الآيات 12 - 14

﴿إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـلِحَـتِ جَنَّـت تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَـرُ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الاَْنْعَـمُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (12) وَكَأَيِّن مِن قَرْيَة هِىَ أَشَدُّ قُوَّةً مِن قَرْيَتِكَ الَّتِى أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَـهُمْ فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَة مِن رَبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُواْ أَهْوَاءَهُم (14)﴾

التّفسير

عاقبة المؤمنين والكافرين:

لمّا كانت الآيات السابقة تتحدّث عن الصراع الدائم بين الحق والباطل، والإيمان والكفر، فإنّ الآيات مورد البحث تبيّن عاقبة المؤمنين والكفّار من خلال مقارنة واضحة، وهي بذلك تريد أن توضح أنّ هذين الفريقين لا يختلفان في الحياة الدنيا وحسب، بل إنّ الإختلاف بينهما سيكون أوسع في الآخرة، فتقول: (إنّ الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنّات تجري من تحتها الأنهار والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنّار مثوى لهم) (1).

صحيح أنّ كلا الفريقين يعيشون في الدنيا، ويتنعّمون بمواهبها ولذّاتها، إلاّ أنّ الفرق يكمن في أنّ هدف المؤمنين هو القيام بالأعمال الصالحة، والأعمال المفيدة البنّاءة لجلب رضى الله تعالى.

أمّا الكافرون فإنّ هدفهم ينصب على الأكل والشرب والنوم والتمتّع بلذّات الحياة.

المؤمنون يتحرّكون حركة واعية هادفة، والكافرون يحيون بلا هدف، ويموتون بلا هدف، كالأنعام تماماً.

المؤمنون يضعون شروطاً كثيرة للتمتع بنعم الحياة، فهم يدقّقون في مشروعية طرق الحصول عليها، كما يدقّقون كيف ينفقونها، أمّا الكافرون فإنّهم كالدّواب لا يهمها أن يكون علفها من أرض صاحبها أو يكون مغصوباً، وسواء كان من حق يتيم أو عجوز بائسة أم لا؟

عندما يتنعّم المؤمنون بنعمة، فإنّهم يفكّرون في واهبها، ويتدبّرون في آياته، ويشكرونه عليها، أمّا الكافر الغافل فلا يفكّر في أي شيء لغفلته، وهو يضيف إلى حمله حملاً جديداً من الظلم والذنوب باستمرار، ويدني نفسه من الهلاك بعد أن تثقله الأوزار، حاله في ذلك حال الأغنام السمينة، فهي كلّما تأكل أكثر، وتسمن أكثر، تكون أقرب إلى الذبح.

وقال البعض: إنّ الفرق بين المؤمنين والكافرين، أنّ المؤمن لا يخلو أكله من ثلاث: الورع عند الطلب، واستعمال الأدب، والأكل للسبب.

والكافر يطلب للنهمة، ويأكل للشهوة، وعيشه في غفلة.

وممّا يستحق الإنتباه أنّ القرآن الكريم يقول في شأن المؤمنين: (إنّ الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنّات) ويقول في الكافرين (والنّار مثوى لهم) فإنّ التعبير الأوّل يدلّ على احترام المؤمنين وتقديرهم، وإنّ الله سبحانه يدخلهم

الجنّة، أمّا التعبير الثّاني، فإنّه يوحي باحتقار الكفّار الذين خرجوا من ولايته، وعدم الإهتمام بهم.

واستفاد بعض المفسّرين من جملة: (والنّار مثوى لهم) - أي محلهم النّار - أنّهم الآن في النّار، لأنّ الجملة ليست بصيغة الفعل المضارع والمستقبل، وإنّما هي تخبر عن الحال.

والحقيقة كذلك، لأنّ أعمال هؤلاء وأفكارهم نار بحدِّ ذاتها، وهم مبتلون بها، وقد أحاطت بهم جهنّم من كلّ مكان، وإن كان هؤلاء الذين هم كالأنعام في غفلة، كما نقرأ ذلك في الآية (49) من سورة التوبة: (وإنّ جهنّم لمحيطة بالكافرين).

وفي بعض آيات القرآن الأُخرى شبّه أصحاب النّار بالأنعام، بل هم أضلّ منها: (أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون) (2)، وقد أوردنا في ذيل هذه الآية شرحاً مفصّلاً.

ومن أجل إكمال هذا الهدف تقارن الآية التالية بين مشركي مكّة وعبدة الأوثان الماضين، وبعبارة أوضح، فإنّها تهدّدهم تهديداً شديداً، وتؤكّد ضمنياً على بعض جرائمهم الشنيعة التي تدلّ على جواز قتالهم فتقول: (وكأيّن من قرية هي أشدّ قوة من قريّتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم).

فلا يظنّ هؤلاء أنّ الدنيا مستوسقة لهم إلى درجة أنّهم اجترؤوا على إخراج أشرف رسل الله من أقدس المدن، فإنّ الأمر لا يدوم كذلك، فهم بالقياس إلى قوم عاد وثمود والفراعنة وجيش أبرهة موجودات ضعيفة عاجزة، والله قادر على تدميرهم بكلّ سهولة، والقضاء عليهم يسير على الله سبحانه.

