الآيات 11 - 14

﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ فَسَيَقُولُونَ هـذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِن قَبْلِهِ كِتَـبُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهـذَا كِتَـبٌ مُصَدِّقٌ لِّسَاناً عَرَبِيّاً لِيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَـمُواْ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَـئِكَ أَصْحَـبُ الْجَنَّةِ خَـلِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (14)﴾

سبب النّزول

ذكر المفسّرون أسباب نزول عديدة للآية الأولى من هذه الآيات:

1 - إنّ هذه الآية نزلت في "أبي ذر الغفاري" الذي أسلم في مكّة، ثمّ تابعته في الإيمان قبيلته - بنو غفار - ولما كانت قبيلة بني غفار من سكان البادية وكانوا فقراء، قال كفار قريش - وكانوا أثرياء من أهل المدن -: لو كان الإسلام خيراً ما سبقنا إليه غفار الحلفاء، فنزلت هذه الآية وأجابتهم.

2 - كانت في مكّة جارية رومية يقال لها "زنيرة" (1)، لبت دعوة النّبي (ص) إلى الإسلام، فقال زعماء قريش: لو كان ما جاء به محمّد خيراً ما سبقتنا إليه زنيرة.

3 - إنّ جماعة من قبائل البوادي أسلموا قبل سكان مكّة، فقال أشراف مكّة: لو كان الإسلام خيراً ما سبقتنا إليه رعاة الإبل.

4 - إنّ جماعة من الرجال الطاهرين والفقراء كبلال وصهيب وعمار، قد اعتنقوا الإسلام، فقال زعماء مكّة: أيمكن أن يكون دين محمّد خيراً ويسبقنا إليه هؤلاء؟

5 - إنّ عبد الله بن سلام وجماعة من أصحابه لما آمنوا، قال جماعة من اليهود: لو كان دين محمّد خيراً ما سبقونا إليه (2).

ويمكن تلخيص أسباب النّزول الأربعة الأولى بالقول بأنّ الإسلام لاقى ترحيباً واسعاً وامتداداً سريعاً بين الطبقات الفقيرة وسكان البوداي، وذلك لأنّهم لم يكونوا يمتلكون منافع غير مشروعة لتهدد بالخطر، ولم يكن الغرور قد ركبهم وملأ عقولهم، وقلوبهم أطهر من قلوب المترفين ومتبعي الشهوات والرغبات.

لقد عدّ الإقبال الواسع على الإسلام من قبل هذه الفئة، والذي كان يشكل أقوى نقاط هذا الدين، نقطة ضعف كبيرة من قبل المستكبرين فقالوا: أي دين هذا الذي يتبعه سكان البوادي والفقراء والحفاة والجواري والعبيد؟ إذا كان ديناً مقبولاً ومعقولاً فلا ينبغي أن يكون أتباعه من طبقة فقيرة واطئة اجتماعياً، ونتخلف نحن أعيان المجتمع وأشرافه عن اتباعه.

والطريف أنّ نمط التفكير المنحرف هذا من أكثر أنماط التفكير رواجاً اليوم بين الأثرياء والمترفين فيما يتعلّق بالدين، حيث يقولون: إنّ الدين ينفع الفقراء والحفاة، وكلّ منهما ينفع صاحبه وينسجم معه، ونحن في مستوى أسمى منه وأعلى.

وقد أجاب القرآن هؤلاء جواباً شافياً كافياً سيتّضح في تفسير هذه الآيات.

أمّا سبب النّزول الخامس الذي ذكر أعلاه، والقائل بأنّ المراد هو عبد الله بن سلام وأصحابه، فمع أنّه نقل عن أكثر المفسّرين على قول الطبرسي في مجمع البيان، والقرطبي في تفسيره، إلاّ أنّه يبدو بعيداً من جهتين:

الأولى: إنّ التعبير بـ (الذين كفروا) بصورة مطلقة يستعمل عادةً في مورد المشركين، لا في أهل الكتاب واليهود والنصارى.

والأُخرى: إنّ عبد الله بن سلام لم يكن رجلاً مجهولاً أو ضعيف الشخصية بين اليهود ليقولوا فيه: إنّ الإسلام لو كان خيراً ما سبقنا هذا وأصحابه إليه.

التّفسير

شرط الإنتصار الإيمان والإستقامة:

تستمر هذه الآيات في تحليل أقوال المشركين وأفعالهم، ثمّ تقريعهم وملامتهم بعد ذلك، فتشير أوّلاً إلى ما نطق به هؤلاء من كلام بعيد عن المنطق السليم، مبنيّ على أساس الكبر والغرور، فتقول: (وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيراً ما سبقونا إليه) (3).

