الآيات 20 - 37

هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ ﴿20﴾ أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ ﴿21﴾ وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴿22﴾ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴿23﴾ وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ﴿24﴾ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿25﴾ قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكَثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴿26﴾ وَلَلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرضِ وَيَومَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ ﴿27﴾ وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿28﴾ هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿29﴾ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ﴿30﴾ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ ﴿31﴾ وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ﴿32﴾ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون ﴿33﴾ وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ ﴿34﴾ ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ﴿35﴾ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿36﴾ وَلَهُ الْكِبْرِيَاء فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿37﴾

بيان:

لما أشار إلى جعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على شريعة من الأمر وهو تشريع الشريعة الإسلامية أشار في هذه الآيات إلى أنها بصائر للناس يبصرون بها ما يجب عليهم أن يسلكوه من سبيل الحياة الطيبة في الدنيا وتتلوها سعادة الحياة الآخرة، وهدى ورحمة لقوم يوقنون بآيات الله.

وأشار إلى أن الذي يدعو مجترحي السيئات أن يستنكفوا عن التشرع بالشريعة إنكارهم المعاد فيحسبون أنهم والمتشرعون بالدين سواء في الحياة والممات وأن لا أثر للتشرع بالشريعة فلا ثمرة للعمل الصالح الذي تهدي إليه الشريعة إلا إتعاب النفس بالتقيد من غير موجب.

فبرهن تعالى على بطلان حسبانهم بإثبات المعاد ثم أردفه بوصف المعاد وما يثيب به الصالحين يومئذ وما يعاقب به الطالحين أهل الجحود والإجرام، وعند ذلك تختتم السورة بالتحميد والتسبيح.

قوله تعالى: ﴿هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون﴾ الإشارة بهذا إلى الأمر المذكور الذي هو الشريعة أو إلى القرآن بما يشتمل على الشريعة، والبصائر جمع بصيرة وهي الإدراك المصيب للواقع، والمراد بها ما يبصر به، وإنما كانت الشريعة بصائر لأنها تتضمن أحكاما وقوانين كل منها يهدي إلى واجب العمل في سبيل السعادة.

والمعنى: هذه الشريعة المشرعة أو القرآن المشتمل عليها وظائف عملية يتبصر بكل منها الناس ويهتدون إلى السبيل الحق وهو سبيل الله وسبيل السعادة، فقوله بعد ذكر تشريع الشريعة: ﴿هذا بصائر للناس﴾ كقوله بعد ذكر آيات الوحدانية في أول السورة: ﴿هذا هدى والذين كفروا﴾ إلخ.

وقوله: ﴿وهدى ورحمة لقوم يوقنون﴾ أي دلالة واضحة وإفاضة خير لهم، والمراد بقوم يوقنون: الذين يوقنون بآيات الله الدالة على أصول المعارف فإن المعهود في القرآن تعلق الإيقان بالأصول الاعتقادية.

وتخصيص الهدى والرحمة بقوم يوقنون مع التصريح بكونه بصائر للناس لا يخلو من تأييد لكون المراد بالهدى الوصول إلى المطلوب دون مجرد التبصر، وبالرحمة الرحمة الخاصة بمن اتقى وآمن برسوله بعد الإيمان بالله، قال تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم﴾ الحديد: 28، وقال: ﴿ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب - إلى أن قال - وبالآخرة هم يوقنون﴾ البقرة: 4، وللرحمة درجات كثيرة تختلف سعة وضيقا ثم للرحمة الخاصة بأهل الإيمان أيضا مراتب مختلفة باختلاف مراتب الإيمان فلكل مرتبة من مراتبه ما يناسبها منها.

وأما الرحمة بمعنى مطلق الخير الفائض منه تعالى فإن القرآن بما يشتمل على الشريعة رحمة للناس كافة كما أن الرسول المبعوث به رحمة لهم جميعا، قال تعالى: ﴿وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين﴾ الأنبياء: 107، وقد أوردنا بعض الكلام في هذا المعنى في بعض المباحث السابقة.

قوله تعالى: ﴿أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم﴾ إلخ، قال في الجمع، الاجتراح الاكتساب، يقال: جرح واجترح وكسب واكتسب وأصله من الجراح لأن لذلك تأثيرا كتأثير الجراح.

قال: والسيئة الفعلة القبيحة التي يسوء صاحبها باستحقاق الذم عليها.

والجعل بمعنى التصيير، وقوله: ﴿كالذين آمنوا وعملوا الصالحات﴾ في محل المفعول الثاني للجعل، والتقدير كائنين كالذين آمنوا، إلخ.

وجزم الزمخشري في الكشاف على كون الكاف في ﴿كالذين﴾ اسما بمعنى المثل هو مفعول ثان لقوله: ﴿نجعلهم﴾ ، وقوله: ﴿سواء﴾ بدلا منه.

