفاده أن الذي كنا نقوله قبل إنما هو حق لو كان هذا بشرا وليس به وإنما يذم الإنسان ويعاب لو ابتلي بهوى بشر ومراودته وكان في وسعه أن يكتفي عنه بما يكافئه ويغني عنه، وأما الجمال الذي لا يعادله جمال، ويسلب كل حزم واختيار، فلا لوم على هواه.

ولا ذم في غرامه.

ولهذا انقلب المجلس دفعة، وانقطعت قيود الاحتشام فانبسطن وتظاهرن بالقول في حسن يوسف وكل تتكلم بما في ضميرها منه، وقالت امرأة العزيز: ﴿فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم﴾ فأبدت سرا ما كانت تعترف به قبل ثم هددت يوسف تجلدا وحفظا لمقامها عندهن وطمعا في مطاوعته وانقياده: ﴿ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين﴾.

وأما يوسف فلم يأخذه شيء من تلك الوجوه الحسان بألحاظها الفتانة ولا التفت إلى شيء من لطيف كلامهن ونعيم مراودتهن أو هائل تهديدها فقد كان وجهة نفسه جمال فوق كل جمال، وجلال يذل عنده كل عزة وجلال فلم يكلمهن بشيء ولم يلتفت إلى ما كانت امرأة العزيز تسمعه من القول، وإنما رجع إلى ربه فقال: ﴿رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين﴾ .

وكلامه هذا إذا قيس إلى ما قاله لامرأة العزيز وحدها في مجلس المراودة: ﴿معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون﴾ دل بسياقه على أن هذا المقام كان أشق وأمر على يوسف (عليه السلام) إذ كان بالأمس يقاوم هم امرأة العزيز ويعالج كيدها وحدها، وقد توجهت إليه اليوم همهن ومكايدهن جميعا، وكان ما بالأمس واقعة في خلوة على تستر منها، وهي وهن اليوم متجاهرات في حبه متظاهرات في إغوائه ملجآت على مراودته، وجميع الأسباب والمقتضيات اليوم قاضية لهن عليه أشد مما كانت عليه بالأمس.

ولذا تضرع إلى ربه سبحانه في دفع كيدهن هاهنا، واكتفى بالاستعاذة إليه سبحانه هناك فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم.

ولنرجع إلى البحث عن الآيات.

فقوله تعالى: ﴿وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها﴾ إلخ، النسوة اسم جمع للمرأة وتقييد بقوله: في المدينة تفيد أنهن كن من جهة العدد أو الشأن بحال تؤثر قولهن في شيوع الفضيحة.

وامرأة العزيز هي التي كان يوسف في بيتها وقد راودته عن نفسه والعزيز معناه معروف، وقد كان يلقب به السيد الذي اشترى يوسف من السيارة وكان يلقب به الرؤساء بمصر كما لقب به يوسف بعد ما جعل على خزائن الأرض.

وفي قوله: ﴿تراود﴾ دلالة على الاستمرار وهو أفحش المراودة، والفتى الغلام الشاب والمرأة فتاة، وقد شاع تسمية العبد فتى وكأنه بهذه العناية أضيف إلى ضميرها فقيل: ﴿فتاها﴾.

وفي المفردات، ﴿شغفها حبا﴾ أي أصاب شغاف قلبها أي باطنه.

عن الحسن، وقيل: وسطه.

عن أبي علي، وهما يتقاربان انتهى.

وشغاف القلب غلافه المحيط به.

والمعنى: وقال عدة من نساء المدينة لا يخلو قولهن من أثر فيها وفي حقها: امرأة تستمر في مراودة عبدها عن نفسه ولا يحري بها ذلك لأنها مرأة ومن القحة أن تراود المرأة الرجل بل ذاك - إن كان - من طبع الرجال وأنها امرأة العزيز فهي عزيزة مصر فمن الواجب الذي لا معدل عنه أن تراعي شرف بيتها وعزة زوجها ومكانة نفسها، وإن الذي علقت به عبدها من الشنيع أن يتوله مثلها وهي عزيزة مصر بعبد عبراني من جملة عبيده، وأنها أحبته وتعدت ذلك إلى مراودته فامتنع من إجابتها فلم تنته حتى ألحت واستمرت على مراودته وذلك أقبح وأشنع وأمعن في الضلال.

ولذلك عقبن قولهن: ﴿امرأة العزيز تراود﴾ إلخ بقولهن: ﴿إنا لنراها في ضلال مبين﴾.

قوله تعالى: ﴿فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن واعتدت لهن متكأ وآتت كل واحدة منهن سكينا﴾ قال في المجمع، المكر هو الفتل بالحيلة على ما يراد من الطلبة.

وتسمية هذا القول منهن مكرا بامرأة العزيز لما فيه من فضاحتها وهتك سترها من ناحية رقيباتها حسدا وبغيا، وإنما أرسلت إليهن لتريهن يوسف وتبتليهن بما ابتليت به نفسها فيكففن عن لومها ويعذرنها في حبه.

وعلى هذا إنما سمي قولهن مكرا ونسب السمع إليه لأنه صدر منهن حسدا وبغيا لغاية فضاحتها بين الناس.

وقيل: إنما كان قولهن مكرا لأنهن جعلنه ذريعة إلى لقاء يوسف لما سمعن من حسنه البديع فإنما قلن هذا القول لتسمعه امرأة العزيز فترسل إليهن ليحضرن عندها فتريهن إياه ليعذرنها فيما عزلنها له فيتخذن ذلك سبيلا إلى أن يراودنه عن نفسه هذا، والوجه الأول أقرب إلى سياق الآيات.

وقوله: ﴿أرسلت إليهن﴾ معناه معلوم وهو كناية عن الدعوة إلى الحضور عندها.

وقوله: ﴿واعتدت لهن متكأ وآتت كل واحدة منهن سكينا﴾ الإعتاد الإعداد والتهيئة أي أعدت وهيأت، والمتكأ بضم الميم وتشديد التاء اسم المفعول من الاتكاء، والمراد به ما يتكأ عليه من نمرق أو كرسي كما كان معمولا في بيوت العظماء.

وفسر المتكأ بالأترج وهو نوع من الفاكهة كما قرىء في الشواذ ﴿متكأ﴾ بالضم فالسكون وهو الأترج وقرىء ﴿متكأ﴾ بضم الميم وتشديد التاء من غير همز.

وقوله: ﴿وآتت كل واحدة منهن سكينا﴾ أي لقطع ما يرون أكله من الفاكهة كالأترج أو ما يشابهه من الفواكه المأكولة بالقطع وقوله: ﴿وقالت اخرج عليهن﴾ أي أمرت يوسف أن يخرج عليهن وهن خاليات الأذهان فارغات القلوب مشتغلات بأخذ الفاكهة وقطعها، وفي اللفظ دلالة على أنه (عليه السلام) كان غائبا عنهن وكان في مخدع هناك أو بيت آخر في داخل بيت المأدبة الذي كن فيه فإنها قالت: ﴿اخرج عليهن﴾ ولو كان في خارج من البيت لقالت: ﴿ادخل عليهن﴾.

