الآيات 73 - 80

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا ﴿73﴾ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا ﴿74﴾ قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضْعَفُ جُندًا ﴿75﴾ وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَّرَدًّا ﴿76﴾ أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا ﴿77﴾ أَاطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا ﴿78﴾ كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا ﴿79﴾ وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا ﴿80﴾

بيان:

هذا هو الفصل الثاني من كلماتهم المنقولة عنهم، وهو ردهم الدعوة النبوية بأنها لا تنفع في حسن حال المؤمنين بها شيئا ولو كانت حقة لجلبت إليهم زهرة الحياة الدنيا التي فيها سعادة العيش من أبنية رفيعة وأمتعة نفيسة وجمال وزينة، فالذي هم عليه من الكفر وقد جلب لهم خير الدنيا خير مما عليه المؤمنون وقد غشيهم رثاثة الحال وفقد المال وعسرة العيش، فكفرهم هو الحق الذي ينبغي أن يؤثر دون الإيمان الذي عليه المؤمنون وقد أجاب الله عن قولهم بقوله: ﴿وكم أهلكنا﴾ إلخ، وقوله: ﴿قل من كان في الضلالة﴾ إلخ، ثم عقب ذلك ببيان حال بعض من اغتر بقولهم.

قوله تعالى: ﴿وإذا تتلى عليهم آياتنا﴾ إلى آخر الآية، المقام اسم مكان من القيام فهو المسكن، والندي هو المجلس وقيل خصوص مجلس المشاورة، ومعنى ﴿قال الذين كفروا للذين آمنوا﴾ أنهم خاطبوهم فاللام للتبليغ كما قيل، وقيل: تفيد معنى التعليل أي قالوا لأجل الذين آمنوا أي لأجل إغوائهم وصرفهم عن الإيمان، والأول أنسب للسياق كما أن الأنسب للسياق أن يكون ضمير عليهم راجعا إلى الناس أعم من الكفار والمؤمنين دون الكفار فقط حتى يكون قوله: ﴿قال الذين كفروا﴾ من قبيل وضع الظاهر موضع المضمر.

وقوله: ﴿أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا﴾ أي للاستفهام والفريقان هما الكفار والمؤمنون، وكان مرادهم أن الكفار هم خير مقاما وأحسن نديا من المؤمنين الذين كان الغالب عليهم العبيد والفقراء لكنهم أوردوه في صورة السؤال وكنوا عن الفريقين لدعوى أن المؤمنين عالمون بذلك يجيبون بذلك لو سئلوا من غير تردد وارتياب.

والمعنى: وإذا تتلى على الناس - وهم الفريقان الكفار والمؤمنون - آياتنا وهي ظاهرات في حجتها واضحات في دلالتها لا تدع ريبا لمرتاب، قال فريق منهم وهم الذين كفروا للفريق الآخر وهم الذين آمنوا: أي هذين الفريقين خير من جهة المسكن وأحسن من حيث المجلس - ولا محالة هم الكفار - يريدون أن لازم ذلك أن يكونوا هم سعداء في طريقتهم وملتهم إذ لا سعادة وراء التمتع بأمتعة الحياة الدنيا فالحق ما هم عليه.

قوله تعالى: ﴿وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورءيا﴾ القرن: الناس المقترنون في زمن واحد، والأثاث: متاع البيت، قيل: لا يطلق إلا على الكثير ولا واحد له من لفظه، والرئي بالكسر فالسكون: ما رئي من المناظر، نقل في مجمع البيان، عن بعضهم: أنه اسم لما ظهر وليس بالمصدر وإنما المصدر الرأي والرؤية يدل على ذلك قوله: ﴿يرونهم مثليهم رأي العين﴾ فالرأي: الفعل، والرئي: المرئي كالطحن والطحن والسقي والسقي والرمي والرمي.

ولما احتج الكفار على المؤمنين في حقية ملتهم وبطلان الدعوة النبوية التي آمن به المؤمنون بأنهم خير مقاما وأحسن نديا في الدنيا وقد فاتهم أن للإنسان حياة خالدة أبدية لا منتهى لها وإنما سعادته في سعادتها والأيام القلائل التي يعيش فيها في الدنيا لا قدر لها قبال ما لا نهاية له ولا أنها تغني عنه شيئا.