وقوله: ﴿سواء﴾ بالنصب على القراءة الدائرة وهو مصدر بمعنى اسم الفاعل أي مستويا أو متساويا، وقوله: ﴿محياهم﴾ مصدر ميمي وفاعل ﴿سواء﴾ وضميره راجع إلى مجموع المجترحين والمؤمنين، و﴿مماتهم﴾ معطوف على ﴿محياهم﴾ وحاله كحاله.

والآية مسوقة سوق الإنكار و﴿أم﴾ منقطعة، والمعنى: بل أحسب وظن الذين يكتسبون السيئات أن نصيرهم مثل الذين آمنوا وعملوا الصالحات مستويا محياهم ومماتهم أي تكون حياة هؤلاء كحياة أولئك وموتهم كموتهم فيكون الإيمان والتشرع بالدين لغوا لا أثر له في حياة ولا موت ويستوي وجوده وعدمه.

وقوله: ﴿ساء ما يحكمون﴾ رد لحسبانهم المذكور وحكمهم بالمماثلة بين مجترحي السيئات والذين آمنوا وعملوا الصالحات ومساءة الحكم كناية عن بطلانه.

فالفريقان لا يتساويان في الحياة ولا في الممات.

أما أنهما لا يتساويان في الحياة فلأن الذين آمنوا وعملوا الصالحات في سلوكهم مسلك الحياة على بصيرة من أمرهم وهدى ورحمة من ربهم كما ذكره سبحانه في الآية السابقة والمسيء صفر الكف، من ذلك وقال تعالى في موضع آخر: ﴿فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا﴾ طه: 124، وقال في موضع آخر: ﴿أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها﴾ الأنعام: 122.

وأما أنهما لا يتساويان في الممات فلأن الموت كما ينطق به البراهين الساطعة ليس انعداما للشيء وبطلانا للنفس الإنسانية كما يحسبه المبطلون بل هو رجوع إلى الله سبحانه وانتقال من نشأة الدنيا إلى نشأة الآخرة التي هي دار البقاء وعالم الخلود يعيش فيها المؤمن الصالح في سعادة ونعمة وغيره في شقاء وعذاب.

وقد أشار سبحانه إليه فيما تقدم من كلامه بقوله: ﴿كذلك يحيي الله الموتى﴾ وقوله: ﴿ثم إلى ربكم ترجعون﴾ وغير ذلك، وسيتعرض له بقوله: ﴿وخلق الله السماوات والأرض بالحق﴾ إلخ.

والآية من حيث تركيب ألفاظها والمعنى المتحصل منها من معارك الآراء بين المفسرين وقد ذكروا لها محامل كثيرة والذي يعطيه السياق ويساعد عليه هو ما قدمناه ولا كثير فائدة في التعرض لوجوه أخر ذكروها فمن أراد الاطلاع عليها فليراجع المطولات.

قوله تعالى: ﴿وخلق الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون﴾ الظاهر أن المراد بالسماوات والأرض مجموع العالم المشهود والباء في ﴿بالحق﴾ للملابسة فكون خلق العالم بالحق كونه حقا لا باطلا ولعبا وهو أن يكون لهذا العالم الكائن الفاسد غاية ثابتة باقية وراءه.

وقوله: ﴿ولتجزى﴾ إلخ، عطف على ﴿بالحق﴾ والباء في قوله: ﴿بما كسبت﴾ للتعدية أو للمقابلة أي لتجزى مقابل ما كسبت إن كان طاعة فالثواب وإن كان معصية فالعقاب، وقوله: ﴿وهم لا يظلمون﴾ حال من كل نفس أي ولتجزى كل نفس بما كسبت بالعدل.

فيئول معنى الآية إلى مثل قولنا وخلق الله السماوات والأرض بالحق وبالعدل فكون الخلق بالحق يقتضي أن يكون وراء هذا العالم عالم آخر يخلد فيه الموجودات وكون الخلق بالعدل يقتضي أن تجزى كل نفس ما تستحقه بكسبها فالمحسن يجزى جزاء حسنا والمسيء يجزى جزاء سيئا وإذ ليس ذلك في هذه النشأة ففي نشأة أخرى.

وبهذا البيان يظهر أن الآية تتضمن حجتين على المعاد إحداهما ما أشير إليه بقوله: ﴿وخلق الله السماوات والأرض بالحق﴾ ويسلك من طريق الحق، والثانية ما أشير إليه بقوله: ﴿ولتجزى﴾ إلخ، ويسلك من طريق العدل.

فتئول الحجتان إلى ما يشتمل عليه قوله: ﴿وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار﴾ ص: 28.

