الآيات 7 - 10

﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَـتُنَا بَيِّنَـت قَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلاَ تَمْلِكُونَ لِى مِنَّ اللهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيداً بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِى وَلاَ بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إلى وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌّ مُبِينٌ (9) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِن بَنِى إِسْرَاءِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّـلِمِينَ (10)﴾

التّفسير

لم أكن أوّل نبيّ!!

يستمر الحديث في هذه الآيات عن حال المشركين، وكيفية تعاملهم مع آيات الله، فتقول: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للحق لما جاءهم هذا سحر مبين) فهم لا يستطيعون إنكار نفوذ القرآن السريع في القلوب، وجاذبيته التي لا تقاوم من جهة، وهم من جهة أُخرى غير مستعدين لأن يخضعوا أمام عظمته وكونه حقّاً، ولذلك فإنّهم يفسّرون هذا النفوذ القوي بتفسير خاطئ منحرف ويقولون: إنّه سحر مبين، وهذا القول - بحدِّ ذاته - اعتراف ضمني واضح بتأثير القرآن الخارق في قلوب البشر.

بناءً على هذا فإنّ "الحق" - في الآية المذكورة - إشارة إلى آيات القرآن، وإن كان البعض قد فسّرها بالنبوّة، أو الإسلام، أو معجزات النّبي (ص) الأُخرى، إلاّ أنّ التّفسير الأوّل هو الأنسب بملاحظة بداية الآية.

غير أنّ هؤلاء لم يكتفوا بإطلاق هذه التهمة وإلصاقها به، بل إنّهم تمادوا فخطوا خطوةً أوسع، وأكثر صراحةً: (أم يقولون افتراه).

إنّ الله سبحانه يأمر نبيّه هنا بأن يجيبهم بجواب قاطع، ويعطيهم البرهان الجلي بأنّه قل لهم إذا كان كذلك فاللازم أن يفضحني ولا تستطيعون الدفاع عنّي مقابل عقابه: (قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئاً) (1) فكيف يمكن أن يظهر الله سبحانه هذه الآيات البينات والمعجزة الخالدة على يد كذّاب؟ إنّ هذا بعيد عن حكمة الله ولطفه.

وهذا كما ورد في الآيات (44 - 47) من سورة الحاقة: (ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثمّ لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين).

بناءً على هذا، هل يمكن أن أقدم على مثل هذا العمل الخطير من أجلكم؟ وكيف تصدّقون أنّ بالإمكان أن أكذب مثل هذه الكذبة ثمّ يبقيني الله حياً، بل ويمنحني معاجز أخر؟

ثمّ يضيف مهدداً: (هو أعلم بما تفيضون فيه) (2) وسيعاقبكم في الوقت اللازم.

نعم، إنّه يعلم كلّ ما رميتموني به من التهم، وأنّكم وقفتم بوجه رسوله، وكنتم تصدون الناس عن الإيمان بالحق بنفثكم السموم بينهم.

ثمّ يقول في الجملة التالية كتأكيد أكبر مقترن بتعامل مؤدب جدّاً: (كفى به شهيداً بيني وبينكم) فهو يعلم صدق دعوتي، وسعيي وجهدي في إبلاغ الرسالة، كما يعلم كذبكم وافتراءكم والعوائق التي تضعونها في طريقي، وهذا كاف لي ولكم.

ومن أجل أن يدلهم على طريق الرجوع إلى الحق، ويعلمهم بأنّه مفتوح إن أرادوا العودة، يقول: (وهو الغفور الرحيم) فهو يعفو عن التائبين ويغفر لهم، ويدخلهم في رحمته.

ويضيف في الآية التالية: (قل ما كنت بدعاً من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلاّ ما يوحى إليَّ وما أنا إلاّ نذير مبين).

إنّ هذه الجمل الوجيزة الغنية المحتوى تجيب عن كثير من إشكالات المشركين، ومن جملتها أنّهم كانوا يتعجبون أحياناً - في مسألة بعثة النّبي (ص) ـ كيف يمكن أن يتصل إنسان بالله ويرتبط به؟

وأحياناً كانوا يقولون: لماذا يأكل الطعام ويمشي في الأسواق؟

وتارة كانوا يطلبون معاجز عجيبة غريبة، وكان كلّ منهم يتمنى شيئاً.

وكانوا يظنون أنّ النّبي (ص) مستودع لعلم الغيب، فيطلبون منه أن يخبرهم بكلّ حوادث المستقبل.

