الآيات 36 - 38

﴿إِنَّمَا الْحَيَوةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاَ يَسْئـَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِن يَسْئـلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أَضْغَـنَكُمْ (37) هَـا أَنتُمْ هـؤُلاَءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنكُم مَن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِىُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَـلَكُم (38)﴾

التّفسير

إن تتولّوا سيمنح الله الرسالة قوماً آخرين:

قلنا: إنّ سورة محمّد هي سورة الجهاد، فبأمر الجهاد بدأت، وبه تنتهي، والآيات مورد البحث - وهي آخر آيات هذه السورة - تتناول مسألة أُخرى من مسائل حياة البشر في هذا الميدان، فتطرح كون الحياة الدنيا لا قيمة لها لزيادة ترغيب المسلمين ودعوتهم إلى طاعة الله سبحانه عموماً، والى أمر الجهاد بالخصوص، لأنّ حبّ الدنيا والإنشداد إليها أحد عوامل المهمّة التي تعوّق عن الجهاد، فتقول: (إنّما الحياة الدنيا لعب ولهو).

"اللعب" يقال للأعمال التي تتصف بنوع من الخيال للوصول إلى هدف خيالي، و"اللهو" يقال لكلّ عمل يشتغل الإنسان به فيصرفه عن المسائل الأساسية.

والحق أنّ الدنيا لعب ولهو ليس إلاّ، فلا يحصل منها أنس وارتياح، وليس لها دوام وبقاء، وإنّما هي لحظات كلمح البصر، ولذات زائلة تحفّها الآلام والمتاعب.

ثمّ تضيف الآية: (وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسألكم أموالكم) (1) فلا أنّ الله يسألكم أجراً مقابل الهداية والرشاد وكلّ تلك الهبات العظيمة في الدنيا والآخرة، ولا رسوله، فإنّ الله تعالى غني عن العالمين، ولا يحتاج رسوله إلى غير الله.

وإذا كان الشيء الزهيد من أموالكم يؤخذ كزكاة وخمس وحقوق شرعية أخرى، فإنّه يعود عليكم ويصرف فيكم، لحماية يتاماكم ومساكينكم وضعفائكم وأبناء السبيل منكم، وللدفاع عن أمن بلادكم واستقلالها، ولإستقرار النظام والأمن، ولتأمين احتياجاتكم، وعمران دياركم.

بناءً على هذا، فحتى هذا المقدار اليسير هو من أجلكم ومنفعتكم، فإنّ الله ورسوله في غنى عنكم، وبذلك فلا منافاة بين مفهوم هذه الآية وآيات الزكاة والإنفاق وأمثالها.

ثمّة احتمالات أُخرى عديدة في تفسير جملة: (ولا يسألكم أموالكم) ولرفع ما يبدو في الظاهر تناقضاً:

فقال البعض: إنّه تعالى لا يسألكم شيئاً من أموالكم مقابل الهداية والثواب.

وقال آخرون: إنّه تعالى لا يسألكم كلّ أموالكم، بل يريد قسماً منها فقط.

وقال جماعة: إنّ هذه الجملة إشارة إلى أنّ أموال الجميع من الله سبحانه، وإن كانت ودائع بأيدينا أيّاماً قليلة.

لكن أفضلها جميعاً هو التّفسير الأول.

وعلى أية حال، فلا ينبغي نسيان أنّ جانباً من الجهاد هو الجهاد بالأموال، ومن الطبيعي أنّ كلّ جهاد للعدو وقتال ضده يحتاج إلى أموال وميزانيات يجب أن تجمع وتهيّأ من قبل المسلمين الزاهدين في الدنيا وغير المتعلّقين بها.

والآيات مورد البحث تهيء - في الحقيقة - الأرضية الفكرية والثقافية لهذه المسألة.

ولتبيان تعلّق أغلب الناس بأموالهم وثرواتهم الشخصية تضيف الآية التالية: (إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم).

"يحفكم" من مادة إحفاء، أي: الإصرار والإلحاح في المطالبة والسؤال، وهي في الأصل من حفأ، وهو المشي حافياً، وهذا التعبير كناية عن الأعمال التي يتابعها الإنسان إلى أبعد الحدود، ومن هنا كان إحفاء الشارب يعني تقصيره ما أمكن.

و"الأضغان" جمع ضغن، وهو بمعنى الحقد الشديد، وقد أشرنا إليه سابقاً.

وخلاصة القول: فإنّ الآية تبيّن التعلّق الشديد لكثير من الناس بالأُمور المالية، وهي في الحقيقة نوع من اللوم ولتوبيخ لهؤلاء، وفي نفس الوقت ترغيب في ترك هذا الإرتباط، وتشويق إلى هذا المعنى، فإنّ تعلّقهم بلغ حدّاً أنّ الله سبحانه إذا سألهم شيئاً من أموالهم فإنّهم يغضبون ويحقدون عليه!

وبذلك فإنّ الآية تريد أن توقظ أرواح البشر الغاطّة في نومها العميق بسوط التقريع والملامة والعتاب، ليرفعوا عن أعناقهم قيود الذل والعبودية للأموال، ويصبحوا في حال يضحّون عندها بكلّ ما لديهم في سبيل الله، ويقدّمون ما عندهم بين يديه، ولا يرجون في مقابل ما يعطون إلاّ الإيمان به وتقواه ورضاه عنهم.

والآية الأخيرة - من الآيات مورد البحث، وهي آخر آية من سورة محمّد - تأكيد آخر على ما مرّ في الآيات السابقة حول المسائل المادية وتعلّق الناس بها، ومسألة الإنفاق في سبيل الله، فتقول: (ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل).