على أن هذه التمتعات الدنيوية لا تحتم له السعادة ولا تقيه من غضب الله إن حل به يوما وما هو من الظالمين ببعيد فليسوا في أمن من سخط الله ولا طيب في عيش يهدده الهلاك ولا في نعمة كانت في معرض النقمة والخيبة.

أشار إلى الجواب عنه بقوله: ﴿وكم أهلكنا قبلهم﴾ والظاهر أن الجملة حالية وكم خبرية لا استفهامية والمعنى: أنهم يتفوهون بهذه الشبهة الواهية - نحن خير منكم مقاما وأحسن نديا - استخفافا للمؤمنين والحال أنا أهلكنا قرونا كثيرة قبلهم هم أحسن من حيث الأمتعة والمناظر.

وقد نقل سبحانه نظير هذه الشبهة عن فرعون وعقبه بحديث غرقه وهلاكه، قال: ﴿ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين فلو لا ألقي عليه أسورة من ذهب - إلى أن قال- فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين﴾ الزخرف: 56.

قوله تعالى: ﴿قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا﴾ إلى آخر الآية، لفظة كان في قوله: ﴿من كان في الضلالة﴾ تدل على استمرارهم في الضلالة لا مجرد تحقق ضلالة ما، وبذلك يتم التهديد بمجازاتهم بالإمداد والاستدراج الذي هو إضلال بعد الضلال.

وقوله: ﴿فليمدد﴾ صيغة أمر غائب ويئول معناه إلى أن من الواجب على الرحمن أن يمده مدا، فإن أمر المتكلم مخاطبه أن يأمره بشيء معناه إيجاب المتكلم ذلك على نفسه.

والمد والأمداد واحد لكن ذكر الراغب في المفردات، أن أكثر ما جاء الأمداد في المحبوب والمد في المكروه والمراد أن من استقرت عليه الضلالة واستمر هو عليها - والمراد به الكفار كناية - فقد أوجب الله على نفسه أن يمده بما منه ضلالته كالزخارف الدنيوية في مورد الكلام فينصرف بذلك عن الحق حتى يأتيه أمر الله من عذاب أو ساعة بالمفاجاة والمباهتة فيظهر له الحق عند ذلك ولن ينتفع به.

فقوله: ﴿حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون﴾ إلخ، دليل على أن هذا المد خذلان في صورة إكرام والمراد به أن ينصرف عن الحق واتباعه بالاشتغال بزهرة الحياة الدنيا الغارة فلا يظهر له الحق إلا في وقت لا ينتفع به وهو وقت نزول البأس أو قيام الساعة.

كما قال تعالى: ﴿فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده﴾ المؤمنون: 85، وقال: ﴿يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا﴾ الأنعام: 158.

وفي إرجاع ضمير الجمع في قوله: ﴿رأوا ما يوعدون﴾ إلى ﴿من﴾ رعاية جانب معناه كما أن في إرجاع ضمير الإفراد في قوله: ﴿فليمدد له﴾ إليه رعاية جانب لفظه.

وقوله: ﴿فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا﴾ قوبل به قولهم السابق: ﴿أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا﴾ أما مكانهم حين يرون العذاب - والظاهر أن المراد به عذاب الدنيا - فحيث يحل بهم عذاب الله وقد كان مكان صناديد قريش المتلو عليهم الآيات حين نزول العذاب، قليب بدر التي ألقيت فيها أجسادهم وأما مكانهم يوم يرون الساعة فالنار الخالدة التي هي دار البوار، وأما ضعف جندهم فلأنه لا عاصم لهم اليوم من الله ويعود كل ما هيئوه لأنفسهم من عدد وعدة سدى لا أثر له.

قوله تعالى: ﴿ويزيد الله الذين اهتدوا هدى﴾ إلى آخر الآية، الباقيات الصالحات الأعمال الصالحة التي تبقى محفوظة عند الله وتستعقب جميل الشكر وعظيم الأجر وقد وعد الله بذلك في مواضع من كلامه.