وفي السياق دلالة على أن هذا التدبير كان مكرا منها تجاه مكرهن ليفتضحن به فيعذرنها فيما عذلنها وقد أصابت في رأيها حيث نظمت برنامج الملاقاة فاعتدت لهن متكأ وآتت كل واحدة منهن سكينا، وأخفت يوسف عن أعينهن ثم فاجأتهن بإظهاره دفعة لهن ليغبن عن عقولهن، ويندهشن بذاك الجمال البديع ويأتين بما لا يأتي به ذو شعور البتة وهو تقطيع الأيدي مكان الفواكه لا من الواحدة والثنتين منهن بل من الجميع.

قوله تعالى: ﴿فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم﴾ الإكبار الإعظام وهو كناية عن اندهاشهن وغيبتهن عن شعورهن وإرادتهن بمفاجأة مشاهدة ذاك الحسن الرائع طبقا للناموس الكوني العام وهو خضوع الصغير للكبير وقهر العظيم للحقير فإذا ظهر العظيم الكبير بعظمته وكبريائه لشعور الإنسان قهر سائر ما في ذهنه من المقاصد والأفكار فأنساها وصار يتخبط في أعماله.

ولذلك لما رأينه قهرت رؤيته شعورهن فقطعن أيديهن تقطيعا مكان الفاكهة التي كن يردن قطعها، وفي صيغة التفعيل دلالة على الكثرة يقال: قتل القوم تقتيلا وموتهم الجدب تمويتا.

وقوله: ﴿وقلن حاش لله﴾ تنزيه لله سبحانه في أمر يوسف وهذا كقوله تعالى: ﴿ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم﴾ النور: 16 وهو من أدب الكلام عند المليين إذا جرى القول في أمر فيه نوع تنزيه وتبرئة لأحد يبدأ فينزه الله سبحانه ثم يشتغل بتنزيه من أريد تنزيهه فهن لما أردن تنزيهه (عليه السلام) بقولهن ﴿ما هذا بشرا﴾ إلخ، بدأن بتنزيهه تعالى، ثم أخذن ينزهنه.

وقوله: ﴿ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم﴾ نفي أن يكون يوسف (عليه السلام) بشرا وإثبات أنه ملك كريم، وهذا بناء على ما يعتقده المليون ومنهم الوثنيون أن الملائكة موجودات شريفة هم مبادىء كل خير وسعادة في العالم منهم يترشح كل حياة وعلم وحسن وبهاء وسرور وسائر ما يتمنى ويؤمل من الأمور ففيهم كل جمال صوري ومعنوي، وإذا مثلوا تخيلوا في حسن لا يقدر بقدر، ويتصوره أصحاب الأصنام في صور إنسانية حسنة بهية.

ولعل هذا هو السبب في قولهن: ﴿إن هذا إلا ملك كريم﴾ حيث لم يصفنه بما يدل على حسن الوجه وجمال المنظر مع أن الذي فعل بهن ما فعل هو حسن وجهه واعتدال صورته بل سمينه ملكا كريما لتكون فيه إشارة إلى حسن صورته وسيرته معا، وجمال خلقه وخلقه وظاهره وباطنه جميعا.

والله أعلم.

وتقدم قولهن هذا على قول امرأة العزيز: ﴿فذلكن الذي لمتنني فيه﴾ يدل على أنهن لم يفهمن بهذا الكلام إعذار لامرأة العزيز في حبها له وتيمها وغرامها به، وإنما كان ذلك اضطرارا منهن على الثناء عليه وإظهارا قهريا لانجذاب نفوسهن وتوله قلوبهن إليه فقد كان فيه فضاحتهن، ولم تقل امرأة العزيز: ﴿فذلكن الذي لمتنني فيه﴾ إلا بعد ما فضحتهن فعلا وقولا بتقطيع الأيدي وتنزيه الحسن فلم يبق لهن إلا أن يصدقنها فيما تقول ويعذرنها فيما تفعل.

قوله تعالى: ﴿قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم﴾ إلى آخر الآية، الكلام في موضع دفع الدخل كان قائلا يقول: فما ذا قالت امرأة العزيز لهن؟ فقيل: ﴿قالت فذلكن الذي لمتنني فيه﴾ .

وقد فرعت كلامها على ما تقدمه من قولهن وفعلهن وأشارت إلى شخص الذي لمنها فيه ووصفته بأنه الذي لمنها فيه ليكون هو بعينه جوابا لما رمينها به من ترك شرف بيتها وعزة زوجها وعفة نفسها في حبه، وعذرا قبال لومهن إياها في مراودته، وأقوى البيان أن يحال السامع إلى العيان، ومن هذا الباب قوله تعالى ﴿أهذا الذي يذكر آلهتكم﴾ الأنبياء: 36، وقوله: ﴿ربنا هؤلاء أضلونا﴾ الأعراف: 38.

ثم اعترفت بالمراودة وذكرت لهن أنها راودته لكنه أخذ بالعفة وطلب العصمة، وإنما استرسلت وأظهرت لهن ما لم تزل تخفيه لما رأت موافقة القلوب على التوله فيه فبثت الشكوى لهن ونبهت يوسف أنها غير تاركته فليوطن نفسه على طاعتها فيما تأمر به، وهذا معنى قولها: ﴿ولقد راودته عن نفسه فاستعصم﴾.

ثم ذكرت لهن ما عزمت عليه من إجباره على الموافقة وسياسته لو خالفت فقالت: ﴿ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين﴾ وقد أكدت الكلام بوجوه من التأكيد كالقسم والنون واللام ونحوها ليدل على أنها عزمت على ذلك عزيمة جازمة، وعندها ما يجبره على ما أرادته ولو استنكف فليوطن نفسه على السجن بعد الراحة، والصغار والهوان بعد الإكرام والاحترام، وفي الكلام تجلد ونوع تعزز وتمنع بالنسبة إليهن ونوع تنبيه وتهديد بالنسبة إلى يوسف (عليه السلام).

وهذا التهديد الذي يتضمنه قولها: ﴿ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين﴾ أشد وأهول مما سألته زوجها يوم المراودة بقولها: ﴿ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم﴾.

أما أولا: فلأنها رددت الجزاء هناك بين السجن والعذاب الأليم وجمع هاهنا بين الجزاءين وهو السجن والكون من الصاغرين.

وأما ثانيا فلأنها هاهنا قامت بالتهديد بنفسها لا بأن تسأل زوجها، وكلامها كلام من لا يتردد فيما عزم عليه ولا يرجع عما جزم به.

وقد حققت أنها تملك قلب زوجها وتقدر أن تصرفه مما يريده إلى ما تريده، وتقوى على التصرف في أمره كيفما شاءت؟.

قوله تعالى: ﴿قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين﴾ قال الراغب في المفردات،: صبا فلان يصبو صبوا وصبوة إذا نزع واشتاق وفعل فعل الصبيان، قال تعالى: ﴿أصب إليهن وأكن من الجاهلين﴾ انتهى وفي المجمع، الصبوة لطافة الهوى.

