الآيات 29 - 32

﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُواْ أَنصِتُواْ فَلَمَّا قُضِىَ وَلَّوْ إلى قَوْمِهِم مُنذِرِينَ (29) قَالُواْ يَـقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَـباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِى إلى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيق مُسْتَقِيم (30) يَـقَوْمَنَا أَجِيبُواْ دَاعِىَ اللهِ وَآمِنُواْ بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِنْ عَذَاب أَلِيم (31) وَمَن لاَ يُجِبْ دَاعِىَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِز فِى الاَْرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَـئِكَ فِى ضَلَـل مُبِين (32)﴾

سبب النّزول

وردت روايات مختلفة في سبب نزول هذه الآيات، ومن جملتها: أنّ رسول الله (ص) خرج من مكّة إلى سوق عكاظ في الطائف - وكان معه زيد بن حارثة - من أجل أن يدعو الناس إلى الإسلام، إلاّ أنّ أحداً لم يجبه، فاضطر إلى الرجوع إلى مكّة، وفي طريق عودته وصل إلى موضع يقال له: وادي الجن، فبدأ بتلاوة القرآن في جوف الليل، وكانت طائفة من الجن يمرون من هناك، فلما سمعوا قراءة النّبي (ص) للقرآن أصغوا إليه وقال بعضهم لبعض: اسكتوا وأنصتوا، فلما أتمّ رسول الله (ص) تلاوته آمنوا به، وأتوا قومهم كرسل يدعونهم إلى الإسلام، فآمن لهم جماعة، وأتوا جميعاً إلى النّبي (ص) فعلّمهم رسول الله (ص) الإسلام، فنزلت هذه الآيات وآيات سورة الجن (1).

ونقل جماعة عن ابن عباس سبب نزول آخر يقرب من سبب النّزول السابق، باختلاف: إنّ النّبي (ص) كان مشتغلاً بصلاة الصبح وكان يقرأ القرآن فيها، وكان جماعة من الجن في حالة بحث وتحقيق، إذ كان انقطاع أخبار السماء عنهم قد أقلقهم، فسمعوا صوت تلاوة النّبي (ص) فقالوا: هذا سبب انقطاع أخبار السماء عنّا، فرجعوا إلى قومهم ودعوهم إلى الإسلام (2).

وقد أورد العلاّمة الطبرسي في مجمع البيان سبباً ثالثاً للنزول هنا، وهو يرتبط بقصة سفر النّبي (ص) إلى الطائف وخلاصته:

بعد وفاة أبي طالب صعب الأمر على النّبي (ص) فرحل إلى الطائف لعله يجد أنصاراً، فبرز إليه أشراف الطائف وكذّبوه أشدّ تكذيب، ورموا النّبي بالحجارة حتى سالت الدماء من قدميه، فأعياه التعب، فأتى إلى جنب بستان واستظل بظل نخلة، وكانت الدماء تسيل منه.

وكان البستان لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة، وكانا من أثرياء قريش، فتأذى النبي (ص) من رؤيتهما لعلمه بعدائهما للإسلام من قبل، فأرسلا غلامهما "عداساً" - وكان رجلاً نصرانياً - إلى النّبي (ص) بطبق من العنب، فقال النّبي (ص) لعداس: "من أي أرض أنت"؟ قال: من نينوى، قال: "من مدينة العبد الصالح يونس بن متى"، فقال: وما يدريك من يونس بن متى؟ قال: "أنا رسول الله، والله تعالى أخبرني خبر يونس بن متى" فعرف عداس صدق النّبي (ص) فخرّ ساجداً لله تعالى، ووقع على قدمي النّبي (ص) يقبلهما.

فلما رجع لامه عتبة وشيبة على ما صنع، فقال: لقد أخبرني هذا الرجل الصالح بما يجهله أهل هذه البلاد من أمر نبيّنا يونس، فضحكا وقالا: لا يفتننك عن نصرانيتك، فإنّه رجل خداع!

فرجع النّبي (ص) إلى مكّة، ولم يكن حاصل سفره هذا إلاّ مؤمن واحد، فوصل نخلاً في جوف الليل، فما إن حلّ حتى تهيّأ للصلاة، وكان جماعة من الجن من أهل نصيبين أو اليمن يمرون من هناك، فسمعوا صوت تلاوة القرآن في صلاة الصبح فأصغوا إليه وآمنوا (3).

التّفسير

إيمان طائفة من الجن:

جاء في هذه الآيات - وكما أُشير في سبب النّزول - بحث مختصر حول إيمان طائفة من الجن بنبيّ الإسلام (ص) وكتابه السماوي، لتوضح لمشركي مكّة حقيقة، هي: كيف تؤمن طائفة من الجن البعيدين - ظاهراً - بهذا النبي الذي هو من الإنس، وبعث من بين أظهركم، وأنتم تصرون على الكفر، وتستمرون في عنادكم ومخالفتكم؟

وسيكون لنا بحث مفصل حول (الجن) وخصوصياته في تفسير سورة الجن إن شاء الله تعالى، ونتناول هنا تفسير الآيات مورد البحث فقط.