والثواب جزاء العمل قال في المفردات، أصل الثوب رجوع الشيء إلى حالته الأولى التي كان عليها أو إلى الحالة المقدرة المقصودة بالفكرة - إلى أن قال - والثواب ما يرجع إلى الإنسان من جزاء أعماله فيسمى الجزاء ثوابا تصورا أنه هو - إلى أن قال - والثواب يقال في الخير والشر لكن الأكثر المتعارف في الخير.

والمرد اسم مكان من الرد والمراد به الجنة.

والآية من تمام البيان في الآية السابقة فإن الآية السابقة تبين حال أهل الضلالة وتذكر أن الله سيمدهم فهم يعمهون في ضلالتهم منصرفين عن الحق معرضين عن الإيمان لاعبين بما عندهم من شواغل الحياة الدنيا حتى يفاجئهم العذاب أو الساعة وتنكشف لهم حقيقة الأمر من غير أن ينتفعوا به وهؤلاء أحد الفريقين في قولهم: ﴿أي الفريقين خير مقاما﴾ إلخ.

وهذه الآية تبين حال الفريق الآخر وهم المؤمنون وأن الله سبحانه يمد المهتدين منهم وهم المؤمنون بالهدى فيزيدهم هدى على هداهم فيوفقون للأعمال الباقية الصالحة وهي خير أجرا وخير دارا وهي الجنة ودائم نعيمها فما عند المؤمنين من أمتعة الحياة وهي النعيم المقيم خير مما عند الكافرين من الزخارف الغارة الفانية.

وفي قوله: ﴿عند ربك﴾ إشارة إلى أن الحكم بخيرية ما للمؤمنين من ثواب ومرد حكم إلهي لا يخطىء ولا يغلط البتة.

وهاتان الآيتان - كما ترى - جواب ثان عن حجة الكفار أعني قولهم: ﴿أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا﴾.

قوله تعالى: ﴿أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا﴾ كما أن سياق الآيات الأربع السابقة يعطي أن الحجة الفاسدة المذكورة قول بعض المشركين ممن تلي عليه القرآن فقال ما قال دحضا لكلمة الحق واستغواء واستخفافا للمؤمنين كذلك سياق هذه الآيات الأربع وقد افتتحت بكلمة التعجيب واشتملت بقول يشبه القول السابق واختتمت بما يناسبه من الجواب يعطي أن بعض الناس ممن آمن بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو كان في معرض ذلك بعد ما سمع قول الكفار مال إليهم ولحق بهم قائلا لأوتين مالا وولدا يعني في الدنيا باتباع ملة الشرك كان في الإيمان بالله شؤما وفي اتخاذ الآلهة ميمنة.

فرده الله سبحانه بقوله: ﴿أطلع الغيب﴾ إلخ.

وأما ما ذكره الأكثر بالبناء على ما ورد من سبب النزول أن الجملة قول أحد المتعرقين في الشرك من قريش خاطب به خباب بن الأرت حين طالبه دينا كان له عليه، وأن معنى الجملة لأوتين مالا وولدا في الجنة فأؤدي ديني فشيء لا يلائم سياق الآيات إذ من المعلوم أن المشركين ما كانوا مذعنين بالبعث أصلا، فقوله لأوتين مالا وولدا إذا بعثت وعند ذلك أؤدي ديني لا يحتمل إلا الاستهزاء والتهكم ولا معنى لرد الاستهزاء بالاحتجاج كما هو صريح قوله: ﴿أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا﴾ إلخ.

ونظير هذا القول في السقوط ما نقل عن أبي مسلم المفسر أن الآية عامة فيمن له هذه الصفة.

فقوله: ﴿أفرأيت الذي كفر بآياتنا﴾ مسوق للتعجيب، وكلمة ﴿أفرأيت﴾ كلمة تعجيب وقد فرعه بفاء التفريع على ما تقدمه من قولهم: ﴿أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا﴾ لأن كفر هذا القائل وقوله: ﴿لأوتين مالا وولدا﴾ من سنخ كفرهم ومبني على قولهم للمؤمنين لا خير عند هؤلاء وسعادة الحياة وعزة الدنيا ونعمتها ولا خير إلا ذلك عند الكفار وفي ملتهم.

