الآيات 1 - 11

قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ﴿1﴾ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴿2﴾ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ﴿3﴾ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ﴿4﴾ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ﴿5﴾ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ﴿6﴾ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ﴿7﴾ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ﴿8﴾ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴿9﴾ أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ﴿10﴾ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴿11﴾

بيان:

في السورة دعوة إلى الإيمان بالله واليوم الآخر وتمييز المؤمنين من الكفار بذكر ما لهؤلاء من جميل صفات العبودية وما لأولئك من رذائل الأخلاق وسفاسف الأعمال، وتعقيب ذلك بالتبشير والإنذار، وقد تضمن الإنذار ذكر عذاب الآخرة وما غشي الأمم المكذبين للدعوة الحقة من عذاب الاستئصال في مسير الدعوة آخذا من زمن نوح إلى زمن المسيح عيسى بن مريم (عليهما السلام).

والسورة مكية، وسياق آياتها يشهد بذلك.

قوله تعالى: ﴿قد أفلح المؤمنون﴾ قال الراغب: الفلح - بالفتح فالسكون - الشق، وقيل: الحديد بالحديد يفلح أي يشق، والفلاح الظفر وإدراك بغية وذلك ضربان: دنيوي وأخروي، فالدنيوي الظفر بالسعادات التي تطيب بها الحياة الدنيا وهو البقاء والغنى والعز، والأخروي أربعة أشياء: بقاء بلا فناء، وغنى بلا فقر، وعز بلا ذل، وعلم بلا جهل، ولذلك قيل: لا عيش إلا عيش الآخرة.

فتسمية الظفر بالسعادة فلاحا بعناية أن فيه شقا للمانع وكشفا عن وجه المطلوب.

والإيمان هو الإذعان والتصديق بشيء بالالتزام بلوازمه، فالإيمان بالله في عرف القرآن التصديق بوحدانيته ورسله واليوم الآخر وبما جاءت به رسله مع الاتباع في الجملة، ولذا نجد القرآن كلما ذكر المؤمنين بوصف جميل أو أجر جزيل شفع الإيمان بالعمل الصالح كقوله: ﴿من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة﴾ النحل: 97: ﴿وقوله الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب﴾ الرعد: 29، إلى غير ذلك من الآيات وهي كثيرة جدا.

وليس مجرد الاعتقاد بشيء إيمانا به حتى مع عدم الالتزام بلوازمه وآثاره فإن الإيمان علم بالشيء مع السكون والاطمئنان إليه ولا ينفك السكون إلى الشيء من الالتزام بلوازمه لكن العلم ربما ينفك من السكون والالتزام ككثير من المعتادين بالأعمال الشنيعة أو المضرة فإنهم يعترفون بشناعة عملهم أو ضرره لكنهم لا يتركونها معتذرين بالاعتياد وقد قال تعالى: ﴿وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم﴾ النمل:14.

والإيمان وإن جاز أن يجتمع مع العصيان عن بعض لوازمه في الجملة لصارف من الصوارف النفسانية يصرف عنه لكنه لا يتخلف عن لوازمه بالجملة.

قوله تعالى: ﴿الذين هم في صلاتهم خاشعون﴾ الخشوع تأثر خاص من المقهور قبال القاهر بحيث ينقطع عن غيره بالتوجه إليه والظاهر أنه من صفات القلب ثم ينسب إلى الجوارح أو غيرها بنوع من العناية كقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) على ما روي: فيمن يعبث بلحيته في الصلاة: أما إنه لو خشع قلبه لخشعت جوارحه، وقوله تعالى: ﴿وخشعت الأصوات للرحمن﴾ طه: 108.

والخشوع بهذا المعنى جامع لجميع المعاني التي فسر بها الخشوع في الآية، كقول بعضهم: هو الخوف وسكون الجوارح، وقول آخرين: غض البصر وخفض الجناح، أو تنكيس الرأس، أو عدم الالتفات يمينا وشمالا، أو إعظام المقام وجمع الاهتمام، أو التذلل إلى غير ذلك.