والآية بما فيها من الحجة تبطل حسبانهم أن المسيء كالمحسن في الممات فإن حديث المجازاة بالثواب والعقاب على الطاعة والمعصية يوم القيامة ينفي تساوي المطيع والعاصي في الممات، ولازم ذلك إبطال حسبانهم أن المسيء كالمحسن في الحياة فإن ثبوت المجازاة يومئذ يقتضي وجوب الطاعة في الدنيا والمحسن على بصيرة من الأمر في حياته يأتي بواجب العمل ويتزود من يومه لغده بخلاف المسيء العائش في عمى وضلال فليسا بمتساويين.

قوله تعالى: ﴿أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم﴾ إلى آخر الآية ظاهر السياق أن قوله: ﴿أفرأيت﴾ مسوق للتعجيب أي ألا تعجب ممن حاله هذا الحال؟ والمراد بقوله: ﴿اتخذ إلهه هواه﴾ حيث قدم ﴿إلهه﴾ على ﴿هواه﴾ إنه يعلم أن له إلها يجب أن يعبده - وهو الله سبحانه - لكنه يبدله من هواه ويجعل هواه مكانه فيعبده فهو كافر بالله سبحانه على علم منه، ولذلك عقبه بقوله: ﴿وأضله الله على علم﴾ أي أنه ضال عن السبيل وهو يعلم.

ومعنى اتخاذ الإله العبادة والمراد بها الإطاعة فإن الله سبحانه عد الطاعة عبادة كما في قوله: ﴿ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني﴾ يس: 61، وقوله: ﴿اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله﴾ التوبة: 31، وقوله: ﴿ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله﴾ آل عمران: 64.

والاعتبار يوافقه إذ ليست العبادة إلا إظهار الخضوع وتمثيل أن العابد عبد لا يريد ولا يفعل إلا ما أراده ورضيه معبوده فمن أطاع شيئا فقد اتخذه إلها وعبده فمن أطاع هواه فقد اتخذ إلهه هواه ولا طاعة إلا لله أو من أمر بطاعته.

فقوله: ﴿أفرأيت من اتخذ إلهه هواه﴾ أي أ لا تعجب ممن يعبد هواه بإطاعته واتباعه وهو يعلم أن له إلها غيره يجب أن يعبده ويطيعه لكنه يجعل معبوده ومطاعه هو هواه.

وقوله: ﴿وأضله الله على علم﴾ أي هو ضال بإضلال منه تعالى يضله به مجازاة لاتباعه الهوى حال كون إضلاله مستقرا على علم هذا الضال، ولا ضير في اجتماع الضلال مع العلم بالسبيل ومعرفته كما في قوله تعالى: ﴿وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم﴾ النمل: 14 وذلك أن العلم لا يلازم الهدى ولا الضلال يلازم الجهل بل الذي يلازم الهدى هو العلم مع التزام العالم بمقتضى علمه فيتعقبه الاهتداء وأما إذا لم يلتزم العالم بمقتضى علمه لاتباع منه للهوى فلا موجب لاهتدائه بل هو الضلال وإن كان معه علم.

وأما قول بعضهم: إن المراد بالعلم هو علمه تعالى والمعنى: وأضله الله على علم منه تعالى بحاله فبعيد عن السياق.

وقوله: ﴿وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة﴾ كالعطف التفسيري لقوله: ﴿وأضله الله على علم﴾ والختم على السمع والقلب هو أن لا يسمع الحق ولا يعقله، وجعل الغشاوة على البصر هو أن لا يبصر الحق من آيات الله ومحصل الجميع: أن لا يترتب على السمع والقلب والبصر أثرها وهو الالتزام بمقتضى ما ناله من الحق إذا أدركه لاستكبار من نفسه واتباع للهوى، وقد عرفت أن الضلال عن السبيل لا ينافي العلم به إذا لم يكن هناك التزام بمقتضاه.

وقوله: ﴿فمن يهديه من بعد الله﴾ الضمير لمن اتخذ إلهه هواه والتفريع على ما تحصل من حاله أي إذا كان حاله هذا الحال وقد أضله الله على علم إلخ، فمن يهديه من بعد الله سبحانه فلا هادي دونه قال تعالى: ﴿قل إن هدى الله هو الهدى﴾ البقرة: 120 وقال: ﴿ومن يضلل الله فما له من هاد﴾ المؤمنون: 33.

وقوله: ﴿أفلا تذكرون﴾ أي أفلا تتفكرون في حاله فتتذكروا أن هؤلاء لا سبيل لهم إلى الهدى مع اتباع الهوى فتتعظوا.

قوله تعالى: ﴿وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر﴾ إلى آخر الآية، قال الراغب: الدهر في الأصل اسم لمدة العالم من مبدإ وجوده إلى انقضائه، وعلى ذلك قوله تعالى: ﴿هل أتى على الإنسان حين من الدهر﴾ ثم يعبر به عن كل مدة كثيرة، وهو خلاف الزمان فإن الزمان يقع على المدة القليلة والكثيرة.

