الآيات 16 - 32

وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا مَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ ﴿16﴾ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ ﴿17﴾ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً فَقَدْ جَاء أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ ﴿18﴾ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ ﴿19﴾ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ ﴿20﴾ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ ﴿21﴾ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ﴿22﴾ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ﴿23﴾ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴿24﴾ إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ﴿25﴾ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ ﴿26﴾ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ﴿27﴾ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ﴿28﴾ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ ﴿29﴾ وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ﴿30﴾ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ﴿31﴾ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ ﴿32﴾

بيان:

الآيات جارية على السياق السابق، وفيها تعرض لحال الذين في قلوبهم مرض والمنافقين ومن ارتد بعد إيمانه.

قوله تعالى: ﴿ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ما ذا قال آنفا﴾ إلخ، آنفا اسم فاعل منصوب على الظرفية أو لكونه مفعولا فيه، ومعناه الساعة التي قبيل ساعتك، وقيل: معناه هذه الساعة وهو على أي حال مأخوذ من الأنف بمعنى الجارحة.

وقوله: ﴿ومنهم من يستمع إليك﴾ الضمير للذين كفروا، والمراد باستماعهم إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إصغاؤهم إلى ما يتلوه من القرآن وما يبين لهم من أصول المعارف وشرائع الدين.

وقوله: ﴿حتى إذا خرجوا من عندك﴾ الضمير للموصول وجمع الضمير باعتبار المعنى كما أن إفراده في ﴿يستمع﴾ باعتبار اللفظ.

وقوله: ﴿قالوا للذين أوتوا العلم ما ذا قال آنفا﴾ المراد بالذين أوتوا العلم العلماء بالله من الصحابة، والضمير في ﴿ما ذا قال﴾ للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

والاستفهام في قولهم: ﴿ما ذا قال آنفا﴾ قيل: للاستعلام حقيقة لأن استغراقهم في الكبر والغرور واتباع الأهواء ما كان يدعهم أن يفقهوا القول الحق كما قال تعالى: ﴿فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا﴾ النساء: 78، وقيل: للاستهزاء، وقيل: للتحقير كأن القول لكونه مشحونا بالأباطيل لا يرجع إلى معنى محصل، ولكل من المعاني الثلاثة وجه.

وقوله: ﴿أولئك الذين طبع الله على قلوبهم﴾ تعريف لهم، وقوله: ﴿واتبعوا أهواءهم﴾ تعريف بعد تعريف فهو كعطف التفسير، ويتحصل منه أن اتباع الأهواء أمارة الطبع على القلب فالقلب غير المطبوع عليه الباقي على طهارة الفطرة الأصلية لا يتوقف في فهم المعارف الدينية والحقائق الإلهية.

قوله تعالى: ﴿والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم﴾ المقابلة الظاهرة بين الآية وبين الآية السابقة يعطي أن المراد بالاهتداء ما يقابل الضلال الملازم للطبع على القلب وهو التسليم لما تهدي إليه الفطرة السليمة واتباع الحق، وزيادة هداهم من الله سبحانه رفعه تعالى درجة إيمانهم، وقد تقدم أن الهدى والإيمان ذو مراتب مختلفة، والمراد بالتقوى ما يقابل اتباع الأهواء وهو الورع عن محارم الله والتجنب عن ارتكاب المعاصي.

وبذلك يظهر أن زيادة الهدى راجع إلى تكميلهم في ناحية العلم وإيتاء التقوى إلى تكميلهم في ناحية العمل، ويظهر أيضا بالمقابلة أن الطبع على القلوب راجع إلى فقدانهم كمال العلم واتباع الأهواء راجع إلى فقدانهم العمل الصالح وحرمانهم منه وهذا لا ينافي ما قدمنا أن اتباع الأهواء كعطف التفسير بالنسبة إلى الطبع على القلوب.