وهذه الآية إلى تمام ثماني آيات تذكر من أوصاف المؤمنين ما يلازم كون وصف الإيمان حيا فعالا يترتب عليه آثاره المطلوبة منه ليترتب عليه الغرض المطلوب منه وهو الفلاح فإن الصلاة توجه ممن ليس له إلا الفقر والذلة إلى ساحة العظمة والكبرياء ومنبع العزة والبهاء ولازمه أن يتأثر الإنسان الشاعر بالمقام فيستغرق في الذلة والهوان وينتزع قلبه عن كل ما يلهوه ويشغله عما يهمه ويواجهه، فلو كان إيمانه إيمانا صادقا جعل همه حين التوجه إلى ربه هما واحدا وشغله الاشتغال به عن الالتفات إلى غيره فما ذا يفعل الفقير المحض إذا لقي غني لا يقدر بقدر؟ والذليل إذا واجه عزة مطلقة لا يشوبها ذلة وهوان؟ وهذا معنى قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث حارثة بن النعمان المروي في الكافي، وغيره: إن لكل حق حقيقة ولكل صواب نورا.

كلام في معنى تأثير الإيمان الدين - كما تقدم مرارا - السنة الاجتماعية التي يسير بها الإنسان في حياته الدنيوية الاجتماعية، والسنن الاجتماعية متعلقة بالعمل مبنيا على أساس الاعتقاد في حقيقة الكون والإنسان الذي هو جزء من أجزائه، ومن هنا ما نرى أن السنن الاجتماعية تختلف باختلاف الاعتقادات فيما ذكر.

فمن يثبت للكون ربا يبتدىء منه وسيعود إليه وللإنسان حياة باقية لا تبطل بموت ولا فناء يسير في الحياة سيرة يراعي في الأعمال الجارية فيها سعادة الحياة الباقية والتنعم في الدار الآخرة الخالدة.

ومن يثبت له إلها أو آلهة تدبر الأمر بالرضا والسخط من غير معاد إليه يعيش عيشة نظمها على أساس التقرب من الآلهة وإرضائها للفوز بأمتعة الحياة والظفر بما يشتهيه من نعم الدنيا.

ومن لا يهتم بأمر الربوبية ولا يرى للإنسان حياة خالدة كالماديين ومن يحذو حذوهم يبني سنة الحياة والقوانين الموضوعة الجارية في مجتمعه على أساس التمتع من الحياة الدنيا المحدودة بالموت.

فالدين سنة عملية مبنية على الاعتقاد في أمر الكون والإنسان بما أنه جزء من أجزائه، وليس هذا الاعتقاد هو العلم النظري المتعلق بالكون والإنسان فإن العلم النظري لا يستتبع بنفسه عملا وإن توقف عليه العمل بل هو العلم بوجوب الجري على ما يقتضيه هذا النظر وإن شئت فقل: الحكم بوجوب اتباع المعلوم النظري والالتزام به وهو العلم العملي كقولنا: يجب أن يعبد الإنسان الإله تعالى ويراعي في أعماله ما يسعد به في الدنيا والآخرة معا.

ومعلوم أن الدعوة الدينية متعلقة بالدين الذي هو السنة العملية المبنية على الاعتقاد، فالإيمان الذي يتعلق به الدعوة هو الالتزام بما يقتضيه الاعتقاد الحق في الله سبحانه ورسله واليوم الآخر وما جاءت به رسله وهو علم عملي.

والعلوم العملية تشتد وتضعف حسب قوة الدواعي وضعفها فإنا لسنا نعمل عملا قط إلا طمعا في خير أو نفع أو خوفا من شر أو ضرر، وربما رأينا وجوب فعل لداع يدعو إليه ثم صرفنا عنه داع آخر أقوى منه وآثر، كمن يرى وجوب أكل الغذاء لرفع ما به من جوع فيصرفه عن ذلك علمه بأنه مضر له مناف لصحته، فبالحقيقة يقيد الداعي المانع بما معه من العلم إطلاق العلم الذي مع الداعي الممنوع كأنه يقول مثلا: إن التغذي لرفع الجوع ليس يجب مطلقا بل إنما يجب إذا لم يكن مضرا بالبدن مضادا لصحته.