وأخيراً فإنّهم كانوا يعجبون أحياناً من دعوته لنبذ الآلهة والتوجّه إلى عبادة الله وتوحيده.

وهذه الآية إشارة إجمالية إلى أجوبة جميع هذه الأسئلة، وقطع لكلّ تلك الأعذار الواهية.

يقول النّبي (ص) أنا لست أوّل نبيّ دعا إلى التوحيد، فقد جاء قبلي أنبياء كثيرون كلهم كانوا بشراً، وكانوا يلبسون الثياب ويأكلون الطعام، ولم يَدَّع أحد منهم أنّه يعلم الغيب المطلق، بل كانوا يقولون: إنّنا نعلم من أُمور الغيب ما يعلمنا الله إيّاه فقط.

ولم يستسلم أحد منهم أمام المعاجز التي كان يقترحها الناس، والتي كانت تقوم على أساس الرغبة والميول.

كل ذلك ليعلم الجميع أنّ النّبي أيضاً عبد من عباد الله، وعلمه وقدرته محدودة بما يريده الله سبحانه ويمنحه، فإنّ العلم المطلق والقدرة المطلقة لله جلَّ وعلاء وحسب.

هذه الحقائق كان يجب على الناس أن يعلموها ويدركوها، لينتهوا من إشكالاتهم الجوفاء.

كل ذلك ورد بعد البحث الذي مرّ في الآيات السابقة، حيث كانوا يرمون النبي (ص) بالسحر مرّة، وبالإفتراء أُخرى، ليُعلم أنّ منبع هذه الإتهامات ومصدرها هو تلك الأوهام التي أُجيب عنها في هذه الآية.

ومن هنا يتّضح أن مفاد هذه الآية لا يتنافى مع الآيات الأُخرى التي توحي بأنّ النّبي (ص) يعلم الغيب، كالذي ورد في سورة الفتح حول فتح مكّة ودخول المسجد الحرام - الآية 27 من سورة الفتح - أو ما ورد في شأن المسيح (ع) حيث يقول: (أنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم) (3)، وأمثال ذلك، لأنّ الآية مورد البحث تنفي علم الغيب المطلق، لا مطلق علم الغيب، وبتعبير آخر، فإنّ الآية تنفي علم الغيب الإستقلالي، أمّا تلك الآيات فتتحدث عن علم الغيب الذي يُنال ببركة التعليم الإلهي.

والشاهد على هذا الكلام الآيتان (26 - 27) من سورة الجن: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلاّ من ارتضى من رسول).

وقد ذكر بعض المفسّرين سبب نزول للآية مورد البحث، فقالوا: إنّ عبء المشاكل وضغطها لما زاد على أصحاب النّبي (ص) في مكّة، رأى النّبي (ص) في المنام أنّه يهاجر إلى أرض ذات نخيل وأشجار وماء كثير، فذكر ذلك لأصحابه، ففرحوا لذلك وظنّوا أنّهم سيرون فرجاً وسعة بعد أذى المشركين، فصبروا مدّة فلم يروا أثراً لذلك، فقالوا: يا رسول الله، لم نرَ ما أخبرتنا به، فمتى سنهاجر إلى تلك الأرض التي رأيتها في منامك؟ فسكتالنبي (ص) فنزلت هذه الآية: (وما أدري ما يفعل بي ولا بكم) (4).

إلاّ أنّ سبب النّزول هذا يبدو بعيداً، لأنّ المخاطبين في هذه الآيات أعداء النّبي لا أصحابه، لكن يمكن أن يكون هذا من باب التطبيق، أي أنّه (ص) تمسّك بهذه الآية وأجاب بها أصحابه حينما طرحوا هذا السؤال.

وتضيف آخر آية من هذه الآيات، ولتكملة ما ورد في الآيات السابقة: (قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إنّ الله لا يهدي القوم الظالمين) (5).

وللمفسّرين أقوال في الشاهد من بني إسرائيل الذي شهد على كون القرآن المجيد حقّاً...

قال البعض: إنّه موسى بن عمران (ع) الذي أخبر في عصره بظهور نبيّ الإسلام، وأعطى أوصافه وعلاماته.