قوله تعالى: ﴿فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها﴾ إلخ، النظر هو الانتظار، والأشراط جمع شرط بمعنى العلامة، والأصل في معناه الشرط بمعنى ما يتوقف عليه وجود الشيء لأن تحققه علامة تحقق الشيء فأشراط الساعة علاماتها الدالة عليها.

وسياق الآية سياق التهكم كأنهم واقفون موقفا عليهم إما أن يتبعوا الحق فتسعد بذلك عاقبتهم، وإما أن ينتظروا الساعة حتى إذا أيقنوا بوقوعها وأشرفوا عليها تذكروا وآمنوا واتبعوا الحق أما اتباع الحق اليوم فلم يخضعوا له بحجة أو بموعظة أو عبرة، وأما انتظارهم مجيء الساعة ليتذكروا عنده فلا ينفعهم شيئا فإنها تجيء بغتة ولا تمهلهم شيئا حتى يستعدوا لها بالذكرى وإذا وقعت لم ينفعهم الذكرى لأن اليوم يوم جزاء لا يوم عمل قال تعالى: ﴿يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى يقول يا ليتني قدمت لحياتي﴾ الفجر: 24.

مضافا إلى أن أشراطها وعلاماتها قد جاءت وتحققت، ولعل المراد بأشراطها خلق الإنسان وانقسام نوعه إلى صلحاء ومفسدين ومتقين وفجار المستدعي للحكم الفصل بينهم ونزول الموت عليهم فإن ذلك كله من شرائط وقوع الواقعة وإتيان الساعة، وقيل: المراد بأشراط الساعة ظهور النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو خاتم الأنبياء وانشقاق القمر ونزول القرآن وهو آخر الكتب السماوية.

هذا ما يعطيه التدبر في الآية من المعنى وهي - كما ترى - حجة برهانية في عين أنها مسوقة سوق التهكم.

وعليه فقوله: ﴿بغتة﴾ حال من الإتيان جيء به لبيان الواقع وليتفرع عليه قوله الآتي: ﴿فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم﴾ وليس قيدا للانتظار حتى يفيد أنهم إنما ينتظرون إتيانها بغتة، ولدفع هذا التوهم قيل: ﴿إلا الساعة أن تأتيهم بغتة﴾ ولم يقل: إلا أن تأتيهم الساعة بغتة.

وقوله: ﴿فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم﴾ أنى خبر مقدم و﴿ذكراهم﴾ مبتدأ مؤخر و﴿إذا جاءتهم﴾ معترضة بينهما، والمعنى: فكيف يكون لهم أن يتذكروا إذا جاءتهم؟ أي كيف ينتفعون بالذكرى في يوم لا ينفع العمل الذي يعمل فيه وإنما هو يوم الجزاء.

وللقوم في معنى جمل الآية ومعناها بالجملة أقوال مختلفة تركنا إيرادها من أرادها فليراجع كتبهم المفصلة.

قوله تعالى: ﴿فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات﴾ إلخ، قيل: هو متفرع على جميع ما تقدم في السورة من سعادة المؤمنين وشقاوة الكفار كأنه قيل: إذا علمت أن الأمر كما ذكر من سعادة هؤلاء وشقاوة أولئك فاثبت على ما أنت عليه من العلم بوحدانية الله سبحانه فمعنى الأمر بالعلم على هذا هو الأمر بالثبات على العلم.

ويمكن أن يكون تفريعا على ما بينه في الآيتين السابقتين أعني قوله: ﴿ومنهم من يستمع إليك - إلى قوله - وآتاهم تقواهم﴾ من أنه تعالى يطبع على قلوب المشركين ويتركهم وذنوبهم ويعكس الأمر في الذين اهتدوا إلى توحيده والإيمان به فكأنه قيل: إذا كان الأمر على ذلك فاستمسك بعلمك بوحدانية الإله واطلب مغفرة ذنبك ومغفرة أمتك من المؤمنين بك والمؤمنات حتى لا تكون ممن يطبع الله على قلبه ويحرمه التقوى بتركه وذنوبه، ويؤيد هذا الوجه قوله في ذيل الآية: ﴿والله يعلم متقلبكم ومثواكم﴾ .