ومن هنا يظهر أن لقوله: ﴿وقال لأوتين مالا وولدا﴾ نوع ترتب على قوله ﴿كفر بآياتنا﴾ وأنه إنما كفر بآيات الله زاعما أن ذلك طريقة ميمونة مباركة تجلب لسالكها العزة والقدرة وترزقه الخير والسعادة في الدنيا وقد أقسم بذلك كما يشهد به لام القسم ونون التأكيد في قوله: ﴿لأوتين﴾.

قوله تعالى: ﴿أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا﴾ رد سبحانه عليه قوله: ﴿لأوتين مالا وولدا بكفري﴾ بأنه رجم بالغيب لا طريق له إلى العلم فليس بمطلع على الغيب حتى يعلم بأنه سيؤتى بكفره ما يأمله ولا بمتخذ عهدا عند الله حتى يطمئن إليه في ذلك، وقد جيء بالنفي في صورة الاستفهام الإنكاري.

قوله تعالى: ﴿كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا﴾ كلا كلمة ردع وزجر وذيل الآية دليل على أنه سبحانه يرد بها ما يتضمنه قول هذا القائل من ترتب إيتاء المال والولد على الكفر بآيات الله ومحصله أن الذي يترتب على قوله هذا ليس هو إيتاء المال والولد فإن لذلك أسبابا أخر بل هو مد العذاب على كفره ورجمه فهو يطلب بما يقول في الحقيقة عذابا ممدودا يتلو بعضه بعضا لأنه هو تبعة قوله لا إيتاء المال والولد وسنكتب قوله ونرتب عليه أثره الذي هو مد العذاب فالآية نظيرة قوله: ﴿فليدع ناديه سندع الزبانية﴾ العلق: 18.

ومن هنا يظهر أن الأقرب أن يكون المراد من كتابة قوله تثبيته ليترتب عليه أثره لا كتابته في صحيفة عمله ليحاسب عليه يوم القيامة كما فسره به أرباب التفسير، على أن قوله الآتي: ﴿ونرثه ما يقول﴾ لا يخلو على قولهم من شائبة التكرار من غير نكتة ظاهرة.

قوله تعالى: ﴿ونرثه ما يقول ويأتينا فردا﴾ المراد بوراثة ما يقول أنه سيموت ويفنى ويترك قوله: لأوتين بكفري مالا وولدا، وقد كان خطيئة لازمة له لزوم المال للإنسان محفوظة عند الله كأنه مال ورثه بعده ففي الكلام استعارة لطيفة.

وقوله: ﴿ويأتينا فردا﴾ أي وحده وليس معه شيء مما كان ينتصر به ويركن إليه بحسب وهمه فمحصل الآية أنه سيأتينا وحده وليس معه إلا قوله الذي حفظناه عليه فنحاسبه على ما قال ونمد له من العذاب مدا.

هذا ما يقتضيه البناء على كون قوله في أول الآيات ﴿لأوتين مالا وولدا﴾ ناظرا إلى الإيتاء في الدنيا، وأما بناء على كونه ناظرا إلى الإيتاء في الآخرة كما اختاره الأكثر فمعنى الآيات كما فسروها تعجب من الذي كفر بآياتنا وهو عاص بن وائل أو وليد بن المغيرة وقال: أقسم لأوتين إذا بعثت مالا وولدا في الجنة، أعلم الغيب حتى يعلم أنه في الجنة؟ - وقيل: أنظر في اللوح المحفوظ - أم اتخذ عند الرحمن عهدا بقول لا إله إلا الله حتى يدخل به الجنة - وقيل: أ قدم عملا صالحا كلا وليس الأمر كما قال - سنكتب ما يقول بأمر الحفظة أن يثبتوه في صحيفة عمله ونمد له من العذاب مدا ونرثه ما يقول أي ما عنده من المال والولد بإهلاكنا إياه وإبطالنا ملكه ويأتينا أي يأتي الآخرة فردا ليس عنده شيء من مال وولد وعدة وعدد.

