الآيات 1 - 6

حم ﴿1﴾ تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ يمِ ﴿2﴾ غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ﴿3﴾ مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ ﴿4﴾ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ﴿5﴾ وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ﴿6﴾

بيان:

تتكلم السورة في استكبار الكافرين ومجادلتهم بالباطل ليدحضوا به الحق الذي يدعون إليه ولذلك نراها تذكر جدالهم وتعود إليه عودة بعد عودة ﴿ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد﴾ ﴿الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا﴾ ﴿ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون﴾.

فتكسر سورة استكبارهم وجدالهم بذكر ما عاقب الله به الماضين من الأمم المكذبين وما أعد الله لهم من العذاب المهين بذكر طرف مما يجري عليهم في الآخرة.

وتدحض باطل أقاويلهم بوجوه من الحجج الناطقة بتوحده في الربوبية والألوهية وتأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالصبر وتعده والمؤمنين به بالنصر، وتأمرهم أن يؤذنهم أنه مسلم لربه غير تارك لعبادته فلييأسوا منه.

والسورة مكية كلها لاتصال آياتها وشهادة مضامينها بذلك، وما قيل فيه من الآيات إنه نزل بالمدينة لا يعبأ به وسيجيء الإشارة إليها إن شاء الله.

قوله تعالى ﴿حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم﴾ التنزيل مصدر بمعنى المفعول فقوله: ﴿تنزيل الكتاب﴾ من قبيل إضافة الصفة إلى موصوفها والتقدير هذا كتاب منزل من الله.

وتخصيص الوصفين: ﴿العزيز العليم﴾ بالذكر قيل: للإشارة إلى ما في القرآن من الإعجاز وأنواع العلوم التي يضيق عنها نطاق الأفهام، وقيل: هو من باب التفنن.

والوجه أن يقال: إن السورة لما كانت تتكلم حول جحد الجاحدين ومجادلتهم في آيات الله بالباطل جهلا وهم يحسبونه علما ويعتزون به كما حكى ذلك عنهم في خاتمة السورة بقوله: ﴿فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم﴾ وكما حكى عن فرعون قوله لقومه في موسى: ﴿إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد﴾ وقوله لهم: ﴿ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد﴾.

افتتح الكلام في السورة بما فيه إشارة إلى أن هذا الكتاب النازل عليهم تنزيل ممن هو عزيز على الإطلاق لا يغلبه غالب حتى يخاف على ما نزله من استعلائهم واستكبارهم بحسب أوهامهم، عليم على الإطلاق لا يدخل علمه جهل وضلال فلا يقاوم جدالهم بالباطل ما نزله من الحق وبينه بحججه الباهرة.

ويؤيد هذا الوجه ما في الآية التالية من قوله: ﴿غافر الذنب وقابل التوب﴾ إلخ على ما سنبين.

قوله تعالى: ﴿غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير﴾ الإتيان بصيغة اسم الفاعل في ﴿غافر الذنب وقابل التوب﴾ - لعله - للدلالة على الاستمرار التجددي فإن المغفرة وقبول التوب من صفاته الفعلية ولا يزال تعالى يغفر الذنب ثم يغفر ويقبل التوب ثم يقبل.

وإنما عطف قابل التوب على ما قبله دون ﴿شديد العقاب ذي الطول﴾ لأن غافر الذنب وقابل التوب مجموعهما كصفة واحدة متعلقة بالعباد المذنبين يغفر لهم تارة بتوبة وتارة بغيرها كالشفاعة.

والعقاب والمعاقبة المؤاخذة التي تكون في عاقبة الذنب قال الراغب: والعقب والعقبى يختصان بالثواب نحو خير ثوابا وخير عقبا، وقال تعالى: ﴿أولئك لهم عقبى الدار﴾ والعاقبة إطلاقها يختص بالثواب نحو والعاقبة للمتقين، وبالإضافة قد تستعمل في العقوبة نحو ثم كان عاقبة الذين أساءوا، وقوله: فكان عاقبتهما أنهما في النار يصح أن يكون ذلك استعارة من ضده، والعقوبة والمعاقبة والعقاب تختص بالعذاب.