تفاوضت امرأة العزيز والنسوة فقالت وقلن واسترسلن في بت ما في ضمائرهن ويوسف (عليه السلام) واقف أمامهن يدعونه ويراودنه عن نفسه لكن يوسف (عليه السلام) لم يلتفت إليهن ولا كلمهن ولا بكلمة بل رجع إلى ربه الذي ملك قلبه بقلب لا مكان فيه إلا له ولا شغل له إلا به ﴿وقال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه﴾ إلخ.

وقوله هذا ليس بدعاء على نفسه بالسجن وأن يصرف الله عنه ما يدعونه إليه بإلقائه في السجن، وإنما هو بيان حال لربه وأنه عن تربية إلهية يرجح عذاب السجن في جنب الله على لذة المعصية والبعد منه، فهذا الكلام منه نظير ما قاله لامرأة العزيز حين خلت به وراودته عن نفسه: ﴿معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون﴾ ففي الكلامين معا تمنع وتعزز بالله، وإنما الفرق أنه يخاطب بأحدهما امرأة العزيز وبالآخر ربه القوي العزيز وليس شيء من الكلامين دعاء البتة.

وفي قوله: ﴿رب السجن أحب إلي﴾ إلخ، نوع توطئة لقوله ﴿وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن﴾ إلخ، الذي هو دعاء في صورة بيان الحال.

فمعنى الآية: رب إني لو خيرت بين السجن وبين ما يدعونني إليه لاخترت السجن على غيره وأسألك أن تصرف عني كيدهن فإنك إن لا تصرف عني كيدهن أنتزع وأمل إليهن وأكن من الجاهلين فإني إنما أتوقى شرهن بعلمك الذي علمتنيه وتصرف به عني كيدهن فإن أمسكت عن إفاضته علي صرت جاهلا ووقعت في مهلكة الصبوة والهوى.

وقد ظهر من الآية بمعونة السياق: أولا: أن قوله: ﴿رب السجن أحب إلي﴾ إلخ، ليس دعاء من يوسف (عليه السلام) على نفسه بالسجن بل بيان حال منه لربه بالإعراض عنهن والرجوع إليه، ومعنى ﴿أحب إلي﴾ أني أختاره على ما يدعونني إليه لو خيرت، وليس فيه دلالة على كون ما يدعونه إليه محبوبا عنده بوجه إلا بمقدار ما تدعو إليه داعية الطبع الإنساني والنفس الأمارة.

وإن قوله تعالى: ﴿فاستجاب له ربه﴾ إشارة إلى استجابة ما يشتمل عليه قوله: ﴿وإلا تصرف عني كيدهن﴾ إلخ، من معنى الدعاء.

ويؤيده تعقيبه بقوله: ﴿فصرف عنه كيدهن﴾ وليس استجابة لدعائه بالسجن على نفسه كما توهمه بعضهم.

ومن الدليل عليه قوله بعد في قصة دخوله السجن: ﴿ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين﴾ ولو كان دعاء بالسجن واستجابة الله سبحانه وقدر له السجن لم يكن التعبير بثم وفصل المعنى عما تقدمه بأنسب فافهم.

وثانيا: أن النسوة دعونه وراودنه كما دعته امرأة العزيز إلى نفسها وراودته عن نفسه، وأما أنهن دعونه إلى أنفسهن أو إلى امرأة العزيز أو أتين بالأمرين فدعينه بحضرة من امرأة العزيز إليها ثم أسرت كل واحدة منهن داعية إياه إلى نفسها فالآية ساكتة عن ذلك سوى ما يستفاد من قوله: ﴿وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن﴾ إذ لو لا دعوة منهن إلى أنفسهن لم يكن معنى ظاهر للصبوة إليهن.

والذي يشعر به قوله تعالى حكاية عن قوله في السجن لرسول الملك: ﴿ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن - إلى أن قال - قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين﴾ الآيات: 50 - 52 من السورة.

أنهن دعينه إلى امرأة العزيز وقد أشركهن في القصة ثم قال: ﴿لم أخنه بالغيب﴾ ولم يقل: لم أخن بالغيب ولا قال: لم أخنه وغيره فتدبر فيه.

ومع ذلك فمن المحال عادة أن يرين منه ما يغيبهن عن شعورهن ويدهش عقولهن ويقطعن أيديهن ثم ينسللن انسلالا ولا يتعرض له أصلا ويذهبن لوجوههن بل العادة قاضية أنهن ما فارقن المجلس إلا وهن متيمات فيه والهات لا يصبحن ولا يمسين إلا وهو همهن وفيه هواهن يفدينه بالنفس ويطمعنه بأي زينة في مقدرتهن ويعرضن له أنفسهن ويتوصلن إلى ما يردنه منه بكل ما يستطعن.

وهو ظاهر مما حكاه الله من يوسف في قوله: ﴿رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن﴾ فإنه لم يعرض عن تكليمهن إلى مناجاة ربه الخبير بحاله السميع لمقاله إلا لشدة الأمر عليه وإحاطة المحنة والمصيبة من ناحيتهن به.

وثالثا: أن تلك القوة القدسية التي استعصم بها يوسف (عليه السلام) كانت كأمر تدريجي يفيض عليه آنا بعد آن من جانب الله سبحانه، وليست الأمر الدفعي المفروغ عنه وإلا لانقطعت الحاجة إليه تعالى، ولذا عبر عنه بقوله: ﴿وإلا تصرف عني﴾ ولم يقل: وإن لم تصرف عني وإن كانت الجملة الشرطية منسلخة الزمان لكن في الهيئة إشارات.

ولذلك أيضا قال تعالى: ﴿فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن﴾ إلخ فنسب دفع الشر عنه إلى استجابة وصرف جديد.

ورابعا: أن هذه القوة القدسية من قبيل العلوم والمعارف ولذا قال (عليه السلام): ﴿وأكن من الجاهلين﴾ ولم يقل: وأكن من الظالمين، كما قال لامرأة العزيز: ﴿إنه لا يفلح الظالمون﴾ أو أكن من الخائنين كما قال للملك: ﴿وأن الله لا يهدي كيد الخائنين﴾ وقد فرق في نحو الخطاب بينهما وبين ربه فخاطبهما بظاهر الأمر رعاية لمنزلتهما في الفهم فقال: إنه ظلم والظالم لا يفلح، وإنه خيانة والله لا يهدي كيد الخائن، وخاطب ربه بحقيقة الأمر وهو أن الصبوة إليهن من الجهل.

وستوافيك حقيقة الحال في هذين الأمرين في أبحاث ملحقة بالبيان إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: ﴿فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم﴾ أي استجاب الله مسألته في صرف كيدهن عنه حين قال: ﴿وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن﴾ إنه هو السميع بأقوال عباده العليم بأحوالهم.

أبحاث حول التقوى الديني ودرجاته:

في فصول:

1 - القانون والأخلاق الكريمة والتوحيد:

لا يسعد القانون إلا بإيمان تحفظه الأخلاق الكريمة والأخلاق الكريمة لا تتم إلا بالتوحيد فالتوحيد هو الأصل الذي عليه تنمو شجرة السعادة الإنسانية وتتفرع بالأخلاق الكريمة، وهذه الفروع هي التي تثمر ثمراتها الطيبة في المجتمع، قال تعالى: ﴿ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار﴾ إبراهيم: 26.