إلاّ أنّ هذا الإحتمال غير صحيح بملاحظة جملة: (فآمن واستكبرتم) التي توحي بأنّ هذا الشاهد من بني إسرائيل قد آمن بنبيّ الإسلام (ص) في الوقت الذي استكبر فيه المشركون ولم يؤمنوا، لأنّ ظاهر الجملة يوحي بأنّ هذا الشاهد كان موجوداً في عصر نبيّ الإسلام (ص) وآمن به، بينما اختار الآخرون طريق الإستكبار والكفر.

وقال آخرون: إنّه كان رجلاً من علماء أهل الكتاب، كان يحيا في مكّة.

ومع أنّ أنصار الدين اليهودي والمسيحي كانوا قلة في مكّة، لكن لا يعني هذا أنّ أحداً منهم لم يكن فيها، ومع ذلك فلا يعرف من كان هذا العالم من بني إسرائيل؟ وما هو اسمه؟

وهذا التّفسير باطل منهم أيضاً لأنّه لم يكن هناك عالم معروف من أهل الكتاب في مكّة في عصر ظهور النّبي (ص)، ولم تذكر التواريخ اسماً له (6).

طبعاً، يمتاز هذا التّفسير والذي قبله بأنّهما ينسجمان مع كون كلّ سورة الأحقاف مكية.

والتّفسير الثّالث الذي ارتضاه أكثر المفسّرين، هو أنّ هذا الشاهد كان "عبدالله بن سلام" عالم اليهود المعروف، الذي آمن في المدينة والتحق بصفوف المسلمين.

وقد ورد - في حديث - أنّ النّبي (ص) انطلق حتى دخل كنيسة اليهود يوم عيدهم، فكرهوا دخوله عليهم، فقال لهم رسول الله (ص): "يا معشر اليهود أروني اثني عشر رجلاً منكم يشهدون أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله، يحط الله عن كلّ يهودي تحت أديم السماء الغضب الذي عليه" فسكتوا فما أجابه منهم أحد، ثمّ ردّ عليهم فلم يجبه أحد ثلاثاً، فقال: "أبيتم، فوالله لأنا الحاشر، وأنا العاقب، وأن المقض، آمنتم أو كذبتم" ثمّ انصرف حتى كاد يخرج، فإذا رجل من خلفه، فقال: كما أنت يا محمّد فأقبل، فقال ذلك الرجل: أي رجل تعلموني فيكم يا معشر اليهود؟ فقالوا: والله ما نعلم فينا رجلاً أعلم بكتاب الله ولا أفقه منك ولا من أبيك ولا من جدك، فقال: فإنّي أشهد بالله إنّه النّبي الذي تجدونه مكتوباً في التوراة والإنجيل، قالوا: كذبت، ردوا عليه وقالوا شرّاً، فقال رسول الله (ص): "كذبتم، لن يقبل منكم قولكم" - ولم يكن هذا الرجل غير عبد الله بن سلام - فنزلت الآية: (قل أرأيتم إن كان من عند غير الله...) (7).

وطبقاً لهذا التّفسير، فإنّ هذه الآية نزلت في المدينة بالرغم من أنّ السورة مكّية، وهذا ليس منحصراً بالآية مورد البحث، بل يلاحظ - أحياناً - في سور القرآن الأُخرى وجود آيات مكية في طيات السور المدنية وبالعكس، وهذا يبيّن أنّ النبي (ص) كان يأمر بوضع الآية مع ما يناسبها من مفاد السورة من دون الإلتفات إلى تاريخ نزولها.

ويبدو من جهات عديدة أنّ هذا التّفسير هو الأنسب.


1- جملة (إن افتريته) جملة شرطية حذف جزاؤها، والتقدير: إن افتريته أخذني وعاجلني بالعقوبة.

2- "ما" في جملة (ما تُفيضون فيه) يمكن أن تكون موصولة، وتعني التهم غير الصحيحة، والتي كان يعلمها النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وبناءً على هذا فإنّ ضمير (فيه) يعود إليها. وإن كانت مصدرية فإنّ الضمير (فيه) يعود إلى القرآن أو إلى الحق، وهنا تكون (تفيضون) بمعنى الدخول في عمل ما بقصد الإفساد والتخريب.

3- آل عمران، الآية 49.

4- تفسير الفخر الرازي، المجلد 28، صفحة 8.

5- جزاء الجملة الشرطية: (إن كان من عند الله) محذوف، وتقديره: (من أضل منكم).

6- التعبير هنا بـ(شاهد) بصيغة النكرة للتعظيم، وهو يوحي بأنّه كان شخصاً معروفاً عظيماً.

7- تفسير المراغي، المجلد 26، صفحة 14.