ومن هنا يظهر أن الإيمان بالله إنما يؤثر أثره من الأعمال الصالحة والصفات الجميلة النفسانية كالخشية والخشوع والإخلاص ونحوها إذا لم تغلبه الدواعي الباطلة والتسويلات الشيطانية، وبعبارة أخرى إذا لم يكن إيمانا مقيدا بحال دون حال كما قال تعالى: ﴿ومن الناس من يعبد الله على حرف﴾ الحج: 61.

فالمؤمن إنما يكون مؤمنا على الإطلاق إذا جرت أعماله على حاق ما يقتضيه إيمانه من الخشوع في عبادته والإعراض عن اللغو ونحوه.

قوله تعالى: ﴿والذين هم عن اللغو معرضون﴾ اللغو من الفعل هو ما لا فائدة فيه ويختلف باختلاف الأمور التي تعود عليها الفائدة فرب فعل هو لغو بالنسبة إلى أمر وهو بعينه مفيد مجد بالنسبة إلى أمر آخر.

فاللغو من الأفعال في نظر الدين الأعمال المباحة التي لا ينتفع بها في الآخرة أو في الدنيا بحيث ينتهي أيضا إلى الآخرة كالأكل والشرب بداعي شهوة التغذي اللذين يتفرع عليهما التقوي على طاعة الله وعبادته، فإذا كان الفعل لا ينتفع به في آخرة ولا في دنيا تنتهي بنحو إلى آخرة فهو اللغو وبنظر أدق هو ما عدا الواجبات والمستحبات من الأفعال.

ولم يصف سبحانه المؤمنين بترك اللغو مطلقا فإن الإنسان في معرض العثرة ومزلة الخطيئة وقد عفا عن السيئات إذا اجتنبت الكبائر كما قال: ﴿إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما﴾ النساء: 31.

بل وصفهم بالإعراض عن اللغو دون مطلق تركه والإعراض يقتضي أمرا بالفعل يدعو إلى الاشتغال به فيتركه الإنسان صارفا وجهه عنه إلى غيره لعدم اعتداده به واعتنائه بشأنه، ولازمه ترفع النفس عن الأعمال الخسيسة واعتلاؤها عن الاشتغال بما ينافي الشرف والكرامة وتعلقها بعظائم الأمور وجلائل المقاصد.

ومن حق الإيمان أن يدعو إلى ذلك فإن فيه تعلقا بساحة العظمة والكبرياء ومنبع العزة والمجد والبهاء والمتصف به لا يهتم إلا بحياة سعيدة أبدية خالدة فلا يشتغل إلا بما يستعظمه الحق ولا يستعظم ما يهتم به سفلة الناس وجهلتهم، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما، وإذا مروا باللغو مروا كراما.

ومن هنا يظهر أن وصفهم بالإعراض عن اللغو كناية عن علو همتهم وكرامة نفوسهم.

قوله تعالى: ﴿والذين هم للزكاة فاعلون﴾ ذكر الزكاة مع الصلاة قرينة على كون المراد بها الإنفاق المالي دون الزكاة بمعنى تطهير النفس بإزالة رذائل الأخلاق عنها ولعل المراد بالزكاة المعنى المصدري وهو تطهير المال بالإنفاق منه دون المقدار المخرج من المال فإن السورة مكية وتشريع الزكاة المعهودة في الإسلام إنما كان بالمدينة ثم صار لفظ الزكاة علما بالغلبة للمقدار المعين المخرج من المال.

وبهذا يستصح تعلق ﴿للزكاة﴾ بقوله: ﴿فاعلون﴾ والمعنى: الذين هم فاعلون للإنفاق المالي وأما لو كان المراد بالزكاة نفس المال المخرج لم يصح تعلقه به إذ المال المخرج ليس فعلا متعلقا بفاعل، ولذا قدر بعض من حمل الزكاة على هذا المعنى لفظ التأدية فكان التقدير عنده والذين هم لتأدية الزكاة فاعلون، ولذا أيضا فسر بعضهم الزكاة بتطهير النفس عن الأخلاق الرذيلة فرارا من تعلق ﴿للزكاة﴾ بقوله: ﴿فاعلون﴾.