والآية على ما يعطيه السياق - سياق الاحتجاج على الوثنيين المثبتين للصانع المنكرين للمعاد - حكاية قول المشركين في إنكار المعاد لا كلام الدهريين الناسبين للحوادث وجودا وعدما إلى الدهر المنكرين للمبدإ والمعاد جميعا إذا لم يسبق لهم ذكر في الآيات السابقة.

فقولهم: ﴿ما هي إلا حياتنا الدنيا﴾ الضمير للحياة أي لا حياة لنا إلا حياتنا الدنيا لا حياة وراءها فلا وجود لما يدعيه الدين الإلهي من البعث والحياة الآخرة، وهذا هو القرينة المؤيدة لأن يكون المراد بقوله: ﴿نموت ونحيا﴾ يموت بعضنا ويحيا بعضنا الآخر فيستمر بذلك بقاء النسل الإنساني بموت الأسلاف وحياة الأخلاف ويؤيد ذلك بعض التأييد قوله بعده: ﴿وما يهلكنا إلا الدهر﴾ المشعر بالاستمرار.

فالمعنى: وقال المشركون: ليست الحياة إلا حياتنا الدنيا التي نعيش بها في الدنيا فلا يزال يموت بعضنا وهم الأسلاف ويحيى آخرون وهم الأخلاف وما يهلكنا إلا الزمان - الذي بمروره يبلى كل جديد ويفسد كل كائن ويميت كل حي - فليس الموت انتقالا من دار إلى دار منتهيا إلى البعث والرجوع إلى الله.

ولعل هذا كلام بعض الجهلة من وثنية العرب وإلا فالعقيدة الدائرة بين الوثنية هي التناسخ وهو أن نفوس غير أهل الكمال إذا فارقت الأبدان تعلقت بأبدان أخرى جديدة فإن كانت النفس المفارقة اكتسبت السعادة في بدنها السابق تعلقت ببدن جديد تتنعم فيه وتسعد، وإن كانت اكتسبت الشقاء في البدن السابق تعلقت ببدن لاحق تشقى فيه وتعذب جزاء لعملها السيىء وهكذا، وهؤلاء لا ينكرون استناد أمر الموت كالحياة إلى وساطة الملائكة.

ولهذا أعني كون القول بالتناسخ دائرا بين الوثنية ذكر بعض المفسرين أن المراد بالآية قولهم بالتناسخ، والمعنى: ﴿إن هي إلا حياتنا الدنيا﴾ فلسنا نخرج من الدنيا أبدا ﴿نموت﴾ عن حياة دنيا ﴿ونحيا﴾ بعد الموت بالتعلق ببدن جديد وهكذا ﴿وما يهلكنا إلا الدهر﴾.

وهذا لا يخلو من وجه لكن لا يلائمه قولهم المنقول ذيلا: ﴿وما يهلكنا إلا الدهر﴾ إلا أن يوجه بأن مرادهم من نسبة الإهلاك إلى الدهر كون الدهر وسيلة يتوسل بها الملك الموكل على الموت إلى الإماتة، وكذا لا تلائمه حجتهم المنقولة ذيلا: ﴿ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين﴾ الظاهرة في أنهم يرون آباءهم معدومين باطلي الذوات.

وذكر في معنى الآية وجوه أخر لا يعبأ بها كقول بعضهم: المعنى نكون أمواتا لا حياة فيها وهو قبل ولوج الروح ثم نحيا بولوجها على حد قوله تعالى: ﴿وكنتم أمواتا فأحياكم﴾ البقرة: 28.

وقول بعضهم: المراد بالحياة بقاء النسل مجازا، والمعنى: نموت نحن ونحيا ببقاء نسلنا.

إلى غير ذلك مما قيل.

وقوله: ﴿وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون﴾ أي إن قولهم ذلك المشعر بإنكار المعاد قول بغير علم وإنما هو ظن يظنونه وذلك أنهم لا دليل لهم يدل على نفي المعاد مع ما هناك من الأدلة على ثبوته.

قوله تعالى: ﴿وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين﴾ تأكيد لكون قولهم بنفي المعاد وحصر الحياة في الحياة الدنيا قولا بغير علم.

والمراد بالآيات البينات الآيات المشتملة على الحجج المثبتة للمعاد وكونها بينات وضوح دلالتها على ثبوته بلا شك، وتسمية قولهم: ﴿ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين﴾ مع كونه اقتراحا جزافيا بعد قيام الحجة إنما هو من باب التهكم فإنه من قبيل طلب الدليل على المطلوب بعد قيام الدليل عليه فكأنه قيل: ما كانت حجتهم إلا اللاحجة.

والمعنى: وإذا تتلى على هؤلاء المنكرين للمعاد آياتنا المشتملة على الحجج المثبتة للمعاد والحال أنها واضحات الدلالة على ثبوته ما قابلوها إلا بجزاف من القول وهو طلب الدليل على إمكانه بإحياء آبائهم الماضين.

