الآيتان 24 - 25

­﴿وَقَالُواْ مَا هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذلِكَ مِنْ عِلْم إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (24) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَـتُنَا بَيِّنَـت مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ائْتُواْ بِآبَآئِنَآ إِن كُنتُمْ صَـدِقِينَ (25)﴾

التّفسير

عقائد الدهريين:

في هذه الآيات بحث آخر حول منكري التوحيد، غاية ما هناك أنّه ذكر هنا اسم جماعة خاصّة منهم، وهم "الدهريون" الذين ينكرون وجود صانع حكيم لعالم الوجود مطلقاً، في حين أنّ أكثر المشركين كانوا يؤمنون ظاهراً بالله، وكانوا يعتبرون الأصنام شفعاء عند الله، فتقو الآية أولاً: (وقالوا ما هي إلاّ حياتنا الدنيا نموت ونحيا) فكما يموت من يموت منا، يولد من يولد منّا وبذلك يستمر النسل البشري: (وما يهلكنا إلاّ الدهر) وبهذا فإنّهم ينكرون المعاد كما ينكرون المبدأ، والجملة الأُولى ناظرة إلى إنكارهم المعاد، أمّا الجملة الثّانية فتشير إلى إنكارالمبدأ.

والجدير بالإنتباه أنّ هذا التعبير قد ورد في آيتين أُخريين من آيات القرآن الأُخرى، فنقرأ في الآية (29) من سورة الأنعام: (وقالوا إنّ هي إلاّ حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين).

وجاء في الآية (37) من سورة المؤمنون: (إن هي إلاّ حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين).

إلاّ أنّ التأكيد في الآيتين على إنكار المعاد وحسب، ولم يرد إنكار المبدأ والمعاد معاً إلاّ في هذه الآية مورد البحث.

ومن الواضح أنّ هؤلاء إنّما كانوا يؤكدون على المعاد أكثر من المبدأ لخوفهم واضطرابهم منه الذي قد يغير مسير حياتهم المليئة بالشهوات والخاضعة لها.

وقد ذكر المفسّرون عدّة تفاسير لجملة (نموت ونحيا):

الأوّل: وهو ما ذكرناه، بأنّ الكبار يغادرون الحياة ليحل محلهم المواليد.

الثّاني: أنّ الجملة من قبيل التأخير والتقديم، ومعناها: إنّنا نحيا ثمّ نموت، ولا شيء غير هذه الحياة والموت.

الثّالث: أنّ البعض يموتون ويبقى البعض الآخر، وإن كان الجميع سوف يموتون في النهاية.

الرّابع: أننا كنا في البداية أموات لا روح فينا، ثمّ مُنحنا الحياة ودبت فينا.

غير أنّ التّفسير الأوّل هو أنسب الجميع وأفضلها.

وعلى أية حال، فإنّ جماعة من الماديين في العصور الخالية كانوا يعتقدون أنّ الدهر هو الفاعل أو الزمان في هذا العالم - أو بتعبير جماعة آخرين: إنّ الفاعل هو دوران الأفلاك وأوضاع الكواكب - وكانوا يُنهون سلسلة الحوادث إلى الأفلاك، ويعتقدون أنّ كلّ ما يقع في هذا العالم بسببها (1)، حتى أنّ جماعة من فلاسفة الدهريين وأمثالهم كانوا يقولون بوجود عقل للأفلاك، ويعتقدون أنّ تدبير هذا العالم بيدها.

إن هذه العقائد الخرافية انقرضت بمرور الزمان، خاصّة وقد ثبت بتقدم علم الهيئة عدم وجود شيء باسم الأفلاك - الكرات المتداخلة الصافية - في الوجود الخارجي أصلاً، وأن لنجوم العالم العلوي بناء كبناء الكرة الأرضية بتفاوت ما، غاية في الأمر أنّ بعضها مظلم ويكتسب نوره من الكرات الأُخرى، وبعضها الآخر مشتعل ومنير.

إنّ الدهريين كانوا يذمون الدهر ويسبونه أحياناً عندما تقع حوادث مرّة مؤلمة.

غير أنّه ورد في الأحاديث الإسلامية عن النّبي الأكرم (ص) "لا تسبوا الدهر، فإنّ الله هو الدهر" (2)، وهو إشارة إلى أنّ الدهر لفظ ليس إلاّ، فإنّ الله سبحانه هو مدبر هذا العالم ومديره، فإنّكم إنّ أسأتم القول بحق مدبر هذا العالم ومديره، فقد أسأتم بحق الله عزّوجلّ من حيث لا تشعرون.

والشاهد على هذا الكلام حديث آخر روي كحديث قدسي عن الله تعالى أنّه قال: "يؤذيني ابن آدم يسب الدهر، وأنا الدهر! بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار" (3).