فشديد العقاب كذي انتقام من أسماء الله الحسنى تحكي صفته تعالى في جانب العذاب كما يحكي الغفور والرحيم صفته تعالى في جانب الرحمة.

والطول - على ما في المجمع، - الإنعام الذي تطول مدته على صاحبه فذو الطول من أسمائه الحسنى في معنى المنعم لكنه أخص من المنعم لعدم شموله النعم القصار.

وذكر هذه الأسماء الأربعة: غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول بعد اسم العليم للإشارة إلى أن تنزيل هذا الكتاب المشتمل على دعوته الحقة المبني على العلم مبني على أساس ما تقتضيه مضامين هذه الأسماء الأربعة.

وذلك أن العالم الإنساني كما يتحد قبيلا واحدا في نيل الطول الإلهي والتنعم بنعمه المستمرة المتوالية مدى الحياة الدنيا ينقسم من حيث حياته الآخرة قسمين وينشعب إلى شعبتين: سعيد وشقي والله سبحانه عالم بتفاصيل خلقه وكيف لا يعلم وهو خالقها وفاعلها، ومقتضى كونه غافرا للذنب قابلا للتوب أن يغفر لمن استعد للمغفرة وأن يقبل توبة التائب إليه، ومقتضى كونه شديد العقاب أن يعاقب من استحق ذلك.

ومقتضى ذلك أن يهدي الناس إلى صراط السعادة كما قال: ﴿إن علينا للهدى وإن لنا للآخرة والأولى﴾ الليل: 13، وقال: ﴿وعلى الله قصد السبيل﴾ النحل: 9.

لينقسم الناس بذلك قسمين ويتميز عنده السعيد من الشقي والمهتدي من الضال فيرحم هذا ويعذب ذلك.

فتنزيل الكتاب من الله العزيز العليم مبني على علمه المحيط بخلقه أنهم في حاجة إلى دعوة يهتدي بها قوم ويضل بردها آخرون ليغفر لقوم ويعذب آخرين، وفي حاجة إليها لينتظم بها نظام معاشهم في الدنيا فينعموا بطوله ونعمته في الدنيا ثم في دار القرار.

فهذا شأن كتابه المنزل بعلمه الذي لا يشوبه جهل والمبني على الحق الذي لا يداخله باطل، وأين هو من تكذيب الذين لا يعلمون إلا ظاهرا من الحياة وجدالهم بالباطل ليدحضوا به الحق.

وعلى هذا الذي ذكرنا من العناية بالعلم يشهد ما سيذكره تعالى من دعاء الملائكة للمؤمنين بالمغفرة: ﴿ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك﴾ فتدبر فيه.

وقوله: ﴿لا إله إلا هو إليه المصير﴾ ذكر كلمة التوحيد للإشارة إلى وجوب عبادته وحده فلا تلغو الدعوة الدينية بتنزيل الكتاب، وذكر كون مصير الكل ورجوعهم إليه وهو البعث للإشارة إلى أنه هو السبب العمدة الداعي إلى الإيمان بالكتاب واتباعه فيما يدعو إليه لأن الاعتقاد بيوم الحساب هو الذي يستتبع الخوف والرجاء خوف العقاب ورجاء الثواب الداعيين إلى عبادة الله سبحانه.

قوله تعالى: ﴿ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد﴾ لما ذكر تنزيل الكتاب وأشار إلى الحجة الباهرة على حقيته، المستفادة من صفاته الكريمة المعدودة في الآيتين، الدالة على أنه منزل بعلمه الذي لا يشوبه جهل وبالحق الذي لا يدحضه باطل تعرض لحال الذين قابلوا حججه الحقة بباطل جدالهم فلوح إلى أن هؤلاء أهل العقاب وليسوا بفائتين ولا مغفولا عنهم فإنهم كما نزل الكتاب ليغفر الذنب ويقبل التوب كذلك نزله ليعاقب أهل العقاب فلا يسوأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جدالهم ولا يغرنه ما يشاهده من حالهم.