فقوله: ﴿فاعلم أنه لا إله إلا الله﴾ معناه على ما يؤيده السياق فاستمسك بعلمك أنه لا إله إلا الله، وقوله: ﴿واستغفر لذنبك﴾ تقدم الكلام في معنى الذنب المنسوب إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) وسيأتي أيضا في تفسير أول سورة الفتح إن شاء الله تعالى.

وقوله: ﴿وللمؤمنين والمؤمنات﴾ أمر بطلب المغفرة للأمة من المؤمنين والمؤمنات وحاشا أن يأمر تعالى بالاستغفار ولا يواجهه بالمغفرة أو بالدعاء ولا يقابله بالاستجابة.

وقوله: ﴿والله يعلم متقلبكم ومثواكم﴾ تعليل لما في صدر الآية: ﴿فاعلم أنه﴾ إلخ، والظاهر أن المتقلب مصدر ميمي بمعنى الانتقال من حال إلى حال، وكذلك المثوى بمعنى الاستقرار والسكون، والمراد أنه تعالى يعلم كل أحوالكم من متغير وثابت وحركة وسكون فاثبتوا على توحيده واطلبوا مغفرته، واحذروا أن يطبع على قلوبكم ويترككم وأهواءكم.

وقيل: المراد بالمتقلب والمثوى التصرف في الحياة الدنيا والاستقرار في الآخرة وقيل: المتقلب هو التقلب من الأصلاب إلى الأرحام والمثوى السكون في الأرض.

وقيل: المتقلب التصرف في اليقظة والمثوى المنام، وقيل: المتقلب التصرف في المعايش والمكاسب والمثوى الاستقرار في المنازل، وما قدمناه أظهر وأعم.

قوله تعالى: ﴿ويقول الذين آمنوا لو لا نزلت سورة﴾ إلى آخر الآية، لو لا تحضيضية أي هلا أنزلت سورة يظهرون بها الرغبة في نزول سورة جديدة تأتيهم بتكاليف جديدة يمتثلونها، والمراد بالسورة المحكمة المبينة التي لا تشابه فيها، والمراد بذكر القتال الأمر به.

والمراد بالذين في قلوبهم مرض، الضعفاء الإيمان من المؤمنين دون المنافقين فإن الآية صريحة في أن الذين أظهروا الرغبة في نزولها هم الذين آمنوا، ولا يعم الذين آمنوا للمنافقين إلا على طريق المساهلة غير اللائقة بكلام الله تعالى فالآية كقوله تعالى في فريق من المؤمنين: ﴿ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية﴾ النساء: 77.

والمغشي عليه من الموت هو المحتضر، يقال: غشيه غشاوة إذا ستره وغطاه وغشي على فلان - بالبناء - للمفعول - إذا نابه ما غشي فهمه، ونظر المغشي عليه من الموت إشخاصه ببصره إليك من غير أن يطرف.

وقوله: ﴿فأولى لهم﴾ لعله خبر لمبتدإ محذوف، والتقدير: أولى لهم ذلك أي حري بهم أن ينظروا كذلك أي أن يحتضروا فيموتوا، وعن الأصمعي أن قولهم: ﴿أولى لك﴾ كلمة تهديد معناه وليك وقارنك ما تكره، والآية نظيرة قوله تعالى: ﴿أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى﴾ القيامة: 35.

ومعنى الآية: ويقول الذين آمنوا هلا أنزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة لا تشابه فيها وأمروا فيها بالقتال والجهاد رأيت الضعفاء الإيمان منهم ينظرون إليك من شدة الخشية نظر المحتضر فأولى لهم ذلك.

