الآيات 7 - 12

الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ﴿7﴾ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿8﴾ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴿9﴾ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ ﴿10﴾ قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ ﴿11﴾ ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ يِّ الْكَبِيرِ ﴿12﴾

بيان:

لما ذكر سبحانه تكذيب الذين كفروا وجدالهم في آيات الله بالباطل ولوح إلى أنهم غير معجزين ولا مغفول عنهم بل معنيون في هذه الدعوة والعناية فيهم أن يتميزوا فيحق عليهم كلمة العذاب فيعاقبوا عاد إلى بدء الكلام الذي أشار فيه إلى أن تنزيل الكتاب وإقامة الدعوة لمغفرة جمع وقبول توبتهم وعقاب آخرين فذكر أن الناس قبال هذه الدعوة قبيلان: قبيل تستغفر لهم حملة العرش والحافون به من الملائكة وهم التائبون إلى الله المتبعون سبيله ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم، وقبيل ممقوتون معذبون وهم الكافرون بالتوحيد.

قوله تعالى: ﴿الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به﴾ إلى آخر الآية.

لم يعرف سبحانه هؤلاء الحاملين للعرش من هم؟ ولا في كلامه تصريح بأنهم من الملائكة لكن يشعر عطف قوله: ﴿ومن حوله عليهم﴾ وقد قال فيهم: ﴿وترى الملائكة حافين من حول العرش﴾ الزمر: 75 أن حملة العرش أيضا من الملائكة.

وقد تقدم تفصيل الكلام في معنى العرش في الجزء الثامن من الكتاب.

فقوله: ﴿الذين يحملون العرش ومن حوله﴾ أي الملائكة الذين يحملون العرش الذي منه تظهر الأوامر وتصدر الأحكام الإلهية التي بها يدبر العالم، والذين حول العرش من الملائكة وهم المقربون منهم.

وقوله: ﴿يسبحون بحمد ربهم﴾ أي ينزهون الله سبحانه والحال أن تنزيههم له يصاحب ثناؤهم لربهم فهم ينزهونه تعالى عن كل ما لا يليق بساحة قدسه ومن ذلك وجود الشريك في ملكه ويثنون عليه على فعله وتدبيره.

وقوله: ﴿ويؤمنون به﴾ إيمانهم به - والحال هذه الحال عرش الملك والتدبير لله وهم حاملوه أو مطيفون حوله لتلقي الأوامر وينزهونه عن كل نقص ويحمدونه على أفعاله - معناه الإيمان بوحدانيته في ربوبيته وألوهيته ففي ذكر العرش ونسبة التنزيه والتحميد والإيمان إلى الملائكة رد للمشركين حيث يعدون الملائكة المقربين شركاء لله في ربوبيته وألوهيته ويتخذونهم أربابا آلهة يعبدونهم.

وقوله: ﴿ويستغفرون للذين آمنوا﴾ أي يسألون الله سبحانه أن يغفر للذين آمنوا.

وقوله: ﴿ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما﴾ إلخ حكاية متن استغفارهم وقد بدءوا فيه بالثناء عليه تعالى بسعة الرحمة والعلم، وإنما ذكروا الرحمة وشفعوها بالعلم لأنه برحمته ينعم على كل محتاج فالرحمة مبدأ إفاضة كل نعمة وبعلمه يعلم حاجة كل محتاج مستعد للرحمة.

وقوله: ﴿فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم﴾ تفريع على ما أثنوا به من سعة الرحمة والعلم، والمراد بالسبيل التي اتبعوها هو ما شرع لهم من الدين وهو الإسلام واتباعهم له هو تطبيق عملهم عليه فالمراد بتوبتهم رجوعهم إليه تعالى بالإيمان والمعنى فاغفر للذين رجعوا إليك بالإيمان بوحدانيتك وسلوك سبيلك الذي هو الإسلام وقهم عذاب الجحيم وهو غاية المغفرة وغرضها.

قوله تعالى: ﴿ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم﴾ إلى آخر الآية تكرار النداء بلفظة ربنا لمزيد الاستعطاف والمراد بالوعد وعده تعالى لهم بلسان رسله وفي كتبه.