فجعل الإيمان بالله كشجرة لها أصل وهو التوحيد لا محالة وأكل تؤتيه كل حين بإذن ربها وهو العمل الصالح، وفرع وهو الخلق الكريم كالتقوى والعفة والمعرفة والشجاعة والعدالة والرحمة ونظائرها.

وقال تعالى: ﴿إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه﴾ الفاطر: 10 فجعل سعادة الصعود إلى الله وهو القرب منه تعالى للكلم الطيب وهو الاعتقاد الحق وجعل العمل الذي يصلح له ويناسبه هو الذي يرفعه ويمده في صعوده.

بيان ذلك: أن من المعلوم أن الإنسان لا يتم له كماله النوعي ولا يسعد في حياته التي لا بغية له أعظم من إسعادها إلا باجتماع من أفراد يتعاونون على أعمال الحياة على ما فيها من الكثرة والتنوع وليس يقوى الواحد من الإنسان على الإتيان بها جميعا.

وهذا هو الذي أحوج الإنسان الاجتماعي إلى أن يتسنن بسنن وقوانين يحفظ بها حقوق الأفراد عن الضيعة والفساد حتى يعمل كل منهم ما في وسعه العمل به ثم يبادلوا أعمالهم فينال كل من النتائج المعدة ما يعادل عمله ويقدره وزنه الاجتماعي من غير أن يظلم القوي المقتدر أو يظلم الضعيف العاجز.

ومن المسلم أن هذه السنن والقوانين لا تثبت مؤثرة إلا بسنن وقوانين أخرى جزائية تهدد المتخلفين عن السنن والقوانين المتعدين على حقوق ذوي الحقوق، وتخوفهم بالسيئة قبال السيئة وبأخرى تشوقهم وترغبهم في عمل الخيرات وتضمن إجراء الجميع القوة الحاكمة التي تحكم فيهم وتتسيطر عليهم بالعدل والصدق.

وإنما تتحقق هذه الأمنية إذا كانت القوة المجرية للقوانين عالمة بالجرم وقوية على المجرم، وأما إذا جهلت ووقع الأجرام على جهل منها أو غفلة - وكم له من وجود - فلا مانع يمنع من تحققه، والقوانين لا أيدي لها تبطش بها، وكذا إذا ضعفت الحكومة بفقد القوى اللازمة أو مساهلة في السياسة والعمل فظهر عليها المجرم أو كان المجرم أشد قوة ضاعت القوانين وفشت التخلفات والتعديات على حقوق الناس، والإنسان - كما مر مرارا في المباحث السابقة من هذا الكتاب - مستخدم بالطبع يجر النفع إلى نفسه ولو أضر غيره.

ويشتد هذا البلوى إذا تمركزت هذه القوة في القوة المجرية أو من يتولى أزمة جميع الأمور فاستضعف الناس وسلب منهم القدرة على رده إلى العدل وتقويمه بالحق فصار ذا قوة وشوكة لا يقاوم في قوته ولا يعارض في إرادته.

والتواريخ المحفوظة مملوءة من قصص الجبابرة والطواغيت وتحكماتهم الجائرة على الناس، وهو ذا نصب أعيننا في أكثر أقطار الأرض.

فالقوانين والسنن وإن كانت عادلة في حدود مفاهيمها، وأحكام الجزاء وإن كانت بالغة في شدتها لا تجري على رسلها في المجتمع ولا تسد باب الخلاف وطريق التخلف إلا بأخلاق فاضلة إنسانية تقطع دابر الظلم والفساد كملكة اتباع الحق واحترام الإنسانية والعدالة والكرامة والحياة ونشر الرحمة ونظائرها.

ولا يغرنك ما تشاهده من القوة والشوكة في الأمم الراقية والانتظام والعدل الظاهر فيما بينهم ولم يوضع قوانينهم على أسس أخلاقية حيث لا ضامن لإجرائها فإنهم أمم يفكرون فكرة اجتماعية لا يرى الفرد منهم إلا نفع الأمة وخيرها ولا يدفع إلا ما يضر أمته، ولا هم لأمته إلا استرقاق سائر الأمم الضعيفة واستدرارهم، واستعمار بلادهم، واستباحة نفوسهم وأعراضهم وأموالهم فلم يورثهم هذا التقدم والرقي إلا نقل ما كان يحمله الجبابرة الماضون على الأفراد إلى المجتمعات فقامت الأمة اليوم مقام الفرد بالأمس، وهجرت الألفاظ معانيها إلى أضدادها تطلق الحرية والشرافة والعدالة والفضيلة ولا يراد بها إلا الرقية والخسة والظلم والرذيلة.

وبالجملة السنن والقوانين لا تأمن التخلف والضيعة إلا إذا تأسست على أخلاق كريمة إنسانية واستظهرت بها.

ثم الأخلاق لا تفي بإسعاد المجتمع ولا تسوق الإنسان إلى صلاح العمل إلا إذا اعتمدت على التوحيد وهو الإيمان بأن للعالم - ومنه الإنسان - إلها واحدا سرمديا لا يعزب عن علمه شيء، ولا يغلب في قدرته عن أحد خلق الأشياء على أكمل نظام لا لحاجة منه إليها وسيعيدهم إليه فيحاسبهم فيجزي المحسن بإحسانه ويعاقب المسيء بإساءته ثم يخلدون منعمين أو معذبين.

ومن المعلوم أن الأخلاق إذا اعتمدت على هذه العقيدة لم يبق للإنسان هم إلا مراقبة رضاه تعالى في أعماله، وكان التقوى رادعا داخليا له عن ارتكاب الجرم ولو لا ارتضاع الأخلاق من ثدي هذه العقيدة عقيدة التوحيد لم يبق للإنسان غاية في أعماله الحيوية إلا التمتع بمتاع الدنيا الفانية والتلذذ بلذائذ الحياة المادية، وأقصى ما يمكنه أن يعدل به معاشه فيحفظ به القوانين الاجتماعية الحيوية أن يفكر في نفسه أن من الواجب عليه أن يلتزم القوانين الدائرة حفظا للمجتمع من التلاشي وللاجتماع من الفساد، وإن من اللازم عليه أن يحرم نفسه من بعض مشتهياته ليحتفظ به المجتمع فينال بذلك البعض الباقي، ويثني عليه الناس ويمدحوه ما دام حيا أو يكتب اسمه في أوراق التاريخ بخطوط ذهبية.

أما ثناء الناس وتقديرهم العمل فإنما يجري في أمور هامة علموا بها أما الجزئيات وما لم يعلموا بها كالأعمال السرية فلا وقاء يقيها وأما الذكر الجاري والاسم السامي ويؤثر غالبا فيما فيه تفدية وتضحية من الأمور كالقتل في سبيل الوطن وبذل المال والوقت في ترفيع مباني الدولة ونحو ذلك فليس ممن يبتغيه ويذعن به ثم لا يذعن بما وراء الحياة الدنيا إلا اعتقادا خرافيا إذ لا إنسان - على هذا - بعد الموت والفوت حتى يعود إليه شيء من النفع بثناء أو حسن ذكر وأي عاقل يشتري تمتع غيره بحرمان نفسه من غير أي فائدة عائدة أو يقدم الحياة لغيره باختيار الموت لنفسه وليس عنده بعد الموت إلا البطلان والاعتقاد الخرافي يزول بأدنى تنبه والتفات.