وفي التعبير بقوله: ﴿للزكاة فاعلون﴾ دون أن يقول للزكاة مؤدون أو ما يؤدي معناه دلالة على عنايتهم بها كقول القائل: إني شارب لمن أمره بشرب الماء فإذا أراد أن يفيد عنايته به قال: إني فاعل.

ومن حق الإيمان بالله أن يدعو إلى هذا الإنفاق المالي فإن الإنسان لا ينال كمال سعادته إلا في مجتمع سعيد ينال فيه كل ذي حق حقه ولا سعادة لمجتمع إلا مع تقارب الطبقات في التمتع من مزايا الحياة وأمتعة العيش، والإنفاق المالي على الفقراء والمساكين من أقوى ما يدرك به هذه البغية.

قوله تعالى: ﴿والذين هم لفروجهم حافظون﴾ إلى آخر الآيات الثلاث، الفروج جمع فرج وهو - على ما قيل - ما يسوء ذكره من الرجال والنساء، وحفظ الفروج كناية عن الاجتناب عن المواقعة سواء كانت زنا أو لواطا أو بإتيان البهائم وغير ذلك.

وقوله: ﴿إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين﴾ استثناء من حفظ الفروج، والأزواج الحلائل من النساء، وما ملكت أيمانهم الجواري المملوكة فإنهم غير ملومين في مس الأزواج الحلائل والجواري المملوكة.

وقوله: ﴿فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون﴾ تفريع على ما تقدم من الاستثناء والمستثنى منه أي إذا كان مقتضى الإيمان حفظ الفروج مطلقا إلا عن طائفتين من النساء هما الأزواج وما ملكت أيمانهم، فمن طلب وراء ذلك أي مس غير الطائفتين فأولئك هم المتجاوزون عن الحد الذي حده الله تعالى لهم.

وقد تقدم كلام ما فيما يستعقبه الزنا من فساد النوع في ذيل قوله: ﴿ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا﴾ الإسراء: 32 في الجزء الثالث عشر من الكتاب.

قوله تعالى: ﴿والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون﴾ الأمانة مصدر في الأصل وربما أريد به ما اؤتمن عليه من مال ونحوه، وهو المراد في الآية، ولعل جمعه للدلالة على أقسام الأمانات الدائرة بين الناس، وربما قيل بعموم الأمانات لكل تكليف إلهي اؤتمن عليه الإنسان وما اؤتمن عليه من أعضائه وجوارحه وقواه أن يستعملها فيما فيه رضا الله وما ائتمنه عليه الناس من الأموال وغيرها، ولا يخلو من بعد بالنظر إلى ظاهر اللفظ وإن كان صحيحا من جهة تحليل المعنى وتعميمه.

والعهد بحسب عرف الشرع ما التزم به بصيغة العهد شقيق النذر واليمين، ويمكن أن يراد به مطلق التكليف المتوجه إلى المؤمن فإن الله سبحانه سمى إيمان المؤمن به عهدا وميثاقا منه على ما توجه إليه من تكاليفه تعالى بقوله: ﴿أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم﴾ البقرة: 100، وقوله: ﴿ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار﴾ الأحزاب: 15، ولعل إرادة هذا المعنى هو السبب في إفراد العهد لأن جميع التكاليف يجمعها عهد واحد بإيمان واحد.

والرعاية الحفظ، وقد قيل: إن أصل الرعي حفظ الحيوان إما بغذائه الحافظ لحياته أو بذب العدو عنه ثم استعمل في الحفظ مطلقا.

ولعل العكس أقرب إلى الاعتبار.

وبالجملة الآية تصف المؤمنين بحفظ الأمانات من أن تخان والعهد من أن ينقض، ومن حق الإيمان أن يدعو إلى ذلك فإن في إيمانه معنى السكون والاستقرار والاطمئنان فإذا آمن أحد في أمانة أودعها عنده أو عهد عاهده وقطع على ذلك استقر عليه ولم يتزلزل بخيانة أو نقض.

