الآيات 4 - 6

إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ﴿4﴾ قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴿5﴾ وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿6﴾

بيان:

تذكر الآيات رؤيا رآها يوسف وقصها على أبيه يعقوب (عليهما السلام) فعبرها أبوه له ونهاه أن يقصها على إخوته، وهذه الرؤيا بشرى بشر الله سبحانه يوسف بها ليكون مادة روحية لتربيته تعالى عبده في صراط الولاية والقرب من ربه، وهي بمنزلة المدخل في قصته (عليه السلام).

قوله تعالى: ﴿إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين﴾ لم يذكر يعقوب (عليه السلام) باسمه بل كنى عنه بالأب للدلالة على ما بينهما من صفة الرحمة والرأفة والشفقة كما يدل عليه ما في الآية التالية: ﴿قال يا بني لا تقصص﴾ إلخ.

وقوله: ﴿رأيت﴾ و﴿رأيتهم﴾ من الرؤيا وهي ما يشاهده النائم في نومته أو الذي خمدت حواسه الظاهرة بإغماء أو ما يشابهه، ويشهد به قوله في الآية التالية: ﴿لا تقصص رؤياك على إخوتك﴾ وقوله في آخر القصة: ﴿يا أبت هذا تأويل رؤياي﴾.

وتكرار ذكر الرؤية لطول الفصل بين قوله ﴿رأيت﴾ وقوله ﴿لي ساجدين﴾ ومن فائدة التكرير الدلالة على أنه إنما رآهم مجتمعين على السجود جميعا لا فرادى.

على أن ما حصل له من المشاهدة نوعان مختلفان فمشاهدة أشخاص الكواكب والشمس والقمر مشاهدة أمر صوري ومشاهدة سجدتهم وخضوعهم وتعظيمهم له مشاهدة أمر معنوي.

وقد عبر عن الكواكب والنيرين في قوله: ﴿رأيتهم لي ساجدين﴾ بما يختص بأولى العقل - ضمير الجمع المذكر وجمع المذكر السالم - للدلالة على أن سجدتهم كانت عن علم وإرادة كما يسجد واحد من العقلاء لآخر.

وقد افتتح سبحانه قصته (عليه السلام) بذكر هذه الرؤيا التي أراها له وهي بشرى له تمثل له ما سيناله من الولاية الإلهية ويخص به من اجتباء الله إياه وتعليمه تأويل الأحاديث وإتمام نعمته عليه، ومن هناك تبتدىء التربية الإلهية له لأن الذي بشر به في رؤياه لا يزال نصب عينيه في الحياة لا يتحول من حال إلى حال، ولا ينتقل من شأن إلى شأن، ولا يواجه نائبة، ولا يلقى مصيبة، إلا وهو ذاكر لها مستظهر بعناية الله سبحانه عليها موطن نفسه على الصبر عليها.

وهذه هي الحكمة في أن الله سبحانه يخص أولياءه بالبشرى بجمل ما سيكرمهم به من مقام القرب ومنزلة الزلفى كما في قوله: ﴿ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون - إلى أن قال - لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة﴾ يونس: 64.

قوله تعالى: ﴿قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين﴾ ذكر في المفردات، أن الكيد ضرب من الاحتيال، وقد يكون مذموما وممدوحا وإن كان يستعمل في المذموم أكثر وكذلك الاستدراج والمكر.

وقد ذكروا أن الكيد يتعدى بنفسه وباللام.

والآية تدل على أن يعقوب لما سمع ما قصة عليه يوسف من الرؤيا أيقن بما يدل عليه أن يوسف (عليه السلام) سيتولى الله أمره ويرفع قدره، يسنده على أريكة الملك وعرش العزة، ويخصه من بين آل يعقوب بمزيد الكرامة فأشفق على يوسف (عليه السلام) وخاف من إخوته عليه وهم عصبة أقوياء أن لو سمعوا الرؤيا - وهي ظاهرة الانطباق على يعقوب (عليه السلام) وزوجه وأحد عشر من ولده غير يوسف، وظاهرة الدلالة على أنهم جميعا سيخضعون ويسجدون ليوسف - حملهم الكبر والأنفة أن يحسدوه فيكيدوا له كيدا ليحولوا بينه وبين ما تبشره به رؤياه.