وقوله: ﴿ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم﴾ عطف على موضع الضمير في قوله: ﴿وأدخلهم﴾ والمراد بالصلوح صلاحية دخول الجنة، والمعنى وأدخل من صلح لدخول الجنة من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم جنات عدن.

ثم من المعلوم من سياق الآيات أن استغفارهم لعامة المؤمنين، ومن المعلوم أيضا أنهم قسموهم قسمين اثنين قسموهم إلى الذين تابوا واتبعوا سبيل الله وقد وعدهم الله جنات عدن، وإلى من صلح وقد جعلوا الطائفة الأولى متبوعين والثانية تابعين.

ويظهر منه أن الطائفة الأولى هم الكاملون في الإيمان والعمل على ما هو مقتضى حقيقة معنى قولهم: ﴿الذين تابوا واتبعوا سبيلك﴾ فذكروهم وسألوه أن يغفر لهم وينجز لهم ما وعدهم من جنات عدن، والطائفة الثانية دون هؤلاء في المنزلة ممن لم يستكمل الإيمان والعمل من ناقص الإيمان ومستضعف وسيىء العمل من منسوبي الطائفة الأولى فذكروهم وسألوه تعالى أن يلحقهم بالطائفة الأولى الكاملين في جناتهم ويقيهم السيئات.

فالآية في معنى قوله تعالى: ﴿والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء﴾ الطور: 21 غير أن الآية التي نحن فيها أوسع وأشمل لشمولها الآباء والأزواج بخلاف آية سورة الطور، والمأخوذ فيها الصلوح وهو أعم من الإيمان المأخوذ في آية الطور.

وقوله: ﴿إنك أنت العزيز الحكيم﴾ تعليل لقولهم: ﴿فاغفر للذين تابوا﴾ إلى آخر مسألتهم، وكان الذي يقتضيه الظاهر أن يقال: إنك أنت الغفور الرحيم لكنه عدل إلى ذكر الوصفين: العزيز الحكيم لأنه وقع في مفتتح مسألتهم الثناء عليه تعالى بقولهم: ﴿ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما﴾.

ولازم سعة الرحمة وهي عموم الإعطاء أن له أن يعطي ما يشاء لمن يشاء ويمنع ما يشاء ممن يشاء وهذا معنى العزة التي هي القدرة على الإعطاء والمنع، ولازم سعة العلم لكل شيء أن ينفذ العلم في جميع أقطار الفعل فلا يداخل الجهل شيئا منها ولازمه إتقان الفعل وهو الحكمة.

فقوله: ﴿إنك أنت العزيز الحكيم﴾ في معنى الاستشفاع بسعة رحمته وسعة علمه تعالى المذكورتين في مفتتح المسألة تمهيدا وتوطئة لذكر الحاجة وهي المغفرة والجنة.

قوله تعالى: ﴿وقهم السيئات ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته﴾ إلخ ظاهر السياق أن الضمير في ﴿قهم﴾ للذين تابوا ومن صلح جميعا.

والمراد بالسيئات - على ما قيل - تبعات المعاصي وهي جزاؤها وسميت التبعات سيئات لأن جزاء السيىء سيىء قال تعالى: ﴿وجزاء سيئة سيئة مثلها﴾ الشورى: 40.

وقيل: المراد بالسيئات المعاصي والذنوب نفسها والكلام على تقدير مضاف والتقدير وقهم جزاء السيئات أو عذاب السيئات.

والظاهر أن الآية من الآيات الدالة على أن الجزاء بنفس الأعمال خيرها وشرها، وقد تكرر في كلامه تعالى أمثال قوله: ﴿إنما تجزون ما كنتم تعملون﴾ التحريم: 7.

وكيف كان فالمراد بالسيئات التي سألوا وقايتهم عنها هي الأهوال والشدائد التي تواجههم يوم القيامة غير عذاب الجحيم فلا تكرار في قوليهم: ﴿وقهم عذاب الجحيم﴾ ﴿وقهم السيئات﴾.

وقيل: المراد بالسيئات نفس المعاصي التي في الدنيا، وقولهم: ﴿يومئذ﴾ إشارة إلى الدنيا، والمعنى واحفظهم من اقتراف المعاصي وارتكابها في الدنيا بتوفيقك.