قوله تعالى: ﴿والذين هم على صلواتهم يحافظون﴾ جمع الصلاة وتعليق المحافظة عليه دليل على أن المراد المحافظة على العدد فهم يحافظون على أن لا يفوتهم شيء من الصلوات المفروضة ويراقبونها دائما ومن حق إيمانهم أن يدعوهم إلى ذلك.

ولذلك جمعت الصلاة هاهنا وأفردت في قوله: ﴿في صلاتهم خاشعون﴾ لأن الخشوع في جنس الصلاة على حد سواء فلا موجب لجمعها.

قوله تعالى: ﴿أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون﴾ الفردوس أعلى الجنان، وقد تقدم معناها وشيء من وصفها في ذيل قوله تعالى: ﴿كانت لهم جنات الفردوس نزلا﴾ الكهف: 107.

وقوله: ﴿الذين يرثون﴾ إلخ، بيان لقوله: ﴿الوارثون﴾ ووراثتهم الفردوس هو بقاؤها لهم بعد ما كانت في معرض أن يشاركهم فيها غيرهم أو يملكها دونهم لكنهم زالوا عنها فانتقلت إليهم، وقد ورد في الروايات أن لكل إنسان منزلا في الجنة ومنزلا في النار فإذا مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله، وستوافيك إن شاء الله في بحث روائي.

بحث روائي:

في تفسير القمي، وقوله: ﴿الذين هم في صلاتهم خاشعون﴾ قال: غضك بصرك في صلاتك وإقبالك عليها.

أقول: وقد تقدم أنه من لوازم الخشوع فهو تعريف بلازم المعنى، ونظيره ما رواه في الدر المنثور، عن عدة من أصحاب الجوامع عن علي (عليه السلام): أن لا تلتفت في صلاتك.

وفي الكافي، بإسناده عن مسمع بن عبد الملك عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما زاد خشوع الجسد على ما في القلب فهو عندنا نفاق.

أقول: وروي في الدر المنثور، عن عدة من أصحاب الجوامع عن أبي الدرداء عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) ما في معناه ولفظه: استعيذوا بالله من خشوع النفاق.

قيل له: وما خشوع النفاق؟ قال: أن ترى الجسد خاشعا والقلب ليس بخاشع وفي المجمع، في الآية روي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رأى رجلا يعبث بلحيته في صلاته فقال: أما إنه لو خشع قلبه لخشعت جوارحه.

وفيه، روي: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يرفع بصره إلى السماء في صلاته فلما نزلت الآية طأطأ رأسه ورمى ببصره إلى الأرض.

أقول: ورواهما في الدر المنثور، عن جمع من أصحاب الكتب عنه (صلى الله عليه وآله وسلم).

وفي معنى الخشوع روايات أخر كثيرة.

وفي إرشاد المفيد، في كلام لأمير المؤمنين (عليه السلام): كل قول ليس فيه لله ذكر فهو لغو.

وفي المجمع، في قوله: ﴿والذين هم عن اللغو معرضون﴾ وروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أن يتقول الرجل عليك بالباطل أو يأتيك بما ليس فيك فتعرض عنه لله وفي رواية أخرى أنه الغناء والملاهي.

أقول: ما في روايتي المجمع، من قبيل ذكر بعض المصاديق وما في رواية الإرشاد، من التعميم بالتحليل وفي الخصال، عن جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): تحل الفروج بثلاثة وجوه: نكاح بميراث ونكاح بلا ميراث ونكاح بملك يمين وفي الكافي، بإسناده عن إسحاق بن أبي سارة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عنها يعني المتعة فقال لي: حلال فلا تتزوج إلا عفيفة إن الله عز وجل يقول: ﴿والذين هم لفروجهم حافظون﴾ فلا تضع فرجك حيث لا تأمن على درهمك.

أقول: وفيه تعميم لمعنى حفظ الفروج بحيث يشمل ترك نكاح غير العفيفة.

والروايتان كما ترى تعدان المتعة نكاحا وازدواجا والأمر على ذلك فيما لا يحصى من روايات أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وعلى ذلك مبنى فقههم.