ولذلك خاطب يوسف (عليه السلام) خطاب الإشفاق كما يدل عليه قوله: ﴿يا بني﴾ بلفظ التصغير، ونهاه عن اقتصاص رؤياه على إخوته قبل أن يعبرها له وينبئه بما تدل عليه رؤياه من الكرامة الإلهية المقضية في حقه، ولم يقدم النهي على البشارة إلا لفرط حبه له وشدة اهتمامه به واعتنائه بشأنه، وما كان يتفرس من إخوته أنهم يحسدونه وأنهم امتلئوا منه بغضا وحنقا.

والدليل على بلوغ حسدهم وظهور حنقهم وبغضهم قوله: ﴿لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا﴾ فلم يقل: إني أخاف أن يكيدوا، أو لا آمنهم عليك بتفريع الخوف من كيدهم أو عدم الأمن من جهتهم بل فرع على اقتصاص الرؤيا نفس كيدهم وأكد تحقق الكيد منهم بالمصدر - المفعول المطلق - إذ قال: ﴿فيكيدوا لك كيدا﴾ ثم أكد ذلك بقوله ثانيا في مقام التعليل: ﴿إن الشيطان للإنسان عدو مبين﴾ أي إن لكيدهم سببا آخر منفصلا يؤيد ما عندهم من السبب الذي هو الحسد ويثيره ويهيجه ليؤثر أثره السيىء وهو الشيطان الذي هو عدو للإنسان مبين لا خلة بينه وبينه أبدا يحمل الإنسان بوسوسته وتسويله على أن يخرج من صراط الاستقامة والسعادة إلى سبيل عوج فيه شقاء دنياه وآخرته فيفسد ما بين الوالد وولده وينزع بين الشقيق وشقيقه ويفرق بين الصديق وصديقه ليضلهم عن الصراط.

فكأن المعنى: قال يعقوب ليوسف (عليهما السلام): يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فإنهم يحسدونك ويغتاظون من أمرك فيكيدونك عندئذ بنزغ وإغراء من الشيطان وقد تمكن من قلوبهم ولا يدعهم يعرضوا عن كيدك فإن الشيطان للإنسان عدو مبين.

قوله تعالى: ﴿وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب﴾ إلى آخر الآية الاجتباء من الجباية وهي الجمع يقال: جبيت الماء في الحوض إذا جمعته فيه، ومنه جباية الخراج أي جمعه قال تعالى: ﴿يجبى إليه ثمرات كل شيء﴾ القصص: 57 ففي معنى الاجتباء جمع أجزاء الشيء وحفظها من التفرق والتشتت، وفيه سلوك وحركة من الجابي نحو المجبي فاجتباه الله سبحانه عبدا من عباده هو أن يقصده برحمته ويخصه بمزيد كرامته فيجمع شمله ويحفظه من التفرق في السبل المتفرقة الشيطانية المفرقة للإنسان ويركبه صراطه المستقيم وهو أن يتولى أمره ويخصه بنفسه فلا يكون لغيره فيه نصيب كما أخبر تعالى بذلك في يوسف (عليه السلام) إذ قال: ﴿إنه من عبادنا المخلصين﴾ الآية: 24 من السورة.

وقوله: ﴿ويعلمك من تأويل الأحاديث﴾ التأويل هو ما ينتهي إليه الرؤيا من الأمر الذي تتعقبه، وهو الحقيقة التي تتمثل لصاحب الرؤيا في رؤياه بصورة من الصور المناسبة لمداركه ومشاعره كما تمثل سجدة أبوي يوسف وإخوته الأحد عشر في صورة أحد عشر كوكبا والشمس والقمر وخرورها أمامه ساجدة له، وقد تقدم استيفاء البحث عن معنى التأويل في تفسير قوله تعالى.

﴿فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله﴾ الآية آل عمران: 7 في الجزء الثالث من الكتاب.