بحث روائي:

في تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله تعالى: ﴿أفرأيت الذي كفر بآياتنا - وقال لأوتين مالا وولدا﴾ إنه العاص بن وائل بن هشام القرشي ثم السهمي وكان أحد المستهزءين، وكان لخباب بن الأرت على العاص بن وائل حق فأتاه يتقاضاه فقال له العاص: ألستم تزعمون أن في الجنة الذهب والفضة والحرير؟ قال: بلى.

قال: فموعد ما بيني وبينك الجنة، فو الله لأوتين فيها خيرا مما أوتيت في الدنيا.

وفي الدر المنثور، أخرج أحمد والبخاري ومسلم وسعيد بن منصور وعبد بن حميد والترمذي والبيهقي في الدلائل وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان وابن مردويه عن خباب بن الأرت قال: كنت رجلا قينا وكان لي على العاص بن وائل دين فأتيته أتقاضاه فقال: لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد فقلت: لا والله لا أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث.

قال: فإني إذا مت ثم بعثت جئتني ولي ثم مال وولد فأعطيك فأنزل الله: ﴿أفرأيت الذي كفر بآياتنا إلى قوله ويأتينا فردا﴾ .

أقول: وروى أيضا ما يقرب منه عن الطبراني عن خباب.

وأيضا عن سعيد بن منصور عن الحسن عن رجل من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يسم خبابا وأيضا عن ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس عن رجال من الصحابة.

وقد تقدم أن الروايات لا تنطبق على سياق الآيات فإن الروايات صريحة في أن الكلمة إنما صدرت عن العاص بن وائل على سبيل الاستهزاء والسخرية على أن النقل القطعي أيضا يؤيد أن المشركين لم يكونوا قائلين بالبعث والنشور.

ثم الآيات تأخذ في رد كلمته بالاحتجاج ولو كانت كلمة استهزاء من غير جد لم يكن للاحتجاج عليها معنى إذ الاحتجاج لا يستقيم إلا على قول جدي وإلا كان هزلا فالروايات على صراحتها في كونها كلمة استهزاء لا تنطبق على الآية.

ولو حمل على وجه بعيد على أنه إنما قال: ﴿لأوتين مالا وولدا﴾ على وجه الإلزام والتبكيت لخباب من غير أن يعتقده لا على وجه الاستهزاء! لم يكن لذكر الولد مع المال وجه وكفاه أن يقول لأوتين مالا مع أن في بعض هذه الروايات أنه قال لخباب: إنكم تزعمون أنكم ترجعون إلى مال وولد ولم يعهد من مسلمي صدر الإسلام شيوع القول بأن في الجنة توالدا وتناسلا ولا وقعت في شيء من القرآن إشارة إلى ذلك، هذا أولا.

ولم يكن للقسم والتأكيد البالغ في قوله: ﴿لأوتين﴾ وجه إذ الإلزام والتبكيت لا حاجة فيه إلى تأكيد، وهذا ثانيا.

ولم يكن لإطلاق الإيتاء في قوله ﴿لأوتين﴾ من دون أن يقيده بالجنة أو الآخرة دفعا للبس نكتة ظاهرة، وهذا ثالثا.

ولم يصلح للرد عليه وإبطاله إلا قوله تعالى: ﴿كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب﴾ إلى آخر الآيتين، وأما قوله: ﴿أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا﴾ فغير وارد عليه البتة إذ الإلزام والتبكيت لا يتوقف على العلم بصدق ما يلزم به حتى يتوقف عن منشإ علمه بل يجامع غالبا العلم بالكذب وإنما على التزام الخصم الذي يراد إلزامه به أو بما يستلزمه، وهذا رابعا.

واعلم أنه ورد في ذيل قوله: ﴿والباقيات الصالحات﴾ الآية أخبار عن النبي وأئمة أهل البيت عليهم أفضل الصلاة وقد أشرنا إليها في الجزء الثالث عشر من الكتاب في بحث روائي في ذيل الآية 46 من سورة الكهف.