الآيات 21 - 25
﴿وَاذْكُرْ أَخَا عَاد إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالاَْحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللهَ إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْم عَظِيم (21) قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّـدِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللهِ وَأُبَلِّغُكُم مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلـكِنِّى أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُواْ هـذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَىْء بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُواْ لاَ يُرَى إِلاَّ مَسَـكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِى الْقَوْمَ الْمُـجْرِمِينَ (25)﴾
التّفسير
قوم عاد والريح المدمرة:
لما كان القرآن يذكر قضايا كلية، ثمّ يتطرق إلى بيان مصاديق واضحة لها، ليطبق تلك الكليات.
فإنّه هنا يسلك نفس السبيل، فبعد أن فصل حال المستكبرين المتمردين، تطرّق إلى ذكر قصة قوم عاد الذين هم صورة واضحة لأولئك العتاة، فتقول الآية: (واذكر أخا عاد).
إنّ التعبير بالأخ يعكس منتهى صفاء هذا النّبي العظيم وحرصه على قومه، وقد ورد هذا التعبير في القرآن المجيد - كما نعلم - في مورد عدة أنبياء عظام كانوا إخوة لأقوامهم حريصين رحماء بهم، لم يبخلوا من أجلهم بأي نوع من الإيثار والتضحية.
ويمكن أن يكون هذا التعبير إشارة إلى علاقة القرابة والرحم بين هؤلاء الأنبياء وأقوامهم.
ثمّ تضيف الآية: (إذ أنذر قومه بالأحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه).
"الأحقاف" - كما قلنا سابقاً - تعني الكثبان الرملية التي تتشكل على هيئة مستطيل أو تعرجات ومنحنيات، على أثر هبوب العواصف في الصحاري، ويتّضح من هذا التعبير أنّ أرض قوم عاد كانت أرضاً حصباء كبيرة.
وذهب البعض أنّها في قلب جزيرة العرب بين نجد والأحساء وحضرموت وعمان.
إلاّ أنّ هذا المعنى يبدو بعيداً، حيث يظهر من آيات القرآن الأُخرى - في سورة الشعراء - أنّ قوم عاد كانوا يعيشون في مكان كثير المياه والأشجار الجميلة، ومثل هذا الحال بعيد جدّاً عن قلب الجزيرة.
وذهب جمع آخر من المفسّرين أنّها في الجزء الجنوبي للجزيرة حول اليمن، أو في سواحل بحر العرب (1).
واحتمل البعض أنّ الأحقاف كانت منطقة في أرض العراق في مناطق كلدة وبابل (2).
ونقل عن الطبري أنّ الأحقاف اسم جبل في الشام (3).
لكن يبدو أنّ القول بأنّ هذه المنطقة تقع جنوب الجزيرة العربية قرب أرض اليمن، هو الأقرب، بملاحظة ملاءمته المعنى اللغوي للأحقاف، وبملاحظة أنّ أرضهم كانت غزيرة المياه وفيرة الأشجار، في نفس الوقت الذي لم تكن فيه بمأمن من العواصف الرملية.
وجملة: (وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه) إشارة إلى الأنبياء الذين بعثوا قبله، بعضهم قريب عهد به، وهم الذين عبّر عنهم القرآن بـ (من بين يديه) والبعض الآخر تقادمت الفترة الزمنية بينهم وبينه الذين عبّر عنهم بـ (من خلفه).
أمّا ما احتمله البعض من أنّ المراد من هذه الجملة الأنبياء الذين جاؤوا قبل هود وبعده، فيبدو بعيداً جدّاً، ولا ينسجم مع جملة: (وقد خلت) التي تعني الزمن الماضي.
ولنرَ الآن ماذا كان محتوى دعوة هذا النّبي العظيم؟
يقول القرآن الكريم: (ألاّ تعبدوا إلاّ الله) ثمّ هدّدهم بقوله: (إنّي أخاف عليكم عذاب يوم عظيم).
وبالرغم من أنّ التعبير بـ (يوم عظيم) جاء بمعنى يوم القيامة غالباً، إلاّ أنّه أطلق أحياناً في آيات القرآن على الأيّام القاسية المرعبة التي مرّت على الأمم، وهذا المعنى هو المراد هنا، لأنّنا نقرأ في متابعة هذه الآيات أنّ قوم عاد قد ابتلوا بعذاب الله في يوم عسر مرعب وانتهى أمرهم.