والأحاديث جمع الحديث وربما أريد به الرؤى لأنها من حديث النفس فإن نفس الإنسان تصور له الأمور في المنام كما يصور المحدث لسماعه الأمور في اليقظة فالرؤيا حديث مثله ومنه يظهر ما في قول بعضهم: إن الرؤى سميت أحاديث باعتبار حكايتها والتحديث بها وهو كما ترى.

وكذا ما قيل: إنها سميت أحاديث لأنها من حديث الملك إن كانت صادقة ومن حديث الشيطان إن كانت كاذبة.

وفيه أنها ربما لم تستند إلى ملك ولا إلى شيطان كالرؤيا المستندة إلى حالة مزاجية عارضة لنائم تأخذه حمى أو سخونة اتفاقية فتحكيها نفسه في صورة حمام يستحم فيه أو حر قيظ ونحوهما أو يتسلط عليه برد فتحكيه نفسه بتصوير الشتاء ونزول الثلج ونحوهما.

ورده بعضهم بأنه يخالف الواقع فإن رؤيا يوسف ليس فيها حديث وكذا رؤيا صاحبيه في السجن ورؤيا ملك مصر.

وقد اشتبه عليه معنى الحديث وظن أن المراد بقولهم: إن الرؤيا من حديث الملك أو الشيطان، الحديث على نحو التكليم باللفظ، وليس كذلك بل المراد أن المنام يصور له القصة أو حادثا من الحوادث بصورة مناسبة كما أن تصوره المتكلم اللافظ يصور ذلك بصورة لفظية يستدل بها السامع على الأصل المراد وهذا كما يقال لمن يقصد أمرا ويعزم على فعل أو ترك أنه حدثه نفسه أن يفعل كذا أو يترك كذا أي أنه يصوره فأراد فعله أو تركه كأن نفسه حدثته بأنه يجب عليك كذا أو لا يجوز لك كذا، وبالجملة معنى كون الرؤيا من الأحاديث أنها من قبيل تصور الأمور للنائم كما يتصور الأنباء والقصص بالتحديث اللفظي فهي حديث إما ملكي أو شيطاني أو نفسي كما تقدم لكن الحق أنها من أحاديث النفس بالمباشرة، وسيجيء استيفاء البحث في ذلك إن شاء الله تعالى.

لكن الظاهر المتحصل من قصته (عليه السلام) المسرودة في هذه السورة أن الأحاديث التي علمه الله تعالى تأويلها أعم من أحاديث الرؤيا، وإنما هي الأحاديث أعني الحوادث والوقائع التي تتصور للإنسان أعم من أن تتصور له في يقظة أو منام فإن بين الحوادث والأصول التي تنشأ هي منها والغايات التي تنتهي إليها اتصالا لا يسع إنكاره، وبذلك يرتبط بعضها ببعض فمن الممكن أن يهتدي عبد بإذن الله تعالى إلى هذه الروابط فينكشف له تأويل الأحاديث والحقائق التي تنتهي هي إليها.

ويؤيده فيما يرجع إلى المنام ما حكاه الله تعالى من بيان يعقوب تأويل رؤيا يوسف (عليه السلام)، وتأويل يوسف لرؤيا نفسه ورؤيا صاحبيه في السجن ورؤيا عزيز مصر وفيما يرجع إلى اليقظة ما حكاه عن يوسف في السجن بقوله: ﴿قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي﴾ الآية: 37 من السورة، وكذا قوله: ﴿فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابت الجب وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون﴾ الآية: 15 من السورة وسيوافيك توضيحه إن شاء الله تعالى.

وقوله: ﴿ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب﴾ قال الراغب في المفردات،: النعمة بالكسر فالسكون الحالة الحسنة، وبناء النعمة بناء الحالة التي يكون عليها الإنسان كالجلسة والركبة، والنعمة بالفتح فالسكون التنعم وبناؤها بناء المرة من الفعل كالضربة والشتمة، والنعمة للجنس تقال للقليل والكثير.