فقد تبين أن شيئا عن هذه الأمور ليس من شأنه أن يقوم مقام التوحيد، ولا أن يخلفه في صد الإنسان عن المعصية ونقض السنن والقوانين وخاصة إذا كان العمل مما من طبعه أن لا يظهر للناس وخاصة إذا كان من طبعه أن لو ظهر ظهر على خلاف ما هو عليه لأسباب تقتضي ذلك كالتعفف الذي يزعم أنه كان شرها وبغيا كما تقدم من حديث مراودة امرأة العزيز يوسف (عليه السلام)، وقد كان أمره يدور بين خيانة العزيز في امرأته وبين اتهام المرأة إياه عند العزيز بقصدها بالسوء فلم يمنعه (عليه السلام) - ولا كان من الحري أن يمنعه - شيء إلا العلم بمقام ربه.

2 - يحصل التقوى الديني بأحد أمور ثلاثة وإن شئت فقل:

إنه سبحانه يعبد بأحد طرق ثلاثة: الخوف والرجاء والحب، قال تعالى: ﴿في الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور﴾ الحديد: 20 فعلى المؤمن أن يتنبه لحقيقة الدنيا وهي أنها متاع الغرور كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا فعليه أن لا يجلعها غاية لأعماله في الحياة، وأن يعلم أن له وراءها دارا وهي الدار الآخرة فيها ينال غاية أعماله، وهي عذاب شديد للسيئات يجب أن يخافه ويخاف الله فيه، ومغفرة من الله قبال أعماله الصالحة يجب أن يرجوها ويرجو الله فيها، ورضوان من الله يجب أن يقدمه لرضى نفسه.

وطباع الناس مختلفة في إيثار هذه الطرق الثلاثة واختيارها فبعضهم وهو الغالب يغلب على نفسه الخوف، وكلما فكر فيما أوعد الله الظالمين والذين ارتكبوا المعاصي والذنوب من أنواع العذاب الذي أعد لهم زاد في نفسه خوفا ولفرائصه ارتعادا ويساق بذلك إلى عبادته تعالى خوفا من عذابه.

وبعضهم يغلب على نفسه الرجاء وكلما فكر فيما وعده الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات من النعمة والكرامة وحسن العاقبة زاد رجاء وبالغ في التقوى والتزام الأعمال الصالحات طمعا في المغفرة والجنة.

وطائفة ثالثا وهم العلماء بالله لا يعبدون الله خوفا من عقابه ولا طمعا في ثوابه وإنما يعبدونه لأنه أهل للعبادة وذلك لأنهم عرفوه بما يليق به من الأسماء الحسنى والصفات العليا فعلموا أنه ربهم الذي يملكهم وإرادتهم ورضاهم وكل شيء غيرهم، ويدبر الأمر وحده وليسوا إلا عباد الله فحسب، وليس للعبد إلا أن يعبد ربه، ويقدم مرضاته وإرادته على مرضاته وإرادته، فهم يعبدون الله ولا يريدون في شيء من أعمالهم فعلا أو تركا إلا وجهه، ولا يلتفتون فيها إلى عقاب يخوفهم، ولا إلى ثواب يرجيهم، وإن خافوا عذابه ورجوا رحمته، وإلى هذا يشير قوله (عليه السلام): (ما عبدتك خوفا من نارك ولا رغبة في جنتك بل وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك).

وهؤلاء لما خصوا رغباتهم المختلفة بابتغاء مرضات ربهم ومحضوا أعمالهم في طلب غاية هو ربهم تظهر في قلوبهم المحبة الإلهية وذلك أنهم يعرفون ربهم بما عرفهم به نفسه، وقد سمى نفسه بأحسن الأسماء ووصف ذاته بكل صفة جميلة ومن خاصة النفس الإنسانية أن تنجذب إلى الجميل فكيف بالجميل على الإطلاق وقال تعالى: ﴿ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه﴾ الأنعام: 102 ثم قال: ﴿الذي أحسن كل شيء خلقه﴾ الم السجدة: 7 فأفاد أن الخلقة تدور مدار الحسن وأنهما متلازمان متصادقان ثم ذكر سبحانه في آيات كثيرة أن ما خلقه من شيء آية تدل عليه وإن في السماوات والأرض لآيات لأولي الألباب فليس في الوجود ما لا يدل عليه تعالى ولا يحكي شيئا من جماله وجلاله.

فالأشياء من جهة أنواع خلقها وحسنها تدل على جماله الذي لا يتناهى ويحمده ويثني على حسنه الذي لا يفنى، ومن جهة ما فيها من أنواع النقص والحاجة تدل على غناه المطلق وتسبح وتنزه ساحة القدس والكبرياء كما قال تعالى: ﴿وإن من شيء إلا يسبح بحمده﴾ الإسراء: 44.

فهؤلاء يسلكون في معرفة الأشياء من طريق هداهم إليه ربهم وعرفها لهم وهو أنها آيات له وعلامات لصفات جماله وجلاله، وليس لها من النفسية والأصالة والاستقلال إلا أنها كمرائي تجلى بحسنها ما وراءها من الحسن غير المتناهي وبفقرها وحاجتها ما أحاط بها من الغنى المطلق، وبذلتها واستكانتها ما فوقها من العزة والكبرياء، ولا يلبث الناظر إلى الكون بهذه النظرة دون أن تنجذب نفسه إلى ساحة العزة والعظمة ويغشى قلبه من المحبة الإلهية ما ينسيه نفسه وكل شيء، ويمحو رسم الأهواء والأميال النفسانية عن باطنه، ويبدل فؤاده قلبا سليما ليس فيه إلا الله عز اسمه قال تعالى: ﴿والذين آمنوا أشد حبا لله﴾ البقرة: 165.

ولذلك يرى أهل هذا الطريق أن الطريقين الآخرين أعني طريق العبادة خوفا وطريق العبادة طمعا لا يخلوان من شرك فإن الذي يعبده تعالى خوفا من عذابه يتوسل به تعالى إلى دفع العذاب عن نفسه كما أن من يعبده طمعا في ثوابه يتوسل به تعالى إلى الفوز بالنعمة والكرامة، ولو أمكنه الوصول إلى ما يبتغيه من غير أن يعبده لم يعبده ولا حام حول معرفته، وقد تقدمت الرواية - عن الصادق (عليه السلام): (هل الدين إلا الحب) وقوله (عليه السلام) في حديث: (وإني أعبده حبا له وهذا مقام مكنون لا يمسه إلا المطهرون) الحديث، وإنما كان أهل الحب مطهرين لتنزههم عن الأهواء النفسانية والألواث المادية فلا يتم الإخلاص في العبادة إلا من طريق الحب.