لقد كانت قصة قوم عاد تحذيراً لمشركي مكّة في الحقيقة، وقصة إيمان طائفة من الجن تحذيراً آخر.

تقول الآية أوّلاً: (وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن).

إنّ التعبير بـ (صرفنا) - من مادة صرف، يعني نقل الشيء وتبديله من حالة إلى اُخرى - ولعله إشارة إلى أنّ الجن كانوا يصغون إلى أخبار السماء عن طريق استراق السمع، ومع ظهور نبيّ الإسلام (ص) رجعوا إليه واتّجهوا نحو القرآن.

و"النفر" كما يقول الراغب في مفرداته - عدّة رجال يمكنهم النفر، والمشهور بين أرباب اللغة أنّه الجماعة من الثلاثة إلى العشرة، وأوصلها البعض إلى الأربعين.

ثمّ تضيف الآية: (فلمّا حضروه قالوا أنصتوا) وذلك حينما كان النّبي (ص) يتلو آيات القرآن في جوف الليل، أو في صلاة الصبح.

"انصتوا" من مادة إنصات، وهو السكوت مع الإستماع والإنتباه.

وأخيراً أضاء نور الإيمان قلوب هؤلاء، فلمسوا في أعماقهم كون آيات القرآن حقاً، ولذلك: (فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين) وهذا دأب المؤمنين دائماً، في أن يطلعوا الآخرين على الحقائق التي اطلعوا عليها، ويدلوهم على مصادر إيمانهم ومنابعه الفياضة.

وتبيّن الآية التالية كيفية دعوة هؤلاء قومهم عند عودتهم إليهم، تلك الدعوة المتناسقة الدقيقة، الوجيزة والعميقة المعنى: (قالوا يا قومنا إنّا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى).

ومن صفاته أنّا رأيناه يصدق الكتب السماوية السالفة ويتطابق معها في محتواها، وفيه العلائم الواردة في تلك الكتب: (مصدقاً لما بين يديه) (4).

وصفته الأُخرى أنّه: (يهدي إلى الحق) بحيث أنّ كلّ من يستند إلى عقله وفطرته يرى آيات حقانيته واضحة جلية.

وآخر صفة أنّه يهدي إلى الرشد: (والى طريق مستقيم).

إنّ التفاوت بين الدعوة إلى الحق والى الصراط المستقيم، يكمن ظاهراً في أنّ الأوّل إشارة إلى العقائد الحقة، والثّاني إلى البرامج العملية المستقيمة الصحيحة.

وجملة: (أنزل من بعد موسى) وجملة: (مصدقاً لما بين يديه) تؤيدان أنّ هذه الطائفة كانوا مؤمنين بالكتب السماوية السابقة، وخاصة كتاب موسى (ع)، وكانوا يبحثون عن الحق.

وإذا رأينا أنّ الكلام لم يرد عن كتاب عيسى الذي أنزل بعد موسى (ع)، فليس ذلك بسبب ما روي عن ابن عباس من أنّ الجن لم يكونوا مطلعين على نزول الإنجيل مطلقاً، إذ أنّ الجن كانوا مطلعين على أخبار السماوات وعالمين بها، فكيف يمكن أن يغفلوا عن أخبار الأرض إلى هذا الحد؟ بل بسبب أنّ التوراة كانت هي الكتاب الأساسي، فحتى المسيحيون كانوا قد أخذوا ويأخذون أحكام شريعتهم عنها.

ثمّ أضافوا: (يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به) إذ ستمنحون حينها مكافأتين عظيمتين: (يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم) (5).

المراد من: (داعي الله) نبيّ الإسلام (ص) الذي كان يرشدهم إلى الله سبحانه، ولما كان أغلب خوف الإنسان واضطرابه من الذنوب وعذاب القيامة الأليم، فقد ذكروا لهم الأمن تجاه هذين الأمرين، ليلفت انتباههم قبل كلّ شيء.

واعتبر جمع من المفسّرين كلمة (من) في (من ذنوبكم) زائدة، ليكون ذلك تأكيداً على غفران جميع الذنوب في ظل الإيمان.

في حين اعتبرها البعض تبعيضية، وأنّها إشارة إلى تلك الذنوب التي اقترفوها قبل إيمانهم، أو الذنوب التي تتعلق بالله سبحانه، لا بحق الناس.

غير أنّ الأنسب هو كون (من) زائدة وللتأكيد، والآية الشريفة تشمل كلّ الذنوب.

وتذكر الآية الأخيرة - من هذه الآيات - كلام مبلغي الجن، فتقول: (ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء) ينصرونه من عذاب الله، ولذلك فإنّ: (أُولئك في ضلال مبين).

أي ضلال أشد وأسوأ وأجلى من أن يهبّ الإنسان إلى محاربة الحق ونبيّ الله، بل حتى إلى محاربة الله الذي لا ملجأ له سواه في كلّ عالم الوجود، ولا يستطيع الإنسان أن يفر من حكومته إلى مكان آخر؟!