فما هؤلاء إلاّ حفنة من الفقراء الحفاة من سكان القرى، والعبيد الذين لاحظ لهم من العلم والمعرفة إلاّ القليل، فكيف يمكن أن يعلم هؤلاء الحق وأن يقبلوا عليه ونحن - أعيان المجتمع وأشرافه - في غفلة عنه؟

لقد غفل هؤلاء عن أن العيب فيهم لا في الإسلام، فلو لا حجب الكبر والغرور الملقاة على قلوبهم ولولا أنّهم سكرى من خمرة المال والجاه والمقام، ولولا أنّ غرورهم وتكبرهم يمنعهم من التحقيق في أمر هذا الدين، إذن لانجذبوا بسرعة إلى الإسلام كما انجذب الفقراء إليه.

ولذلك فإنّ الآية تجيبهم في نهايتها بهذا التعبير اللطيف: (وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم) (4) أي إنّ هؤلاء ما أرادوا أن يهتدوا بآيات القرآن، لا أن القصور في قابلية القرآن على الهداية.

والتعبير بـ "الإفك القديم" شبيه بتهمة أُخرى حكيت عنهم في آيات القرآن الأُخرى، إذ قالوا: (أساطير الأولين) (5).

جملة "سيقولون" بصيغة المضارع، تدل على أنّهم كانوا يرمون القرآن بهذه التهمة دائماً، وكانوا يتخذون هذا الإتهام غطاء لعدم إيمانهم.

ثمّ تطرقت الآية إلى دليل آخر لإثبات كون القرآن حقاً، ولنفي تهمة المشركين إذ كانوا يقولون: هذا إفك قديم، فقالت: إنّ من علامات صدق هذا الكتاب العظيم أنّ كتاب موسى الذي يعتبر إماماً أي قدوة للناس ورحمة قد أخبر عن هذا النبي وصفاته.

وهذا القرآن أيضاً كتاب منسجم في آياته وفيه العلائم المذكورة في التوراة: (ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة وهذا كتاب مصدق) وإذا كان الأمر كذلك، فكيف تقولون: هذا إفك قديم؟

لقد أكّد القرآن في آياته مراراً على أنّه مصدق للتوراة والإنجيل، أي إنّه يتفق مع العلامات والصفات التي وردت في هذين الكتابين السماويين حول نبيّ الإسلام (ص) وقد كانت هذه العلامات دقيقة إلى الحد الذي يقول القرآن الكريم:

(الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم) (6).

وقد ورد نظير معنى الآية مورد البحث في الآية (17) من سورة هود: (أفمن كان على بيّنة من ربّه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة أولئك يؤمنون به).

والتعبير بـ (إماماً ورحمة) يحتمل أن يكون من جهة أن ذكر الإمام يستدعي أحياناً أن تخطر في الذهن مسألة التكليف الشاق الصعب، نتيجة الذكريات التي كانت لديهم عن أئمتهم، إلاّ أنّ ذكر الرحمة يبدل هذا الخطور الذهني إلى ما يبعث على الإطمئنان، فهو يقول: إنّ هذا الإمام توأم الرحمة ومقترن بها، فحتى إذا أتاكم بالتكاليف والأوامر فهي رحمة أيضاً، وأي رحمة أعم وأسمى من تربية نفوس هؤلاء القوم؟!

ثمّ تضيف بعد ذلك: (لساناً عربياً) يفهمه الجميع ويستفيدون منه.

ثمّ تبيّن في النهاية الهدف الرئيسي من نزول القرآن في جملتين قصيرتين، فتقول: (لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين) وإذا لاحظنا أنّ جملة (ينذر) مضارعة تدل على الإستمرار والدوام، فسيتّضح أنّ إنذار القرآن كبشارته دائمي مستمر، فهو يحذر الظالمين والمجرمين على مدى التأريخ ويخوفهم وينذرهم، ويبشر المحسنين على الدوام.

وممّا يلفت النظر أنّ الآية جعلت الظالمين في مقابل المحسنين لأنّ للظلم هنا معنى واسعاً يشمل كلّ إساءة ومخالفة، ومن الطبيعي أنّ الظلم إمّا بحق الآخرين أو بحق النفس.

والآية التالية تفسير للمحسنين الذين ورد ذكرهم في الآية التي قبلها، فتقول: (إنّ الذين قالوا ربّنا الله ثمّ استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) (7).

لقد جمعت في الواقع كلّ مراتب الإيمان، وكلّ الأعمال الصالحة في هاتين الجملتين، لأنّ التوحيد أساس كلّ المعتقدات الصحيحة، وكلّ أصول العقائد ترجع إلى أصل التوحيد.

كما أنّ الإستقامة والصبر والتحمل والصمود أساس كلّ الأعمال الصالحة، لأنّا نعلم أنّه يمكن تلخيص كلّ أعمال الخير في ثلاثة: "الصبر على الطاعة"، و"الصبر عن المعصية"، و"الصبر على المصيبة".