3 - كيف يورث الحب الإخلاص؟

عبادته تعالى: خوفا من العذاب تبعث الإنسان إلى التروك وهو الزهد في الدنيا للنجاة في الآخرة فالزاهد من شأنه أن يتجنب المحرمات أو ما في معنى الحرام أعني ترك الواجبات، وعبادته تعالى طمعا في الثواب تبعث إلى الأفعال وهو العبادة في الدنيا بالعمل الصالح لنيل نعم الآخرة والجنة فالعابد من شأنه أن يلتزم الواجبات أو ما في معنى الواجب وهو ترك الحرام، والطريقان معا إنما يدعوان إلى الإخلاص للدين لا لرب الدين.

وأما محبة الله سبحانه فإنها تطهر القلب من التعلق بغيره تعالى من زخارف الدنيا وزينتها من ولد أو زوج أو مال أو جاه حتى النفس وما لها من حظوظ وآمال، وتقصر القلب في التعلق به تعالى وبما ينسب إليه من دين أو نبي أو ولي وسائر ما يرجع إليه تعالى بوجه فإن حب الشيء حب لآثاره.

فهذا الإنسان يحب من الأعمال ما يحبه الله ويبغض منها ما يبغضه الله ويرضى برضا الله ولرضاه ويغضب بغضب الله ولغضبه، وهو النور الذي يضيء له طريق العمل، قال تعالى: ﴿أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس﴾ الأنعام: 122.

والروح الذي يشير إليه بالخيرات والأعمال الصالحات، قال تعالى: ﴿وأيدهم بروح منه﴾ المجادلة: 22 وهذا هو السر في أنه لا يقع منه إلا الجميل والخير ويتجنب كل مكروه وشر.

وأما الموجودات الكونية والحوادث الواقعة فإنه لا يقع بصره على شيء منها خطير أو حقير، كثير أو يسير إلا أحبه واستحسنه لأنه لا يرى منها إلا أنها آيات محضة تجلى له ما وراءها من الجمال المطلق والحسن الذي لا يتناهى العاري من كل شين ومكروه.

ولذلك كان هذا الإنسان محبورا بنعمة ربه بسرور لا غم معه ولذة وابتهاج لا ألم ولا حزن معه، وأمن لا خوف معه، فإن هذه العوارض السوء إنما تطرأ عن إدراك للسوء وترقب للشر والمكروه، ومن كان لا يرى إلا الخير والجميل ولا يجد إلا ما يجري على وفق إرادته ورضاه فلا سبيل للغم والحزن والخوف وكل ما يسوء الإنسان ويؤذيه إليه بل ينال من السرور والابتهاج والأمن ما لا يقدره ولا يحيط به إلا الله سبحانه وهذا أمر ليس في وسع النفوس العادية أن تتعقله وتكتنهه إلا بنوع من التصور الناقص.

وإليه يشير أمثال قوله تعالى: ﴿إلا أن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون﴾ يونس: 63، وقوله: ﴿الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون﴾ الأنعام: 82.

وهؤلاء هم المقربون الفائزون بقربه تعالى إذ لا يحول بينهم وبين ربهم شيء مما يقع عليه الحس أو يتعلق به الوهم أو تهواه النفس أو يلبسه الشيطان فإن كل ما يتراءى لهم ليس إلا آية كاشفة عن الحق المتعال لا حجابا ساترا فيفيض عليهم ربهم علم اليقين، ويكشف لهم عما عنده من الحقائق المستورة عن هذا الأعين المادية العمية بعد ما يرفع الستر فيما بينه وبينهم كما يشير إليه قوله تعالى: ﴿كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين وما أدراك ما عليون كتاب مرقوم يشهده المقربون﴾ المطففين: 21، وقوله تعالى: ﴿كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم﴾ التكاثر: 6 وقد تقدم كلام في هذا المعنى في ذيل قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم﴾ المائدة: 105 في الجزء السادس من الكتاب.

وبالجملة هؤلاء في الحقيقة هم المتوكلون على الله المفوضون إليه الراضون بقضائه المسلمون لأمره إذ لا يرون إلا خيرا ولا يشاهدون إلا جميلا فيستقر في نفوسهم من الملكات الشريفة والأخلاق الكريمة ما يلائم هذا التوحيد فهم مخلصون لله في أخلاقهم كما كانوا مخلصين له في أعمالهم، هذا معنى إخلاص العبد دينه لله قال تعالى: ﴿هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين﴾ المؤمنون: 65.

4 - وأما إخلاصه تعالى عبده له فهو ما يجده العبد في نفسه من الإخلاص له منسوبا إليه تعالى فإن العبد لا يملك من نفسه شيئا إلا بالله، والله سبحانه هو المالك لما ملكه إياه فإخلاصه دينه - وإن شئت فقل: إخلاصه نفسه لله هو إخلاصه تعالى إياه لنفسه.

نعم هاهنا شيء وهو أن الله سبحانه خلق بعض عباده هؤلاء على استقامة الفطرة واعتدال الخلقة فنشئوا من بادىء الأمر بأذهان وقادة وإدراكات صحيحة ونفوس طاهرة وقلوب سليمة فنالوا بمجرد صفاء الفطرة وسلامة النفس من نعمة الإخلاص ما ناله غيرهم بالاجتهاد والكسب بل أعلى وأرقى لطهارة داخلهم من التلوث بألواث الموانع والمزاحمات والظاهر أن هؤلاء هم المخلصون - بالفتح - لله في عرف القرآن.

وهؤلاء هم الأنبياء والأئمة، وقد نص القرآن بأن الله اجتباهم أي جمعهم لنفسه وأخلصهم لحضرته، قال تعالى: ﴿واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم﴾ الأنعام: 87، وقال: ﴿هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج﴾ الحج: 78.

وآتاهم الله سبحانه من العلم ما هو ملكة تعصمهم من اقتراف الذنوب وارتكاب المعاصي، وتمتنع معه صدور شيء منها عنهم صغيرة أو كبيرة، وبهذا يمتاز العصمة من العدالة فإنهما معا تمنعان من صدور المعصية لكن العصمة يمتنع معها الصدور بخلاف العدالة.

وقد تقدم آنفا أن من خاصة هؤلاء القوم أنهم يعلمون من ربهم ما لا يعلمه غيرهم، والله سبحانه يصدق ذلك بقوله: ﴿سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين﴾ الصافات: 160، وإن المحبة الإلهية تبعثهم على أن لا يريدوا إلا ما يريده الله وينصرفوا عن المعاصي والله سبحانه يقرر ذلك بما حكاه عن إبليس في غير مورد من كلامه كقوله: ﴿قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين﴾ ص: 83.

ومن الدليل على أن العصمة من قبيل العلم قوله تعالى خطابا لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) ﴿ولو لا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما﴾ النساء: 113 وقد فصلنا الكلام في معنى الآية في تفسير سورة النساء.

وقوله تعالى حكاية عن يوسف (عليه السلام): ﴿قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين﴾ يوسف: 33 وقد أوضحنا وجه دلالة الآية على ذلك.