فقوله: ﴿ما يجادل في آيات الله﴾ لم يقل: ما يجادل فيه أي في القرآن ليدل على أن الجدال في الحق الذي تدل عليه الآيات بما هي آيات.

على أن طرف جدالهم هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو داع إلى الحق الذي تدل عليه الآيات فجدالهم لدفع الحق لا للدفاع عن الحق.

على أن الجدال في الآية التالية مقيدة بالباطل لإدحاض الحق.

فالمراد بالمجادلة في آيات الله هي المجادلة لإدحاضها ودفعها وهي المذمومة ولا تشمل الجدال لإثبات الحق والدفاع عنه كيف؟ وهو سبحانه يأمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك إذا كان جدالا بالتي هي أحسن قال تعالى: ﴿وجادلهم بالتي هي أحسن﴾ النحل: 125.

قوله: ﴿إلا الذين كفروا﴾ ظاهر السياق أنهم الذين رسخ الكفر في قلوبهم فلا يرجى زواله، وقد قيل: ﴿ما يجادل﴾ ولم يقل: لا يجادل، وكذا ظاهر قوله: ﴿فلا يغررك تقلبهم في البلاد﴾ أن المراد بهم الكفار المعاصرون للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وإن لم يكونوا من أهل مكة.

وتقلبهم في البلاد انتقالهم من طور من أطوار الحياة إلى طور آخر ومن نعمة إلى نعمة في سلامة وصحة وعافية، وتوجيه النهي عن الغرور إلى تقلبهم في البلاد كناية عن نهي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الاغترار بما يشاهده منهم أن يحسب أنهم أعجزوه سبحانه.

قوله تعالى: ﴿كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم﴾ إلخ في مقام الجواب عما يسبق إلى الوهم أنهم استكبروا وجادلوا في آيات الله فلم يكن بهم بأس وسبقوا في ذلك.

ومحصل الجواب: أن الأمم الماضين كقوم نوح والأحزاب من بعدهم كعاد وثمود وقوم لوط وغيرهم سبقوا هؤلاء إلى مثل صنيعهم من التكذيب والجدال بالباطل وهموا برسولهم ليأخذوه فحل بهم العقاب وكذلك قضي في حق الكفار العذاب فتوهم أن هؤلاء سبقوا الله إلى ما يريد توهم باطل.

فقوله: ﴿كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم﴾ دفع للدخل السابق ولذا جيء بالفصل، وقوله: ﴿وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه﴾ يقال: هم به أي قصده ويغلب فيه القصد بالسوء أي قصدوا رسولهم ليأخذوه بالقتل أو الإخراج أو غيرهما كما قصه الله تعالى في قصصهم.

وقوله: ﴿وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق﴾ الإدحاض الإزالة والإبطال وقوله: ﴿فأخذتهم﴾ أي عذبتهم، وفيه التفات من الغيبة إلى التكلم وحده والنكتة فيه الإشارة إلى أن أمرهم في هذا الطغيان والاستكبار إلى الله وحده لا يدخل بينه وبينهم أحد بنصرة أو شفاعة كما قال: ﴿فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد﴾ الفجر: 14.

وقوله: ﴿فكيف كان عقاب﴾ توجيه لذهن المخاطب إلى ما يعلمه من كيفية إهلاكهم وقطع دابرهم ليحضر شدة ما نزل بهم وقد قصه الله فيما قص من قصصهم.

قوله تعالى: ﴿وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار﴾ ظاهر السياق أن المشبه به هو ما في الآية السابقة من أخذهم وعقابهم، والمراد بالذين كفروا مطلق الكفار من الماضين، والمعنى كما أخذ الله المكذبين من الماضين بعذاب الدنيا كذلك حقت كلمته على مطلق الكافرين بعذاب الآخرة، والذين كفروا من قومك منهم.

وقيل: المراد بالذين كفروا كفار مكة، ولا يساعد عليه السياق والتشبيه لا يخلو عليه من اختلال.

وفي قوله: ﴿كلمة ربك﴾ ولم يقل: كلمتي تطييب لنفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتأييد له بالإشارة إلى أن الركن الذي يركن إليه هو الشديد القوي.