قال: والإنعام إيصال الإحسان إلى الغير، ولا يقال إلا إذا كان الموصل إليه من جنس الناطقين فإنه لا يقال: أنعم فلان على فرسه، قال تعالى: ﴿أنعمت عليهم﴾ ﴿وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه﴾ والنعماء بإزاء الضراء.

قال: والنعيم النعمة الكثيرة قال تعالى: ﴿في جنات النعيم﴾ وقال تعالى: ﴿جنات النعيم﴾ وتنعم تناول ما فيه النعمة وطيب العيش، يقال: نعمه تنعيما فتنعم أي لين عيش وخصب قال تعالى: ﴿فأكرمه ونعمه﴾ وطعام ناعم وجارية ناعمة.

ففي الكلمة - كما ترى شيء - من معنى اللين والطيب والملاءمة فكأنها مأخوذة من النعومة وهي الأصل في معناها، وقد اختص استعمالها بالإنسان لأن له عقلا يدرك به النافع من الضار فيستطيب النافع ويستلئمه ويتنعم به بخلاف غيره الذي لا يميز ما ينفعه مما يضره، كما أن المال والأولاد وغيرهما مما يعد نعمة يكون نعمة لواحد ونقمة لآخر ونعمة للإنسان في حال ونقمة في أخرى.

ولذا كان القرآن الكريم لا يعد هذه العطايا الإلهية كالمال والجاه والأزواج والأولاد وغير ذلك نعمة بالنسبة إلى الإنسان إلا إذا وقعت في طريق السعادة ومنصبغة بصبغة الولاية الإلهية تقرب الإنسان إلى الله زلفى، وأما إذا وقعت في طريق الشقاء وتحت ولاية الشيطان فإنما هي نقمة وليست بنعمة، والآيات في ذلك كثيرة.

نعم إذا نسبت إلى الله سبحانه فهي نعمة منه وفضل ورحمة لأنه خير يفيض الخير ولا يريد في موهبته شرا ولا سوء، وهو رءوف رحيم غفور ودود، قال تعالى: ﴿وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها﴾ إبراهيم: 34 والخطاب في الآية لعامة الناس، وقال تعالى: ﴿وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا﴾ المزمل: 11، وقال تعالى: ﴿ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم﴾ الزمر: 49 فهذه وأمثالها نعمة إذا نسبت إليه تعالى لكنها نقمة إذا نسبت إلى الكافر بها قال تعالى ﴿لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد﴾ إبراهيم: 7.

وبالجملة إذا كان الإنسان في ولاية الله كان جميع الأسباب التي يتسبب بها في استبقاء الحياة والتوصل إلى السعادة نعما إلهية بالنسبة إليه، وإن كان في ولاية الشيطان تبدلت الجميع نقما وهي جميعا من الله سبحانه نعم وإن كانت مكفورا بها.

ثم إن وسائل الحياة إن كانت ناقصة لا تفي بجميع جهات السعادة في الحياة كانت نعمة كمن أوتي مالا وسلب الأمن والسلام فلا يتمكن من أن يتمتع به كما يريده ومتى وأينما يريده، وإذا كان له من ذلك ما يمكنه التوصل به إلى سعادة الحياة من غير نقص فيه فذلك تمام النعمة.

فقوله: ﴿ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب﴾ يريد أن الله أنعم عليكم بما تسعدون به في حياتكم لكنه يتم ذلك في حقك وفي حق آل يعقوب وهم يعقوب وزوجه وسائر بنيه كما كان رآه في رؤياه.

وقد جعل يوسف (عليه السلام) أصلا وآل يعقوب معطوفا عليه إذ قال: ﴿عليك وعلى آل يعقوب﴾ كما يدل عليه الرؤيا إذ رأى يوسف نفسه مسجودا له ورأى آل يعقوب في هيئة الشمس معها القمر وأحد عشر كوكبا سجدا له.

وقد ذكر الله تعالى مما أتم به النعمة على يوسف (عليه السلام) أنه آتاه الحكم والنبوة والملك والعزة في مصر مضافا إلى أن جعله من المخلصين وعلمه من تأويل الأحاديث، ومما أتم به النعمة على آل يعقوب أنه أقر عين يعقوب بابنه يوسف (عليهما السلام)، وجاء به وبأهله جميعا من البدو ورزقهم الحضارة بنزول مصر.