قوله تعالى: ﴿قل الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ولكن أكثر الناس لا يعلمون - إلى قوله - والأرض﴾ ما ذكر من اقتراحهم الحجة على مطلوب قامت عليه الحجة وإن كان اقتراحا جزافيا لا يستدعي شيئا من الجواب لكنه سبحانه أمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجيبهم بإثبات إمكانه الذي كانوا يستبعدونه.

ومحصله: أن الذي يحييكم لأول مرة ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة الذي لا ريب فيه هو الله سبحانه ولله ملك السماوات والأرض يحكم فيها ما يشاء ويتصرف فيها كيفما يريد فله أن يحكم برجوع الناس إليه ويتصرف فيكم بجمعكم إلى يوم القيامة والقضاء بينكم ثم الجزاء، والباقي ظاهر.

قوله تعالى: ﴿ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون﴾ قال الراغب: الخسر والخسران انتقاص رأس المال وينسب ذلك إلى الإنسان فيقال: خسر فلان، وإلى الفعل فيقال: خسرت تجارته، قال تعالى: ﴿تلك إذا كرة خاسرة﴾ ويستعمل ذلك في المقتنيات الخارجية كالمال والجاه في الدنيا وهو الأكثر، وفي المقنيات النفسية كالصحة والسلامة والعقل والإيمان والثواب وهو الذي جعله الله تعالى الخسران المبين.

قال: وكل خسران ذكره الله تعالى في القرآن فهو على هذا المعنى الأخير دون الخسران المتعلق بالمقتنيات المالية والتجارات البشرية.

وقال: والإبطال يقال في إفساد الشيء وإزالته سواء كان ذلك الشيء حقا أو باطلا قال تعالى: ﴿ليحق الحق ويبطل الباطل﴾ وقد يقال فيمن يقول شيئا لا حقيقة له نحو ﴿ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون﴾ وقوله تعالى: ﴿خسر هنالك المبطلون﴾ أي الذين يبطلون الحق.

والأشبه أن يكون المراد بقيام الساعة فعلية ما يقع فيها من البعث والجمع والحساب والجزاء وظهوره، وبذلك صح جعل الساعة مظروفا لليوم وهما واحد، والأشبه أن يكون قوله: ﴿يومئذ﴾ تأكيدا لقوله: ﴿يوم تقوم الساعة﴾.

والمعنى: ويوم تقوم الساعة وهي يوم الرجوع إلى الله يومئذ يخسر المبطلون الذين أبطلوا الحق وعدلوا عنه.

قوله تعالى: ﴿وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها﴾ إلخ، الجثو البروك على الركبتين كما أن الجذو البروك على أطراف الأصابع.

والخطاب عام لكل من يصح منه الرؤية وإن كان متوجها إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمراد بالدعوة إلى الكتاب الدعوة إلى الحساب على ما ينطق به الكتاب بإحصائه الأعمال بشهادة قوله بعده: ﴿اليوم تجزون ما كنتم تعملون﴾.

والمعنى: وترى أنت وغيرك من الرائين كل أمة من الأمم جالسة على الجثو جلسة الخاضع الخائف كل أمة منهم تدعى إلى كتابها الخاص بها وهي صحيفة الأعمال وقيل لهم: ﴿اليوم تجزون ما كنتم تعملون﴾ .

ويستفاد من ظاهر الآية أن لكل أمة كتابا خاصا بهم كما أن لكل إنسان كتابا خاصا به قال تعالى: ﴿وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا﴾ الإسراء: 13.

قوله تعالى: ﴿هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون﴾ قال في الصحاح: ونسخت الكتاب وانتسخته واستنسخته كله بمعنى، والنسخة اسم المنتسخ منه.

وقال الراغب: النسخ إزالة الشيء بشيء يتعقبه كنسخ الشمس الظل ونسخ الظل الشمس والشيب الشباب - إلى أن قال - ونسخ الكتاب نقل صورته المجردة إلى كتاب آخر وذلك لا يقتضي إزالة الصورة الأولى بل يقتضي إثبات مثلها في مادة أخرى كاتخاذ نقش الخاتم في شموع كثيرة، والاستنساخ التقدم بنسخ الشيء والترشح للنسخ.

ومقتضى ما نقل أن المفعول الذي يتعدى إليه الفعل في قولنا: استنسخت الكتاب هو الأصل المنقول منه، ولازم ذلك أن تكون الأعمال في قوله: ﴿إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون﴾ كتابا وأصلا وإن شئت فقل: في أصل وكتاب يستنسخ وينقل منه ولو أريد به ضبط الأعمال الخارجية القائمة بالإنسان بالكتابة لقيل: إنا كنا نكتب ما كنتم تعملون إذ لا نكتة تستدعي فرض هذه الأعمال كتابا وأصلا يستنسخ، ولا دليل على كون ﴿يستنسخ﴾ بمعنى يستكتب كما ذكره بعضهم.