وبناءً على هذا، فإنّ "المحسنين" هم السائرون على خط التوحيد من الناحية العقائدية، وفي خط الإستقامة والصبر من الناحية العملية.

ومن البديهي أنّ أمثال هؤلاء الأفراد لا يخافون من حوادث المستقبل، ولا يغتمون لما مضى.

وقد ورد نظير هذا المعنى - بتوضيح أكثر - في الآية (30) من سورة فصلت حيث تقول: (إنّ الذين قالوا ربّنا ثمّ استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألاّ تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنّة التي كنتم توعدون).

إنّ هذه الآية تضيف شيئين:

الأوّل: أنّهم بشروا بعدم الخوف والحزن من قبل الملائكة، في حين سكتت الآية مورد البحث عن هذا.

والثّاني: أنّه إضافة إلى نفي الخوف والحزن عنهم، فقد وردت البشارة بالجنّة أيضاً في آية سورة فصلت، في حين أنّ هذه البشارة وردت في الآية اللاحقة في محل كلامنا.

وعلى أية حال، فإنّ الآيتين تبحثان مطلباً واحداً، غايته أن أحداهما أكثر تفصيلاً من الأُخرى.

ونقرأ في تفسير علي بن إبراهيم في تفسير جملة: (إنّ الذين قالوا ربّنا الله ثمّ استقاموا) قال: استقاموا على ولاية علي أمير المؤمنين (ع).

وذلك أنّ إدامة خط أمير المؤمنين (ع) في جوانب العلم والعمل، والعدالة والتقوى، وخاصّة في العصور المظلمة الحالكة، أمر لا يمكن تحققه بدون الإستقامة، وبناءً على هذا فإنّه يعد أحد مصاديق الواضحة للآية مورد البحث، لا أنّ معناها منحصر به، بحيث لا تشمل الإستقامة في الجهاد وطاعة الله سبحانه، ومحاربة هوى النفس والشيطان.

وقد أوردنا شرحاً مفصلاً حول مسألة الإستقامة في ذيل الآية (30) من سورة فصلت (8).

وتبشر آخر آية من هذه الآيات الموحدين المحسنين بأهم بشارة وأثمنها، فتقول: (أولئك أصحاب الجنّة خالدين فيها جزاءً بما كانوا يعملون).

إنّ ظاهر الآية يعطي مفهوم الحصر، كما استفاد ذلك البعض، أي أنّ أصحاب الجنّة هم أهل التوحيد والإستقامة فقط، أمّا الذين ارتكبوا المعاصي منهم، فإنّهم وإن كانوا في النتيجة من أصحاب الجنّة، إلاّ أنّهم ليسوا من أصحابها منذ بداية الأمر.

التعبير بـ "الأصحاب" إشارة إلى اجتماعهم الدائم وتنعمهم الخالد بنعم الجنّة.

وتعبير: (جزاء بما كانوا يعملون) يدل من جهة على أنّ الجنّة لا تمنح مجاناً، بل إنّ لها ثمناً يجب أن يؤدى، ويشير من جهة أُخرى إلى أصل حرية الإنسان واختياره.


1- كانت "زِنيّرة" بكسر الزاي وتشديد النون من السابقات إلى الإسلام، ولذلك كان أبو جهل يؤذيها ويعذبها.

2- تفسير القرطبي، المجلد 9، صفحة 6009.

3- بحث المفسّرون كثيراً في معنى "اللام" في (للذين آمنوا) إلاّ أنّ أنسب الإحتمالات جميعاً هو أن "اللام" بمعنى (في) وبناءً على هذا فإنّ معنى الجملة: إنّ الكافرين قالوا في المؤمنين، ولا يأتي في هذه الحالة إشكال من جهة كون فعل (سبقونا) للغائب. في حين أنّ البعض قد اعتبر اللام لام التعليل! وقال آخرون (الذين آمنوا) هنا مخاطبون، وجملة (سبقونا) بمعنى سبقتمونا!.

4- (إذ) في هذه الآية ظرفية، ويعتقد البعض أنّها متعلقة (سيقولون)، ويقولون: إنّ وجود الفاء غير مانع. إلاّ أنّ البعض الآخر - كالزمخشري في الكشاف - يرى أنّه بما أنّ الفعل بعدها ماض، و(سيقولون) فعل مضارع فلا يمكن أن يكون متعلقها، بل متعلقها محذوف، والتقدير: "وإذا لم يهتدوا به ظهر عنادهم" إلاّ أنّ الإحتمال الأوّل أكثر انسجاماً مع معنى الآية.

5- الفرقان، الآية 5.

6- البقرة، الآية 146.

7- (الذين قالوا ربنا الله) مبتدأ، وجملة (لا خوف عليهم) خبره، والفاء لا تأتي مع الخبر إلاّ في الموارد التي يكون في الجملة مفهوم الشرطية كالآية مورد البحث.

8- راجع التّفسير الأمثل، سورة فصلت، الآية 30.