وقوله: ﴿كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق﴾ أي نظير ما أتم النعمة من قبل على إبراهيم وإسحاق وهما أبواك فإنه آتاهما خير الدنيا والآخرة فقوله: ﴿من قبل﴾ متعلق بقوله: ﴿أتمها﴾ وربما احتمل كونه ظرفا مستقرا وصفا لقوله ﴿أبويك﴾ والتقدير كما أتمها على أبويك الكائنين من قبل.

و﴿إبراهيم وإسحاق﴾ بدل أو عطف بيان لقوله ﴿أبويك﴾ وفائدة هذا السياق الإشعار بكون النعمة مستمرة موروثة في بيت إبراهيم من طريق إسحاق حيث أتمها الله على إبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف (عليه السلام) وسائر آل يعقوب.

ومعنى الآية: وكما رأيت في رؤياك يخلصك ربك لنفسه بإنقائك من الشرك فلا يكون فيك نصيب لغيره، ويعلمك من تأويل الأحاديث وهو ما يئول إليه الحوادث المصورة في نوم أو يقظة ويتم نعمته هذه وهي الولاية الإلهية بالنزول في مصر واجتماع الأهل والملك والعزة عليك وعلى أبويك وإخوتك وإنما يفعل ربك بك ذلك لأنه عليم بعباده خبير بحالهم حكيم يجري عليهم ما يستحقونه فهو عليم بحالك وما يستحقونه من غضبه.

والتدبر في الآية الكريمة يعطي: أولا: أن يعقوب أيضا كان من المخلصين وقد علمه الله من تأويل الأحاديث فإنه (عليه السلام) أخبر كما في هذه الآية بتأويل رؤيا يوسف وما كان ليخبر عن خرص وتخمين دون أن يعلمه الله ذلك.

على أن الله بعد ما حكى عنه لبنيه ﴿يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة﴾ إلخ قال في حقه: ﴿وإنه لذو علم لما علمناه ولكن أكثر الناس لا يعلمون﴾.

على أنه بعد ما حكى عن يوسف في السجن فيما يحاور صاحبيه أنه قال: ﴿لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي﴾ فأخبر أنه من تأويل الحديث وقد علمه ذلك ربه ثم علل التعليم بقوله: ﴿إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وبالآخرة هم كافرون واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء﴾ إلخ فأخبر أنه مخلص - بفتح اللام - لله كآبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب نقي الوجود سليم القلب من الشرك مطلقا ولذلك علمه ربه فيما علمه تأويل الأحاديث، والاشتراك في العلة - كما ترى - يعطي أن آباءه الكرام إبراهيم وإسحاق ويعقوب كهو مخلصون لله معلمون من تأويل الأحاديث.

ويؤيده قوله تعالى في موضع آخر: ﴿واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار﴾ ص: 46 ويعطي أن العلم بتأويل الأحاديث من فروع الإخلاص لله سبحانه.

وثانيا: أن جميع ما أخبر به يعقوب (عليه السلام) منطبق على متن ما رآه يوسف (عليه السلام) من الرؤيا وهو سجدة الشمس والقمر وأحد عشر كوكبا له وذلك أن سجدتهم له وفيهم يعقوب الذي هو من المخلصين ولا يسجد إلا لله وحده تكشف عن أنهم إنما سجدوا أمام يوسف لله ولم يأخذوا يوسف إلا قبلة كالكعبة التي يسجد إليها ولا يقصد بذلك إلا الله سبحانه فلم يكن عند يوسف ولا له إلا الله تعالى، وهذا هو كون العبد مخلصا - بفتح اللام - لربه مخصوصا به لا يشاركه تعالى فيه شيء كما يومىء إليه يوسف بقوله: ﴿ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء﴾ وقد تقدم آنفا أن العلم بتأويل الأحاديث متفرع على الإخلاص.

ومن هنا قال يعقوب في تعبير رؤياه: وكذلك - أي كما رأيت نفسك مسجودا لها - يجتبيك ربك - أي يخلصك لنفسه - ويعلمك من تأويل الأحاديث.