ولازم ذلك أن يكون المراد بما تعملون هو أعمالهم الخارجية بما أنها في اللوح المحفوظ فيكون استنساخ الأعمال استنساخ ما يرتبط بأعمالهم من اللوح المحفوظ وتكون صحيفة الأعمال صحيفة الأعمال وجزء من اللوح المحفوظ، ويكون معنى كتابة الملائكة للأعمال تطبيقهم ما عندهم من نسخة اللوح على الأعمال.

وهذا هو المعنى الذي وردت به الرواية من طرق الشيعة عن الصادق (عليه السلام) ومن طرق أهل السنة عن ابن عباس، وسيوافيك في البحث الروائي التالي.

وعلى هذا فقوله: ﴿هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق﴾ من كلامه تعالى لا من كلام الملائكة، وهو من خطابه تعالى لأهل الجمع يوم القيامة يحكيه لنا فيكون في معنى: ﴿ويقال لهم هذا كتابنا﴾ إلخ.

والإشارة بهذا - على ما يعطيه السياق - إلى صحيفة الأعمال وهي بعينها إشارة إلى اللوح المحفوظ على ما تقدم وإضافة الكتاب إليه تعالى نظرا إلى أنه صحيفة الأعمال من جهة أنه مكتوب بأمره تعالى ونظرا إلى أنه اللوح المحفوظ من جهة التشريف وقوله: ﴿ينطق عليكم بالحق﴾ أي يشهد على ما عملتم ويدل عليه دلالة واضحة ملابسا للحق.

وقوله: ﴿إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون﴾ تعليل لكون الكتاب ينطق عليهم بالحق أي إن كتابنا هذا دال على عملكم بالحق من غير أن يتخلف عنه لأنه اللوح المحفوظ المحيط بأعمالكم بجميع جهاتها الواقعية.

ولو لا أن الكتاب يريهم أعمالهم بنحو لا يداخله شك ولا يحتمل منهم التكذيب لكذبوه، قال تعالى: ﴿يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا﴾ آل عمران: 30.

وللقوم في الآية أقوال أخر: منها ما قيل: إن الآية من كلام الملائكة لا من كلام الله ومعنى الاستنساخ الكتابة والمعنى: هذا أي صحيفة الأعمال كتابنا معشر الملائكة الكاتبين للأعمال يشهد عليكم بالحق إنا كنا نكتب ما كنتم تعملون.

وفيه أن كونه من كلام الملائكة بعيد من السياق على أن كون الاستنساخ بمعنى مطلق الكتابة لم يثبت لغة.

ومنها: أن الآية من كلام الله، والإشارة بهذا إلى صحيفة الأعمال، وقيل: إلى اللوح المحفوظ، والاستنساخ بمعنى الاستكتاب مطلقا.

قوله تعالى: ﴿أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته ذلك هو الفوز المبين﴾ تفصيل حال الناس يومئذ بحسب اختلافهم بالسعادة والشقاء والثواب والعقاب، والسعداء المثابون هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، والأشقياء المعاقبون هم الذين كفروا من المستكبرين المجرمين.

والمراد بالرحمة الإفاضة الإلهية تسعد من استقر فيها ومنها الجنة، والفوز المبين الفلاح الظاهر، والباقي واضح.

قوله تعالى: ﴿وأما الذين كفروا أ فلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم وكنتم قوما مجرمين﴾ المراد بالذين كفروا المتلبسون بالكفر عن تكذيب وجحود بشهادة قوله: ﴿أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم﴾ إلخ.

والفاء في ﴿أفلم تكن﴾ للتفريع فتدل على مقدر متفرع عليه هو جواب لما، والتقدير: فيقال لهم ألم تكن آياتي تتلى عليكم، والمراد بالآيات الحجج الإلهية الملقاة إليهم عن وحي ودعوة، والمجرم هو المتلبس بالأجرام وهو الذنب.

والمعنى: وأما الذين كفروا جاحدين للحق مع ظهوره فيقال لهم توبيخا وتقريعا: ألم تكن حججي تقرأ وتبين لكم في الدنيا فاستكبرتم عن قبولها وكنتم قوما مذنبين.

قوله تعالى: ﴿وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة﴾ إلخ، المراد بالوعد الموعود وهو ما وعده الله بلسان رسله من البعث والجزاء فيكون قوله: ﴿والساعة لا ريب فيها﴾ من عطف التفسير، ويمكن أن يراد بالوعد المعنى المصدري.

وقولهم: ﴿ما ندري ما الساعة﴾ معناه أنه غير مفهوم لهم والحال أنهم أهل فهم ودراية فهو كناية عن كونه أمرا غير معقول ولو كان معقولا لدروه.