إلاّ أنّ هؤلاء القوم المتمردين وقفوا بوجه هذه الدعوة الإلهية، وخاطبوا هوداً:
(قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين) (4).
هاتين الجملتين تبيّنان بوضوح مدى انحراف هؤلاء القوم وتعصبهم، فهم في الجملة الأولى يقولون: إنّ دعوتك كاذبة، لأنّها تخالف آلهتنا التي تعوَّدنا على عبادتها، وهي إرث ورثناه عن آبائنا.
ونراهم في الجملة الثّانية يطلبون وقوع العذاب! ذلك العذاب الذي إن نزل بهم فلا رجعة معه مطلقاً، وأي ذي لب يتمنّى نزول مثل هذا العذاب، حتى وإن لم يكن لديه يقين بوقوعه؟
إلاّ أنّ هوداً (ع) قال في ردّه على هذا الطلب المتهور الذي يدل على الجنون: (قال إنّما العلم عند الله) فهو الذي يعلم متى وفي أي ظروف ينزل عذاب الإستئصال، فلا هو مرتبط بطلبكم وتمنيكم، ولا هو تابع لرغبتي، بل يجب أن يتمّ الهدف ويتحقق، ألا وهو إتمام الحجّة عليكم، فإن حكمته سبحانه تقتضي ذلك.
ثمّ يضيف: (وأبلغكم ما أرسلت به) فهو مهمتي الأساسية، ومسؤوليتي الرئيسية، أمّا اتخاذ القرار في شأن طاعة الله وأوامره فهو أمر يتعلق بكم، وإرادة نزول العذاب ومشيئته تتعلق به سبحانه.
(ولكني أراكم قوماً تجهلون) وجهلكم هذا هو أساس تعاستكم وشقائكم، فإنّ الجهل المقترن بالكبر والغرور هو الذي يمنعكم من دراسة دعوة رسل الله، ولا يأذن لكم في التحقيق فيها... ذلك الجهل الذي يحملكم على الإصرار على نزول عذاب الله ليهلككم، ولو كان لديكم أدنى وعي أو تعقل لكنتم تحتملون - على الأقل - وجود احتمال إيجابي في مقابل كلّ الإحتمالات السلبية، والذي إذا ما تحقق فسوف لا يبقى لكم أثر.
وأخيراً لم تؤثر نصائح هود (ع) المفيدة، وإرشاداته الأخوية في قساة القلوب أُولئك، وبدل أن يقبلوا الحق لجّوا في غيّهم وباطلهم، وتعصبوا له، وحتى نوح (ع) كذّبه قومه بهذا الإدعاء الواهي وهو أنّك إن كنت صادقاً فيما تقول فأين عذابك الموعود؟
والآن، وقد تمّت الحجة بالقدر الكافي، وأظهر أُولئك عدم أهليتهم للبقاء، وعدم استحقاقهم للحياة، فإنّ حكمة الله سبحانه توجب أن يرسل عليهم "عذاب الإستئصال"، ذلك العذاب الذي يجتث كلّ شيء ولا يبقي ولا يذر.
وفجأة رأوا سحاباً قد ظهر في الأفق، واتسع بسرعة: (فلمّا رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا) (5).
قال المفسّرون: إنّ المطر انقطع مدّة عن قوم عاد، وأصبح الهواء حاراً جافاً خانقاً، فلمّا وقع بصر قوم عاد على السحب المظلمة الواسعة في الأفق البعيد، وهي تتجه صوبهم فرحوا لذلك جدّاً، وهبّوا لإستقبالها، وجاؤوا إلى جوانب الوديان والسهول ومجاري السيول والمياه.
ليروا منظر نزول المطر المبارك ليحيوا من جديد، وتسر بذلك نفوسهم.
لكن، قيل لهم سريعاً بأنّ هذا ليس سحاباً ممطراً: (بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم).
والظاهر أنّ المتكلم بهذا الكلام هو الله سبحانه، أو أنّ هوداً لمّا سمع صرخات فرحهم واستبشارهم قال لهم ذلك.