وفيه أن السياق يؤيد كون المراد بيومئذ يوم القيامة كما يشهد به قولهم: ﴿وقهم عذاب الجحيم﴾ وقولهم: ﴿وأدخلهم جنات عدن﴾ إلخ فالحق أن المراد بالسيئات ما يظهر للناس يوم القيامة من الأهوال والشدائد.

ويظهر من هذه الآيات المشتملة على دعاء الملائكة ومسألتهم: أولا: أن من الأدب في الدعاء أن يبدأ بحمده والثناء عليه تعالى ثم يذكر الحاجة ثم يستشفع بأسمائه الحسنى المناسبة له.

وثانيا: أن سؤال المغفرة قبل سؤال الجنة وقد كثر ذكر المغفرة قبل الجنة في كلامه تعالى إذا ذكرا معا، وهو الموافق للاعتبار فإن حصول استعداد أي نعمة كانت بزوال المانع قبل حصول نفس النعمة.

وذكر بعضهم أن في قوله: ﴿فاغفر للذين تابوا﴾ الآية دلالة على أن إسقاط العقاب عند التوبة تفضل من الله تعالى إذ لو كان واجبا لكان لا يحتاج فيه إلى مسألتهم بل كان يفعله الله سبحانه لا محالة.

وفيه أن وجوب صدور الفعل عنه تعالى لا ينافي صحة مسألته وطلبه منه تعالى كما يشهد به قولهم بعد الاستغفار: ﴿ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم﴾ فقد سألوا لهم الجنة مع اعترافهم بأن الله وعدهم إياها ووعده تعالى واجب الإنجاز فإنه لا يخلف الميعاد، وأصرح من هذه الآية قوله يحكي عن المؤمنين: ﴿ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد﴾ آل عمران: 194.

وقبول التوبة مما أوجبه الله تعالى على نفسه وجعله حقا للتائبين عليه قال تعالى: ﴿إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم﴾ النساء: - 17 فطلب كل حق أوجبه الله تعالى على نفسه منه كسؤال المغفرة للتائب هو في الحقيقة رجوع إليه لاستنجاز ما وعده وإظهار اشتياق للفوز بكرامته.

وكذا لا يستلزم التفضل منه تعالى كون الفعل جائز الصدور غير واجبة فكل عطية من عطاياه تفضل سواء كانت واجبة الصدور أم لم تكن إذ لو كان فعل من أفعاله واجب الصدور عنه لم يكن إيجابه عليه بتأثير من غيره فيه وقهره عليه إذ هو المؤثر في كل شيء لا يؤثر فيه غيره بل كان ذلك بإيجاب منه تعالى على نفسه ويؤول معناه إلى قضائه تعالى فعل شيء من الأفعال وإفاضة عطية من العطايا قضاء حتم فيكون سبحانه إنما يفعله بمشية من نفسه منزها عن إلزام الغير إياه عليه متفضلا به فالفعل تفضل منه وإن كان واجب الصدور، وأما لو لم يكن الفعل واجب الصدور فكونه تفضلا أوضح.

قوله تعالى: ﴿إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون﴾ المقت أشد البغض.

لما ذكر المؤمنين ببعض ما لهم من جهة إيمانهم رجع إلى ذكر الكافرين ببعض ما عليهم من جهة كفرهم.

وظاهر الآية والآية التالية أن هذا النداء المذكور فيها إنما ينادون به في الآخرة بعد دخول النار حين يذوقون العذاب لكفرهم فيظهر لهم أن كفرهم في الدنيا إذ كانوا يدعون من قبل الأنبياء إلى الإيمان كان مقتا وشدة بغض منهم لأنفسهم حيث أوردوها بذلك مورد الهلاك الدائم.

وينادون من جانب الله سبحانه فيقال لهم: أقسم لمقت الله وشدة بغضه لكم أكبر من مقتكم أنفسكم وشدة بغضكم لها إذ تدعون - حكاية حال ماضية - إلى الإيمان من قبل الأنبياء فتكفرون.

