الآيات 1 - 3

الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ﴿1﴾ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴿2﴾ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ﴿3﴾

بيان:

غرض السورة بيان ولاية الله لعبده الذي أخلص إيمانه له تعالى إخلاصا وامتلأ بمحبته تعالى لا يبتغي له بدلا ولم يلو إلى غيره تعالى من شيء، وأن الله تعالى يتولى هو أمره فيربيه أحسن تربية فيورده مورد القرب ويسقيه فيرويه من مشرعه الزلفى فيخلصه لنفسه ويحييه حياة إلهية وإن كانت الأسباب الظاهرة أجمعت على هلاكه، ويرفعه وإن توفرت الحوادث على ضعته، ويعزه وإن دعت النوائب ورزايا الدهر إلى ذلته وحط قدره.

قد بين تعالى ذلك بسرد قصة يوسف الصديق (عليه السلام).

ولم يرد في سور القرآن الكريم تفصيل قصة من القصص باستقصائها من أولها إلى آخرها غير قصته (عليه السلام)، وقد خصت السورة بها من غير شركة ما من غيرها.

فقد كان (عليه السلام) عبدا مخلصا في عبوديته فأخلصه الله لنفسه وأعزه بعزته وقد تجمعت الأسباب على إذلاله وضعته فكلما ألقته في إحدى المهالك أحياه الله تعالى من نفس السبيل التي كانت تسوقه إلى الهلاكة: حسده إخوته فألقوه في غيابة الجب ثم شروه بثمن بخس دراهم معدودة فذهب به ذلك إلى مصر وأدخله في بيت الملك والعزة، راودته التي هو في بيتها عن نفسه واتهمته عند العزيز ولم تلبث دون أن اعترفت عند النسوة ببراءته ثم اتهمته وأدخلته السجن فكان ذلك سبب قربه عند الملك، وكان قميصه الملطخ بالدم الذي جاءوا به إلى أبيه يعقوب أول يوم هو السبب الوحيد في ذهاب بصره فصار قميصه بعينه وقد أرسله بيد إخوته من مصر إلى أبيه آخر يوم هو السبب في عود بصره إليه، وعلى هذا القياس.

وبالجملة كلما نازعه شيء من الأسباب المخالفة أو اعترضه في طريق كماله جعل الله تعالى ذلك هو السبب في رشد أمره ونجاح طلبته، ولم يزل سبحانه يحوله من حال إلى حال حتى آتاه الحكم والملك واجتباه وعلمه من تأويل الأحاديث وأتم نعمته عليه كما وعده أبوه.

وقد بدأ الله سبحانه قصته بذكر رؤيا رآها في بادىء الأمر وهو صبي في حجر أبيه والرؤيا من المبشرات ثم حقق بشارته وأتم كلمته فيه بما خصه به من التربية الإلهية، وهذا هو شأنه تعالى في أوليائه كما قال تعالى: ﴿ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم﴾ يونس: 64.

وفي قوله تعالى بعد ذكر رؤيا يوسف وتعبير أبيه (عليه السلام) لها: ﴿لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين﴾ إشعار بأنه كان هناك قوم سألوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عما يرجع إلى هذه القصة، وهو يؤيد ما ورد أن قوما من اليهود بعثوا مشركي مكة أن يسألوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن سبب انتقال بني إسرائيل إلى مصر وقد كان يعقوب (عليه السلام) ساكنا في أرض الشام فنزلت السورة.

وعلى هذا فالغرض بيان قصته (عليه السلام) وقصة آل يعقوب، وقد استخرج تعالى ببيانه ما هو الغرض العالي منها وهو طور ولاية الله لعباده المخلصين كما هو اللائح من مفتتح السورة ومختتمها، والسورة مكية على ما يدل عليه سياق آياتها، وما ورد في بعض الروايات عن ابن عباس أن أربعا من آياتها مدنية، وهي الآيات الثلاث التي في أولها، وقوله ﴿لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين﴾ مدفوع بما تشتمل عليه من السياق الواحد.

قوله تعالى: ﴿الر تلك آيات الكتاب المبين﴾ الإشارة بلفظ البعيد للتعظيم والتفخيم، والظاهر أن يكون المراد بالكتاب المبين هذا القرآن المتلو وهو مبين واضح في نفسه ومبين موضح لغيره ما ضمنه الله تعالى من المعارف الإلهية وحقائق المبدأ والمعاد.