ويظهر من ذلك أولا: أن هذا العلم يخالف سائر العلوم في أن أثره العملي وهو صرف الإنسان عما لا ينبغي إلى ما ينبغي قطعي غير متخلف دائما بخلاف سائر العلوم فإن الصرف فيها أكثري غير دائم، قال تعالى: ﴿وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم﴾ النمل 14: وقال: ﴿أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم﴾ الجاثية: 23، وقال: ﴿فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم﴾ الجاثية: 17.

ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى: ﴿سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين﴾ الصافات: 160، وذلك أن هؤلاء المخلصين من الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) قد بينوا لنا جمل المعارف المتعلقة بأسمائه تعالى وصفاته من طريق السمع، وقد حصلنا العلم به من طريق البرهان أيضا، والآية مع ذلك تنزهه تعالى عن ما نصفه به دون ما يصفه به أولئك المخلصون فليس إلا أن العلم غير العلم وإن كان متعلق العلمين واحدا من وجه.

وثانيا: أن هذا العلم أعني ملكة العصمة لا يغير الطبيعة الإنسانية المختارة في أفعالها الإرادية ولا يخرجها إلى ساحة الإجبار والاضطرار كيف؟ والعلم من مبادىء الاختيار، ومجرد قوة العلم لا يوجب إلا قوة الإرادة كطالب السلامة إذا أيقن بكون مائع ما سما قاتلا من حينه فإنه يمتنع باختياره من شربه قطعا وإنما يضطر الفاعل ويجبر إذا أخرج من يجبره أحد طرفي الفعل والترك من الإمكان إلى الامتناع.

ويشهد على ذلك قوله: ﴿واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون﴾ الأنعام: 88 تفيد الآية أنهم في إمكانهم أن يشركوا بالله وإن كان الاجتباء والهدى الإلهي مانعا من ذلك، وقوله: ﴿يا أيها النبي بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته﴾ المائدة: 67 إلى غير ذلك من الآيات.

فالإنسان المعصوم إنما ينصرف عن المعصية بنفسه واختياره وإرادته ونسبة الصرف إلى عصمته تعالى كنسبة انصراف غير المعصوم عن المعصية إلى توفيقه تعالى.

ولا ينافي ذلك أيضا ما يشير إليه كلامه تعالى ويصرح به الأخبار أن ذلك من الأنبياء والأئمة بتسديد من روح القدس فإن النسبة إلى روح القدس كنسبة تسديد المؤمن إلى روح الإيمان ونسبة الضلال والغواية إلى الشيطان وتسويله فإن شيئا من ذلك لا يخرج الفعل عن كونه فعلا صادرا عن فاعله مستندا إلى اختياره وإرادته فافهم ذلك.

نعم هناك قوم زعموا أن الله سبحانه إنما يصرف الإنسان عن المعصية لا من طريق اختياره وإرادته بل من طريق منازعة الأسباب ومغالبتها بخلق إرادة أو إرسال ملك يقاوم إرادة الإنسان فيمنعها عن التأثير أو يغير مجراها ويحرفها إلى غير ما من طبع الإنسان أن يقصده كما يمنع الإنسان القوي الضعيف عما يريده من الفعل بحسب طبعه.

وبعض هؤلاء وإن كانوا من المجبرة لكن الأصل المشترك الذي يبتني عليه نظرهم هذا وأشباهه أنهم يرون أن حاجة الأشياء إلى البارىء الحق سبحانه إنما هي في حدوثها، وأما في بقائها بعد ما وجدت فلا حاجة لها إليه فهو سبحانه سبب في عرض الأسباب إلا أنه لما كان أقدر وأقوى من كل شيء كان له أن يتصرف في الأشياء حال البقاء أي تصرف شاء من منع أو إطلاق وإحياء أو إماتة ومعافاة أو تمريض وتوسعة أو تقتير إلى غير ذلك بالقهر.

فإذا أراد الله سبحانه أن يصرف عبدا عن شر مثلا أرسل إليه ملكا ينازعه في مقتضى طبعه ويغير مجرى إرادته مثلا عن الشر إلى الخير أو أراد أن يضل عبدا لاستحقاقه ذلك سلط عليه إبليس فحوله من الخير إلى الشر وإن كان ذلك لا بمقدار يوجب الإجبار والاضطرار.

وهذا مدفوع بما نشاهده من أنفسنا في أعمال الخير والشر مشاهدة عيان أنه ليس هناك سبب آخر يغايرنا وينازعنا فيغلب علينا غير أنفسنا التي تعمل أعمالها عن شعور بها وإرادة مترتبة عليه قائمين بها فالذي يثبته السمع والعقل وراء نفوسنا من الأسباب كالملك والشيطان سبب طولي لا عرضي وهو ظاهر.

مضافا إلى أن المعارف القرآنية من التوحيد وما يرجع إليه يدفع هذا القول من أصله، وقد تقدم شطر وافر من ذلك في تضاعيف الأبحاث السالفة.

بحث روائي:

في المعاني، بإسناده عن أبي حمزة الثمالي عن السجاد (عليه السلام) في حديث تقدم صدره في البحث الروائي السابق. قال (عليه السلام): وكان يوسف من أجمل أهل زمانه فلما راهق يوسف راودته امرأة الملك عن نفسه فقال: معاذ الله إنا أهل بيت لا يزنون فغلقت الأبواب عليها وعليه وقالت: لا تخف وألقت نفسها عليه فأفلت منها هاربا إلى الباب ففتحه فلحقته فجذبت قميصه من خلفه فأخرجته منه فأفلت يوسف منها في ثيابه فالفيا سيدها لدى الباب قالت: ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم. قال: فهم الملك بيوسف ليعذبه فقال له يوسف: ما أردت بأهلك سوءا بل هي راودتني عن نفسي فسل هذا الصبي أينا راود صاحبه عن نفسه؟ قال: كان عندها من أهلها صبي زائر لها فأنطق الله الصبي لفصل القضاء فقال: أيها الملك انظر إلى قميص يوسف فإن كان مقدودا من قدامه فهو الذي راودها، وإن كان مقدودا من خلفه فهي التي راودته. فلما سمع الملك كلام الصبي وما اقتصه أفزعه ذلك فزعا شديدا فجيء بالقميص فنظر إليه فلما رآه مقدودا من خلفه قال لها: إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم. وقال ليوسف: أعرض عن هذا ولا يسمعه منك أحد واكتمه. قال: فلم يكتمه يوسف وأذاعه في المدينة حتى قلن نسوة منهن: امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه فبلغها ذلك فأرسلت إليهن، وهيأت لهن طعاما ومجلسا ثم أتتهن بأترنج وآتت كل واحدة منهن سكينا ثم قالت ليوسف اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن ما قلن يعني النساء فقالت لهن: هذا الذي لمتنني فيه تعني في حبه.

وخرجن النسوة من تحتها فأرسلت كل واحدة منهن إلى يوسف سرا من صاحبتها تسأله الزيارة فأبى عليهن وقال: إلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين وصرف الله عنه كيدهن. فلما شاع أمر يوسف وامرأة العزيز والنسوة في مصر بدا للملك بعد ما سمع قول الصبي ليسجنن يوسف فسجنه في السجن ودخل السجن مع يوسف فتيان، وكان من قصتهما وقصة يوسف ما قصه الله في الكتاب. قال أبو حمزة: ثم انقطع حديث علي بن الحسين (عليهما السلام).