قوله تعالى: ﴿طاعة وقول معروف فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم﴾ عزم الأمر أي جد وتنجز.

وقوله: ﴿طاعة وقول معروف﴾ كأنه خبر لمبتدأ محذوف والتقدير أمرنا - أو أمرهم وشأنهم - أي إيمانهم بنا طاعة واثقونا عليها وقول معروف غير منكر قالوا لنا وهو إظهار السمع والطاعة كما يحكيه تعالى عنهم بقوله: ﴿آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون - إلى أن قال - وقالوا سمعنا وأطعنا﴾ البقرة: 285.

وعلى هذا يتصل قوله بعده: ﴿فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم﴾ بما قبله اتصالا بينا، والمعنى: أن الأمر هو ما واثقوا الله عليه من قولهم: سمعنا وأطعنا فلو أنهم حين عزم الأمر صدقوا الله فيما قالوا وأطاعوه فيما يأمر به ومنه أمر القتال لكان خيرا لهم.

ويحتمل أن يكون قوله: ﴿طاعة﴾ إلخ، خبرا لضمير عائد إلى القتال المذكور والتقدير القتال المذكور في السورة طاعة منهم وقول معروف فلو أنهم حين عزم الأمر صدقوا الله في إيمانهم وأطاعوه به لكان خيرا لهم.

أما كونه طاعة منهم فظاهر، وأما كونه قولا معروفا فلأن إيجاب القتال والأمر بالدفاع عن المجتمع الصالح لإبطال كيد أعدائه قول معروف يعرفه العقل والعقلاء.

وقيل: إن قوله: ﴿طاعة﴾ إلخ، مبتدأ الخبر والتقدير طاعة وقول معروف خير لهم وأمثل، وقيل: مبتدأ خبره ﴿فأولى لهم﴾ في الآية السابقة فالآية من تمام الآية السابقة، وهو قول ردي، وأردأ منه ما قيل: إن ﴿طاعة﴾ إلخ، صفة لسورة في قوله: ﴿فإذا أنزلت سورة﴾ وقيل غير ذلك.

قوله تعالى: ﴿فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم﴾ الخطاب للذين في قلوبهم مرض المتثاقلين في أمر الجهاد في سبيل الله، وقد التفت إليهم بالخطاب لزيادة التوبيخ والتقريع، والاستفهام للتقرير، والتولي الإعراض والمراد به الإعراض عن كتاب الله والعمل بما فيه والعود إلى الشرك ورفض الدين.

والمعنى: فهل يتوقع منكم أن أعرضتم عن كتاب الله والعمل بما فيه ومنه الجهاد في سبيل الله أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم بسفك الدماء ونهب الأموال وهتك الأعراض تكالبا على جيفة الدنيا أي إن توليتم كان المتوقع منكم ذلك.

وقد ظهر بذلك أن الآية في مقام التعليل لقوله في الآية السابقة: ﴿لكان خيرا لهم﴾ ولذا صدر بالفاء.

وقيل: المراد بالتولي التصدي للحكم والولاية، والمعنى: هل يتوقع منكم إن جعلتم ولاة أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم بسفك الدماء الحرام وأخذ الرشاء والجور في الحكم هذا، وهو معنى بعيد عن السياق.

قوله تعالى: ﴿أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم﴾ الإشارة إلى المفسدين في الأرض المقطعين للأرحام وقد وصفهم الله بأنه لعنهم فأصمهم وأذهب بسمعهم فلا يسمعون القول الحق وأعمى أبصارهم فلا يرون الرأي الحق فإنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور.

قوله تعالى: ﴿أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها﴾ الاستفهام للتوبيخ وضمير الجمع راجع إلى المذكورين في الآية السابقة، وتنكير ﴿قلوب﴾ كما قيل للدلالة على أن المراد قلوب هؤلاء وأمثالهم.