والأمر على ذلك في عرف القرآن وفي عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وذلك أنه ليس وراء ملك اليمين إلا نوعان نكاح على الزوجية وزنا وقد حرم الله الزنا وأكد في تحريمه في آيات كثيرة في السور المكية والمدنية كسورتي الفرقان والإسراء وهما مكيتان وسورتي النور والممتحنة وهما مدنيتان.

ثم سماه سفاحا وحرمه في سورتي النساء والمائدة ثم سماه فحشاء ومنع عنه وذمه في سور الأعراف والعنكبوت ويوسف وهي مكية وفي سور النحل والبقرة والنور وهي أو الأخيرتان مدنيتان.

ثم سماه فاحشة ونهى عنها في سور الأعراف والأنعام والإسراء والنمل والعنكبوت والشورى والنجم وهي مكية وفي سور النساء والنور والأحزاب والطلاق وهي مدنية.

ونهى عنه أيضا بالتكنية في آية المؤمنون: ﴿فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون﴾ ونظيره في سورة المعارج وكان من المعروف في أول البعثة من أمر الإسلام أنه يحرم الخمر والزنا.

فلو لم يكن التمتع ازدواجا والمتمتع بها زوجا مشمولة لقوله: ﴿إلا على أزواجهم﴾ لكان زنا ومن المعلوم بالضرورة أن التمتع كان معمولا به في مكة قبل الهجرة في الجملة وكذا في المدينة بعد الهجرة في الجملة ولازم ذلك أن يكون زنا أباحه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لضرورة اقتضته لو أغمضنا عن قوله تعالى: ﴿فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن﴾ النساء: 24 ولازم ذلك أن تكون آية سورة المؤمنون ﴿إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم﴾ إلى قوله ﴿العادون﴾ ناسخة لإباحة التمتع السابقة ثم يكون تحليل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو تحليل آية سورة النساء ذلك ناسخا لجميع الآيات المكية الناهية عن الزنا وبعض المدنيات مما نزلت قبل التحليل، وخاصة على قول من يقول: إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حلله ثم حرمه مرة بعد مرة فإن لازمه نسخ الآيات الناهية عن الزنا ثم إحكامها ثم نسخها ثم إحكامها مرات ولم يقل أحد من المسلمين بكونها منسوخة فضلا عن النسخ بعد النسخ وهل هذا إلا لعب بكلام الله تجل عنه ساحة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

على أن الآيات الناهية عن الزنا آبية بسياقها وما فيه من التعليل آب عن النسخ وكيف يعقل أن يسمي الله سبحانه فعلا من الأفعال فاحشة فحشاء وسبيل سوء ويخبر أن من يفعله يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا ثم يجيز ارتكابه ثم يمنع ثم يجيز.

على أن أصل نسخ القرآن بالحديث لا معنى له.

على أن عدة من المرتكبين لنكاح المتعة في عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كانوا من معاريف الصحابة وهم على ما هم عليه من حفظ ظواهر الأحكام فكيف استجازوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الفحشاء؟ وكيف لم يستخبثوه؟ وكيف رضوا بالعار والشنار وقد تمتع زبير من أسماء بنت أبي بكر فولدت له عبد الله بن زبير وأخاه عروة بن زبير وورثاه بعد قتله وهم جميعا من الصحابة.

على أن الروايات الدالة على نهي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن المتعة متهافتة، وما تسلموا عليه من قول عمر بن الخطاب حينما نهى أيام خلافته عن المتعة وما ورد عنه حول القصة يكذب هذه الروايات ويدفع حديث النسخ.

وقد مر شطر من الكلام في هذا المعنى في تفسير قوله تعالى: ﴿وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة﴾ النساء: 24.

ومن لطيف الدلالة على كون المتعة نكاحا غير سفاح اقتران جملة ﴿فما استمتعتم﴾ إلخ بقوله قبله متصلا به ﴿محصنين غير مسافحين﴾.