وقد وصف الكتاب في الآية بالمبين لا كما في قوله في أول سورة يونس: ﴿تلك آيات الكتاب الحكيم﴾ لكون هذه السورة نازلة في شأن قصة آل يعقوب وبيانها، ومن المحتمل أن يكون المراد بالكتاب المبين اللوح المحفوظ.

قوله تعالى: ﴿إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون﴾ الضمير للكتاب بما أنه مشتمل على الآيات الإلهية والمعارف الحقيقية، وإنزاله قرآنا عربيا هو إلباسه في مرحلة الإنزال لباس القراءة والعربية، وجعله لفظا متلوا مطابقا لما يتداوله العرب من اللغة كما قال تعالى في موضع آخر ﴿إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم﴾ الزخرف: 4.

وقوله: ﴿لعلكم تعقلون﴾ من قبيل توسعة الخطاب وتعميمه فإن السورة مفتتحة بخطاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ﴿تلك آيات الكتاب﴾ وعلى ذلك يجري بعد كما في قوله: ﴿نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك﴾ إلخ.

فمعنى الآية - والله أعلم - أنا جعلنا هذا الكتاب المشتمل على الآيات في مرحلة النزول ملبسا بلباس اللفظ العربي محلى بحليته ليقع في معرض التعقل منك ومن قومك أو أمتك، ولو لم يقلب في وحيه في قالب اللفظ المقرو أو لم يجعل عربيا مبينا لم يعقل قومك ما فيه من أسرار الآيات بل اختص فهمه بك لاختصاصك بوحيه وتعليمه.

وفي ذلك دلالة ما على أن لألفاظ الكتاب العزيز من جهة تعينها بالاستناد إلى الوحي وكونها عربية دخلا في ضبط أسرار الآيات وحقائق المعارف، ولو أنه أوحى إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بمعناه وكان اللفظ الحاكي له لفظه (صلى الله عليه وآله وسلم) كما في الأحاديث القدسية مثلا أو ترجم إلى لغة أخرى خفي بعض أسرار آياته البينات عن عقول الناس ولم تنله أيدي تعقلهم وفهمهم.

وعنايته تعالى فيما أوحى من كتابه باللفظ مما لا يرتاب فيه المتدبر في كلامه كيف؟ وقد قسمه إلى المحكمات والمتشابهات وجعل المحكمات أم الكتاب ترجع إليها المتشابهات قال تعالى: ﴿هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات﴾ آل عمران: 7 وقال تعالى أيضا: ﴿ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين﴾ النحل: 103.

قوله تعالى: ﴿نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين﴾ قال الراغب في المفردات، القص تتبع الأثر يقال: قصصت أثره، والقصص الأثر قال: فارتدا على آثارهما قصصا، وقالت لأخته قصيه.

قال: والقصص الأخبار المتتبعة قال تعالى: لهو القصص الحق.

في قصصهم عبرة، وقص عليه القصص، نقص عليك أحسن القصص.

فالقصص هو القصة وأحسن القصص أحسن القصة والحديث، وربما قيل: إنه مصدر بمعنى الاقتصاص.

فإن كان اسم مصدر فقصة يوسف (عليه السلام) أحسن قصة لأنها تصف إخلاص التوحيد في العبودية، وتمثل ولاية الله سبحانه لعبده وأنه يربيه بسلوكه في صراط الحب ورفعه من حضيض الذلة إلى أوج العزة، وأخذه من غيابة جب الإسارة ومربط الرقية وسجن النكال والنقمة إلى عرش العزة وسرير الملك.

وإن كان مصدرا فالاقتصاص عن قصته بالطريق الذي اقتص سبحانه به أحسن الاقتصاص لأنه اقتصاص لقصة الحب والغرام بأعف ما يكون وأستر ما يمكن.

والمعنى - والله أعلم - نحن نقص عليك أحسن القصص بسبب وحينا هذا القرآن إليك وأنك كنت قبل اقتصاصنا عليك هذه القصة من الغافلين عنها.