الآيات 4 - 6

﴿قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ أَرُونِى مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الاَْرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِى السَّمـوَاتِ ائْتُونِى بِكِتَـب مِن قَبْلِ هذَا أَوْ أَثَـرَة مِنْ عِلْم إِن كُنتُمْ صَـدِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُواْ مِن دُونِ اللهِ مَن لاَ يَسْتَجِيبُ لَهُ إلى يَوْمِ الْقِيَـمَةِ وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَـفِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَـفِرِينَ (6)﴾

التّفسير

أضل الناس:

كان الكلام في الآيات السابقة عن خلق السماوات والأرض وأنّها جميعاً من صنع الله العزيز الحكيم، ولازم ذلك أن لا يكون في الكون إله سواه، لأنّ من له أهلية الأُلوهية هو خالق العالم ومدبره، وهاتان الصفتان قد جمعتا في الذات المقدسة.

ومن أجل تكملة هذا البحث، تخاطب هذه الآيات النّبي (ص) وتقول: (قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات).

إذا كنتم تقرون بأنّ الأصنام لا دخل لها في خلق الموجودات الأرضية مطلقاً، ولا في خلق الشمسِ والقمر والنجوم وموجودات العالم العلوي، وتقولون بصراحة بأن الله هو خالقها جميعاً (1)، فعلام تمدون أكفكم إلى الأصنام التي لا تضرّ ولا تنفع، ولا تسمع ولا تعقل، تستمدون منها العون في حلّ معضلاتكم، ودفع البلاء عنكم، واستجلاب البركات إليكم؟

وإذا قلتم - على سبيل الفرض ـ: إنّها شريكة في أمر الخلق والتكوين فـ (ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إنّ كنتم صادقين).

وخلاصة القول، فإنّ الدليل إمّا أن يكون نقلياً عن طريق الوحي السماوي، أو عقلياً منطقياً، أو بشهادة العلماء وتقريرهم، أمّا أنتم فلستم مستندين إلى الوحي والكتاب السماوي في دعواكم حول الأصنام، وغير قادرين من طريق العقل على إثبات اشتراكها في خلق السماوات والأرض وبالتالي إثبات كونها آلهة، ولم يرد أثر من أقوال العلماء الماضين ما يؤيد رأيكم ويدعم اعتقادكم، ومن هنا يتبيّن أنّ دينكم ومعتقدكم لا يعدو كونه حفنة من الخرافات المستهجنة، والأوهام الكاذبة.

بناءً على هذا، فإنّ جملة (أروني ماذا خلقوا من الأرض...) إشارة إلى دليل العقل، وجملة (ائتوني بكتاب من قبل هذا) إشارة إلى الوحي السماوي، والتعبير بـ (أثارة من علم) إشارة إلى سنن الأنبياء الماضين وأوصيائهم، أو آثار العلماء السابقين (2).

وقد ذكر علماء اللغة والمفسّرون عدةّ معان لكلمة "أثارة" - على وزن حلاوة - فمنها: بقية الشيء، الرواية، العلامة.

لكنّ الظاهر أنّها تعود إلى معنى واحد، وهو الأثر الذي يبقى من الشيء ويدل على وجوده.

وقد وردت مثل هذه المناظرة والمحاكمة مع الوثنيين في الآية (40) من سورة فاطر، حيث تقول: (قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات أم آتيناهم كتاباً فهم على بينة منه بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضاً إلاّ غروراً).

وممّا يلفت النظر أنّه يقول في مورد الأرض: (ماذا خلقوا من الأرض) أمّا في مورد السماء فيقول: (أم لهم شرك في السماوات) أي إنّ الكلام في الموردين عن الإشتراك، لأنّ الشرك في العبادة يجب أن ينشأ من الشرك في الخالقية وتدبير النشأة.

وهنا يطرح سؤال، وهو: إذا كان المشركون يعتقدون - عادةً - أنّ أمر الخلق مختص بالله سبحانه، فلماذا يطالبون بأحد هذه الأدلة الثالثة؟

ويمكن الإجابة بأنّ هذه المطالبة موجهة إلى فئة قليلة بين عبدة الأوثان، يحتمل أنّهم كانوا يقولون باشتراك الأصنام في الخلق، أو أنّها طرحت على سبيل الفرض، أي إنّكم إذا ظننتم يوماً أنّ الأصنام شريكة في خلق العالم، فاعلموا أن لا دليل لكم على ذلك، لا من النقل ولا من العقل.