وقوله: ﴿إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين﴾ أي ليست مما نقطع به ونجزم بل نظن ظنا لا يسعنا أن نعتمد عليه، ففي قولهم: ﴿ما ندري ما الساعة﴾ إلخ، غب ما تليت عليهم من الآيات البينة أفحش المكابرة مع الحق.

قوله تعالى: ﴿وبدا لهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون﴾ إضافة السيئات إلى ما عملوا بيانية أو بمعنى من، والمراد بما عملوا جنس ما عملوا أي ظهر لهم أعمالهم السيئة أو السيئات من أعمالهم فالآية في معنى قوله: ﴿يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء﴾ آل عمران: 30.

فالآية من الآيات الدالة على تمثل الأعمال، وقيل: إن في الكلام حذفا والتقدير: وبدا لهم جزاء سيئات ما عملوا.

وقوله: ﴿وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون﴾ أي وحل بهم العذاب الذي كانوا يسخرون منه في الدنيا إذا أنذروا به بلسان الأنبياء والرسل.

قوله تعالى: ﴿وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين﴾ النسيان كناية عن الإعراض والترك فنسيانه تعالى لهم يوم القيامة إعراضه عنهم وتركه لهم في شدائده وأهواله، ونسيانهم لقاء يومهم ذاك في الدنيا إعراضهم عن تذكره وتركهم التأهب للقائه، والباقي ظاهر.

قوله تعالى: ﴿ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا وغرتكم الحياة الدنيا﴾ إلخ، الإشارة بقوله: ﴿ذلكم﴾ إلى ما ذكر من عقابهم من ظهور السيئات وحلول العذاب والهزء السخرية التي يستهزأ بها والباء للسببية.

والمعنى: ذلكم العذاب الذي يحل بكم بسبب أنكم اتخذتم آيات الله سخرية تستهزءون بها وبسبب أنكم غرتكم الحياة الدنيا فأخلدتم إليها وتعلقتم بها.

وقوله: ﴿فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون﴾ صرف الخطاب عنهم إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويتضمن الكلام خلاصة القول فيما يصيبهم من العذاب يومئذ وهو الخلود في النار وعدم قبول العذر منهم.

والاستعتاب طلب العتبى والاعتذار، ونفي الاستعتاب كناية عن عدم قبول العذر.

قوله تعالى: ﴿فلله الحمد رب السماوات ورب الأرض رب العالمين﴾ تحميد له تعالى بالتفريع على ما تقدم في السورة من كونه خالق السماوات والأرض وما بينهما والمدبر لأمر الجميع ومن بديع تدبيره خلق الجميع بالحق المستتبع ليوم الرجوع إليه والجزاء بالأعمال وهو المستدعي لجعل الشرائع التي تسوق إلى السعادة والثواب ويتعقبه الجمع ليوم الجمع ثم الجزاء واستقرار الجميع على الرحمة والعدل بإعطاء كل شيء ما يستحقه فلم يدبر إلا تدبيرا جميلا ولم يفعل إلا فعلا محمودا فله الحمد كله.

وقد كرر ﴿الرب﴾ فقال: رب السماوات ورب الأرض ثم أبدل منهما قوله: ﴿رب العالمين﴾ ليأتي بالتصريح بشمول الربوبية للجميع فلو جيء برب العالمين واكتفي به أمكن أن يتوهم أنه رب المجموع لكن للسماوات خاصة رب آخر وللأرض وحدها رب آخر كما ربما قال بمثله الوثنية، وكذا لو اكتفي بالسماوات والأرض لم يكن صريحا في ربوبيته لغيرهما، وكذا لو اكتفي بإحداهما.

قوله تعالى: ﴿وله الكبرياء في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم﴾ الكبرياء على ما عن الراغب: الترفع عن الانقياد، وعن ابن الأثير: العظمة والملك وفي المجمع، السلطان القاهر والعظمة القاهرة والعظمة والرفعة.

وهي على أي حال أبلغ معنى من الكبر وتستعمل في العظمة غير الحسية ومرجعه إلى كمال وجوده ولا تناهي كماله.

وقوله: ﴿وله الكبرياء في السماوات والأرض﴾ أي له الكبرياء في كل مكان فلا يتعالى عليه شيء فيهما ولا يستصغره شيء وتقديم الخبر في ﴿له الكبرياء﴾ يفيد الحصر كما في قوله: ﴿فلله الحمد﴾.

وقوله: ﴿وهو العزيز الحكيم﴾ أي الغالب غير المغلوب فيما يريد من خلق وتدبير في الدنيا والآخرة والباني خلقه وتدبيره على الحكمة والإتقان.

بحث روائي:

في تفسير القمي، في قوله تعالى: ﴿أفرأيت من اتخذ إلهه هواه﴾ قال: نزلت في قريش كلما هووا شيئا عبدوه.