لكن قد استعمل الدهر في بعض التعبيرات بمعنى أبناء الأيّام، وأهل الزمان الذين شكا العظماء من عدم وفائهم، كما نقل في الشعر المنقول عن الإمام الحسين (ع)، حيث أنشد ليلة عاشوراء:

يا دهر أُف لك من خليلِ كم لك بالإشراق والأصيلِ

من صاحب وطالب قتيل والدهر لا يقنع بالقليلِ

وعلى هذا فللدهر معنيان: الدهر بمعنى الأفلاك والأيّام، والذي كان محل

اهتمام الدهريين، حيث كانوا يظنونه حاكماً على نظام الوجود وحياة البشر.

والدهر بمعنى أهل العصر والزمان وأبناء الأيّام.

ومن المسلّم أنّ الدهر بالمعنى الأوّل أمر وهمي، أو نقول أنّه اشتباه في التعبير حيث أطلق اسم "الدهر" بدل اسم الله المتعالي الحاكم على كلّ عالم الوجود.

أمّا الدهر بالمعنى الثّاني فهو الشيء الذي ذمه كثير من الأئمة والعظماء، لأنّهم كانوا يرون أهل زمانهم مخادعين مذبذبين لا وفاء لهم.

على أية حال، فإنّ القرآن الكريم أجاب هؤلاء العبثيين بجملة وجيزة عميقة، تلاحظ في موارد أُخرى من القرآن الكريم أيضاً، فقال: (وما لهم بذلك من علم أن هم إلاّ يظنون).

وقد ورد نظير هذا المعنى في الآية (28) من سورة النجم في من يظنون أنّ الملائكة بنات الله سبحانه: (وما لهم به من علم إنّ يتبعون إلاّ الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً).

وقد ورد هذا المعنى أيضاً في القول بقتل المسيح، النساء - 157، وعقيدة مشركي العرب في الأصنام، يونس - 66.

وهذا أبسط وأوضح دليل يلقى على هؤلاء بأنّكم لا تملكون أي شاهد أو دليل منطقي على مدعاكم، بل تستندون في دعواكم إلى الظن والتخمين فقط.

وأشارت الآية التالية إلى إحدى ذرائع هؤلاء الواهية وحججهم الباطلة فيما يتعلق بالمعاد، فقالت: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ما كان حجتهم إلاّ أنّ قالوا ائتوا بآبائنا إنّ كنتم صادقين) (4).

كان هؤلاء يرددون أنّ إذا كانت حياة الأموات وبعثهم حقّاً فأحيوا آباءنا كنموذج لإدعائكم، حتى نعرف مدى صدقكم، ولنسألهم عمّا يجري بعد الموت، وهل يصدّقون ما تقولونه أم يكذبونه؟

نعم، هذا هو دليلهم الأجوف لأنّ الله سبحانه قد أبان للبشر قدرته على إحياء الأموات بطرق مختلفة، فإنشاء أوّل إنسان من التراب، وتحولات النطفة العجيبة في الرحم، وخلق السماء الواسعة والأرض، وإحياء الأراضي الميتة بعد هطول الأمطار عليها، ذكرت كلها كأسانيد حية على إمكان القيامة والبعث الجديد، وكأفضل دليل على هذا المعنى، وبعد كلّ هذا لا حاجة إلى دليل آخر.

وبغض النظر عن ذلك، فإنّ هؤلاء كانوا قد أثبتوا أنّهم لا هدف لهم إلاّ التذرع والتوسل بالحجج، للإستمرار في ضلالهم واعتقادهم المنحرف، فإذا كشف لهم عن مشهد إحياء الأموات فرضاً فرأوه بأم أعينهم، فإنّهم سيقولون مباشرة: إنّه سحر، كما قالوا ذلك في الموارد المشابهة.

إنّ التعبير بـ "الحجة" في مورد قول هؤلاء الفارغ هو كناية في الحقيقة عن أنّ هؤلاء لا دليل لهم إلاّ عدم الدليل.


1- احتمل البعض احتمالاً خامساً في تفسير هذه الجملة، وهو أنّها إشارة إلى عقيدة التناسخ التي كان يعتقد بها جمع من الوثنيين، حيث كانوا يقولون: إنّنا نموت دائماً ثمّ نحيا في أبدان أُخرى في هذا العالم. إلاّ أنّ هذا التّفسير لا ينسجم مع جملة (وما يهلكنا إلاّ الدهر) والتي تتحدث عن الهلاك والفناء فقط. (فتأمل!).

2- تفسير مجمع البيان، المجلد 9، صفحة 78.

3- تفسير القرطبي، المجلد 9، صفحة 5991.

4- "حجتهم" في الآية المذكورة خبر كان، و(أن قالوا...) اسمها.