بعد ذلك تبيّن الآية التالية عمق ضلالة هؤلاء المشركين وانحرافهم، فتقول: (ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة) ولا يقف الأمر عند عدم إجابتهم وحسب، بل إنّهم لا يسمعون كلامهم: (وهم عن دعائهم غافلون).

ويرى بعض المفسّرين أنّ مرجع الضمير في هذه الآية إلى الأصنام الجامدة الميتة، باعتبار أنّ أكثر آلهة مشركي العرب كانت الأصنام.

واعتبره البعض إشارة إلى الملائكة والبشر الذين عبدوا من دون الله، لأنّ عبدة الملائكة والجن لم يكونوا قلّة بين العرب، والتعبيرات المختلفة لهذه الآية، والمتناسبة مع ذوي العقول تؤيد هذا المعنى.

لكن لا مانع من أن نفسر الآية بمعناها الواسع، فتدخل فيه كلّ هذه المعبودات، سواء الحية والميتة، العاقلة وغير العاقلة، فتكون التعابير متناسبة مع ذوي العقول من باب التغليب.

وعندما تقول الآية: إنّهم لا يجيبونهم إلى يوم القيامة، فإنّ ذلك لا يعني أنّهم سيجيبونهم يوم القيامة - ما ظن البعض ذلك - بل إنّ هذا التعبير متداول في النفي المؤيد، كما نقول مثلاً: لو أصررت على فلان إلى يوم القيامة لما أقرضك، أي أنّه سوف لا يقوم بها العمل أبداً، لا أنّه سيلبي طلبك في يوم القيامة.

وسبب ذلك معلوم أيضاً، لأنّ كلّ سعي وجهد وتلبية طلب وقضاء حاجة نافع في هذه الحياة الدنيا، فإذا انتهت انتهى معها إمكان القيام بكلّ هذه الأعمال.

والأشد أسفاً من ذلك أنّه: (وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين).

أمّا المعبودات من العقلاء، فإنّهم سيهبون لإظهار عدائهم لهؤلاء الضالين، فالمسيح (ع) يظهر اشمئزازه وتنفره من عابديه، وتتبرأ الملائكة منهم، بل وحتى الشياطين والجن تظهر عدم رضاها.

وأمّا المعبودات التي لا عقل لها ولا حياة، فإنّ الله سبحانه سمنحها العقل والحياة لتنطق بالبراءة من هؤلاء العبدة وتبدي غضبها عليهم.

لقد ورد نظير هذا المعنى في آيات القرآن الأُخرى، ومن جملتها الآية (14 من سورة فاطر، حيث تقول: (إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير).

وكررت في الآيات مورد البحث كلّ هذه المسائل بتفاوت يسير.

لكن كيف ينكر المعبودون عبادة عابديهم، وهي ممّا لا ينكر؟

ربّما كان ذلك إشارة إلى أنّهم كانوا يعبدون أهواءهم في الحقيقة، ولم يكونوا يعبدون تلك الآلهة، لأنّ أساس الوثنية عبادة الهوى.

وهنا نكتة تستحق الإنتباه، وهي: إنّ عداء المعبودين لعبدتهم يوم القيامة لم يرد التأكيد عليه هنا فقط، بل نقرأ ذلك أيضاً في الآية (25) من سورة العنكبوت على لسان إبراهيم (ع) بطل التوحيد ومحطم الأصنام إذ يقول: (وقال إنّما اتخذتم من دون الله أوثاناً مودّةً بينكم في الحياة الدنيا ثمّ يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً).

وجاء في الآية (82) من سورة مريم: (كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضداً).


1- لقد ورد هذا المعنى في أربع آيات من القرآن، وطالعوا تفصيلاً أكثر حول هذا المطلب في ذيل الآية (25) من سورة الزخرف من التّفسير الأمثل.

2- نقرأ في حديث روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) في أصول الكافي في تفسير جملة (أو أثارة من علم) أنّه قال: "إنّما عنى بذلك علم أوصياء الأنبياء". نور الثقلين، المجلد 5، صفحة 9.