وهنا يأتي سؤال، وهو: إنّ الآيات السابقة قد ذكرت أنّ الله لا يسألكم أموالكم، فكيف أمرت هذه الآية بالإنفاق في سبيل الله؟

غير أنّ تتمة الآية تجيب عن هذا السؤال عن طريقين، فتقول أولاً: (ومن يبخل فإنّما يبخل عن نفسه) (2) لأنّ ثمرة الإنفاق تعود عليكم أنفسكم في الدنيا والآخرة، حيث يقل التفاوت الطبقي، وعندها سيعم الأمن والهدوء في المجتمع، وتحل المحبّة والصفاء محل العداوة والحقد.

هذا ثوابكم الدنيوي.

وأمّا في الآخرة، فستمنحون مقابل كلّ درهم أو دينار تنفقونه الهبات والنعم العظيمة التي لم تخطر على قلب بشر، وعلى هذا فإنّ من يبخل يبخل عن نفسه!

وبتعبير آخر: فإنّ الإنفاق هنا يعني أكثر ما يعني الإنفاق في أمر الجهاد، والتعبير بـ (في سبيل الله) يلائم هذا المعنى أيضاً، ومن الواضح أنّ أي نوع من المساهمة في تقدّم أمر الجهاد سيضمن وجود المجتمع واستقلاله وشرفه.

والجواب الآخر هو: (والله الغني وأنتم الفقراء) فهو غني عن إنفاقكم في سبيله، وغني عن طاعتكم، وإنّما أنتم الفقراء إلى لطفه ورحمته وثوابه وكرمه في الدنيا والآخرة.

إنّ الموجودات الممكنة - وما سوى الله سبحانه - متسربلة في الفقر جميعاً، والغني بذاته هو الله سبحانه لا غير، فإنّها فقيرة إليه دائماً، حتى في أصل وجودها، وتستمد العون من منبع الفيض الأزلي كلّ لحظة، فإذا انقطعت عنها رعايته ولطفه لحظة، فسينتهي وجودها، وتخرّ أبدانها جثثاً هامدة!

وتحذر الجملة الأخير جميع المسلمين أن اعرفوا قدر هذه النعمة الجليلة، والموهبة العظيمة، حيث جعلكم سبحانه حماة دينه القويم وأنصار دينه وأتباع رسوله وأصحابه، فحذار أن تقصروا في تعظيم هذه النعمة وإكبارها، إذ: (وإن تتولّوا يستبدل قوماً غيركم ثمّ لا يكونوا أمثالكم).

أجل، إنّ هذا الحمل لن يسقط على الأرض أبداً، وهذه الرسالة العظيمة لا يمكن أن يتوقّف مسيرها، فإن أنتم لم تستمروا في موقفكم في الذب عن دين الله، واستصغرتم شأن هذه الرسالة العظيمة، فإنّ الله سبحانه سوف يأتي بقوم يتحمّلون أعباء هذه الرسالة... أُولئك قوم يفوقونكم مرّات في الإيثار والتضحية وبذل الأنفس والأموال والإنفاق في سبيل الله!

وقد جاء نظير هذا التهديد في الآية (54) من سورة المائدة، حيث تقول: (يا أيّها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبّهم ويحبّونه أذلة على المؤمنين أعزّة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم).

والطريف أنّ أكثر المفسّرين قد نقلوا في ذيل الآية - مورد البحث - أنّ جماعة من أصحاب رسول الله (ص) سألوه بعد نزول هذه الآية: من هؤلاء الذين ذكرهم الله في كتابه؟ وكان "سلمان" جالساً قريباً من النّبي (ص)، فضرب النّبي (ص) بيده على فخذ سلمان - وفي رواية على كتفه - وقال: "هذا وقومه، والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطاً بالثريا لتناوله رجال من فارس".

لقد أورد هذا الحديث وأمثاله محدّثو السنّة المعروفون في كتبهم المعروفة، كالبيهقي والترمذي، وعليه اتفاق مفسّري الشيعة والسنّة المشهورين، كصاحب تفسير القرطبي، وروح البيان، ومجمع البيان، والفخر الرازي، والمراغي، وأبي الفتوح الرازي وأمثالهم.

وورد في تفسير الدر المنثور عدة أحاديث في هذا الباب في ذيل الآية مورد البحث (3).

وروي حديث آخر عن الإمام الصادق (ع)، يكمل الحديث السابق، إذ يقول: "والله أبدل بهم خيراً منهم الموالي" (4).

إذا نظرنا إلى تاريخ الإسلام والعلوم الإسلامية بدقّة، وبنظرة بعيدة عن التعصّب، ولاحظنا سهم المسلمون غير العرب الإيرانيين خاصة - في ميادين الجهاد ومحاربة العدو من جهة، وتنقيح العلوم الإسلامية وتدوينها من جهة أخرى، فسنطلع على حقيقة هذا الحديث، وتفصيل هذا الكلام طويل.

اللّهمَّ! ثبّت أقدامنا في طريق الجهاد والإيثار والتضحية في سبيل دينك القويم.

اللّهمَّ! لا تسلبنا ما منحتنا من الفخر العظيم إذ جعلتنا دعاةً لدينك الحنيف.

إلهنا! زد في قوّتنا وإيماننا، وتضحياتنا وإخلاصنا في هذا الوقت الذي هبّت فيه عواصف الشرق والغرب الهوجاء لمحو آثار دينك.

آمين يا رب العالمين

نهاية سورة محمّد


1- جملة (لا يسألكم) مجزومة، ومعطوفة على جزاء الجملة الشرطية، أي: يؤتكم.

2- "البخل" يتعدّى مرة بعن، وأخر بعلى، وعلى الأوّل يعني المنع، وعلى الثّاني يعني الإضرار.

3- الدر المنثور، المجلد 6، صفحة 67.

4- تفسير مجمع البيان، الجزء 9، صفحة 108.