وفي الدر المنثور، أخرج النسائي وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس قال: كان الرجل من العرب يعبد الحجر فإذا رأى أحسن منه أخذه وألقى الآخر فأنزل الله ﴿أفرأيت من اتخذ إلهه هواه﴾ .

وفي المجمع، في قوله تعالى: ﴿وما يهلكنا إلا الدهر﴾ وقد روي في الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر.

أقول: قال الطبرسي بعد إيراد الحديث: وتأويله أن أهل الجاهلية كانوا ينسبون الحوادث المجحفة والبلايا النازلة إلى الدهر فيقولون: فعل الدهر كذا، وكانوا يسبون الدهر فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): إن فاعل هذه الأمور هو الله فلا تسبوا فاعلها.

ويؤيد هذا الوجه الرواية التالية.

وفي الدر المنثور، أخرج ابن جرير والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): قال الله تبارك وتعالى: لا يقل ابن آدم يسب الدهر يا خيبة الدهر فإني أنا الدهر أرسل الليل والنهار فإذا شئت قبضتهما.

وفي تفسير القمي، في قوله تعالى: ﴿هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق﴾ الآية، حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن عبد الرحيم القصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن ﴿ن والقلم﴾ قال: إن الله خلق القلم من شجرة في الجنة يقال لها الخلد ثم قال لنهر في الجنة: كن مدادا فجمد النهر وكان أشد بياضا من الثلج وأحلى من الشهد.

ثم قال للقلم: اكتب.

قال: يا رب ما أكتب؟ قال: اكتب ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة فكتب القلم في رق أشد بياضا من الفضة وأصفى من الياقوت.

ثم طواه فجعله في ركن العرش ثم ختم على فم القلم فلن ينطق أبدا.

فهو الكتاب المكنون الذي منه النسخ كلها أولستم عربا؟ فكيف لا تعرفون معنى الكلام؟ وأحدكم يقول لصاحبه: انسخ ذلك الكتاب أ وليس إنما ينسخ من كتاب آخر من الأصل؟ وهو قوله: ﴿إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون﴾.

أقول: قوله (عليه السلام): فكتب القلم في رق إلخ، تمثيل للوح المكتوب فيه الحوادث بالرق والرق ما يكتب فيه شبه الكاغد - على ما ذكره الراغب - وقد تقدم الحديث عنه (عليه السلام) أن القلم ملك واللوح ملك، وقوله: ﴿فجعله في ركن العرش﴾ تمثيل للعرش بعرش الملك ذي الأركان والقوائم وقوله: ﴿ثم ختم على فم القلم﴾ إلخ كناية عن كون ما كتب في الرق قضاء محتوما لا يتغير ولا يتبدل، وقوله: ﴿أولستم عربا﴾ إلخ، إشارة إلى ما تقدم توضيحه في تفسير الآية.

وفي الدر المنثور، أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: إن الله خلق النون وهو الدواة وخلق القلم فقال: اكتب؟ قال: ما أكتب قال اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة من عمل معمول بر أو فاجر أو رزق مرزوق حلال أو حرام ثم ألزم كل شيء من ذلك شأنه: دخوله في الدنيا ومقامه فيها كم، وخروجه منها كيف؟.

ثم جعل على العباد حفظة وعلى الكتاب خزانا تحفظه ينسخون كل يوم من الخزان عمل ذلك اليوم فإذا فني ذلك الرزق انقطع الأمر وانقضى الأجل أتت الحفظة الخزنة يطلبون عمل ذلك اليوم فيقول لهم الخزنة: ما نجد لصاحبكم عندنا شيئا فيرجع الحفظة فيجدونهم قد ماتوا.

قال ابن عباس: ألستم قوما عربا؟ تسمعون الحفظة يقولون: ﴿إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون﴾ وهل يكون الاستنساخ إلا من أصل؟.

أقول: والخبر كما ترى يجعل الآية من كلام الملائكة الحفظة.

وفيه، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس: في الآية قال: يستنسخ الحفظة من أم الكتاب ما يعمل بنو آدم فإنما يعمل الإنسان على ما استنسخ الملك من أم الكتاب.

وعن كتاب سعد السعود لابن طاووس، قال بعد ذكر الملكين الموكلين بالعبد: وفي رواية: أنهما إذا أرادا النزول صباحا ومساء ينسخ لهما إسرافيل عمل العبد من اللوح المحفوظ فيعطيهما ذلك فإذا صعدا صباحا ومساء بديوان العبد قابله إسرافيل بالنسخ التي انتسخ لهما حتى يظهر أنه كان كما نسخ منه.

وفي المجمع، في قوله تعالى: ﴿وله الكبرياء في السماوات والأرض﴾ وفي الحديث يقول الله: الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحدة منهما ألقيته في نار جهنم.

أقول: ورواه في الدر المنثور، عن مسلم وأبي داود وابن ماجة وغيرهم عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).