وجاء في رواية عن ابن عباس: إنّ النّبي (ص) لمّا خرج من مكّة إلى غار ثور، توجّه إلى مكّة وقال: "أنت أحبّ البلاد إلى الله، وأنت أحبّ البلاد إليَّ، ولولا المشركون أهلك أخرجوني لما خرجت منك"، فنزلت الآية أعلاه تبشّر النّبي (ص) بنصر الله، وتهدّد الأعداء بالعذاب والعقاب (3).

وطبقاً لسبب النّزول هذا تكون الآية مكيّة، لكن يبدو أنّ سبب النّزول هذا يتعلّق بالآية (85) من سورة القصص، وقد ذكره كثير من المفسّرين هناك، فهو ينسجم مع تلك الآية أكثر، إذ تقول: (إنّ الذي فرض عليك القرآن لرادّك إلى معاد) (4).

والملفت للنظر أنّ الآية نسبت الإخراج إلى نفس مكّة، في حين أنّ المراد أهلها، وهذه كناية لطيفة عن تسلّط فئة معيّنة، على مقدرات المدينة، وقد ورد نظير ذلك في مواضع أُخرى من القرآن المجيد.

ثمّ إنّ التعبير بالقرية - وكما قلنا ذلك مراراً - يطلق على كلّ مدينة وأرض عامرة مسكونة، ولا يخص المعنى المتعارف للقرية.

وتطرح آخر الآيات - مورد البحث - مقارنة أُخرى بين المؤمنين والكفار... بين فئتين تختلفان في كلّ شيء، فإحداهما مؤمنة تعمل الصالحات، وتحيا الاُخرى حياة حيوانية بكلّ معنى الكلمة... بين فريقين، أحدهما مستظل بظل ولاية الله سبحانه، والآخر لا مولى له ولا ناصر، فتقول: (أفمن كان على بيّنة من ربّه كمن زيّن له سوء عمله واتبعوا أهواءهم) ؟

إنّ الفريق الأوّل قد اختاروا طريقهم عن معرفة صحيحة، ورؤية واقعية، وعن يقين ودليل وبرهان قطعي، وهم يرون طريقهم وهدفهم بوضوح، ويسيرون نحوه بسرعة.

أمّا الفريق الثّاني فقد ابتلوا بسوء التشخيص، وعدم إدراك الواقع، وظلمة المسير والهدف، فهم في ظلمات الأوهام حائرون.

والعامل الأساس في هذه الحيرة والضلالة هو اتباع الهوى والشهوات، لأنّ الهوى والشهوات تلقي الحجب على عقل الإنسان وفكره، فتصوّر له القبيح حسناً، كما نرى أناساً يفخرون بأعمالهم التي يندى لها الجبين، وهي وصمة عار في جباههم، كما جاء ذلك في الآية (103) من سورة الكهف: (قل هل ننبّئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعاً أولئك الذين كفروا بآيات ربّهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً).

"البينة" تعني الدليل الواضح الجلي، وهي هنا إشارة إلى القرآن، ومعاجز الرّسول الأعظم (ص)، والدلائل العقلية الأُخرى.

ومن الواضح أنّ الإستفهام في جملة: (أفمن كان...) استفهام إنكاري، أي إنّ هذين الفريقين لا يتساويان أبداً.

ولكن من الذي يزيّن أعمال السوء في أنظار عبدة الهوى ومتبعيه؟ أهو الله سبحانه، أم هم أنفسهم، أم الشياطين؟

ينبغي أن يقال: إنّها تصح جميعاً، لأنّ التزيين نسب إلى الثلاثة في آيات القرآن، فتقول الآية (4) من سورة النمل: (إنّ الذين لا يؤمنون بالآخرة زيّنا لهم أعمالهم).

وجاء في آيات عديدة أخرى، ومن جملتها الآية (38) من سورة العنكبوت، التي تقول: (وزيّن لهم الشيطان أعمالهم).

وظاهر الآية مورد البحث، وبملاحظة الجملة: (واتبعوا أهواءهم) أنّ هذا التزيين ناشئ عن اتباع الهوى، وقضية كون الهوى والشهوات تسلب الإنسان القدرة على الحس والتشخيص والإدراك الصحيح للحقائق، قضية يمكن إدراكها بوضوح.

إنّ نسبة التزيين إلى الشيطان - طبعاً - صحيحة أيضاً، لأنّه هو الذي ينصب المكائد ويوسوس للإنسان أن يلجها، ويزيّن له اتباع الهوى.

وأمّا نسبته إلى الله سبحانه فلأنّه مسبب الأسباب، وإليه يرجع كلّ سبب، فهو الذي أعطى النّار الأحراق، ومنح الهوى قدرة تغطية الحقائق وإلقاء الحجب عليها لئلا يدركها من يتبعه، وقد أظهر هذا التأثير وأعلنه من قبل، ولذلك فإنّ أصل المسؤولية يرجع إلى نفس الإنسان.

ويعتقد البعض أنّ جملة: (من كان على بيّنة من ربّه) إشارة إلى النّبي (ص) والجملة التالية ناظرة إلى كفار مكّة، غير أنّ الظاهر هو أنّ للآية معنى واسعاً، وهذا من مصاديقه.


1- كما تأكل.. في محل نصب مفعول مطلق مقدّر، والتقدير: يأكلون أكلاً كما تأكل الأنعام.

2- الأعراف، الآية 179.

3- تفسير القرطبي، المجلد 9، صفحة 6055.

4- لمزيد من التفصيل حول هذا المطلب يراجع تفسير الآية (85) من سورة القصص.