وقد قلنا مراراً: إنّ (معجز) - أو سائر مشتقات هذه الكلمة - تعني في مثل هذه الموارد العجز عن المطاردة والتعقيب والمجازاة، وبتعبير آخر: الفرار من قبضة العقاب.

وعبارة (في الأرض) إشارة إلى أنّكم حيثما تذهبون في الأرض فإنّه ملك الله وسلطانه، ولا يمكن أن تكونوا خارج حدود قدرته وقبضته، وإذا كانت الآية لا تتحدث عن السماء، فلأنّ مكان الإنس والجن هو الأرض على كلّ حال.

بحثان

1 - الإعلام المؤثر

كما قلنا سابقاً، فإنّ البحث حول الجن وكيفية حياتهم والخصوصيات الاُخرى المتعلقة بهم ستأتي في تفسير سورة الجن إن شاء الله تعالى، والذي يستفاد من هذه الآيات أنّ الجن موجودات عاقلة لها إدراك وشعور، وهم مكلّفون بالواجبات الإلهية، وفيهم المؤمن والكافر، ولديهم الإطلاع الكافي على الدعوات الإلهية.

والمسألة الملفتة للنظر في هذه الآيات هو الأسلوب الذي اتبعه هؤلاء للتبليغ من أجل الإسلام بين قومهم، فهم بعد حضورهم عند النّبي (ص) وسماعهم آيات القرآن، وإطلاعهم على محتواها، أتوا قومهم مسرعين وشرعوا بدعوتهم.

لقد تحدّثوا أوّلاً عن كون القرآن حقّاً، وأثبتوا ذلك بأدلة ثلاثة، ثمّ بدأوا بترغيبهم، فبشروهم بالنجاة والخلاص من قبضة عذاب الآخرة في ظل الإيمان بهذا الكتاب السماوي، وكان ذلك تأكيداً على مسألة المعاد من جانب، وصرف الإهتمام إلى قيم الآخرة الأصيلة في مقابل قيم الدنيا الزائلة الفانية من جانب آخر.

ثمّ نبّهوهم في المرحلة الثّالثة على أخطار ترك الإيمان، وحذروهم تحذيراً مقترناً بالإستدلال والحرص، وأخيراً بيّنوا لهم عاقبة الإنحراف عن هذا المسير، فالإنحراف عنه هو الضلال المبين.

إنّ هذا الأسلوب في التبليغ والإعلام أُسلوب مؤثر نافع لكلّ فرد ولكلّ فئة.

2 - أفضل دليل على عظمة القرآن محتواه

يظهر جلياً من الآيات أعلاه - وآيات سورة الجن - أنّ هذه الفرقة من الجن قد انجذبوا إلى القرآن وانشدوا إليه بمجرّد سماع آياته، ولا يوجد أي دليل على أنّهم قد طلبوا من نبيّ الإسلام (ص) معجزة أُخرى.

لقد اعتبر هؤلاء انسجام القرآن المجيد مع آيات الكتب السابقة من جهة، وأنّه يدعو إلى الحق من جهة ثانية، واستقامة برامجه العملية وتخطيطه من جهة ثالثة، كافياً لأن يدل على كونه حقّاً.

والحق أنّ الأمر كذلك، فإنّ التدبّر في محتوى القرآن والتحقيق فيه يغنينا عن الحاجة إلى أي دليل آخر.

إنّ كتاباً لشخص أُمي لم يدرس، وفي محيط مليء بالجهل والخرافات، يكون فيه هذا المحتوى السامي، والعقائد الطاهرة النقية، والتوحيد الخالص، والقوانين المحكمة المنسجمة، والإستدلالات القوية القاطعة، والبرامج المتينة البنّاءة، والمواعظ والإرشادات العالية الجلية، وبتلك الجاذبية القوية، والجمال المذهل، كل ذلك يشكل بنفسه أفضل دليل على حقانية هذا الكتاب السماوي، فإنّ ظهور الشمس دليل على ظهورها - كما يقول المثل - (6).


1- تفسير علي بن إبراهيم طبقاً لنقل نور الثقلين، المجلد 5، صفحة 19، باختصار يسير.

2- ورد هذا الحديث الذي أوردنا ملخصه في صحيح البخاري ومسلم ومسند أحمد بصورة مفصلة، طبقاً لنقل في ظلال القرآن، المجلد 7، صفحة 429.

3- مجمع البيان، المجلد 9، صفحة 92. وأورد هذه القصة باختلاف يسير ابن هشام في تأريخه (السيرة النبوية)، المجلد 2، صفحة 62 - 63.

4- لقد أوردنا تفسير هذه الجملة مفصلاً في ذيل الآية 41 من سورة البقرة.

5- "يجركم" من مادة (إجارة)، وقد وردت بمعان مختلفة: الإغاثة، الإنقاذ من العذاب الإيواء، والحفظ.

6- كان لنا بحث مفصّل حول إعجاز القرآن في التّفسير الأمثل، ذيل الآية (23) من سورة البقرة.