قال في مجمع البيان، وفي هذا دلالة على بطلان قول من قال: لا يجوز تفسير شيء من ظاهر القرآن إلا بخبر وسمع.

قوله تعالى: ﴿إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم﴾ الارتداد على الأدبار الرجوع إلى الاستدبار بعد الاستقبال وهو استعارة أريد بها الترك بعد الأخذ، والتسويل تزيين ما تحرض النفس عليه وتصوير القبيح لها في صورة الحسن، والمراد بالإملاء الأمداد أو تطويل الآمال.

قوله تعالى: ﴿ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم أسرارهم﴾ الإشارة بذلك إلى تسويل الشيطان وإملائه وبالجملة تسلطه عليهم، والمراد ﴿بالذين كرهوا ما نزل الله﴾ هم الذين كفروا كما تقدم في قوله: ﴿والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله﴾ الآية: 9 من السورة.

وقوله: ﴿سنطيعكم في بعض الأمر﴾ مقول قولهم ووعد منهم للكفار بالطاعة وهو كما يلوح من تقييد الطاعة ببعض الأمر على نحو الإجمال كلام من لا يقدر على التظاهر بطاعة من يريد طاعته في جميع الأمور لكونه على خطر من التظاهر بالطاعة المطلقة فيسر إلى من يعده أنه سيطيعه في بعض الأمر وفيما تيسر له ذلك ثم يكتم ذلك ويقعد متربصا للدوائر.

ويستفاد من ذلك أن هؤلاء كانوا قوما من المنافقين أسروا إلى الكفار ما حكاه تعالى عنهم ووعدهم الطاعة لهم مهما تيسر لهم ذلك، ويؤيد ذلك قوله تعالى بعد: ﴿والله يعلم أسرارهم﴾.

واختلفوا في هؤلاء من هم؟ فقيل: هم اليهود قالوا للمنافقين: إن أعلنتم الكفر نصرناكم، وقيل: هم اليهود أو اليهود والمنافقون قالوا ذلك للمشركين.

ويرد على الوجهين جميعا أن موضوع الكلام في الآية المرتدون بعد إيمانهم واليهود لم يؤمنوا حتى يرتدوا.

وقيل: هم المنافقون وعدوا اليهود النصر كما قال تعالى: ﴿ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم﴾ الحشر: 11.

وفيه أن الآية تقبل الانطباق على ذلك كما تقبل الانطباق على اليهود في وعدهم النصر للمشركين على تكلف في صدق الارتداد على كفرهم برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد تبين رسالته لهم لكن لا دليل من طريق لفظ الآية على ذلك فلعلهم قوم من المنافقين غيرهم.

قوله تعالى: ﴿فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم﴾ متفرع على ما قبله، والمعنى: هذا حالهم اليوم يرتدون بعد تبين الهدى لهم فيفعلون ما يشاءون فكيف حالهم إذا توفتهم الملائكة وهم يضربون وجوههم وأدبارهم.

قوله تعالى: ﴿ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم﴾ الظاهر أن المراد بما أسخط الله أهواء النفس وتسويلات الشيطان المستتبعة للمعاصي والذنوب الموبقة كما قال تعالى: ﴿واتبعوا أهواءهم﴾ وقال: ﴿الشيطان سول لهم وأملى لهم﴾.

والسخط والرضا من صفاته تعالى الفعلية والمراد بهما العقاب والثواب.

والإشارة في قوله: ﴿ذلك﴾ إلى ما ذكر في الآية السابقة من عذاب الملائكة لهم عند توفيهم أي سبب عقابهم أن أعمالهم حابطة لاتباعهم ما أسخط الله وكراهتهم رضوانه، وإذ لا عمل لهم صالحا يشقون بالعذاب.

قوله تعالى: ﴿أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم﴾ قال الراغب: الضغن - بكسر الضاد - والضغن - بضمها - الحقد الشديد وجمعه أضغان.