قوله تعالى: ﴿قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل﴾ سياق الآية وما قبلها يشعر بأنهم يقولون هذا القول بعد استماع النداء السابق، وإنما يقولونه وهم في النار بدليل قولهم: ﴿فهل إلى خروج من سبيل﴾.

وتقديم هذا الاعتراف منهم نوع تسبيب وتوسل إلى التخلص من العذاب ولات حين مناص، وذلك أنهم كانوا - وهم في الدنيا - في ريب من البعث والرجوع إلى الله فأنكروه ونسوا يوم الحساب وكان نسيان ذلك سبب استرسالهم في الذنوب وذهابهم لوجوههم في المعاصي ونسيان يوم الحساب مفتاح كل معصية وضلال قال تعالى: ﴿إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب﴾ ص: 26.

ثم لما أماتهم الله إماتة بعد إماتة وأحياهم إحياءة بعد إحياءة زال ارتيابهم في أمر البعث والرجوع إلى الله بما عاينوا من البقاء بعد الموت والحياة بعد الحياة وقد كانوا يرون أن الموت فناء، ويقولون إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين.

وبالجملة زال عنهم الارتياب بحصول اليقين وبقيت الذنوب والمعاصي ولذلك توسلوا إلى التخلص من العذاب بالاعتراف فتارة اعترفوا بحصول اليقين كما حكاه الله عنهم في قوله: ﴿ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون﴾ الم السجدة: 12، وتارة اعترفوا بذنوبهم كما في الآية المبحوث عنها وقد كانوا يرون أنهم أحرار مستقلون في إرادتهم وأفعالهم لهم أن يشاءوا ما شاءوا وأن يفعلوا ما فعلوا ولا حساب ولا ذنب.

ومن ذلك يظهر وجه ترتب قولهم: ﴿فاعترفنا بذنوبنا﴾ على قولهم: ﴿أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين﴾ فالاعتراف في الحقيقة مترتب على حصول اليقين بالمعاد الموجب لحصول العلم بكون انحرافاتهم عن سبيل الله ضلالات وذنوبا.

والمراد بقولهم: ﴿أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين﴾ - كما قيل - الإماتة عن الحياة الدنيا والإحياء للبرزخ ثم الإماتة عن البرزخ والإحياء للحساب يوم القيامة فالآية تشير إلى الإماتة بعد الحياة الدنيا والإماتة بعد الحياة البرزخية وإلى الإحياء في البرزخ والإحياء ليوم القيامة ولو لا الحياة البرزخية لم تتحقق الإماتة الثانية لأن كلا من الإماتة والإحياء يتوقف تحققه على سبق خلافه.

ولم يتعرضوا للحياة الدنيا ولم يقولوا: وأحييتنا ثلاثا وإن كانت إحياء لكونها واقعة بعد الموت الذي هو حال عدم ولوج الروح لأن مرادهم ذكر الإحياء الذي هو سبب الإيقان بالمعاد وهو الإحياء في البرزخ ثم في القيامة وأما الحياة الدنيوية فإنها وإن كانت إحياء لكنها لا توجب بنفسها يقينا بالمعاد فقد كانوا مرتابين في المعاد وهم أحياء في الدنيا.

وبما تقدم من البيان يظهر فساد ما اعترض عليه بأنه لو كان المراد بالإحياءتين ما كان في البرزخ وفي الآخرة لكان من الواجب أن يقال: ﴿أمتنا اثنتين وأحييتنا ثلاثا﴾ إذ ليس المراد إلا ذكر ما مر عليهم من الإماتة والإحياءة وذلك إماتتان اثنتان وإحياءات ثلاث.

والجواب أنه ليس المراد هو مجرد ذكر الإماتة والإحياء اللتين مرتا عليهم كيفما كانتا بل ذكر ما كان منهما مورثا لليقين بالمعاد، وليس الإحياء الدنيوي على هذه الصفة.

وقيل: المراد بالإماتة الأولى حال النطفة قبل ولوج الروح، وبالإحياءة الأولى ما هو حال الإنسان بعد ولوجها، وبالإماتة الثانية إماتته في الدنيا، وبالإحياءة الثانية إحياءته بالبعث للحساب يوم القيامة، والآية منطبقة على ما في قوله تعالى: ﴿كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم﴾ البقرة: 28.