نعم، إنّها ريح مدمّرة: (تدمر كلّ شيء بأمر ربّها).
قال بعض المفسّرين: إنّ المراد من (كل شيء) البشر ودوابهم وأموالهم، لأنّ الجملة التالية تقول: (فأصبحوا لا يرى إلاّ مساكنهم) وهذا يوحي بأنّ مساكنهم كانت سالمة، أمّا هم فقد هلكوا، وألقت الرياح القوية أجسادهم في الصحاري البعيدة، أو في البحر.
وقال البعض: إنّهم لم يلتفتوا إلى أنّ هذه السحب السوداء هي رياح قوية مغبرة، إلاّ عندما وصلت قريباً من ديارهم، ورفعت دوابهم ورعاتهم - الذين كانوا في الصحاري المحيطة بهم - من الأرض ورمتهم في الهواء، ورأوا أنّها تقتلع الخيام من مكانها وتلقيها في الهواء حتى كانت تبدو كالجواد!
عندما رأوا ذلك المشهد، فروا والتجأوا إلى دورهم وأغلقوا الأبواب عليهم، إلاّ أنّ الأعاصير اقتلعت الأبواب وألقتها على الأرض - أو حملتها معها - ورمت أجساد هؤلاء بالأحقاف، وهي الرمال المتحركة.
وجاء في الآية (7) من سورة الحاقة: (سخّرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام) وهكذا بقي هؤلاء القوم يئنون تحت تل من الرمال والتراب، ثمّ أزالت الرياح القوية التراب فظهرت أبدانهم مرّة أُخرى، فحملتها وألقتها في البحر (6).
وتشير الآية في النهاية إلى حقيقة، وهي أنّ هذا المصير غير مختص بهؤلاء القوم الضالين، بل: (كذلك نجزي القوم المجرمين).
وهذا إنذار وتحذير لكلّ المجرمين العصاة، والكافرين المعاندين الأنانيين، بأنّكم إن سلكتم هذا الطريق فسوف لن يكون مصيركم أحسن حالاً من هؤلاء، فإنّه تعالى قد يأمر الرياح بأن تهلككم، ذات الرياح التي يعبر القرآن الكريم بأنّها: (مبشرات بين يدي رحمته) لأنّ الرياح تتصف بصفة الأمر الإلهي المطلوب منها.
وقد يبدل الأرض التي هي مهد استقرار الإنسان واطمئنانه، إلى قبر له بزلزلة شديدة.
وقد يبدّل المطر الذي هو أساس حياة كلّ الكائنات الحية، إلى سيول جارفة تُغرق كل شيء.
نعم، إنّه عزَّوجلَّ يجعل جنود الحياة جنود موت وفناء، وكم هو مؤلم الموت الذي يأتي من سبب الحياة وأساسها؟ خاصّةً إذا كان الأمر كما في قوم هود إذ فرحوا وسروا في البداية ثمّ جاءتهم البطشة ليكون العذاب أشد وآلم.
والطريف أنّه يقول: إنّ هذه الرياح، هي في الأصل أمواج هوائية لطيفة تتحوّل إعصار يدمّر كلّ شيء بأمر الله (7).
1- في ظلال القرآن، ذيل الآيات مورد البحث.
2- و 3 - طبقاً لنقل المرحوم الشعراني في هامش تفسير أبي الفتوح الرازي، المجلد 10، صفحة 165.
3- المصدر السابق.
4- "لتأفكنا" من مادة "إفك"، أي الكذب والإنحراف عن الحق.
5- "عارض" من مادة (عرض)، وهنا بمعنى السحاب الذي ينتشر في عرض السماء، وربّما كان هذا أحد علامات السحب الممطرة بأنّها تتسع في ذلك الأفق ثمّ تصعد. و"الأودية" جمع واد، وهو المنخفض ومجرى السيول والمياه.
6- تفسير الفخر الرازي، المجلد 28، صفحة 28، ذيل الآيات مورد البحث، وجاء هذا المعنى أيضاً في تفسير القرطبي، المجلد9، صفحة 6026.
7- "تدمّر" من مادة تدمير، وهو الإهلاك والإفناء.