والمراد بالذين في قلوبهم مرض الضعفاء الإيمان ولعلهم الذين آمنوا أولا على ضعف في إيمانهم ثم مالوا إلى النفاق وارتدوا بعد الإيمان، فالتدبر الدقيق في تاريخ صدر الإسلام يوضح أن قوما ممن آمن بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كانوا على هذه الصفة كما أن قوما منهم آخرين كانوا منافقين من أول يوم آمنوا إلى آخر عمرهم، وعلى هذا فعدهم من المؤمنين فيما تقدم بملاحظة بادىء أمرهم.

والمعنى: بل ظن هؤلاء المنافقون الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله ولن يظهر أحقادهم للدين وأهله.

قوله تعالى: ﴿ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم﴾ السيماء العلامة، والمعنى: ولو نشاء لأريناك أولئك المرضى القلوب فلعرفتهم بعلامتهم التي أعلمناهم بها.

وقوله: ﴿ولتعرفنهم في لحن القول﴾ قال الراغب: اللحن صرف الكلام عن سننه الجاري عليه: إما بإزالة الإعراب أو التصحيف وهو المذموم، وذلك أكثر استعمالا، وأما بإزالته عن التصريح وصرفه إلى تعريض وفحوى، وهو محمود عند أكثر الأدباء من حيث البلاغة.

فالمعنى: ولتعرفنهم من جنس قولهم بما يشتمل عليه من الكناية والتعريض، وفي جعل لحن القول ظرفا للمعرفة نوع من العناية المجازية.

وقوله: ﴿والله يعلم أعمالكم﴾ أي يعلم حقائقها وأنها من أي القصود والنيات صدرت فيجازي المؤمنين بصالح أعمالهم وغيرهم بغيرها، ففيه وعد للمؤمنين ووعيد لغيرهم.

قوله تعالى: ﴿ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم﴾ البلاء والابتلاء الامتحان والاختبار، والآية بيان علة كتابة القتال على المؤمنين، وهو الاختبار الإلهي ليمتاز به المجاهدون في سبيل الله الصابرون على مشاق التكاليف الإلهية.

وقوله: ﴿ونبلوا أخباركم﴾ كان المراد بالأخبار الأعمال من حيث إنها تصدر عن العاملين فيكون إخبارا لهم يخبر بها عنهم، واختبار الأعمال يمتاز به صالحها من طالحها كما أن اختبار النفوس يمتاز به النفوس الصالحة الخيرة وقد تقدم فيما تقدم أن المراد بالعلم الحاصل له تعالى من امتحان عباده هو ظهور حال العباد بذلك، وبنظر أدق هو علم فعلي له تعالى خارج عن الذات.

قوله تعالى: ﴿إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا وسيحبط أعمالهم﴾ المراد بهؤلاء رؤساء الضلال من كفار مكة ومن يلحق بهم لأنهم الذين صدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول وعادوه أشد المعاداة بعد ما تبين لهم الهدى.

وقوله: ﴿لن يضروا الله شيئا﴾ لأن كيد الإنسان ومكره لا يرجع إلا إلى نفسه ولا يضر إلا إياه وقوله: ﴿وسيحبط أعمالهم﴾ أي مساعيهم لهدم أساس الدين وما عملوه لإطفاء نور الله، وقيل: المراد إحباط أعمالهم وإبطالها فلا يثابون في الآخرة على شيء من أعمالهم، والمعنى الأول أنسب للسياق لأن فيه تحريض المؤمنين وتشجيعهم على قتال المشركين وتطييب نفوسهم أنهم هم الغالبون كما تفيده الآيات التالية.

بحث روائي:

في المجمع، في قوله تعالى: ﴿ومنهم من يستمع إليك﴾ إلخ، عن الأصبغ بن نباتة عن علي (عليه السلام) قال: إنا كنا عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيخبرنا بالوحي فأعيه أنا ومن يعيه فإذا خرجنا قالوا: ماذا قال آنفا.