فقد تبين بما ذكرنا أن المتعة في الشرع وفي عرف القرآن نكاح وزوجية لا زنا وسفاح سواء قلنا بكونها منسوخة بعد بكتاب أو سنة كما عليه معظم أهل السنة أو لم نقل كما عليه الشيعة تبعا لأئمة أهل البيت (عليهم السلام).

فالنكاح ينقسم إلى نوعين: نكاح دائم له أحكامه من العدد والإرث والإحصان والنفقة والفراش والعدة وغير ذلك.

ونكاح موقت مبني على التسهيل له من أحكام النكاح الدائم اختصاص المرأة بالرجل ولحقوق الأولاد والعدة.

وبذلك يظهر فساد ما ذكره جمع منهم أن المتعة ليست بزوجية ولو كانت زوجية لجرت فيها أحكامها من العدد والميراث والنفقة والإحصان وغير ذلك وذلك أن الزوجية تتقسم إلى دائمة لها أحكامها وموقتة مبنية على التسهيل يجري فيها بعض تلك الأحكام كما تقدم.

والإشكال بأن تشريع الازدواج إنما هو للتناسل بدوام الزوجية والغرض من المتعة مجرد دفع الشهوة بصب الماء وسفحه فهي سفاح وليست بنكاح.

فيه أن التوسل إلى النسل حكمة لا علة يدور مدارها التشريع وإلا لم يجز نكاح العاقر واليائسة والصبي والصبية.

على أن المتعة لا تنافي الاستيلاد ومن الشاهد على ذلك عبد الله وعروة ابنا زبير أولدا له من أسماء بنت أبي بكر من المتعة.

وكذا الإشكال بأن المتعة تجعل المرأة ملعبة يلعب بها الرجل كالكرة الدائرة بين الصوالج ذكره صاحب المنار وغيره.

فيه أن هذا يرد أول ما يرد على الشارع فإن من الضروري أن المتعة كانت دائرة في صدر الإسلام برهة من الزمان فما أجاب به الشارع كان هو جوابنا.

وثانيا أن جميع ما يقصد بالمتعة من لذة أو دفع شهوة أو استيلاد أو استئناس أو غير ذلك مشتركة بين الرجل والمرأة فلا معنى لجعلها ملعبة له دون العكس إلا أن يكابر مكابر.

وللكلام تتمة ستوافيك في بحث مستقل إن شاء الله تعالى.

وفي الدر المنثور، أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن أبي مليكة قال: سألت عائشة عن متعة النساء قالت: بيني وبينكم كتاب الله وقرأت ﴿والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم - أو ما ملكت أيمانهم﴾ فمن ابتغى وراء ما زوجه الله أو ملكه فقد عدا.

أقول: وروي نظيره عن القاسم بن محمد، وقد تبين بما قدمنا أن المتمتع بها زوج وأن الآية تجيزها على خلاف ما في الرواية.

وفي تفسير القمي، ﴿فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون﴾ قال: من جاوز ذلك.

وفيه، ﴿والذين هم على صلواتهم يحافظون﴾ قال: على أوقاتها وحدودها.

وفي الكافي، بإسناده عن الفضيل بن يسار قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: ﴿والذين هم على صلواتهم يحافظون﴾ قال هي الفريضة قلت: ﴿والذين هم على صلاتهم دائمون﴾ قال: هي النافلة.

وفي المجمع، روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: ما منكم من أحد إلا له منزلان: منزل في الجنة ومنزل في النار فإن مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله: أقول: وروى مثله القمي في تفسيره بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث مفصل وتقدم نظيره في قوله تعالى: ﴿وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر﴾ مريم: 39 في الجزء السابق من الكتاب.

بحث حقوقي اجتماعي لا ريب أن الذي يدعو الإنسان ويبعثه نحو الاستنان بالسنن الاجتماعية أو وضع القوانين الجارية في المجتمع البشري تنبهه لحوائج الحياة وتوسله بوضعها والعمل بها إلى رفعها.