ولما أحسوا بعدم صدق الإماتة على حال الإنسان قبل ولوج الروح في جسده لتوقفها على سبق الحياة تمحلوا في تصحيحه تمحلات عجيبة من أراد الوقوف عليها فليراجع الكشاف، وشروحه.

على أنك قد عرفت أن ذكرهم ما مر عليهم من الإماتة والإحياءة إشارة إلى أسباب حصول يقينهم بالمعاد والحياة الدنيا والموت الذي قبلها لا أثر لهما في ذلك.

وقيل: إن الحياة الأولى في الدنيا والثانية في القبر، والموتة الأولى في الدنيا والثانية في القبر ولا تعرض في الآية لحياة يوم البعث، ويرد عليه ما تقدم أن الحياة الدنيا لا تعلق لها بالغرض فلا موجب للتعرض لها، والحياة يوم القيامة بالخلاف من ذلك.

وقيل: المراد بالإحياءتين إحياء البعث والإحياء الذي قبله وإحياء البعث قسمان إحياء في القبر وإحياء عند البعث ولم يتعرض لهذا التقسيم في الآية فتشمل الآية الإحياءات الثلاث والإماتتين جميعا.

ويرد عليه ما يرد على الوجهين السابقين عليه مضافا إلى ما أورد عليه أن ذكر الإماتة الثانية التي في القبر دليل على أن التقسيم ملحوظ والمراد التعدد الشخصي لا النوعي.

وقيل: المراد إحياء النفوس في عالم الذر ثم الإماتة ثم الإحياء في الدنيا ثم الإماتة ثم الإحياء للبعث، ويرد عليه ما يرد على سوابقه.

وقيل: المراد بالتثنية التكرار كما في قوله تعالى: ﴿ثم ارجع البصر كرتين﴾ الملك: - 4، والمعنى أمتنا إماتة وأحييتنا إحياءة بعد إحياءة.

وأورد عليه أنه إنما يتم لو كان القول: أمتنا إماتتين وأحييتنا إحياءتين أو كرتين مثلا لكن المقول نفس العدد وهو لا يحتمل ذلك كما قيل في قوله: ﴿إلهين اثنين﴾ النحل: 51.

وقولهم: ﴿فهل إلى خروج من سبيل﴾ دعاء ومسألة في صورة الاستفهام، وفي تنكير الخروج والسبيل إشارة إلى رضاهم بأي نوع من الخروج كان من أي سبيل كانت فقد بلغ بهم الجهد واليوم يوم تقطعت بهم الأسباب فلا سبب يرجى أثره في تخلصهم من العذاب.

قوله تعالى: ﴿ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا﴾ إلخ خطاب تشديد للكفار موطنه يوم القيامة، ويحتمل أن يكون موطنه الدنيا خوطبوا بداعي زجرهم عن الشرك.

والإشارة بقوله: ﴿ذلكم﴾ إلى ما هم فيه من الشدة، وفي قوله: ﴿وإن يشرك به﴾ دلالة على الاستمرار، والكلام مسوق لبيان معاندتهم للحق ومعاداتهم لتوحيده تعالى فهم يكفرون بكل ما يلوح فيه أثر التوحيد ويؤمنون بكل ما فيه سمة الشرك فهم لا يراعون لله حقا ولا يحترمون له جانبا فالله سبحانه يحرم عليهم رحمته ولا يراعي في حكمه لهم جانبا.

وبهذا المعنى يتصل قوله: ﴿فالحكم لله العلي الكبير﴾ بأول الآية ويتفرع عليه كأنه قيل: فإذا قطعتم عن الله بالمرة وكفرتم بكل ما يريده وآمنتم بكل ما يكرهه فهو يقطع عنكم ويحكم فيكم بما يحكم من غير أي رعاية لحالكم.

فالآية في معنى قوله: ﴿نسوا الله فنسيهم﴾ التوبة: 67، والجملة أعني قوله: ﴿فالحكم لله العلي الكبير﴾ خاصة بحسب السياق وإن كانت عامة في نفسها، وفيها تهديد ويتأكد التهديد باختتامها بالاسمين العلي الكبير.