وفي الدر المنثور، أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي عن أنس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): بعثت أنا والساعة كهاتين، وأشار بالسبابة والوسطى.

أقول: وروي هذا اللفظ عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) بطرق أخرى عن أبي هريرة وسهل بن مسعود.

وفيه، أخرج ابن أبي شيبة والبخاري ومسلم وابن ماجة وابن مردويه عن أبي هريرة قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوما بارزا للناس فأتاه رجل فقال: يا رسول الله متى الساعة؟ فقال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل ولكن سأحدثك عن أشراطها.

إذا ولدت الأمة ربتها فذاك من أشراطها، وإذا كانت الحفاة العراة رعاء الشاء رءوس الناس فذاك من أشراطها، وإذا تطاول رعاء الغنم في البنيان فذاك من أشراطها.

وفي العلل، بإسناده إلى أنس بن مالك عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث طويل يقول فيه لعبد الله بن سلام وقد سأله عن مسائل: أما أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب.

أقول: ولعل المراد به غير ظاهرة، والأخبار في أشراط الساعة من طرق الشيعة وأهل السنة فوق حد الإحصاء، وقد مرت في آخر الجزء الخامس من الكتاب رواية سلمان عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ورواية حمران عن الصادق (عليه السلام) وهما روايتان جامعتان في الباب.

وفي المجمع، قد صح الحديث بالإسناد عن حذيفة بن اليمان قال: كنت رجلا ذرب اللسان على أهلي فقلت: يا رسول الله إني لأخشى أن يدخلني لساني النار فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): فأين أنت من الاستغفار؟ إني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة.

وفي الدر المنثور، أخرج أحمد وابن أبي شيبة ومسلم وأبو داود والنسائي وابن حبان وابن مردويه عن الأغر المزني قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله كل يوم مائة مرة.

وفيه، في قوله تعالى: ﴿فهل عسيتم إن توليتم﴾ الآية: أخرج البيهقي عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الرحم معلقة بالعرش لها لسان ذلق تقول: اللهم صل من وصلني، واقطع من قطعني.

أقول: والروايات فيها وفي صلتها وقطعها كثيرة، وقد مر شطر منها في تفسير أول سورة النساء.

وفي المجمع، في قوله تعالى: ﴿أفلا يتدبرون القرآن﴾ الآية أفلا يتدبرون القرآن فيقضوا ما عليهم من الحق: عن أبي عبد الله وأبي الحسن (عليه السلام).

وفي التوحيد، بإسناده إلى محمد بن عمارة قال: سألت الصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام) فقلت له: يا ابن رسول الله أخبرني عن الله عز وجل هل له رضى وسخط؟ قال: نعم وليس ذلك على ما يوجد من المخلوقين ولكن غضب الله عقابه ورضاه ثوابه.

وفي المجمع، في قوله تعالى: ﴿ولتعرفنهم في لحن القول﴾ الآية، عن أبي سعيد الخدري قال: لحن القول بغضهم علي بن أبي طالب.

قال: كنا نعرف المنافقين على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ببغضهم علي بن أبي طالب.

قال في المجمع، وروي مثل ذلك عن جابر بن عبد الله الأنصاري.

وقال: وعن عبادة بن الصامت قال: كنا نبور أولادنا بحب علي بن أبي طالب فإذا رأينا أحدهم لا يحبه علمنا أنه لغير رشدة.

وفي الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: ما كنا نعرف المنافقين على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا ببغض علي بن أبي طالب.

وفي أمالي الطوسي، بإسناده إلى علي (عليه السلام) أنه قال: قلت أربعا أنزل الله تعالى تصديقي بها في كتابه، قلت: المرء مخبوء تحت لسانه فإذا تكلم ظهر، فأنزل الله: ﴿ولتعرفنهم في لحن القول﴾.