وكذلك رؤية آل يعقوب في صورة الشمس والقمر وأحد عشر كوكبا وهي أجرام سماوية رفيعة المكان ساطعة الأنوار واسعة المدارات تدل على أنهم سترتفع مكانتهم ويعلوا كعبهم في حياتهم الإنسانية السعيدة، وهي الحياة الدينية العامرة للدنيا والآخرة ويمتازون في ذلك من غيرهم.

ومن هنا مضى يعقوب في حديثه وقال: ويتم نعمته عليك - أي وحدك متميزا من غيرك كما رأيت نفسك كذلك - وعلى آل يعقوب - أي علي وعلى زوجي وولدي جميعا كما رأيتنا مجمتمعين متقاربي الصور - كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق إن ربك عليم حكيم.

وثالثا: أن المراد بإتمام النعمة تعقيب الولاية برفع سائر نواقص الحياة السعيدة وضم الدنيا إلى الآخرة، ولا تنافي بين نسبة إتمام النعمة إلى الجميع وبين اختصاص الاجتباء وتعليم تأويل الأحاديث بيعقوب ويوسف (عليهما السلام) من بينهم لأن النعمة وهي الولاية مختلفة الدرجات متفاوتة المراتب، وحيث نسبت إلى الجميع يأخذ كل منهم نصيبه منها.

على أن من الجائز أن ينسب أمر إلى المجموع باعتبار اشتماله على أجزاء بعضها قائم بمعنى ذلك الأمر كما في قوله: ﴿ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات﴾ الجاثية: 16 وإيتاء الكتاب والحكم والنبوة مختص ببعضهم دون جميعهم بخلاف الرزق من الطيبات.

ورابعا: أن يوسف كان هو الوسيلة في إتمام الله سبحانه نعمته على آل يعقوب ولذلك جعله يعقوب أصلا في الحديث وعطف عليه غيره حتى ميزه من بين آله وأفرده بالذكر حيث قال: ﴿ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب﴾.

ولذلك أيضا نسب هذه العناية والرحمة إلى ربه حيث قال مرة بعد مرة: ﴿ربك﴾ ولم يقل: ﴿يجتبيك الله﴾ ولا ﴿أن الله عليم حكيم﴾ فهذا كله يشهد بأنه هو الأصل في إتمام النعمة على آل يعقوب، وأما أبواه إبراهيم وإسحاق فإن التعبير بما يشعر بالتنظير: ﴿كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق﴾ يخرجهما من تحت أصالة يوسف فافهم ذلك.

بحث روائي:

في تفسير القمي، قال: وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: تأويل هذه الرؤيا أنه سيملك مصر ويدخل عليه أبواه وإخوته.

فأما الشمس فأم يوسف راحيل، والقمر يعقوب، وأما أحد عشر كوكبا فإخوته، فلما دخلوا عليه سجدوا شكرا لله وحده حين نظروا إليه، وكان ذلك السجود لله.

وفي الدر المنثور، أخرج ابن المنذر عن ابن عباس: في قوله تعالى: ﴿أحد عشر كوكبا﴾ قال: إخوته ﴿والشمس﴾ قال: أمه ﴿والقمر﴾ قال: أبوه، ولأمه راحيل ثلث الحسن.

أقول: والروايتان - كما ترى - تفسران الشمس بأمه والقمر بأبيه ولا تخلوان من ضعف، وربما روي أن التي دخلت عليه بمصر هي خالته دون أمه فقد ماتت أمه قبل ذلك، وكذلك وردت في التوراة.

وفي تفسير القمي، عن الباقر (عليه السلام): كان له أحد عشر أخا، وكان له من أمه أخ واحد يسمى بنيامين.

قال: فرآى يوسف هذه الرؤيا وله تسع سنين فقصها على أبيه فقال: يا بني لا تقصص الآية.

أقول: وفي بعض الروايات أنه كان يومئذ ابن سبع سنين وفي التوراة أنه كان ابن ست عشر سنة، وهو بعيد.