وكلما كانت الحاجة أبسط وإلى الطبيعة الساذجة أقرب كان التوسل إلى رفعها أوجب والإهمال في دفعها أدهى وأضر فما الحاجة إلى أصل التغذي والحياة تدور معه كالحاجة إلى التنعم بألوان الطعام وأنواع الفواكه وهكذا.

ومن الحوائج الأولية الإنسانية حاجة كل من صنفيه: الذكور والإناث إلى الآخرين بالنكاح والمباشرة، ولا ريب أن المطلوب بالنظر إلى الصنع والإيجاد بذلك بقاء النسل وقد جهز الإنسان بغريزة شهوة النكاح للتوسل به إلى ذلك.

ولذلك نجد المجتمعات الإنسانية التي نشاهدها أو نسمع بأخبارها مستنة بسنة الازدواج وتكوين البيت، وعلى ذلك كانت منذ أقدم عهودها فلم يضمن بقاء النسل إلا الازدواج.

ولا يدفع هذا الذي ذكرنا أن المدنية الحديثة وضعت سنة الازدواج على أصل الاشتراك في الحياة دون أصل التناسل أو إرضاء الغريزة فإن هذا البناء على كونه بناء محدثا غير طبيعي لم يبعث حتى الآن شيئا من المجتمعات المستنة بها على شيوع هذه الشركة الحيوية بين الرجال أنفسهم أو النساء أنفسهن وليس إلا لمباينته ما تبعث إليه الطبيعة الإنسانية.

وبالجملة الازدواج سنة طبيعية لم تزل ولا تزال دائرة في المجتمعات البشرية ولا يزاحم هذه السنة الطبيعية في مسيرها إلا عمل الزنا الذي هو أقوى مانع من تكون البيوت وتحمل كلفة الازدواج وحمل أثقاله بانصراف غريزة الشهوة إليه المستلزم لانهدام البيت وانقطاع النسل.

ولذا كانت المجتمعات الدينية أو الطبيعة الساذجة تستشنعها وتعدها فاحشة منكرة وتتوسل إلى المنع عنه بأي وسيلة ممكنة، والمجتمعات المتمدنة الحديثة وإن لم تسد سبيله بالجملة ولم تمنع عنه ذلك المنع لكنها مع ذلك لا تستحسنه لما ترى من مضادته العميقة لتكون البيوت وازدياد النفوس وبقاء النسل، وتحتال إلى تقليله بلطائف الحيل وتروج سنة الازدواج وتدعو إلى تكثير الأولاد بجعل الجوائز وترفيع الدرجات وغير ذلك من المشوقات.

غير أنه على الرغم من كون سنة الازدواج الدائم سنة قانونية متبعة في جميع المجتمعات الإنسانية في العالم وتحريض الدول عليها واحتيالها لتضعيف أمر الزنا وصرف الناس لا سيما الشبان والفتيات عنه لا يزال يوجد في جميع البلاد صغيرتها وكبيرتها معاهد لهذا العمل الهادم لبنية المجتمع علنية أو سرية على اختلاف السنن الجارية فيها.

وهذا أوضح حجة على أن سنة الازدواج الدائم لا تفي برفع هذه الحاجة الحيوية للنوع، وأن الإنسانية بعد في حاجة إلى تتميم نقيصتها هذه، وأن من الواجب على من بيده زمام التقنين أن يتوسع في أمر الازدواج.

ولذلك شفع شارع الإسلام سنة الازدواج الدائم بسنة الازدواج الموقت تسهيلا للأمر وشرط فيه شروطا ترتفع بها محاذير الزنا من اختلاط المياه واختلال الأنساب والمواريث وانهدام البيوت وانقطاع النسل وعدم لحوق الأولاد وهي اختصاص المرأة بالرجل والعدة إذا افترقا ولحوق الأولاد ثم لها ما اشترطت على زوجها وليس فيه على الرجل شيء من كلفة الازدواج الدائم ومشقته.

ولعمر الحق إنها لمن مفاخر الإسلام في شريعته السهلة السمحة نظير الطلاق وتعدد الزوجات وكثير من قوانينه ولكن ما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يسمعون يقول القائل: لئن أزني أحب إلي من أن أتمتع أو أمتع.