أقول وروى ما في معناه العياشي في تفسيره عن أبي حمزة عنه (عليه السلام) باختلاف يسير، وقوله (عليه السلام): قال معاذ الله إنا أهل بيت لا يزنون تفسير بقرينة المحاذاة لقوله في الآية: ﴿إنه ربي أحسن مثواي﴾ إلخ وهو يؤيد ما قدمناه في بيان الآية أن الضمير إلى الله سبحانه لا إلى عزيز مصر كما ذهب إليه أكثر المفسرين فافهم ذلك.

وقوله: فأبى عليهن وقال: ﴿إلا تصرف عني﴾ إلخ ظاهر في أنه (عليه السلام) لم يأخذ قوله: ﴿رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه﴾ جزءا من الدعاء فيوافق ما قدمناه في بيان الآية أنه ليس بدعاء.

وفي العيون، بإسناده عن حمدان عن علي بن محمد بن الجهم قال: حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا علي بن موسى فقال له المأمون: يا ابن رسول الله أ ليس من قولك: إن الأنبياء معصومون: قال: بلى وذكر الحديث إلى أن قال فيه: فأخبرني عن قول الله تعالى: ﴿ولقد همت به وهم بها لو لا أن رءا برهان ربه﴾ فقال الرضا (عليه السلام): لقد همت به ولو لا أن رءا برهان ربه لهم بها لكنه كان معصوما، والمعصوم لا يهم بذنب ولا يأتيه.

ولقد حدثني أبي عن أبيه الصادق (عليه السلام) أنه قال: همت بأن تفعل وهم بأن لا يفعل فقال المأمون: لله درك يا أبا الحسن.

أقول: تقدم أن ابن الجهم هذا لا يخلو عن شيء لكن صدر الحديث أعني جواب الرضا (عليه السلام) يوافق ما قدمناه في بيان الآية وأما ما نقله عن جده الصادق (عليه السلام) ﴿أنها همت بأن تفعل وهم بأن لا يفعل﴾ فلعل المراد به ما ذكره الرضا (عليه السلام) من الجواب لقبوله الانطباق عليه ولعل المراد به همه بقتلها كما يؤيده الحديث الآتي فينطبق على بعض الاحتمالات المتقدمة في بيان الآية.

وفيه، بإسناده عن أبي الصلت الهروي قال: لما جمع المأمون لعلي بن موسى الرضا (عليهما السلام) أهل المقالات من أهل الإسلام ومن الديانات من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين وسائر أهل المقالات فلم يقم أحد إلا وقد ألزمه حجته كأنه ألقم حجرا. قام إليه علي بن محمد بن الجهم فقال: يا ابن رسول الله أتقول بعصمة الأنبياء؟ فقال: نعم. فقال له فما تقول في قوله عز وجل في يوسف: ﴿ولقد همت به وهم بها﴾ فقال له: أما قوله تعالى في يوسف: ﴿ولقد همت به وهم بها﴾ فإنها همت بالمعصية وهم يوسف بقتلها إن أجبرته لعظيم ما تداخله فصرف الله عنه قتلها والفاحشة. وهو قوله عز وجل: ﴿كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء﴾ والسوء القتل والفحشاء الزنا.

وفي الدر المنثور، أخرج أبو نعيم في الحلية عن علي بن أبي طالب: في قوله: ﴿ولقد همت به وهم بها﴾ قال: طمعت فيه وطمع فيها، وكان من الطمع أن هم بحل التكة فقامت إلى صنم مكلل بالدر والياقوت في ناحية البيت فسترته بثوب أبيض بينها وبينه فقال: أي شيء تصنعين؟ فقالت: أستحيي من إلهي أن يراني على هذه الصورة فقال يوسف (عليه السلام): تستحين من صنم لا يأكل ولا يشرب، ولا أستحيي أنا من إلهي الذي هو قائم على كل نفس بما كسبت؟ ثم قال: لا تنالينها مني أبدا، وهو البرهان الذي رأى.

أقول: والرواية من الموضوعات كيف؟ وكلامه وكلام سائر أئمة أهل البيت (عليهم السلام) مشحون بذكر عصمة الأنبياء ومذهبهم في ذلك مشهور.

على أن سترها الصنم وانتقاله من ذلك إلى ما ذكره لها من الحجة لا يعد من رؤية البرهان، وقد ورد هذا المعنى في عدة روايات من طرق أهل البيت (عليهم السلام) لكنها آحاد لا تعويل عليها.

نعم لا يبعد أن تقوم المرأة إلى ستر صنم كان هناك فتنزع نفس يوسف (عليه السلام) إلى مشاهدة آية التوحيد عند ذلك فيرتفع الحجاب بينه وبين ساحة الكبرياء فيرى ما يصرفه عن كل سوء وفحشاء كما كان له ذلك من قبل، وقد قال تعالى في حقه: إنه من عبادنا المخلصين.

فإن صح شيء من هذه الروايات فليكن هذا معناه.

وفيه، أخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال: عثر يوسف (عليه السلام) ثلاث عثرات: حين هم بها فسجن، وحين قال: ﴿اذكرني عند ربك﴾ فلبث في السجن بضع سنين فأنساه الشيطان ذكر ربه.

وحين قال: ﴿إنكم لسارقون﴾ قالوا: إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل.

أقول: والرواية تخالف صريح كلامه تعالى حيث يذكر أن الله اجتباه وأخلصه لنفسه وأن الشيطان لا سبيل له إلى من أخلصه الله لنفسه وكيف يستقيم لمن هم على أفحش معصية وأنساه الشيطان ذكر ربه ثم كذب في مقاله فعاقبه الله بالسجن ثم بلبثه فيه بضع سنين وجبه بالسرقة أن يعده الله صديقا من عباده المخلصين والمحسنين، ويذكر أنه آتاه الحكم والعلم واجتباه وأتم عليه نعمته، وعلى هذا السبيل روايات جمة رواها في الدر المنثور، وقد تقدم نقل شطر منها عند بيان الآيات، ولا تعويل على شيء منها.

وفيه، أخرج أحمد وابن جرير والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: تكلم أربعة وهم صغار: ابن ماشطة بنت فرعون، وشاهد يوسف، وصاحب جريح، وعيسى بن مريم.

وفي تفسير القمي، قال: وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: ﴿قد شغفها حبا﴾ يقول: قد حجبها حبه عن الناس فلا تعقل غيره، والحجاب هو الشغاف، والشغاف هو حجاب القلب.

وفيه، في حديث جمعها النسوة وتقطيعهن أيديهن قال: فما أمسى يوسف (عليه السلام) في ذلك اليوم حتى بعثت إليه كل امرأة رأته تدعوه إلى نفسها فضجر يوسف في ذلك اليوم فقال: رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه - وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن - وأكن من الجاهلين فاستجاب له ربه - فصرف عنه كيدهن.